وليس ببعيد كثيرا عن اللوفر ساحة فاندوم، فيها عمود بهذا الاسم، والاسم بالأصل خص بالبرنس فاندوم ابن الملك هنري الرابع بنى فيه هذا الملك قصرا لابنه المذكور، وفي محل القصر اليوم فنادق عظيمة، وقد نصب فيه نابوليون الأول العمود المذكور وارتفاعه 43 مترا على قواعد من النحاس والبرونز أصلها 1200 مدفع غنمها نابوليون في حروبه العديدة، وكتب على جوانب العمود وقاعدته تاريخ بعض المعارك ورسومها.
ولا بد للزائر في باريس من مشاهدة حديقة النبات العظيمة، وهي للنبات والحيوان معا، فيها من غرائب التاريخ الطبيعي لهذه الموجودات الحية ما تزيد لذة التفرج عليه عن كل لذة؛ لأن هذه النباتات والحيوانات والطيور والزحافات والأشكال الحية الأخرى جمعت في تلك الحديقة من جميع جهات الأرض، وأنفق على جمعها المال الكثير، وفيها بناء لتعليم التاريخ الطبيعي يضم 200 شخص يتلقون الدروس، وهي تشغل من الأرض ثلاثين هكتارا، ولها شهرة ذائعة في كل أوروبا.
ومن هذه الغرائب أيضا معمل جوبلين للطنافس النفيسة وهو ملك للحكومة الفرنسية يعمل به مهرة الصناع الذين تلقوا عن آبائهم سر الصناعة بالإرث ولا يعرفه سواهم، ويخرج من ذلك المعمل طنافس وبسط كثيرة الجمال عجيبة الصنع يباع البساط منها بخمسين ألف فرنك وستين ومائة ألف، وأكثر ما يصنع هنالك يشتريه الأغنياء أو تبتاعه الحكومات، ويهدى إلى الملوك والأمراء والمتاحف العظيمة، ومن أجمل الطنافس التي رأيتها من صنع هذا المحل واحد رسمت عليه صورة كارنو رئيس الجمهورية الأسبق، وقد وضع في البانتيون، والبانتيون هذا كنيسة قديمة لها قبة عالية ترى من أنحاء كثيرة في باريس، ولها 22 عمودا فخيما تحيط بخارجها، وقد خصت في هذه الأيام الأخيرة بمدافن القواد والعظماء لا بد لكل من يزور باريس أن يقصدها ويتفرج على آثار الذين شادوا للدولة الفرنسية فيها آثار العز والفخر، وأكثرهم من قواد الجمهورية الحالية والجمهورية الأولى، ورأينا بينهم اسم كارنو الأول وكارنو الثاني الذي ذكرناه ومكماهون وروسو وفولتير والفتاة جان دارك، وغير هؤلاء من أركان الدولة الفرنسوية في كل زمان.
ثم إنك إذا عدت إلى ميدان الأوبرا الذي جعلناه مركزا عاما للمتفرج وسرت إلى ناحية الشمال الغربي في شارع 4 سبتمبر وصلت موضعا كثير الشهرة في باريس هو البورصة أو نقطة الحركة المالية في هذه العاصمة ومحل الاتصال بمتاجر الأرض ومصارفها وأموالها، حيث يجس الماليون نبض الممالك وتجري الألاعيب المالية الكبرى التي تقود الوزراء إلى انتهاج النهج الموافق لأصحاب المال، فصار المال الآن عقدة السياسات الأوروبية، والماليون هم أصحاب الحل والعقد في أكثر الأمور الخطيرة. ولا يعجبن القارئ إذا قلنا له إن بورصة باريس وبنك إنكلترا في لندن هما أهم مراكز السياسة ومقر الحركة التي تدير أعمال الممالك، فإن في بورصة باريس وحدها تباع أسهم الدين الفرنسي وتشرى، وهي تزيد عن 32 مليار فرنك أو نحو ألف ومائتين وخمسين مليونا من الليرات الإنكليزية، وعندهم أسهم من ديون الممالك الأخرى بمثل هذا المقدار أو ما يقرب منه، وأسهم السكك الحديدية والمجلس البلدي وغير هذا مما تقرب قيمته أيضا من مجموع الديون على الحكومة الفرنسية، فهم يقبلون بين أيديهم أوراقا وقراطيس بألوف الألوف، ولا عجب إذا أرادوا سياسة الممالك بإصعاد هذه القراطيس وإنزالها، ولا غرابة في القول إن الأرض لأصحاب المال يديرون شئونها على ما يوافق مصلحتها.
