على أن الذي مر كله لا يذكر في جنب القصر الشتوي المشهور وما له من الأهمية الكبرى في مدينة بطرسبرج؛ فإن الواقف في الميدان المتسع أمام هذا القصر الباذخ يرى أعظم المساكن القيصرية، ويرى متحف أرمتاج وقصر أركان الحرب ونظارة الخارجية ودار وزارة البحر وندوة الأعيان والمجمع المقدس، وكلها تشرف على نهر النيفا حيث بني رصيف عظيم إلى جوانبه سفارات الدول الكبرى وقصور الأمراء العظام حتى أصبحت تلك البقعة مركز روسيا وقلبها ونقطة السؤدد والفخامة فيها، فليس يخفى أن حكومة روسيا مطلقة غير مقيدة، وللقيصر في أمورها القول الفصل، غير أن جلالته يعمل في مهام الدولة برأي مجلس الأعيان، وهو مركب من وزراء البلاد وكبرائها وأصحاب الشأن الخطير فيها وبرأي الدوما أيضا أو مجلس النواب، والمجمع المقدس يفصل في الأمور الدينية كلها وله رأي في المسائل الإدارية الكبرى أيضا يرأسه القيصر كما أنه يرأس مجلس الأعيان، فلا عجب إذا قلنا إن القوة والعظمة في روسيا تنحصران في تلك البقعة التي بني فيها القصر الشتوي وما ذكرنا من القصور الأخرى.
ولطالما سمعت بشمم هذا القصر وبدائع صنعه وتاقت النفس مني إلى رؤيته، فأوصيت الدليل بعد استقراري في عاصمة الروس أن يأخذني إليه، فقام بالأمر وجاء في أحد الأيام بإذن يمكن لنا به دخول القصر، وهو ذات أبواب ومداخل عدة، منها ما خص بآل البيت القيصري، ومنها ما أعد لسفراء الدول، ومنها باب لوزراء الدولة الروسية وقوادها يدخلون لقضاء المهام وتلقي الأوامر العالية، ومنها باب لعامة الناس والسائحين دخلناه والهيبة ملء الفؤاد لما رأينا من عظمة البناء في خارجه، فإن هذا القصر واسع عظيم الهيئة له أربع طبقات بنيت كلها على عمد متناسقة من الرخام وفوق عمده ونوافذه وأبوابه آيات من النقش والزخارف وضعت على نسق ترتاح لمرآه النفس، ويحدث بعظمة البانين وبالمال الطائل الذي أنفق على تشييد مثل هذا البناء العظيم، وارتقينا من ذلك الباب سلما عريض الذرى صنعت كلها من الرخام الأبيض النقي حتى انتهينا إلى بهو عظيم يعرف بقاعة إسكندر، وهي قاعة فسيحة عظيمة قامت على عمد من الرخام يتوج كل عمود منها نقش دقيق، وقد أعدت من عهد بعيد لذكر مجد الدولة الروسية في الحروب، وإحياء الذكر لأبطالها وقوادها المشهورين؛ ففيها 250 صورة محكمة الصنع تمثل أولئك القواد من أيام القيصرة كاترينا الثانية إلى هذا العهد، وهنالك يستقبل القيصر أمراء البحر وقواد الكتائب من رجال أسطوله وجيشه، فيرى القادم صورة أولئك الرجال وصورا أخرى تمثل بعض الحوادث العظيمة مثل دخول الروس مدينة برلين سنة 1760 وباريس سنة 1812، وحصار وارنا سنة 1828 واستيلائهم على أرضروم سنة 1825 وغير هذا من الحوادث التي يفخر الروس بمثلها، وفي صدر هذه الرسوم كلها رسم بطرس الكبير بقده الطبيعي وضع في برواز غالي الثمن، وكل ذلك يذكر الرائي بمجد الأمة الروسية وفعال أبطالها في الحروب.
وقاعات هذا القصر العظيم أكثر من أن تعد هنا، ولا مجال لوصف شيء منها غير القليل، أذكر منها قاعة ألكساندرة كلها بيضاء مذهبة لمنظرها تأثير يفرح النفوس وينعش الصدور، وقد زاد بهاؤها في أن أدوات النور من الشمعدانات والثريات فيها صنعت من اللازورد الغالي الثمن، ومقاعدها وكراسيها محلاة بالذهب الوهاج وملبسة بالحرير الأبيض من أحسن أنواعه، وتليها قاعة بطرس الكبير وهي حمراء اللون كسيت جدرانها ومقاعدها بالمخمل الأحمر، وفيها رسم هذا القيصر العظيم تحيط به الملائكة وشعار الدولة الروسية صنعت بماء الذهب، ولها منظر فائق الجمال، وفي صدر هذه القاعة عرش القياصرة، وهو مقعد كبير من الذهب مرصع بالحجارة الكريمة لا يقعد فيه القيصر إلا مرة أو مرتين في العمر، وقد اعتاد القياصرة في المدة الأخيرة استقبال سفراء الدول في هذه القاعة يوم رأس السنة، وهو الاستقبال الذي يقول فيه القيصر شيئا عن سياسة الدول ويرن صداه في كل الأقطار.
