مشاهد الممالك

ادوار الیاس d. 1341 AH
92

مشاهد الممالك

مشاهد الممالك

اصناف

ومشاهد رومية كثيرة لا أقدر على عدها كلها هنا، منها الحمامات التي بناها قياصرة الرومان، مثل نيرون ونيطس وكاركلا، في الحمام الواحد منها كثير من المغاطس والأجران والبرك، فيها مياه سخنة وباردة وبخارية، وكلها من الرخام الطلياني النقي يسع الواحد منها 2500 مستحم في وقت واحد، وهناك بنيت القاعات للتكبيس والتعطير، وأنشئت الحدائق والألعاب الرياضية، وفي رومية أيضا آثار الملاعب الأولى بنيت على شكل مستدير (أمفتياتر) وضعت فيها المقاعد بعضها فوق بعض صفوفا متوالية، منها ملعب مارشلس كان يضم 40000 وملعب سكاروس 80000، وكان الرومانيون القدماء يطلقون الوحوش في هذه الأماكن ويتفرجون من مقاعدهم على قتالها أو مصارعة الرجال لها، وكثيرا ما كانوا يلقون الذين اعتنقوا الديانة المسيحية للوحوش في هذا الموضع فتفترسهم وتقطع أجسامهم والمتفرجون يسرون لعذابهم ولا يتأثرون، وما زال في العاصمة آثار الفوروم - وهو البارلمان الروماني - وقصور القياصرة وهياكل للمعبودات، مثل جوبيتر والزهرة والمشتري، وهم كلما وجدوا أثرا ينقلونه إلى المتحف، دخلناه فرأينا فيه قبور القياصرة من الرخام عليها نقوش بارزة تشير إلى وقائعهم الحربية وتاريخ حياتهم في الحروب، ويرى في أطراف المدينة بقايا أقواس النصر التي أقامها القياصرة، وقس على ذلك من آثار عظمة رومية الأولى وبقايا أصحابها السابقين.

البابوية

لا حاجة إلى القول إن البابا كان أعظم أصحاب السلطة الزمنية في الزمان السابق، وكان الكهنة والأساقفة بمثابة حكام للشعوب وقضاة، ولما كان الأساقفة تابعين في أحكامهم لرومية كان استئناف أحكامهم يرفع إلى قداسة البابا، ولا مرد لحكمه، وعليه أصبح الملوك والأمراء كالشرطة ينفذون أحكامه ويأتمرون بأوامره، أذكر من ذلك أن شارلمان ملك فرنسا ومؤسس مملكة جرمانيا الذي ظهر في أواخر القرن الثامن كان نصيرا لكرسي رومية طمعا بمساعدة البابا له حتى يصير إمبراطورا، فنصبه البابا لاون الثالث وألبسه تاج ألمانيا وسماه إمبراطورا، وعرف شارلمان للبابا ذلك الفضل فوسع اختصاصات الإكليروس ووهبهم المال والعقار وفوض إليهم كثيرا من أمور الحكومة، ولكن هذا الحال لم يدم فإنه لما تولى هنري الرابع مملكة جرمانيا أراد أن يزيل السلطة الزمنية من يد البابا فاستحال عليه الأمر؛ لأن البابا يومئذ كان غريغوريوس السابع، وهو من أشهر بابوات رومية وأعظمهم دهاء وعقلا وسياسة، فلما ثار السكسونيون على ملكهم اغتنم البابا هذه الفرصة وطلب إلى الملك هنري أن يحضر إلى رومية لاستجوابه عن كيفية معاملته لرعاياه، فاعتبر الملك هنري ذلك الطلب خارجا عن حقوق البابوية ورفض المجيء، ثم استصدر حكما بخلع البابا غريغوريوس السابع، فلما سمع البابا بذلك الحكم جمع أساقفة رومية وأصدر حكما قاضيا بخلع الملك عن مملكة جرمانيا وحرمه من الكنيسة، واشتد الحال بين الملك والبابا فالبعض من ملوك أوروبا وقسم من رعايا الملك عضدوا البابا؛ فخاف الملك على منصبه وسط بعض أمراء وأميرات إيطاليا من ذوي الوجاهة، وبعد الجهد الكلي أذن البابا للملك بمقابلته على شرط أن يأتي إليه بلا حاشية مرتديا ثوب الندامة، ولما وصل الملك إلى قصر البابا وقف ثلاثة أيام متوالية خارج الباب، وفي اليوم الرابع أذن له البابا بالدخول فركع على ركبتيه وطلب منه السماح والتوبة.

