أنور الجندي الكاتب الفذ والعالم المتواضع
(الشبكة الإسلامية) بقلم/ عبد السلام البسيوني
في بعض الأجيال العوجاء - كجيلنا - تنقلب المفاهيم وتختل النسب ، ويطفو الزبد التافه على السطح الموار ، فلا ترى على وجه الماء إلا قشا ، وقصاصات جرائد ، وفضلات من الزبالة ، وقطع الخشب ، وربما رأيت جثة منتفخة ( لكلب نافق ) أو حمار (فطيس ) ، في حين يرسب في القاع الجوهر والدر الثمين هنالك في الظلام بعيدا ، حيث السكون التام والبعد السحيق ، ومن أراد الحصول على شيء من اللؤلؤ والكنوز الخبيئة ، فلا بد له من أن يغوص ويغوص ، محتملا ضغط الماء ، وظلمة القاع ، ومخاطر البعد عن الأنس .
وفي زمننا - المدهش - عدد من الرجال اللآلئ ، الذين يتمتعون بخاصية الندرة والنفاسة وارتفاع القدر : محمود محمد شاكر ، والمختار الشنقيطي ، وعنتر حشاد ، وأحمد المحلاوي ، وأشباههم من الذين لم تستغوهم الفلاشات ، ولم تستهوهم الشاشات ، أو تسحرهم وتتلعب بهم الإذاعات .
وهذه قضية تاريخية ، ليست وليدة أيامنا ، إنما هي بلية قديمة : أبو حيان التوحيدي يحرق كتبه التي أنفق عمره وعقله عليها ؛ لأنه رأى أهل زمانه يتجاهلونه ولا يقدرونه ، عالم آخر - نسيت اسمه - يترك البلد ويهاجر ، فيسأله تلاميذه الذين لم يفطنوا لحاله : لماذا تتركنا وتنتقل عنا ؟ فقال : لو وجدت كيلجة باقلاء لكفتني ، ولما فارقتكم !! نعم إنه النحوي البصري النضر بن شميل .
كأنها حتمية أو سنة مطردة : من شاء أن ( يقب ) على السطح فليس له بد من أن يغازل أعتاب الوجهاء ، أو يبش في وجه (قبضايات) القرن - الصحفيين والإعلاميين ، رضي الله عنهم ومد ظلهم العالي - لعله أن يحصل له شيء من الانطلاق والتلميع و( البروزة ) .
أما من رزقوا الشمم ، وعلو الهمم ، وتقدير النفس ، فإنهم يبقون معرضين عن السفاسف ، طالبين للمعالي ، متفرجين على ما يدور من عجائب وتناقضات ، راصدين - في توتر - للتحولات في الأفهام التي باتت تقبل ما لم يكن مقبولا ، وتستبيح ما ليس يستباح بل ما لا يخطر ببال أحد أن يقترب منه .
ورحمة الله على القاضي الجرجاني الذي صرخ منذ وقت بعيد :
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان .. ولطخوا محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به غرسا .. وأجنيه ذلة ؟! إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ورحمة الله على البارودي فارس السيف والقلم الذي قال :
خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة علي يدا أغضي لها حين يغضب
إذا أنا لم أعط المكارم حقها فلا عزني خال .. ولا عزني أب
ومن اللآلئ الساكنة في قاع المولد الإعلامي والدعوي الأستاذ العالم المتواضع - أحسبه والله حسيبه - أنور الجندي .. الذي خسرته أمة لا إله إلا الله قبل أيام ، ولم يزاحم أحدا في محاضرة ، ولا موقف فخر ، ولم يزعج وسائل الإعلام كي تتابع أخباره ، وتتحدث عن عنترياته وبطولاته منذ كان في ( اللفة ) .
رأيته مرة واحدة قبل عقد من السنين ، حين ذهبت إليه في بيته بالطالبية ، الجيزة ، فلقيت رجلا من النادرين ، بسيطا بساطة عامي خام ، متواضعا تواضع زاهد ، لينا لين أب رحيم ، واقعيا لدرجة تدعو للأسى والغضب .
