معلوم أن هذه المملكة تضم الآن أمما شتى، لكل منها تاريخ خاص بها، فإن بوهيميا وبولونيا وبلاد المجر والنمسا وكرواسيا وغير هذه من أجزاء السلطنة النمسوية كانت مستقلة، ولا ينطبق تاريخها الخاص على تاريخ المملكة العام. وأما النمسا فاسم أطلق في أيام شارلمان على الممالك التي خضعت له حول نهر الدانوب ونهر الأنس في شرق أوروبا عرفت باسم أوستريا أو «أوسترك»؛ أي المملكة الشرقية، وكانت مؤلفة من معظم البلاد الواقعة الآن في حوزة ألمانيا والنمسا معا، وظلت تابعة لشارلمان وخلفائه حتى ضعف هؤلاء الخلفاء، وصار أمراء الممالك الألمانية ينتخبون الإمبراطور انتخابا، وكان الأساقفة في بعض الأحيان يقومون مقام الأمراء في الانتخاب، أو أن البابا يعين إمبراطورا للسلطنة الألمانية. وأشهر من انتخب لهذا المنصب بعد سلالة شارلمان هنري الأول ابن أمير بافاريا، ملك سنة 918 وأصلح أمورا كثيرة في البلاد، واشتهر بعده فريدريك الثاني الذي انتخب إمبراطورا في سنة 1212 وكان رجلا حازما عاقلا، مد سلطنته في الشرق والغرب وملك أكثر جهات إيطاليا، ولكنه كان عدو سلطة رجال الدين فحاربهم وحاربوه وانتهى الأمر بفوزهم عليه؛ لأن الناس كانوا في تلك العصور آلات في يد رجال الكنيسة. فلما مات فريدريك في سنة 1250 وقعت البلاد في اضطراب كبير وطمست أخبار عزها فلم يسمع لها بشيء يذكر إلا عام 1274 حين قام أمير من أشراف سويسرا اسمه رودولف هايسبرج، وعظم شأنه إلى حد أنه صار أميرا لأوستريا أو النمسا وهي يومئذ كما قلنا جزء من السلطنة الألمانية، وكان رودلف هذا عاملا في بلاط ملك بوهيميا فعسر على الملك أن يقر له بالإمارة وحاربه رودلف فانتصر عليه، واستتب له الملك فأورثه من بعده إلى بنيه، ولم يزل آل هايسبرج حاكمين في النمسا، وهم من أكبر البيوت المالكة في أوروبا الآن.
وظلت ألمانيا تحت سيادة آل هايسبرج إلى أن قام نابوليون الأول وجعل همه الأكبر تقسيم السلطنة الألمانية وتجزئتها حتى لا تنضم الأقوام الألمانية على فرنسا، فحارب بروسيا والنمسا حروبا متوالية قوض بها أركان السلطنة الألمانية في سنة 1806 حين أبدلت تلك السلطنة القديمة بسلطنة النمسا الحالية، ولقب الملك الحاكم يومئذ في فيينا من آل هايسبرج بإمبراطور النمسا على مثل ما هو اليوم. ولكن نابوليون حارب بلاد النمسا مرتين وانتصر عليها في موقعة أوسترليتز المشهورة سنة 1805، وفي موقعة واجرام سنة 1809. وبعد هذه الحروب اقترن بالبرنسيس ماري لويز ابنة الإمبراطور مكسميليان فصار حليفا للنمسا، وارتفع شأنها بين الممالك حتى إنها ضمت إليها في سنة 1815 بلاد لومبارديا والبندقية من أجزاء إيطاليا، وبلاد كراكوفيا في سنة 1847، ولكنها كسرت سنة 1859 في حربها مع فرنسا وإيطاليا فتخلت للدولة الإيطالية الحالية عن أملاكها في إيطاليا. وفي سنة 1866 شبت حرب مشهورة بينها وبين بروسيا بتدبير بسمارك الشهير فكسرت في تلك الحرب أيضا وتنحت عن الاتحاد الألماني حتى صارت بروسيا أكبر الممالك الألمانية ورئيستها.
