حال الشبوبية
أما الشبوبية فهي الدور الثالث للأجل، ومحل الكد والعمل، وموقع اليأس والأمل، حيثما يوجد الإنسان ضائعا في مفازة العمر حائرا في تنوفة النهي والأمر، فيرى نفسه قايما في وسط هذه الدنيا ممنطقا بكافة الأشياء، ملتطما بأمواج العالم وأهوائه، مصروعا ومأخوذا بضجاته وضوضائه، وهكذا فتنهض في قلبه ثورة الحواس، وتشب في دماغه نار الوسواس، وتصفر في سريرته ريح الأهجاس، فيندفع إلى منازلة الأقدار والأيام، ومقاتلة الحقايق والأوهام، فتارة تهب به الآمال إلى أوج الأفراح والمسرات، وطورا تكب به الخيبات في حضيض الأتراح والحسرات. يرى العالم قريب المنال، فيندفع وراه على متون الأهوال، حتى إذا ما ظفر بالبعض طمع بالكل، وإذا فاز بالشبح رغب في الظل، فلا يكون إلا مضغة في أفواه المطامع، وكرة تتلقفها القوامع؛ ولذلك إنما يوجد مهبطا لحوادث الحدثان ومسقطا لمكائب الزمان. ولا تزال زهرة هذا الشباب الزاهي بين ذبول وافترار، ولا يبرح بدر هذا العصر الباهي بين خسوف واسفرار، إلى أن تنثر الشيخوخة تاج تلك الزهرة، ويصفع الهرم وجه هاتيك القمرة، حيثما يسقط الشباب من فرشه، ويرتفع المشيب على عرشه.
حال الشيخوخة
إن حياتنا هي بخار يتصاعد قليلا ثم يضمحل. نعم، كل يضمحل كالضباب، حتى الجبال تمر مر السحاب، فلا دوام للوجود، ولكنما العدم محال، ولا طمع في الخلود، فكل مركب للانحلال. فلا يزال الإنسان سايرا في طريق عمره سير المسافر في القفار، إلى أن يبلغ رابع الأدوار، وهو دور الدثار. هذا إذا أمكنه الخلاص من لصوص الحوادث، والمناص من أسد الكوارث، ونهبة الأعراض، وقتلة الأمراض. فيلبث هناك منهوكا من تعب المسير، ومضض التأثير، إذ يعود منحنيا تحت أحمال الحياة وأثقالها، ومرضوضا من صدمات الدنيا وأهوالها، فتصمت ضوضاء حواسه وهواجسه، ويخرس رنين أنفاسه ووساوسه، فيكف بصره، وتجف فكره، ويقل ذوقه، ويكثر شوقه، ويبخل حتى بالفلس، ويزيد حرصه على النفس، ويجود بالقلس. فإذا التفت إلى ورائه ورأى الدنيا التي قطعها والطريق التي تتبعها، ظهرت له الأشياء أشباح أحلام، ومراسح أوهام، وكلها تجري نظيره إلى الزوال، كالطيف والخيال، فيضحك على الجميع، ضحك الطفل الرضيع. أما إذا التفت إلى الأمام، وطمع ببقية الأيام، حن إلى الوجود، وهام بحب الخلود. ولا يزال الماضي يدفعه، والحاضر يردعه، والمستقبل يطمعه، حتى تختطف يمامة نفسه بزاة المنية، وتسلبه كل بغية وأمنية، فيهبط هبوط البنيان، ويغور في قبر النسيان، حيثما تسترجع الكليات جزئياتها، وتسترد المجموعات مفرداتها.
حال العيلة
ولما أشعر الإنسان برسوم وجوده، وإدراك لزوم حدوده، أنف الشتات والانفراد، وطلب الزواج والعقاد، لينفصل عن هيئة الجهل ويتصل إلى آداب العقل، وفاقا لإمكان نفسه، وخلافا لعجز ساير جنسه، فعاهد زوجته على حفظ العهد، وحالفها على دوام الود، وعلى قيود هذه الشريعة، أخذا يفلحان الطبيعة، فجادت لهما بالأولاد، وطبعت بهم لهما الانقياد، فحن الأب إلى بنيه، ومال الابن إلى أبيه. وبقيام تلك الأحوال، تقومت الأعيال ، وتبادلت بينهما الأميال. وهكذا فالمودة الاقترانية، والمحبة الوالدية، هما أركان العيلة والذرية؛ ولذلك فالنمو يحرض الأفراح، والنقص يحضر الأتراح، فيئن الويل للمفقود، ويرن الهناء للمولود، وما تلك الأعمار الطوال، إلا حياة أسماء العيال.
حال الهيئة الاجتماعية
ولما تقومت العيال، وتبادلت الأميال، أخذت كل عيلة تقترب من جارتها بالزواج، وتقايضها في أدوات النتاج، فاشتدت الروابط بين البشر، وانتصب عمود الوطر، وشرع الناس يحاضرون، وإلى بعضهم البعض يسافرون، حتى تشيدت بينهم المعاملات، وتمكنت المبادلات، فكثرت الحاجات الإنسانية، وتفاقمت الضرورات البدنية، حتى التزم هذا إلى ذاك، واحتاج ما هنا إلى هناك، وما لبث أن انتظم نثار البشر، وانضم البدو إلى الحضر. وهكذا قد استحدث الإنسان شرايع الانضمام، وأنشأ مواطن الالتئام، فنهضت مطامع النفوس، وحامت السعود والنحوس، حتى ثار الناس على بعضهم البعض، وجعلوا يسقون بدمائهم الأرض، فساد هؤلاء واغتنوا، وافتقر أولئك وعنوا، فقامت الملوك والرؤساء، وتمكنت الأسياد والأمراء، حتى لقي الإنسان ما جناه، وهلك بما جناه، إذ أضحت الروس تتهشم تحت مطارق السيادة، والأفكار تضل في مناهج القيادة، وأخذت الإنسانية بما أبدعت من المتاعب، ورجعت تشكو صروف المصائب، فما مصائبها إلا مآربها، وما أوجاعها إلا أطماعها. ولما احتاج الإنسان إلى لوازم الحياة الاجتماعية، وبواعث السكنى الانتظامية، أفضت به الضرورة إلى التمدن والألقاب، ولجم الطبيعة بالآداب، ليحسن نظام الجماعة في سلك الاتصال، وتتسهل سبل الأفعال والأعمال، وتتميز الأشخاص المجتمعة، وتتهذب الأطباع المندفعة. وما زال الاجتماع آخذا في ازدياده، والنظام سالكا في انعقاده، والضرورة تجهد المجرى، والعقل يجد بالمسرى، إلى أن اتصلت القبايل بالقبايل، ولحقت الأواخر بالأوايل.
حال البلاد
وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها
نامعلوم صفحہ