دامت سلطة البابوات قرونا وكان لهم ما للملوك من الجيوش الجرارة والقواد العظام حتى نهضت إيطاليا كما سبق في الخلاصة التاريخية، ودخل ملكها فكتور عمانوئيل الثاني مدينة رومية عنوة في سنة 1860، واحتل قصر الكيرينال، ولكنه قلق بعد دخوله إلى رومية وشعر بحرج مركزه لدى العالم الكاثوليكي، فعرض وزيره الكونت كافور - الذي كان له اليد الطولي في توحيد إيطاليا (كالبرنس بسمارك في توحيد ألمانيا) - على قداسة البابا أن يتنازل عن أملاكه فتضمن له إيطاليا الاستقلال التام في أعماله الدينية، وأن الكنيسة تكون حرة في بلاد حرة ويعطى له حي الفاتيكان وما فيه من القصور والمتاحف، ويعامل البابا حيثما سار في إيطاليا بنفس الاحترام الذي يؤدى للملك، وله التقدم على الملك في الحفلات الرسمية، وكان حين ذاك على الكرسي البابوية بيوس التاسع فرفض جميع ما عرض عليه؛ ولذلك صدر قرار من حكومة إيطاليا بتجريده من أملاكه وتخصيص مبلغ 150 ألف جنيه سنويا له، ولكن البابا رفض ذلك رفضا باتا، وهذا المبلغ متكوم في خزينة إيطاليا على ذمة البابوات منذ صدور القرار المذكور. وعلة البابا في عدم قبوله أن القبول يعد ذلك اعترافا منه بملك إيطاليا وهو لا يريد أن يعترف به، هذا غير أنه ليس بذي حاجة للمال؛ فإنه لما بلغ البابا ليون الثالث عشر السنة الخمسين من صيرورته كردينالا سنة 1892 وردت عليه هدايا من العالم الكاثوليكي لم تقل قيمتها عن مليوني جنيه، ولما احتفلوا بيوبيله في 20 فبراير 1902 - أي بمرور 25 عاما وهو على الكرسي البابوي - بلغت الأموال والهدايا التي قدمت لقداسته مليونا ونصف مليون. وقد رأيت أن أصف هنا كيفية الرسوم التي يجرونها عند وفاة البابا وتنصيب خلفه فأقول:

إنه لما ثقل المرض على البابا السابق ليو الثالث عشر في أواسط شهر يوليو سنة 1903 وكان عمره 93 سنة طير التلغراف قرب أجله إلى أقاصي المعمور فورد للفاتيكان 12000 رسالة برقية فيها سؤال عن صحته، وأقيمت الصلوات في كنائس رومية وغير رومية طلبا لشفائه، ولما بدأ البابا بالنزع اجتمع الكرادلة ودخلوا غرفة المريض وجثوا عند فراشه، وعندما لبى داعي ربه بلغ كاتب سره الخبر رسميا إلى الكردينال الكمرلنغ (الحكمدار)، وهذا سار من وقته إلى البلاط البابوي فجلس فيه كأنه رب البيت وأخذ في مباشرة مهنته، وأول عمل قام به هو أنه عين أحد الحجاب البابويين ليصون غرفة البابا ويسجل كل ما تتضمنه، ثم لبس لبس الحداد وهو الثوب البنفسجي البحت، وسار إلى حجرة الميت يتقدمه بعض الخواص، فبعد صلاة وجيزة على وسادة بنفسجية تقدم من الميت ليثبت موته فضرب جبينه ضربا خفيفا بمطرقة من فضة ثلاثا وهو يناديه باسمه الأصلي قبل أن نال الاسم البابوي، فلما انتهى من ذلك أعلن موته حالا قائلا: «إن البابا قد مات»، فحينئذ نزع حاجب البابا من إصبع الميت خاتمه المعروف بخاتم الصياد وسلمه للكردينال المذكور، يريد بذلك أن سلطة الكنيسة صارت إلى يده مؤقتا، وهذا الخاتم يمثل صورة القديس بطرس في سفينة، وعليه اسم البابا وبه يختم البراءات. وفي أول مجمع اجتمع فيه الكرادلة كسر هذا الخاتم مع الخواتم الأخرى التي فيها اسم البابا المتوفى دلالة على فروغ الكرسي البابوي، ثم كتب أحد الكتاب قرارا دون فيه حجة موت البابا وتسليم الخاتم إلى يد حكمداره، وبدأ ناقوس كنيسة مار بطرس الكبير يدق دقة الحزن وأجابته نواقيس رومية كلها، وخرج الحكمدار ليذيع خبر وفاة البابا بالتلغراف رسميا في الأقطار، وأعلن سفراء الدول في رومية بوفاة البابا، ودعي للحضور إلى رومية جميع الكرادلة، ثم إنهم حنطوا جثة البابا وعرضوها على منصة مرتفعة نصبوها في رواق الغرفة البابوية، والميت مضجع بالثياب البابوية فوق فراش مغطى بحرير أحمر وعلى طرفيه شمعدانان كبيران تسطع أنوارهما، وعند مدخل الرواق حارسان واقفان وبيديهما سيف مشهر طرفه إلى الأرض، ثم نقلت الجثة بكل إكرام إلى كنيسة مار بطرس بموكب حافل، ولبس الجسم الملابس المقدسة من بدلة ودرع الرئاسة وتاج وصليب ووضع في معبد القربان الأقدس، ولهذا المعبد شعرية كبيرة فبقي على هذه الحالة ثلاثة أيام متوالية، ثم دفن الجسم دفنا مؤقتا في أحد جدران كنيسة القديس بطرس بحفلة مؤثرة لم يحضرها سوى الكرادلة وحاشية البابا وحجابه ونحو مائة شخص من الأخصاء.