رأيت ويا سوء ما رأيت ، بيته المتهالك في قلب (سوق الخضار) إي والله ، ومن الصباح الباكر تقض مضجعه نداءات الباعة - عبر مكبرات الصوت - على ما لديهم من (الورور ) والجبنة القديمة ، واللحمة العجالي ، والأمشاط والفلايات ، والمناخل ، والغرابيل ( ولا تين ولا عنب زيك يا برشرمي ) ، فإذا هدأت ضجة الميكروفونات قليلا ، لم تهدأ مشاجرات ومناقرات جاراته ، وكلامهن المنتقى ، ولم ينقطع ضجيج ( العيال ) العفاريت ، الذين يتقاذفون الكرة ( صدة ردة ) في عز نقرة الحر ، والمتبادلين لما لذ وطاب من الألفاظ التي يحلو للعامة أن يتقاذفوا بها في غير شحناء ولا خصومة .
دخلت حيث يسكن ، ومعي فريق للتصوير التليفزيوني بعد أن أنهكنا البحث ، فقد كنا نظن أنه من ساكني الفيلات الفاخرة ، أو القصور (المحندقة) ، فإذا بنا نسأل المكوجي والجزار والجار فيقولون في استفهام : من أنور ؟ لا نعرف أحدا بهذا الاسم ، وحين اهتدينا إلى بيته المتهالك ، لم نجد مكانا عرضه متر × متر ، يصلح لأن نجلس به ، بسبب قدم المكان ، وكثرة الكتب التي زحفت إلى كراسي غرفة الاستقبال .
ما رأيك يا أستاذنا الكبير لو تحركنا إلى الفندق لنتمكن من التصوير ، حيث المكان واسع ؟
- لا بأس .. كما تشاؤون .. تفضلوا وسألحق بكم .
وبشيء من التخابث سألته : كيف ستدركنا يا أستاذ في هذا الزحام .. كيف ستقود سيارتك ؟
- لا .. لا أملك سيارة .. سألحق بكم بالأتوبيس .
وكأنما لسعني بكرباج فهتفت : الله أكبر .. بالأتوبيس ؟ أنت العالم الكبير ( تتشعبط ) ونحن نسبقك بسيارة خاصة ؟
- وماذا في ذلك ؟ لقد تعودت ..
لا حول ولا قوة إلا بالله .. الرجل العظيم .. بعلمه وسنه ، وضعف جسمه ، ومؤلفاته التي تزيد على السبعين (يتشعبط ) في الأتوبيسات ، بينما ( هلافيت ) الثقافة وتجار الصنف يركبون الشبح والزلمكة ، ويلعبون ( بالأنارب ) ويتنعمون في المنتجعات القريبة والبعيدة ؟
يا لخيبة أمة تتجاهل علماءها وأهل الفضل فيها .
ركب الأستاذ الزاهد السيارة معنا ، وفي الفندق تحدثنا عن قضايا المسلمين في هذه العصر ، وعن العروبة ، واليسار الإسلامي ، والعقلانية ، والتراث ، وغيرها من الآفاق التي طوفنا فيها ، وبعد أن أتعبنا الأستاذ " أنور الجندي " وأزعجناه قدم مدير الإنتاج له ظرفا به مبلغ من المال وهو يقول : " معذرة يا أستاذ على التقصير ، المبلغ لا يليق بكم ؛ لكنه رمز لمحبتنا إياكم ، فنرجو أن تقبلوه مكافأة رمزية فقط " .
- مكافأة ؟ أنا لا أعرف أن هناك مكافأة ، ولم أقل شيئا يستحق أن أتقاضى عنه أجرا .
يا أستاذ : هذا مبلغ بسيط من الدولة ، وليس منة من جيب أحد ، وهو من حقك وليس تفضلا
- لن آخذ شيئا ؛ لأنني ظننت أن الحديث بلا مكافأة ، ولن أغير نيتي مهما كان الأمر .
يا أستاذ .. هذا حقك .. نرجوك .
- لن آخذ قرشا واحدا .. اسمحوا لي بالانصراف .