ومما يذكر كنيسة نوتردام، وهي أكبر كنائس فرنسا وأشهرها، فيها من الرسوم المنزلة على الزجاج ما تقدر قيمته بعشرات الألوف ومئاتها، والناس يقصدونها من كل جانب للتفرج على غرائب بنائها ونفيس تحفها، وليس بعيدا عنها إلى الجهة الأخرى من النهر قصر كلوني، كان في سابق الزمن مقرا لبعض الملوك، وفيه الآن متحف للآثار الثمينة أكثرها من الذهب والفضة، وبينها عدد كبير مرصع بالجواهر الغالية وصوان غريبة ومفروشات فاخرة وأحذية مزركشة وأجواخ مقصبة وأزياء قديمة يعمد إليها أرباب الزي في بعض الأحايين وينقلون عنها رسوما يذيعونها في بعض المدائن ويدعون أنها زي حديث فيتهافت الناس على استعماله.
ولا بد من القول هنا إن استيفاء الوصف يتعب القارئ؛ فإن في باريس شيئا كثيرا لم نذكره بعد، مثل قصر لكسمبرج، وهو بني في أيام فرانسوا الأول، وصار الآن ندوة لمجلس الشيوخ، ومجلس البلدية على مقربة من السين، وهو قصر عظيم قديم العهد من داخله، ولكن أكثر جوانبه الخارجية جددت على النسق الحديث، وله شهرة كبرى في تاريخ الثورات الفرنسية؛ فإنه كان مقرا للأحزاب الجمهورية في أكثرها، ومنها قصر الإليزه؛ حيث يقيم رئيس الجمهورية حالا، وبابه في شارع سانت أونوريه وهو من المنازل العظيمة، ولكنه ليس على شيء من جمال المنازل التي شادها ملوك فرنسا القدماء في ضواحي باريس. ومن الأبنية التي تستحق الذكر بعض الفنادق الكبرى، وذكرنا بعضها والمخازن العظيمة، مثل مخازن اللوفر التي وصفناها، ومخازن بون مارشيه ومخازن البرنتان وغيرها، والمراسح وأشهرها الأوبرا والتياترو الفرنسوي، وقد ذكرناهما، ومنها مرسح الفودفيل والأوديون والجمناز والأوبرا كوميك، وغير هذا مما لا يدخل تحت حصر.
هذا بعض ما تلزم رؤيته في داخل باريس، وأما الضواحي فلا يخفى عن القارئ أنه ليس في الأرض عاصمة تفردت بكثرة الضواحي البهية مثل فرنسا، وأشهر هذه الضواحي: «فرسايل» وهي مدينة صغيرة لا يزيد عدد سكانها عن ستين ألف نفس، بدأت شهرتها على عهد الملك لويس الرابع عشر الذي جعلها مقره الرسمي مدة الصيف، وبنى فيها هو وبعض الذين خلفوه في الملك قصورا لم تزل إلى الآن أفخم ما شاد الملوك الأوروبيون وأكثرها بهجة وغرابة، فإن القصر العظيم الذي يقصده السياح من كل جانب يبلغ طوله 415 مترا، وفي حديقته الواسعة 600 بحيرة وبركة يتدفق منها عشرة آلاف متر مكعب من الماء يرد إليها بالآلات البخارية من مواضع بعيدة، ولا تقل نفقة إخراج الماء من هذه الأنابيب كل مرة عن ثمانية آلاف فرنك أو عشرة، فهم يعلنون عن موعد تدفق المياه في حديقة فرسايل في جرائد باريس، ويكثر أن يكون ذلك في الشهر مرتين فيتقاطر الناس أفواجا لمشاهدة ذلك المنظر البديع، وقد صرف على هذا القصر وحديقته الموصوفة ملايين واشتغل في البناء 26000 شخص، وأجهد الصناع قرائحهم في زخرفه وتحسينه حتى إنك إذا دخلت قاعاته الواسعة شعرت في الحال بعظمة الذين شادوه، ولطالما رأت هذه القاعات فخرا وعزا - ولا سيما على عهد الملك لويس الرابع عشر - ولكنها صارت مرسحا للخلاعة والفسق على عهد لويس الخامس عشر، وهو الذي جمع فيها حظياته، مثل مدام بومبادور وسواها، ومهد بتهتكه السبيل للثورة العظيمة التي هب الناس لها في عهد خلفه لويس السادس عشر المنكود الحظ.