ومن هذه القاعات العجيبة قاعة القديس جورجيوس قائمة على عمد من الرخام بديعة، وفيها الثريات والمصابيح العديدة، وهم يحتفلون بعيد هذا القديس في القاعة المذكورة كل عام، وقاعة الرقص كلها زخارف ومراء نقية، وهي قائمة على ستين عمودا مذهبة القواعد والرءوس، ولها أرض من خشب الورد المصقول يحكي المعدن اللماع في صقلته، وقاعة الطعام يمكن أن يتناول الطعام فيها 300 نفس، وفيها خزائن وضعت ضمنها الآنية الفاخرة من الصيني النادر المثال والبلور الثمين والأشياء المصنوعة من الفضة والذهب، وفي جملتها ممالح أهديت إلى قياصرة الروس من الأمراء الخاضعين لهم ولم يزل القياصرة يقتبلون يوم تتويجهم خبزا وملحا من رعاياهم علامة الخضوع، وهي عادة قديمة تمسكوا بها، ومن طبعهم الاحتفاظ بالقديم والنفور من التغيير السريع.
ودخلت بعد هذا قاعة كان القيصر إسكندر الثاني الذي قتله النهلست يتناول الطعام فيها، وعلمت يومئذ قصة يعدها بعض الروسيين من غرائب العناية الإلهية بذلك القيصر، فإن النهلست - وهم فئة من أهل البلاد يكرهون العائلة المالكة وحكمها ويكيدون لها المكايد - قصدوا قتل إسكندر الثاني بنسف هذه الغرفة بالديناميت مدة وجوده فيها، ونجحوا في أمرهم إلى حد أنهم وضعوا الديناميت تحت أساسات الغرفة التي يقيم فيها الحرس، وهي واقعة تحت غرفة الطعام التي نحن في شأنها فنسفت غرفة الحرس وقتل من هؤلاء الخدام الأمناء سبعة عشر رجلا، والغرفة التي كان جلالته فيها تهدمت برمتها وتحطم كل ما فيها، ولم يسلم من هذا الهول إلا شخص القيصر، فكان ذلك داعيا للاستغراب والشكر الكثير، ولكن هؤلاء الأشرار ما زالوا يعملون على الإيقاع بإسكندر الثاني حتى قتلوه في الطريق يوما خرج فيه لزيارة شقيقته، وكان من عادته الاشتغال في غرفة بهذا القصر بسيطة الرياش والأدوات فأبقوها على حالها إلى الآن ودخلتها فإذا بالمنضدة التي كان يجلس إليها وعليها أوراقه كما تركها يوم اغتياله وكرسي من الخشب له مقعد من الجلد يدور مع القاعد كيفما أراد، وقد وضع أمام المنضدة ووجهه إلى ناحية الباب كما تركه صاحبه ساعة خروجه، وهنالك شمعتان ذاب نصفهما وسيجارة أشعل طرفها وورقة بدأ القيصر بالكتابة عليها ولم يكملها، والكل في حالة تمثل لك إسكندر الثاني كأنما هو باق إلى اليوم وقد خرج وترك غرفته على هذه الحالة ليعود إليها بعد حين.
وقصدت بعد ذلك الحمام التركي في داخل القصر، وهو على شاكلة الحمامات الشرقية التي يكثرون من بناء مثلها في أوروبا ويطلقون عليها اسم الحمامات التركية، فرأيت على بابه أشعارا تركية وستاير عليها كتابات بمعنى نعيما وهنيئا، والحمام كله آية في الإتقان والجمال، بني أكثره من الرخام الأبيض الثمين.