وأوصلناه ونحن في حياء منه ، ومن تواضعه وورعه ، ونحن - أيضا- في خجل من أنفسنا، وحرصناعلى الراحة و( الكشخة ) .
كان هذا منذ أكثر من عشر سنين .. وأنور الجندي ليس مجهول المكان ، فكتبه تخرج تترى ، ومقالاته تملأ المجلات الإسلامية والحال هو الحال .
إنه الداء الوبيل في الإسلاميين .. وواحسرتا عليهم !!
لقد أذنب أنور الجندي ذنبا فظيعا لا يغتفر .. أنه عفيف ، قار في بيته .. لا يطرق الأبواب ، ولا يزاحم الأتراب ، ولا يهمه أن يقال حضر أو غاب !
كما كان أكبر ذنوب أنور الجندي أنه مستقل في تفكيره ، غير منتم لتيار ، ولا منضو تحت لافتة ، فاللافتات - في العمل الإسلامي - تطرد دائما من لا يصفق لها ، وتعتبره مجذوما أو مريضا بالإيدز ؛ لا يقترب منه ولا يتعامل معه ، بل ربما أساءت إليه ، وحقرت من شأنه ، باسم مصلحة الدعوة أو اختلافا على فرعية من الفروعيات .
أزعم أن أنور الجندي لو علق ( بادجا ) على صدره لكان له شأن آخر ، ولوجد من يدعوه في المناسبات ، ويقدمه في الاحتفالات ، ويثني عليه غائبا وحاضرا .
وأزعم أن هناك (عيال ) جهالا ، لا وزن لهم من علم أو سن أو دعوة ، لكنهم منتمون .. فصاروا بذلك ( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ..
ناهيك عن أن يكون واحدا من المستنيرين أو الذين كانوا - زمان - رفاقا مناضلين - دستور - فهؤلاء تفتح لهم صالات كبار الشخصيات ، وأبواب الجامعات ، وتسود عنهم الصحف ، وتكتب المجلدات عن عبقريتهم ، وتميزهم ، وإبداعهم ، وتستر عوراتهم التي يعرونها دون خجل أو حياء ، فكشف العورات إبداع أيضا عند ( ولاد الحمرة ) .
إنها قضية موازين مختلفة ، ومفاهيم مقلوبة ، وحيف في التقدير ، ووضع للرؤوس موضع الأقدام .
ولعل من المناسب هنا التذكير بكلمة المصطفى صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يوقر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه !!
فمتى تعرفين يا أمة اقرأ ؟ متى تعرفين ؟!
-------------------
القرضاوي يرثي أنور الجندي رحمه الله
== رحيل راهب الثقافة والفكر ومعلم الشباب
== كان جنديا من جنود الله ينشر النور
علمت أن الكاتب الإسلامي المرموق الاستاذ أنور الجندي قد وافاه الأجل المحتوم وانتقل إلى جوار ربه منذ يوم الاثنين الماضي 28/1/2002 بلغني ذلك أحد اخواني فقلت : يا سبحان الله يموت مثل هذا الكاتب الكبير المعروف بغزارة الإنتاج وبالتفرغ الكامل للكتابة والعلم ، والذي سخر قلمه لخدمة الاسلام وثقافته وحضارته ودعوته وأمته أكثر من نصف قرن ، ولا يعرف موته إلا بعد عدة أيام ، لا تكتب عنه صحيفة ، ولا تتحدث عنه إذاعة ، ولا يعرف به تلفاز !!
كأن الرجل لم يخلف وراءه ثروة طائلة من الكتب والموسوعات في مختلف آفاق الثقافة العربية والاسلامية ، وقد كان عضوا عاملا بالمجلس الأعلى للشؤون الاسلامية بالقاهرة ، ومن أوائل الاعضاء في نقابة الصحفيين وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1960.