كان البابا لاون الثالث عشر المتوفى من أفاضل البابوات، وهو من أسرة إيطالية عريقة في المجد، ولد في الثاني من شهر مارس سنة 1810 وتوفي في التاسع عشر من شهر يوليو سنة 1903 الساعة الرابعة بعد الظهر.

كيفية انتخاب البابا:

كل يعلم ما للبابا من النفوذ الديني؛ لأنه يحكم ثلاثمائة ألف ألف من الكاثوليك، وله أيضا نفوذ سياسي كبير بسبب منصبه السامي، فالممالك الكاثوليكية تود لو يكون البابا من أبناء أمتها حتى يميل إلى تعضيدها ساعة اللزوم، وقد حصل عند الانتخاب الأخير أن حكومة النمسا الكاثوليكية أبدت معارضة في انتخاب الكردينال رامبولا الذي كان المظنون في العالم الكاثوليكي انتخابه؛ لأنه أقدر الكرادلة فنهض الرجل في الحال وقال: إني أحتج على دخول السلطات العالمية في الانتخاب، ولكنني أعد نفسي سعيدا إذا أعفيت من أعباء البابوية.

وطريقة الانتخاب هي أن الكرادلة يجتمعون للتفاوض في أمر الرئاسة البابوية لمجلس الكونكلاف - أعني المجلس المقفل - وذلك في قصر الفاتيكان، حيث تعد القاعات والدور التي حوله لتصلح لسكن الكرادلة طول أيام اجتماعهم إلى يوم انتخاب الحبر الجديد، وتجعل هذه القاعات الكبرى حجرا صغيرة تفصل بينها حواجز خشبية يعطى فيها كل كردينال أربع حجر: إحداها للنوم، والثانية للعمل، وحجرتان لكاتب أسراره وخادمه، وهذه الحجر، تعطى بالقرعة، ويدخل مع الكرادلة في مجلسهم المقفل كاتب أسرار المجمع وأصحاب التشريفات وعدد معلوم من العمال كطبيب وجراح وصيدلي ومزين وبناء ونجار يختارهم الكرادلة في الجلسات التي تعقد قبل الانتخاب بعد التثبت من أهليتهم وحسن سلوكهم، وبعدهم عن الدسائس، وإذا دخلوا معهم المجمع فلا يجوز لهم الخروج منه مطلقا إلا في أمر ذي بال يحكم بصوابه الكرادلة جميعا.

وبعد اجتماع المجلس يخطب أحد السادة ليحض المنتخبين على التجرد من كل الغايات الشخصية واختيار من يعرفونه أهلا لرئاسة الكنيسة، وفي نهاية الخطبة يتقدم أحد التشريفاتية ويمسك بيده الصليب البابوي ذا الشعب المثلثة ويمشي أمامه حاشية الكرادلة الذين تعينوا لخدمتهم ويتبعهم المرنمون وهم ينشدون التسابيح، فإذا بلغوا المعبد السكستي الذي يتم فيه الانتخاب جلس كل حسب رتبته تحت الملة المعدة له، ثم تتلى على مسامعهم رسوم الأحبار الرومانيين بخصوص هذا الانتخاب، وعلى أثر ذلك يقومون بالترتيب ويقسم كل منهم ويده على الإنجيل المقدس بأنه يختار لرئاسة الكنيسة الرجل الذي يعرفه أجدر بهذا المنصب الجليل من سواه، وبعد ذلك يخرج من المعبد السكستي ومن المكان المعد لإقامة الكرادلة كل من ليس له عمل في المجمع، ثم يسد البناءون كل الأبواب بجدران من الحجارة إلا باب السلم الملكي فإنه يقفل بأربعة أقفال، منها قفلان في الخارج وقفلان في الداخل، وكلها تقفل أمام الشهود، وبعد أن أقفل هذا الباب قام على حراسته نفر من الجند يتقدمهم أحد أشرف رومية يدعى محافظ المجمع، وكذلك دار الكردينال الحكمدار مع ثلاثة من الكرادلة، وزار كل الحجر ليتحقق أنه ليس ثم غريب وأن الأحكام البابوية روعيت تماما، وعمل بين المحجوزين والخارج أربعة منافذ أو دواليب يحرسها قوم ثقات يفحصون كل ما يوضع فيها لئلا ينفذ منها مكاتيب وما شاكل ذلك، وكانوا إذا طلب أحد من الخارج كالسفراء وغيرهم أن يواجه أحدا من الكرادلة استدعاه إلى الدولاب وفاوضه بحضور الحرس، وجعلت المطابخ في داخل سكني المنتخبين، وكل كردينال يأكل وحده، أما الخدم والحاشية فكانوا يأكلون في مطعم عمومي.

نامعلوم صفحہ