حال السلم
ولما وقعت دول الحروب، وسكنت حركات الشعوب، تبسم ثغر السلم عن شنب الهدو، وطافت كئوس البشرى على الآصال والغدو، وأسفرت الأرض عن محيا الابتسام، فاغتبطت الناس في بشاير الأمن والسلام، حتى اتشحت البوادي بجلابيب التهاني، وامتصت الصوادي أنابيب الأماني، وعاد الورى ينضم إلى الورى، والقوم يحمد السرى، وازدهت البلاد، وازدهرت العباد، وتمكنت مباني الأعمال، وتوطدت مغاني الأشغال، وبذخت قصور العمار، واستقرت متون القرار، وانتظمت سلوك الوفاق، وانفصمت عرى الشقاق، فخرس الفم الفاغر، وانكسر الذراع الكاسر، وانقهر الطبع القاهر، حتى نام الطرف السهود، وطاب الفؤاد المفوود، ونعم عوف الجبان، وأمن خوف الزمان، وفك الغنى طلاسم كنوزه، وأخذ الذهب ببروزه، فرنت الأغاني في المغاني، وغنت الأواني على الأواني، وقلص نهار الأفراح ليل الأتراح، واستظهرت الأقلام على الصفاح. فما هذه الحالة الهادية، والعيشة الراضية، إنما ذلك طلوع السلام، ووقوع الخصام، حيثما تنعم الناس، ويتبادلون الإيناس، آمنين على بيوتهم، وظافرين بقوتهم، فيعيشون حسب خوفهم، يموتون حتف أنوفهم، فليعش السلم المبتغى، وليمت الحرب والوغى.
حال الحب
إنما الحب رباط الجمهور، ووفاض الأمور، وصديق السراء، وعدو الضراء، به تتفق الشعاير، وتلتصق العشاير، وتبلغ الأوطار، وتغلب الأطوار، لا يقوم لديه عنيت، ولا يسطو عليه صليت، أينما حل رحلت الشرور، ونزل السرور، ونهض الوفاق، ووقع الشقاق، لا يتوطد بيت إلا به، ولا يثبت قوم بانقلابه، فهو الأساس المتين، والعضد المعين، وهو البطل المغوار، والعسكر الجرار، لا تنزل راياته الخافقة، ولا تنذل غاراته الدافعة، له الغار كلما غار، والفوز أينما سار، والسطوة حيثما ثار، وله الاعتبار والكرامة، والمجد والفخامة، لا يقبل الشين، ولا يرضى المين، ولا يصحب خلقا ذميما، ولا طبعا لئيما، ولا يلامس متصلفا، ولا يداني متجهرفا، ولا يرافق الكبريا، ولا يواصل الرياء، ويرفض النفاق، ولا يقبل الصداق، فهو السماحة والحق، والدعة والصدق، والتواضع والأناسة، والشرف والنفاسة، والكرم والجود، والرفد والوفود، والغوث والإعانة، والإحسان والأمانة. ويقسم الحب إلى خمسة أقسام، وهي: الأبوي، والبنوي، والأخوي، والودادي، والعشقي.
أما الأبوي، فهو حب الآباء لأبنايهم، ولا يوجد أصدق وأثبت من هذا الحب، فلا تغيره الأيام، ولا تعارضه الأعوام. أما البنوي، فهو حب الأبناء لآبايهم، وهذا الحب ينحط إلى المرتبة الثانية انحطاط المعلول عن العلة، فلا يبادل الابن والديه مساواة الحب، على أن الابن لا يشعر بمحبة والديه إلا بعد محبتهما له مدة طويلة، أعني كل سن الفتوة، والأغلبية للمتقدم. وبينما يعقل الابن ويبتدي أن يحب والديه، يعود مشعرا بصعوبة تربيتهما له والتزامه بالطاعة لهما، فإذ يكون مطبوعا على حب الحرية يرى نفسه غير حاصل عليها، فلا يمكنه أن يحبهما بمقدار حبهما له لمعاضتهما إياه في سلوكه. وإذا كان نشأ على خوفهما، فلا يجتمع حب الشيء والخوف منه معا. فيكون إذا الحب الأبوي طبيعيا، والبنوي أدبيا، هذا إذا لم نقل إن الحب نتيجة الموالفة.
أما الأخوي، فهو الحب القايم بين الإخوة، وهذا هو نتيجة الموالفة محضا. وقد ينقص ويزيد بمقدار هذه الموالفة، وقد يشتد في البعض وينقص في البعض، وقد لا يوجد أبدا تبعا لآداب الإخوة وتربيتهم، وما تعودوه من آبايهم. أما الحب الودادي، فهو الحب الذي يوجد بين الأقارب والأصحاب، وهو نتيجة الموالفة أيضا، وهذا إما أنه يكون مخلصا، إما أنه يكون لغرض، فالمخلص نادر، والغرضي كثير ومتواتر، وربما انقلب الغرضي إلى مخلص والمخلص إلى غرضي تبعا لقراين الأحوال ومواقع الأعمال.
أما العشقي فهو حركة تشمل القلب وتشغل الخاطر. أما حصولها فيكون أولا على طريقة الوداد، أو الميل البسيط. ثم ترتقي إلى درجة الحب، وهو الميل الثابت إلى المحبوب. ثم تصعد أخيرا إلى درجة العشق، وهناك إذا أفرطت تدعى بالهوى أو الجوى أو الغرام، وذلك حسب قوتها.
فإذا نزل العشق في قلب الشخص رحل صوابه، وصارت كل أفكاره تدور على هذا الاسم، وهكذا فتعود كل تصرفاته منصرفة إلى وجه الحبيب بحيث لا يعود ساعيا إلا في سبيل مرضاته ولا يطلب إلا شهوده حيثما يغدو موقعا لملاعب الآلام، ومهبا لعواصف الأميال، فيهيم ديمار، ويروغ ويغار. وإذ تبدل شهوده بالغيبة تلاعبت به خمرة الأشواق، وعبثت بقلبه نار الأتواق، فيحن ويئن، ويضيق صدره، ويضطرب فكره، ويأخذه القلق، ويشمله الورق، ويتصعد ويتنهد، ويهيم إلى الطرقات، ويرصد الطاقات، ولا يلذ له سوى ترداد ذكر الحبيب واللهج به.
ومن عادة العشق أن يلطف طباع العاشق ، ويجعله سميرا ونديما ولبيبا، ويرقي طبيعته، ويرقص أفكاره، ويدعوها إلى رقة الغزل، والتشبيب بالجمال، حتى يعود يمكنه التلاعب بأحوال كل الوجود، فيصير مصورا للطبيعة إذ يتوهم فيها الصور المحبوبة لديه، وشارحا لكل الحركات والظواهر المحيطة به إذ يرى أن لكل منها خدمة في بيت الحب ولعبا في مشهد الهوى، على أنه يرى أن الخليقة تتنفس لديه بالحياة، وتنفس كربه وترعرع مثواه، فيناجي الأفلاك، ويرسم الرياض، ويخاطب الأزهار، ويطارح الأطيار، ويشخص الليل والنهار. ومن ذلك ما أقول:
نفض الشرق على وجه المغيب
نامعلوم صفحہ