وفي سنة 1867 أبرمت معاهدة بين النمسا والمجر على أن تكون المملكتان دولة واحدة لكل منهما نظام خاص بها واستقلال تام في الشئون الداخلية ويربطهما حكم الإمبراطور على المملكتين، فنتج عن هذا الاتحاد قوة كبرى للسلطنة النمسوية وجعلت السلطنة تنمو وتتقدم في أيامه حتى إن أوروبا اتفقت سنة 1878 في مؤتمر برلين على إضافة ولايتي البوسنة والهرسك إليها مؤقتا، وهما الآن من أجزاء السلطنة النمساوية بعد الذي اشتهر على إثر إعلان الدستور العثماني. وأبرمت معاهدة حربية بين روسيا وألمانيا والنمسا سنة 1879. ثم تنحت روسيا عن هذا التحالف فأبرمت المحالفة الثلاثية المشهورة بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وهي باقية إلى اليوم؛ فزادت البلاد تقدما ونموا ونفوذا واتسعت متاجرها وارتقت درجة العلم في أنحائها.
فرانس يوسف إمبراطور النمسا.
كل هذا تم على عهد جلالة الإمبراطور فرانس يوسف الجالس على سرير النمسا الآن، وهو محبوب من الأمم الخاضعة له حبا شديدا، ولولا مكانته في النفوس وما له من المهابة لخشي على بلاده من التجزؤ والانقسام؛ لأن رعاياه كثيرو الأجناس والمذاهب لا يضمهم رأي غير الولاء لشخصه. ولد في 18 أوغسطس سنة 1830، وارتقى العرش بعد تنازل عمه في 2 ديسمبر سنة 1848، واقترن بالأميرة إليصابات ابنة الدوك مكسميليان البافاري سنة 1854. وقد قسم لهذا الملك أن يكون منغص العيش كثير الهموم؛ فإنه قتل أخوه مكسميليان في بلاد المكسيك، وسيجيء الكلام عنه في باب تريستة، وانتحر ابنه وولي عهده رودلف سنة 1888 فكدر صفو عيشه، ثم قتلت قرينته في جنيف في شهر سبتمبر سنة 1898 من يد فوضوي اسمه لوكيني، فتم بذلك كأس حزنه الشديد. وهو من أعظم ملوك أوروبا الحاليين مهابة وأكثرهم خبرة. ولما تم على ملكه ستون سنة في شهر مايو 1908 أقيمت حفلات عظيمة اشترك بها إمبراطور ألمانيا وأكثر ملوكها وأمرائها مع وفود من أمراء الدول الأخرى وسراتها، وعمت الأفراح كل أنحاء السلطنة النمسوية.
وقد أحصي سكان النمسا سنة 1906 فكانوا خمسين مليون نفس، ومساحتها 675887 كيلومترا مربعا، غير مساحة البوسنة والهرسك اللتين سبق ذكرهما.
تريستة
ركبت متن البحار من الإسكندرية في يوم راقت سماؤه واعتل هواؤه من شهر يونيو عام 1893، وكان بدء السفر على غير ما يوافق ذلك اليوم؛ لأن السفينة جعلت تتقلب وتميل ونحن لا نرى في البحر موجبا لهذه الحركة. فسألنا ربان الباخرة في ذلك، قال إنه بقية اضطراب فيما يلي سطح البحر من الماء من نوء مر، وإن الحال ستبقى على مثل ذلك خمس ساعات. وصح قول الرجل؛ فإنه لما انقضى الموعد الذي نوه به هدأ اضطراب السفينة وتبدت حلاوة السفر فتوارد المسافرون على ظهر الباخرة، واجتمعوا يتحدثون على عادة الناس في مثل هذه الأحوال. ومررنا في الطريق بمناظر شتى تستحق الذكر؛ منها جزيرة كريت المشهورة، رأينا جبالها الباسقة إلى ناحية اليمين في اليوم التالي من سفرنا، وسرنا بعد ذلك بين جزر متعددة من جزائر الأرخبيل الرومي مثل زانت وكلارنس وسفالونيا، فكانت الباخرة في بعض الأحيان تقترب من الأرض اقترابا يمكن المسافر فيها من رؤية مناظرها البهية وما فيها من كرم وزيتون وشجر كثير. ومن هذه الجزر المعروفة: كورفو مررنا بها في أواخر اليوم الثالث من بعد أن غادرنا الإسكندرية، حتى إذا كان صباح اليوم الرابع رست السفينة في مينا برندزي، وهي مدينة صغيرة في جنوب إيطاليا لا أهمية لها إلا أنها مرسى للبواخر ونقطة الاتصال بين الشرق والغرب في البريد؛ فهي ينقل منها وإليها البريد المتبادل بين أوروبا والشرق، وأخصه ما كان بين إنكلترا والهند، فتجولنا في جوانبها حينا ثم عدنا إلى السفر ووصلنا تريستة في اليوم الخامس.