لو كان أنور الجندي مطربا أو ممثلا لامتلأت انهار الصحف بالحديث عنه والتنويه بشأنه والثناء على منجزاته الفنية. ولو كان لاعب كرة لتحدثت عنه الاوساط الرياضية وغير الرياضية وكيف خسرت الرياضة بموته فارسا من فرسانها ، بل كيف خسرت الأمة كلها بموته نجما من نجومها ؛ ذلك ان أمتنا تؤمن بعبقرية (القدم) ولا تؤمن بعبقرية (القلم) .
مسكين أنور الجندي لقد ظلمته أمته ميتا كما ظلمته حيا، فلم يكن الرجل ممن يسعون للظهور وتسليط الأضواء عليه كما يفعل الكثيرون من عشاق الأضواء الباهرة بل عاش الرجل عمره راهبا في صومعة العلم والثقافة ، يقرأ ويكتب ولا يبتغي من احد جزاء ولا شكورا ، كأنما يقول ما قال رسل الله الكرام : وما اسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين .
منذ كنت طالبا في القسم الثانوي بالأزهر، وأنا اقرأ لانور الجندي في القضايا الإسلامية المختلفة، ومن أوائل ما قرأت له: كتاب بعنوان « كفاح الذبيحين فلسطين والمغرب » وكتاب عن « قائد الدعوة » يعني: حسن البنا الذي طوره فيما بعد وامسى كتابا كبيرا في حوالي ستمائة صفحة سماه : « حسن البنا: الداعية المجدد والامام الشهيد » وقد طبعته دار القلم بدمشق عدة طبعات ، في سلسلتها « اعلام المسلمين » وافتتحت به سلسلتها .. وكان حسن البنا هو الذي دفعه إلى الكتابة، فقد كان في رحلة حج معه وطلب منه ان يكتب خاطرة فقرأها، فأعجبته فشجعه ، واثنى على قلمه، وحرضه على الاستمرار في الكتابة.
وكان من كتبه الأولى « اخرجوا من بلادنا » يخاطب الانجليز المحتلين، وقد علمت ان الكتاب كان سببا في سجنه واعتقاله لعدة ايام في عهد الملك فاروق ثم أفرج عنه .
وللأستاذ أنور الجندي كتب كثيرة تقارب المائة كتاب، بعضها موسوعات ، مثل كتابه « مقدمات المناهج والعلوم » الذي نشرته «دار الانصار» بالقاهرة بلغت مجلداته عشرة من القطع الكبير. وموسوعته «في دائرة الضوء» قالوا: انها من خمسين جزءا. ومن اهم كتبه: أسلمة المعرفة، نقد مناهج الغرب، اخطاء المنهج الغربي الوافد، الضربات التي وجهت للأمة الإسلامية، اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار، تاريخ الصحافة الاسلامية، وكان آخر ما نشره كتاب « نجم الاسلام لا يزال يصعد ».
كان الاستاذ أنور الجندي يميل في كتاباته إلى التسهيل والتبسيط ، وتقريب الثقافة العامة لجمهور المتعاملين دون تقعر أو تفيهق او جنوح إلى الاغراب والتعقيد فكان اسلوبه سهلا واضحا مشرقا. وكان الاستاذ الجندي لا يميل إلى التحقيق والتوثيق العلمي ، فلم تكن هذه مهمته ، ولم يكن هذا شأنه ولذلك لا ينبغي ان يؤخذ عليه انه لا يذكر مراجع ما ينقله من معلومات ، ولا يوثقها ادنى توثيق ، فانه لم يلتزم بذلك ولم يدعه ، وكل انسان يحاسب على المنهج الذي ارتضاه لنفسه، هل وفى به واعطاه حقه أو لا ؟
أما لماذا لم يأخذ بالمنهج العلمي ، ألعجز منه أو لكسل، أو لرؤية خاصة تبناها وسار على نهجها؟
يبدو ان هذا الاحتمال الأخير هو الاقرب ، وذلك انه لم يكن يكتب للعلماء والمتخصصين ، بل كان اكثر ما يكتبه للشباب، حتى انه حين كتب موسوعته الاسلامية التي سماها ( معلمة الاسلام ) وجمع فيها 99 مصطلحا في مختلف ابواب الثقافة والحضارة والعلوم والفنون والاداب والشرائع ، جعل عنوان مقدمة هذه المعلمة (إلى شباب الاسلام) وقال في بدايتها: الحديث في هذه المعلمة موجه إلى شباب الاسلام والعرب ، فهم عدة الوطن الكبير، وجيل الغد الحافل بمسؤولياته وتبعاته، وهم الذين سوف يحملون امانة الدفاع عن هذه العقيدة في مواجهة الاخطار التي تحيط بها من كل جانب ، فمن حقهم على جيلنا ان يقدم لهم خلاصة ما وصل إليه من فكر وتجربة.. وان نعبد لهم الطريق الى الغاية المرتجاة.. هذه مسؤوليتنا ازاءهم ، فاذا لم نقم بها كنا آثمين ، وكان علينا تبعة التقصير. أ.ه
واعتقد ان كتبه قد آتت اكلها في تثقيف الشباب المسلم، وتحصينهم من الهجمات الثقافية الغربية المادية والعلمانية التي لا ترضى إلا بان تقتلعهم من جذورهم واصالتهم.