والعائلة القيصرية قدوة للأمة الروسية كلها في الورع والتدين، فلا يفوت أفرادها حفلة عامة للصلاة، ولها تمسك بالدين الأرثوذكسي مشهور، حتى إن أمراء الروس لا يجوز لهم الاقتران بأميرة غير أرثوذكسية ولا بد للأميرة الأجنبية من اعتناق المذهب الأرثوذكسي قبل الاقتران بواحد منهم، وهذا الذي جرى لجلالة القيصرة الحالية والقيصرة الأخيرة وكثيرات غيرهما، ولما كانت هذه منزلة العبادة عندهم فهم أقاموا في داخل القصر الشتوي الذي نحن في شأنه كنيسة بنيت على اسم العذراء، تقام فيها صلوات عامة في بعض المواسم والأعياد الكبرى، وقد وضعوا على باب هيكلها صورة للعذراء ثمينة مرصعة بالألماس والياقوت والزمرد، وبعض هذه الحجارة يساوي ألوفا من المال، وهنالك خزانة غالية الثمن وضعت فيها عظام يقولون إنها بعض عظام مار يوحنا المعمدان ومريم المجدلية، وقد أرسلت الصورة والعظام إلى قياصرة الروس من فرسان مالطة المشهورين اعترافا منهم بفضل القياصرة على أهل النصرانية عامة، ويحتفل في هذه الكنيسة بقداس عظيم يوم عيد الغطاس من كل سنة، يحضره القيصر وأمراء البيت القيصري وكبراء السلطنة ورؤساء الدين وقواد البر والبحر، وبعد الصلاة يسير القيصر في جمع غفير من الشعب ورجال الحرس الإمبراطوري إلى نهر النيفا وتنصب فوق الجليد مظلة كبيرة يحتفلون تحتها بصلاة يحمل فيها رئيس الأساقفة صليبا يغطسه في الماء المصلى فوقه، ويرش به القيصر وأعضاء عائلته وبقية الحاضرين، ثم يأخذ كل واحد شيئا من ذلك الماء المصلى فوقه في زجاجة ويبقيه في بيته للتبرك، وقد رأيت منه زجاجة في غرفة القيصر نقولا الأول باقية في هذا القصر من أيام الإمبراطور المذكور.
وأجمل ما في هذا القصر العظيم وأثمنه قسم منه خصص لجواهر القياصرة ونفائس التحف النادرة المثال، وقد وضعت هذه المجوهرات الثمينة في غرفة متينة أبوابها من حديد، يقوم بحراستها اثنان من ضباط الحرس الإمبراطوري، فإذا أذن لأحد الناس بالدخول إليها دخل معه الضابطان وأوصدا من ورائه الأبواب، فيرى من غالي الحجارة الثمينة ما يبهر الأنظار ويسحر الأفكار، في جملة ذلك حجر من الألماس عظيم القدر والقيمة قيل إنه كان في عين معبود للهنود في مدينة دلهي اسمه المغول الكبير، وكان في العين الثانية الحجر المشهور باسم «كوه نور» أي جبل النور، وهو الآن في حوزة الدولة الإنكليزية والحجران من أثمن جواهر الأرض طرا وأعظمها جمالا، ويقال في كيفية وصول ذلك الحجر إلى قياصرة الروس إن هنديا سرقه من عين الصنم وفر به إلى مدينة مالابار في جنوبي الهند، فلقيه ربان لسفينة بورتغالية واشترى الألماسة منه بألفي جنيه، ولما عاد إلى أوروبا باعها لتاجر إسرائيلي باثني عشر ألف جنيه، وباعها التاجر لصائغ أرمني في مدينة أمستردام بهولاندا، وهي مشهورة من قدم بصناعة الألماس وطرائق قطعه ونحته وصقله، وكان هذا الصائغ الأرمني روسي التبعة اسمه لازاريف فعرف بالأمر الكونت أورلوف وهو يومئذ من كبراء الدولة الروسية وأصحاب الثروة الطائلة فيها، فاستقدم إليه الصائغ واشترى الجوهرة منه بنصف مليون ريال روسي، ومعاش سنوي لذرية البائع مقداره ألفا ريال، ثم حمل الكونت ذلك الحجر إلى القيصرة كاترينا الثانية وقدمه هدية لها ووزنه 158 قيراطا، فهو من أكبر الجواهر حجما ووزنا، وللحجر الآخر الذي كان في عين الصنم بدلهي قصة أخرى تحكي هذه؛ فإن الفاتحين من ملوك إيران، مثل نادر شاه ومحمود الغزني استولوا عليه مدة ثم عاد إلى قبضة سلاطين دلهي حتى