ولما كان هذا القصر الآن مشهدا عاما جمعت فيه الأدلة على فخر فرنسا وقوتها السابقة، فلا بد أن يحزن المتفرج إذا فطن إلى أن البروسيين اجتمعوا بكل قوتهم في هذا المكان، وتوجوا ملكهم ولهلم الأول إمبراطورا لألمانيا كلها في قصر ملوك فرنسا سنة 1871، فهناك الرسوم العديدة تدل إلى انتصار فرنسا على الألمانيين وسواهم ولا سيما في عهد البطل نابوليون الأول، ويمكن للمتفرج اللبيب أن يدرس تاريخ فرنسا كله من الرسوم المجموعة في قاعة الحروب بقصر فرسايل هذا؛ فإنها تمثل حالة فرنسا وحروبها من أيام شارلمان إلى عهد نابوليون، وقد قسمت هذه الرسوم حسب تاريخها ومواضيعها في غرف خاصة بها، فإن صور الحروب الصليبية مثلا وضعت في قسم خاص بها، وصور حرب القرم كذلك، ومعارك نابوليون المشهورة في قسم آخر وحرب الجزائر، وغير هذا مما يمكن أن يقف الواحد أمام الصورة منه ساعة أو ساعتين وهو يتأمل ما فيها وما تشير إليه من الحادثات الكبرى، فالناس الذين يتقاطرون على فرسايل لمشاهدة حديقتها وقصرها وهذه الرسوم يعدون بعشرات الألوف. ومما يذكر بين غرائب هذا القصر قاعة الزجاج لها 17 نافذة كبرى، بين كل نافذة ونافذة مرآة كبيرة تنعكس عليها صور المتفرجين والرسوم الجميلة في سقف القاعة، ومنظر بعض الحديقة فيتكون من مجموع هذه المناظر ما يعسر على الواصف وصفه ولا سيما إذا كانت المياه تتدفق من البركة الكبرى، وهي تصعد على ألف شكل وشكل، بعضها يتموج وبعضها يتعرج وبعضها يشق الفضاء شقا، وبعضه يخرج على مهل وبعضه ضيق الدائرة وبعضه واسعها، وفي بعض الأحايين يلونون الماء بألوان تسحر الناظرين في الليل، فإذا تمشى الزائر بين أزاهر الحديقة وخضرتها النضرة وكانت المياه على ما وصفنا والناس على اختلاف الأجناس يتمشون أمامه، زال على قلبه الهم ونسي كل ما يوجب الفكر والغم.
وعلى مقربة من هذا القصر العظيم في فرسايل قصران آخران، يعرف أحدهما باسم قصر تريانون الكبير والثاني باسم تريانون الصغير، فأما الأول فإنه بناه لويس الرابع عشر لإحدى حظياته، وأشهر ما فيه الآن عربات قديمة فاخرة استعملها ملوك فرنسا الأول في الحفلات الرسمية، وأكثرها من أيام بونابارت، وعربات أخرى كثيرة الزخرف استعملها الأمراء والسفراء في أيام نابوليون الثالث، وهي من الآثار الجميلة، وأما التريانون الصغير فبناه لويس الخامس عشر، وكان مقرا لبعض أفراد العائلة المالكة، وله حديقة جميلة تفتح كل يوم ويقصدها المتفرجون. وفي القصرين رسوم وآثار تدل على الحوادث الماضية في تاريخ فرنسا نكتفي بالإشارة إليها هنا؛ لأن وصفها لا يزيد عن وصف الذي تقدم ذكره من أمثالها.
ويذكر بين هذه الضواحي البهية سان جرمين، وهي أيضا كانت من مصايف ملوك فرنسا في زمان عزهم، تبعد 18 كيلومترا عن باريس، ويسار إليها بالترامواي البخاري من ميدان الكوكب الذي مر وصفه، فيمر المسافر بأشهى الحقول وأجمل المناظر في طريقه، منها منظر السين وغابات الكستناء إلى جانبه، ومنها بلدة نولي اشتهرت بكنيسة لها على اسم القديس فردنان، وقد بنيت موضع سقط الدوك دورليان (وكان اسمه فردنان) ابن الملك لويس فيليب من عربته، وقضي الأمر بوفاته سنة 1842، وهنالك مساكن كثيرة لبعض الكبراء من سكان باريس. وفي هذا الطريق بلدة مالميزون، وهي التي لجأت إليها جوزفين قرينة بونابارت الأولى بعد أن طلقت من زوجها، وقضت نحبها في قصر أعد لها سنة 1814، وكان من أمر نابوليون أنه لما سقط من شاهق عزه بعد معركة واترلو قصد هذا القصر قبل سواه وأطال الفكر في أيام اقترانه بجوزفين وحبها له، ثم سافر منه إلى إنكلترا؛ حيث سلم نفسه لدولة الإنكليز وكان من أمره ما كان، وفي سان جرمين متحف للآثار المعدنية من النحاس والحديد والفضة والذهب، وهي تزيد عن ثلاثين ألف قطعة مرتبة في خزائن ورفوف جميلة من داخل الزجاج، وفيها خلاصة تاريخ فرنسا على هذه النقود والآثار. والذين ينتابون هذا المعرض كثار، في جملتهم عدد يذكر من السيدات الأميركيات تدور فيه الواحدة منهن متأملة قطعة وبيدها كتاب تدرس فيه حكاية كل ما تراه، وهذا شأن أكثر السائحات من الإنكليز والأميركان.
نامعلوم صفحہ