كان الاستاذ الجندي زاهدا في الدنيا وزخرفها، قانعا بالقليل من الرزق، راضيا بما قسم الله له، لا يطمع ان يكون له قصر ولا سيارة، حسبه ان يعيش مكتفيا مستورا، وكان بهذا من اغنى الناس ، كان كما قال علي كرم الله وجهه:
يعز غني النفس إن قل ماله ويغنى غني المال وهو ذليل
وكما قال أبو فراس:
ان الغني هو الغني بنفسه ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا واذا قنعت فبعض شيء كاف
وكان إربه من الدنيا محدودا ، فليس له من الأولاد الا ابنة واحدة تعلمت في الأزهر ، وحصلت على أجازة ليسانس في الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر وكانت رغباته تنحصر في ان يقرأ ويكتب وينشر ما يكتب ، كما سئل احد علماء السلف: فيم سعادتك ؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحا ، وشبهة تتضاءل افتضاحا.
حكى الأخ الأديب الداعية الشيخ عبدالسلام البسيوني أنه ذهب إلى القاهرة مع فريق من تليفزيون قطر ليجري حوارا مع عدد من العلماء والدعاة كان الأستاذ أنور منهم او في طليعتهم، ولم يجد في منزله الذي يسكنه مكانا يصلح للتصوير فيه فقد كان في حي شعبي مليء بالضجيج ، وكان المنزل ضيقا مشغولا بالكتب في كل مكان فاقترح عليه ان يجري الحوار معه في الفندق، وبعد ان انتهى الحوار تقدم مدير الإنتاج بمبلغ من المال يقول له: نرجو يا أستاذ ان تقبل هذا المبلغ الرمزي مكافأة منا وان كان دون ما تستحق، فإذا بالرجل يرفض رفضا حاسما ويقول: انا قابلتكم ، وليس في نيتي ان آخذ مكافأة ولست مستعدا أن أغير نيتي ولم أقدم شيئا يستحق المكافأة. قالوا له: هذا ليس من جيوبنا انه من الدولة، وأصر الرجل على موقفه، وأبى ان يأخذ فلسا!
وكان الاستاذ الجندي يكتب مقالات في مجلة منار الإسلام في أبو ظبي وفوجئ القراء يوما بإعلان في المجلة يناشد الأستاذ أنور الجندي أن يبعث إلى إدارة المجلة بعنوانه لترسل إليه مستحقات له تأخرت لديها، ومعنى هذا انه لا يطلب ما يستحق ، ناهيك أن يلح في الطلب كالآخرين.
كان رجلا ربانيا، ومن دلائل ربانيته ما ذكرته ابنته عنه انه كان يحب ان يكون متوضئا دائما فيأكل وهو متوضئ ، ويكتب وهو متوضئ ، وكان ينام بعد العشاء ، ثم يستيقظ قبل الفجر ليصلي التهجد ، ويصلي الفجر ، ثم ينام ساعتين بعد الفجر ويقوم ليقضي بعض حاجات البيت بنفسه ..