أتيح للإنكليز دخول الهند والاستيلاء على بعض خزائنها، فكان هذا الحجر الثمين أكبر ما أحرزوا من الجواهر وأعظمها فأرسلوه إلى أمستردام ليضلع ويقطع، وكان الأمير الهندي دوليب سنغ الذي أخذ هذا الحجر من خزائنه بعد أن طرده الإنكليز من مملكته لا يتحسر على شيء قدر تحسره على تلك الجوهرة الثمينة، واشتهر هذا الأمير بالتجائه إلى روسيا وعمل الدسائس الكثيرة ضد إنكلترا، فلما أخفق سعيه ورأى أن الحكمة في التسليم للقوة طلب الصفح من الملكة فكتوريا؛ فصدر أمرها بالعفو عنه، ولما جاء لمقابلتها بعد العفو قال لها: إني أرجو جلالتك في أمر صغير؟ قالت: ما هو؟ قال: أن تسمحي لي بنظرة من كوه النور أو هي تلك الألماسة العظيمة فإني أشتاق لرؤيتها أكثر من شوقي لرؤية الوطن والخلان؛ فأمرت الملكة بإحضار الجوهرة وقدمتها إليه فأخذها بيده وجعل يقلبها ويعجب بباهر نورها، ثم ردها إلى الملكة قائلا: إني بكل احترام أقدم هذه الهدية العظيمة إلى إمبراطورة الهند وملكتي المعظمة، فقبلتها الملكة باسمة شاكرة وانصرف الرجل، وابن هذا الأمير الهندي اسمه البرنس فكتور دوليب سنغ ربي في إنكلترا واقترن بابنة اللورد كوفنتري أحد أشراف الإنكليز من عهد غير بعيد.
على أننا في حكاية الجواهر التي رأيناها في خزائن القصر الشتوي العظيم، فمنها أيضا تاج قيصري صنع سنة 1762 وتوجت به الإمبراطورة كاترينا الثانية، في أعلاه صليب مرصع بحجارة الألماس النقي كبيرة بحجم البندق، والنور يسطع منها شعاعا شعاعا، وقد وضع هذا الصليب فوق ياقوتة حمراء كبيرة فاخرة يحيط بها 11 حجرا من الألماس النقي، وعند حافة التاج مما يلي الجبين لؤلؤة عظيمة المقدار يحيط بها 26 حجرا من الألماس، وفيه جواهر أخرى نسقت تنسيقا بديعا حتى أصبح ذلك التاج مجموع جواهر كأنما هي مصابيح تتوقد أنوارها وجمالها يفوق الوصف، ولا عجب فإن ثمن هذا التاج الغريب خمسة ملايين ريال، وقليل بين تيجان الملوك ما كان مثله، وفي جملة هذه المجوهرات كرة من الذهب الخالص تمثل الكرة الأرضية فوقها صليب مرصع بأثمن الجواهر يحملها القياصرة في اليسار يوم تتويجهم كما يحملون صولجان الملك في اليمين، وهذا الصولجان من الذهب الخالص يبلغ طوله 3 أقدام، وفيه 268 حجرا من الألماس و360 من الياقوت و15 من الزمرد، هذا غير المجوهرات والحلي والحجارة الأخرى التي اشتراها أمراء الروس وقياصرتهم أو أهديت إليهم، وهي محفوظة في هذا القسم الثمين من القصر الشتوي الذي لا يفوقه قصر في أوروبا كلها في جمال متاحفه وكثرة كنوزه وفخامة بنائه واتساع قاعاته وبدائعه الأخرى.
وقد أطلت المقال في وصف هذا القصر، وصرت أخشى أن يعتري القارئ الملال، ولولا ذلك لأسهبت في وصف حديقته الغريبة، وهي في الطبقة الثانية من البناء وفي ذلك غرابة لا تخفى، يكفي أن يقال إني قضيت هنالك ثلاث ساعات متواليات أتنقل من غرفة إلى غرفة فلا أرى شيئا إلا قلت هو أبدع ما نظرت من نوعه، حتى إذا بصرت بغيره زدت إعجابا فوق إعجابي الكثير، وما خرجت من ذلك القصر الفخيم إلا وفي النفس رهبة لعظمة القياصرة وطرب بجمال ما رسخ في الذهن من المناظر الشائقة وإعجاب بما وصلت إليه يد الصناعة الدقيقة، وما تمكن سادة هذه السلطنة من جمعه في تلك القاعات، وهو شيء يعجز عن مثله كبار الملوك وتقصر عن امتلاك بعضه الدول الكبيرة، كل هذا وهم يقولون لك إن بين قصور القياصرة ما هو أعظم من هذا وأفخم، مثل قصر بترهوف وقصر تسارسكوي سيلو مما سنعود إلى ذكره.
نامعلوم صفحہ