وأما تريستة فهي أشهر مدن النمسا، ولها فوق شهرتها الحالية تاريخ قديم؛ فإنها وصلها الرومان في سنة 600 قبل المسيح، وبنوا بها المعاقل والحصون ثم خربها أتيلا، وطمست أخبارها زمانا حتى قامت السلطنة الغربية الجديدة على عهد شارلمان فتجددت أهميتها وألحقت بعد شارلمان بدولة البندقية؛ فاختلط أهلها بالطليان اختلاطا بقيت آثاره فيهم، وهم أو معظمهم يتكلمون النمسوية والإيطالية معا إلى هذا اليوم. وانسلخت عن إمارة البندقية سنة 1382 فضمت إلى سلطنة النمسا وجعلها الإمبراطور كارل السادس فرضة حرة أعفيت من الرسوم. ثم أصلحت فيها الإمبراطورة ماريا تريزا شيئا كثيرا كان من ورائه أن التجارة ما بين الشرق والغرب تحولت من مدينة البندقية إليها، والمدينتان متقابلتان في بحر الأدرياتيك. وهي الآن مقر تجارة النمسا البحرية مع الشرق، وفيها مركز شركة لويد للسفن البخارية المعروفة هنا. وفي تريستة وضواحيها من السكان نحو 180 ألفا أكثرهم من الطليان، ومنهم السدس مجر وخليط من الأقوام السلافية ونحو 5000 من الجنس الألماني، وألوف من أجناس شتى أوروبية؛ فهي من أكثر المدن إشكالا في نوع السكان. ولا يقل عدد السفن التي تدخلها في السنة عن 14000، منها 800 باخرة معدل محمولها مليون طونلاتة وربع، وصادراتها تبلغ في القيمة نحو 240 مليون فرنك، والواردات حوالي 300 مليون؛ ففي مينائها حركة كبرى بسبب هذه التجارة الواسعة. وقد أنفق على تحسين الميناء نحو ثلثي مليون فرنك، فجعلوا فيها الأرصفة الفسيحة تستقر البواخر والسفن إلى جوانبها، وأشهرها رصيف «سان كارلو» يمتد في البحر مسافة 350 مترا، والناس يقصدونه بعد العصر من كل يوم لمشاهدة تلك الحركة التجارية، والتفرج على أشكال السفن الذاهبة والآيبة، وهو من مناظر تريستة التي تستحق الذكر.
وفي هذا البلد ساحة مشهورة تعرف باسم الميدان الكبير في وسطها بركة من الماء فيها تمثال نبتون إله البحر، والإمبراطور كارل السادس الذي مر ذكره، وعمد ذات شعب تنار بالكهربائية، ومن حولها من الحانات المتقنة والقهاوي البديعة يجتمع فيها كل مساء خلق كثير، يدور بعضهم في جوانبها ويجلس البعض الآخر في هاتيك الحانات، والأنغام المطربة تعزف من وسط الميدان فيسمعها الناس في كل الجوانب، وإلى جانب هذه الساحة الرحيبة بناء المجلس البلدي والبورصة وشركة البواخر ومخازن جميلة وحانات كثيرة، ويمكن الوصول منها إلى شارع الكورسو، وهو كثير المخازن تباع فيها نفائس الأشياء إلى جانبيه، وفي آخره الحديقة العمومية تصدح فيها الموسيقى الأميرية كل مساء. وفيها من أنواع الزهر والشجر ومجاري الماء البهية ما يشرح الصدور، وإذا استمر السائر من تلك الحديقة شرقا وصل جهة في أقصى المدينة تعرف باسم بوسكوتو (معناه الغابة)، وهي عبارة عن حرجات فيها كثير من شجر الصنوبر، يتخلله مطاعم منظمة وحانات متقنة، وفيها تسمع الأنغام الشجية أيضا فتزيد ذلك الموضع المشهور بهجة وقيمة، ولا سيما أنه يتصل بجبل اسمه كاشاتورة ملئت جوانبه بشجر الصنوبر العطر وغيره، فكنا ونحن نرتقي قمته في طرق كثيرة التعرج نستنشق النسيم العليل يخالطه عطر الشجر المذكور، حتى إذا بلغنا القمة رأينا من دوننا القرى والعمائر والمزارع من كل جانب، ولمجموعها بهاء يقر الخواطر ويسر النواظر.
نامعلوم صفحہ