كان الأستاذ أنور الجندي يخدم الجيران ويملأ لهم (جرادل) الماء إذا انقطع الماء ، ويضعها أمام شققهم . وكان له من اسمه نصيب أي نصيب فكانت حياته وعطاؤه وإنتاجه تدور حول محورين: النور - او التنوير - والجندية. فقد ظل منذ امسك بالقلم يحمل مشعل (النور) او (التنوير) للامة ، وانا اقصد هنا: التنوير الحقيقي لا (التزوير) الذي يسمونه (التنوير). فالتنوير الحقيقي هو الذي يرد الأمة الى النور الحق الذي هو أصل كل نور وهو نور الله تعالى ممد الكون كله بالنور ، وممد قلوب المؤمنين بالنور: نور الفطرة والعقل، ونور الإيمان والوحي ( نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ).
وكان اهم معالم هذا التنوير: مقاومة التغريب والغزو الفكري الذي يسلخ الامة من جلدها ، ويحاول تغيير وجهتها وتبديل هويتها والغاء صبغتها الربانية ( صبغة الله ومن احسن من الله صبغة ) وكان واقفا بالمرصاد لكل دعاة التغريب يكشف زيفهم ويهتك سترهم - وان بلغوا من المكانة ما بلغوا - حتى رد على طه حسين ، وغيره من اصحاب السلطان الادبي والسياسي .
قال الجندي يوما عن نفسه: «انا محام في قضية الحكم بكتاب الله ، ما زلت موكلا فيها منذ بضع واربعين سنة ، حيث اعد لها الدفوع ، واقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة الى الحق تبارك وتعالى ، وعهد على بيع النفس لله . والجنة - سلعة الله الغالية - هي الثمن لهذا التكليف ( ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة ) ».
كان النوروالتنوير غايته ورسالته ، وكانت الجندية وظيفته ووسيلته . لقد عاش في هذه الحياة (جنديا) لفكرته ورسالته فلم يكن جندي منفعة وغنيمة ، بل كان جندي عقيدة وفكرة. لم يجر خلف بريق الشهرة ولم يسع لكسب المال والثروة او الجاه والمنزلة ، وانما كان اكبر همه ان يعمل في هدوء ، وان ينتج في صمت ، والا يبحث عن الضجيج والفرقعات ، تاركا هذه لمن يريدونها ويلهثون وراءها.
كان الاستاذ الجندي من « الاخوان المسلمين » من قديم وممن رافق الامام البنا مبكرا وممن كتبوا في مجلات الاخوان في الاربعينيات من القرن العشرين ولكن الله تبارك وتعالى نجاه من كروب المحن التي حاقت بالاخوان قبل ثورة يوليو وما بعدها ، فلم يدخل معتقل الطور ايام النقراشي وعبدالهادي ولم يدخل السجن الحربي ايام عبدالناصر ،بل حصل على جائزة الدولة التقديرية في عهده على حين لم ينلها احد ممن كانت له صلة بالاخوان .
وربما كانت طبيعته الهادئة ، وعمله الصامت ، وادبه الجم وتواضعه العجيب ، وبعده عن النشاط العلني في تنظيم الاخوان ، سببا في نجاته من هذه المعتقلات ، خصوصا في عهد الثورة .
كتب الاستاذ انور الجندي في فترة المحنة في عهد عبدالناصر في بعض المجلات غير الاسلامية تراجم لقادة التحرر والثورة من ذوي التوجه الديني - امثال عمر المختار في ليبيا ، وعبدالكريم الخطابي في المغرب ، وذلك في مجلة (المجتمع العربي) المصرية في فترة الخمسينيات والستينيات . ويقول عن هذه الفترة : ( لقد كان ايماني ان يكون هناك صوت متصل - وان لم يكن مرتفعا بالقدر الكافي - ليقول كلمة الاسلام- ولو تحت اي اسم آخر - ولم يكن مطلوبا من اصحاب الدعوات ان يصمتوا جميعا وراء الاسوار ).
