قالت: لا، لا أعرف عنهم شيئا، سمعت باسم شارون، وكنت أعرف أسرته في الجير، لكني لا أعرف أين هو الآن.
طلب منها أن تتريث، وأن الحرب ليست بالشيء السهل؛ فقد تتعرض للموت أو على أقل تقدير الاغتصاب، ولكنها عندما قصت له حكاية الجنجويدين، والأسلحة التي تمتلكها، برقت عيناه إثارة، وقادها نحو مظلة الحصين، وطلب من جبريل أن يهيئ فرسين سماهما بالاسم بكامل عتادهما، عندما استفسرت لماذا فرسين؟ قال لها: لقد قلت لي إنك لا تعرفين موقع الثوار، أليس كذلك؟ أنا أعرف دارفور كما أعرف أصابع يدي، قضيت عمري كله متجولا في بواديها، سآخذك إليهم وأعود.
قالت له إنها سوف تدفع ثمن الفرس، إلا أنه أكد لها أنه لا يمانع أن يعطيها ثروته كلها، إنها تفعل ما لا يستطيع هو فعله، فقط طلب منها شيئا واحدا؛ أن تتذكر أبناءه الذين ذبحهم الجنجويد، أن تنتقم لهم أيضا.
أتت عبد الرحمن إليه وبذهنها فكرة واحدة فقط، أن تأخذ فرسا منه، مهما كلف ذلك، وكانت بينها وبين نفسها تعلم أنه لا علاقة له بالنساء منذ أن توفيت زوجه قبل أكثر من عشرة أعوام، لم تثر حوله أية قوالات أو نميمة أو شبهة ظنون بأنه يتعاطى النساء، ولكنها أيضا تضع احتمال أن تغويه بجسدها إذا دعا الداعي، ذلك الجسد المنتهك الذي ناله الجنجويد مجانا وعنوة، وناله أبناء جلدتها في معسكر كلمة وأب شوك بغير حب أو رحمة، وناله آخرون كثر بكامل إرادتها ومن أجل بعض النقود القليلة، ما العيب في أن تهبه من أجل قضية ملحة؟ قضية تؤمن بها وتعمل لأجلها، ولا ترى في ذلك خيانة لزوجها شيكيري توتو كوه، ولا لأي مخلوق آخر؛ فهي تعطي لشيكيري قلبها كله وجسدها كله بالحب، له وحده، أما نصيب وطنها وشعبها من جسدها فهي لا تهمله إطلاقا، تذكيه عند الضرورة بدون تردد. الخطة الأخرى التي كانت سوف تطبقها في حال عدم اقتناع الخال ساكن بالمنطق، وعدم استجابته لغواية جسدها الجميل الشهي، بالإضافة لما لديها من مال قليل أخذته من الجنجويد، هي سرقة الفرس، حتى إذا أدى الأمر لقتل العم جبريل والخال جمعة ساكن الطيب، الذي يسمح لهما دائما بأخذ المانجو التي تتدلى أفرعها في بيت الخالة خريفية، الذي يتحدث لغتها القبلية، الذي يحبها جدا ويسمح لها بالتجوال بأفراسه الغالية الثمن، التي يكسب من ورائها الملايين في سباق الخيل في المواسم، التي تكسبه مكانة اجتماعية سامية.
كان الليل دامسا، يقول الخال ساكن: إنه الوقت الأنسب للترحال، فالطريق واضح لديه، ويستطيع أيضا استخدام النجوم، والكواكب، والريح، وملمس التربة ورائحة الأمكنة والأصوات في الاستدلال على الطريق ومعرفة المواقع، كان الفرسان أسودين وهما يرتديان أيضا ملابس داكنة الألوان، حتى تصعب رؤيتهما من قبل الآخرين. كانا لا يتحدثان إلا لماما، بالهمس، يعرفان أن الليل يحمل الأصوات بعيدا جدا، مع طلوع الفجر كانا على مشارف قرية خاوية من السكان، وبيوتها محروقة بكاملها، تتناثر العظام والجثث البشرية المتيبسة في أنحاء المكان بين عشيبات الخريف التي بدأت في الذبول، القرية معروفة لكليهما، ولأن القش البوص الذي نما في الفصل المطير ما زال منتصبا على الأرض - هما في سبتمبر - قطعا بعضه وصنعا منه مظلة صغيرة، أعدا في ظلها بعض الطعام، وقررا أن يبقيا في ذات المكان إلى قبيل نزول الظلام؛ لأن الترحال نهارا قد يقودهما إلى صدام مع جهة ما، وقد تكشفهما مناظير الحكومة أو غيرها من المليشيات الموالية وطائرات التجسس.
صنعا فرشين من العشب، كانت عبد الرحمن مرهقة، لم تركب الخيل لمسافة طويلة منذ سنوات كثيرة ماضية، كانت تحس بآلام مبرحة في باطن فخذيها وسمانة رجليها، شربت قليلا من العصير المصنوع من الدخن، ونامت.
حياة المدينة لم تفقده مهاراته في الصيد والعيش على الطبيعة مباشرة، فبمجرد أن نامت عبد الرحمن، وتأكد تماما من خلو المكان من الثعابين والعقارب السامة، عبث في أشيائه، وأخرج شراك الفئران وطعمها من البصل الأحمر ذي الرائحة القوية، كان يعرف مسارات مرور الفئران الكبيرة عبر أقصاب البوص، حيث إنها تترك أثرا على الأرض واضحا، يبدو وكأنه أنبوب طويل شفاف يخترق العشب، هو سوف لا يضع الشراك في طريقها مباشرة، وإلا أثار شكوكها وأسرعت بالفرار، ولكنه نصبها بعيدا عكس اتجاه الريح، بحيث تصلها الرائحة الشهية للبصل، ويتركها هي التي تبحث عن مصيدتها، طائعة مختارة.
يحبها مشوية على لهب خفيف، استيقظت على رائحة الشواء اللذيذة، وكان منظر الفئران الكبيرة وهي متدلية من عمود مصنوع من أخشاب العرد، مطلة على لهب فاتر يلعق بألسنته الصيد السمين، كانت كما لو أنها في حلم، امتلأت رئتاها بعبق الشواء ودخان الحريق يجعلها تكح بشدة، وهي تحملق في الخال جمعة ساكن وهو يجلس القرفصاء يعد فأرا ناضجا للأكل، جلست قربه، كانت تبدو عليها السعادة البالغة، تحدثت معه قليلا عن وجبة فئران شهية أطعمتها في قريتها وهي طفلة، كانا يأكلان بمتعة خاصة، قال لها بلغتها المحلية: الحرب عدو.
أضاف وهو يرقب اللهيب المتصاعد: الحرب عدو.
كانت تنظر إليه كما لو أنها تنتظره أن يقول شيئا آخر، شيئا مهما، حمل عصا صغيرة من خشب العرد، حرك بها بعض الجمرات الصغيرات، فتطاير كثير من الشرر، صمت لزمن طويل، الحرب تعني عنده الكثير، إنها أخذت كل أسرته، كل الذين يحبهم، التهمتهم بدون أية رحمة.
نامعلوم صفحہ