في اواخر الثمانينيات من القرن العشرين سعدت بلقاء الاستاذ الجندي في الجزائر العاصمة في احد ملتقيات الفكر الاسلامي وهي اول مرة ألقاه وجها لوجه - بعد ان كنت رأيته مرة بالمركز العام للاخوان مع الاستاذ البنا سنة 1947م على ما اذكر - فوجدته رجلا مخلصا ، متواضعا ، خافض الجناح ، ظاهر الصلاح نير الاصباح .
وقد ارسلنا منظمو الملتقى الى احد المساجد في ضواحي العاصمة هو وانا ، وأردت ان اقدمه ليتحدث اولا ، فأبى بشدة ، وألقيت كلمتي ثم قدمته للناس بما يليق به ، فسر بذلك سرورا بالغا.
وبعد حديثه في هذه الضاحية تحدثت معه : لماذا لا يظهر للناس ، ويتحدث اليهم بما افاء الله عليه من علم وثقافة؟ فقال: انا رجل صنعتي القلم ولا احسن الخطابة والحديث الى الناس ، فأنا لم اتعود مواجهة الجمهور ، وانما عشت اواجه الكتب والمكتبة. وليس كل الناس مثلك ومثل الشيخ الغزالي ممن آتاهم الله موهبة الكتابة وموهبة الخطابة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . فقلت له:
ولكن من حق جمهور المسلمين ان ينتفعوا بثمرات قلمك ، وقراءاتك المتنوعة ، فتضيف اليهم جديدا وتعطيهم مزيدا. فقال: كل ميسر لما خلق له.
وفي السنوات الاخيرة حين وهن العظم منه ، وتراكمت عليه متاعب السنين وزاد من متاعبه وآلامه في شيخوخته ما رآه من صدود ونسيان من المجتمع من حوله كأنما لم يقض حياته في خدمة امته ، ولم يذب شموع عمره في احيائها وتجديد شبابها وكأنما لم يجعل من نفسه حارسا لهويتها وثقافتها، مدافعا عن اصالتها امام هجمات القوى المعادية غربية وشرقية ليبرالية وماركسية.
عاش الاستاذ الجندي سنواته الاخيرة جليس بيته ،وطريح فراشه يشكو بثه وحزنه الى الله كما شكا يعقوب عليه السلام يشكو من سقم جسمه ويشكو اكثر من صنيع قومه معه ، الذين كثيرا ما قدموا النكرات ، ومنحوا العطايا للإمعات ، كما يشكو من إعراض اخوانه الذين نسوه في ساعة العسرة وايام الازمة والشدة ، والذين حرم ودهم وبرهم احوج ما كان اليه ، مرددا قول علي رضي الله عنه ، فيما نسب اليه من شعر:
ولا خير في ود امرئ متلون اذا الريح مالت مال حيث تميل
جواد اذا استغنيت عن اخذ ماله وعند زوال المال عنك بخيل
فما اكثر الاخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
ومنذ اشهر قلائل اتصلت بي ابنته الوحيدة من القاهرة ، وابلغتني تحيات والدها الذي اقعده المرض عن الحركة، وهو يعيش وحيدا لا يكاد يراه احد او يسأل عنه احد برغم عطائه الموصول طول عمره لدينه ووطنه وامته العربية والاسلامية . وكانت كلماتها كأنها سهام حادة ، اخترقت صدري ، واصابت صميم قلبي ، وطلبت منها ان تبلغه اعطر تحياتي ، وابلغ تمنياتي ، واخلص دعواتي له بالصحة والعافية، وعزمت زيارته في اول فرصة انزل فيها الى مصر باذن الله .
وشاء الله جلت حكمته ان يتوفاه اليه قبل ان تتحقق هذه الزيارة وان يلقى ربه - ان شاء الله - راضيا مرضيا. ( يايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
رحم الله انور الجندي وغفر له وتقبله في الصالحين وجزاه عن دينه وامته خير ما يجزي به العلماء والدعاة الصادقين الذين اخلصهم الله لدينه ، واخلصوا دينهم لله .
صفحہ 50