وفي هذه المدينة معامل يصنع فيها الملح والأقراص من مواد مياهها المعدنية، وتباع في جميع الصيدليات، وفيها مواضع كثيرة للتصدير تملأ الزجاجات فيها بالماء المعدني مئات وألوفا كثيرة كل يوم، وترسل في القطارات إلى جميع الأقطار، وعدد الذين يذهبون للفرجة على هذه المواضع ليس بقليل. وفي هذه المدينة من المتنزهات والملاهي ما يجعل السكن فيها هينا على المستشفين؛ أهم ذلك الكازينو، وهو بناء فخيم على بعد خطوات قليلة عن الحديقة يمكن أن يضم 1000 متفرج وتمثل فيه الروايات المفرحة والهزلية. وهنالك قاعة للرقص فسيحة أناروا سقفها بعشرات من المصابيح الكهربائية، فهي تسطع كالنجوم في قبة السماء، وهنالك أيضا قاعات مشهورة للعب الميسر وقاعات للجرائد والكتابة، وعندهم جريدة تنشر أسماء القادمين إلى فينشي كل يوم وأخبار السياسة والتجارة. وللكازينو ميدان واسع يشرف على الروضة التي سبق ذكرها، وفيه كثير من المقاعد والكراسي يجلس الناس إليها ويسمعون الموسيقى كل يوم بعد الظهر، وليس هذا كل ما في فيشي؛ لأنها أصبحت مثابة المتنزهين وملتقى المتفرغين من عناء الأعمال، كما أنها مقصد الطالبين للعلاج، فهي فيها - غير ما تقدم ذكره - روضة أخرى أنشئت في أيام نابوليون الثالث، وفيها شجر الكستناء والصنوبر والدلب، وقد نظمت هذه الروضة على ضفة النهر، وأنشئت بها مغارس الأزهار اللطيفة يعنون بها شديد العناء، فالناس يختلفون إلى هذه الروضة الحسناء ألوفا يتمشون كل يوم بين صفوف الشجر أو يجلسون إلى المقاعد القائمة في وسط الأزهار البهية والرياحين. وهم يقيمون حفلة لسباق الخيل مرة كل عام في فيشي، فيأتيها المتفرجون من باريس وسواها لرؤية هذا السباق. وقد كان وصولي إلى فيشي في يوم 15 أوغسطس، وهو يوم عيد السيدة العذراء، عم الناس فيه دليل السرور، فرأيت أن زيارة هذه المدينة على الجملة تملأ البدن عافية والنفس سرورا، ولا يخرج المرء منها إلا شاكرا ما لقي من أسباب الصحة، والصحة أساس الحياة وهناء الوجود.
بين فيشي وجنيف:
برحت فيشي في قطار قام في الساعة العاشرة صباحا، فبلغ جنيف بعد 9 ساعات - أي الساعة السابعة بعد الظهر - وكان ذلك على طريق ليون، حيث ينتظر القطار نصف ساعة؛ لتمر الأرتال الذاهبة إلى باريس ومرسيليا، فدخل بعض الركاب قاعة الطعام، وأخذ بعضهم من المطعم سلالا صغيرة خفيفة من القش النظيف الجميل، في كل منها اللحم والدجاج، ونصف زجاجة من النبيذ والخبز وأقراص الحلوى والفواكه نوعين، وأقراص الشوكولاتة بدل القهوة، وأقراص النعنع بدل الشراب، وأدوات الأكل من شوك وسكاكين وصحون وفوط من الورق النظيف، كل ذلك بأربعة فرنكات فقط، تأكله وترمي بقيته من نافذة القطار وهو سائر.
أما مناظر الطريق بين هاتين المدينتين، فإنها مما لا تمل النفس رؤيته؛ فكلها بدائع طبيعية كالتي سبق وصفها في كثير من فصول هذا الكتاب، وصفوف من الشجر غرست على طرق هندسية تروق للناظرين، ولا سيما حين كان القطار يقرب من ضفاف الرون. ولما قربنا من حدود فرنسا وسويسرا عند مدينة بل جارد تنوعت ألوان الغرس والزهر، فكانت الأرض جنات تجري من تحتها الأنهار، والأعشاب والأزهار كأنها الجواهر الحسناء تبهر ببهائها الأنظار، وجبل سافوا يزيد في جمال هذه المناظر والوقار. ولما بلغت مدينة جنيف ذهبت توا إلى فندق البوسطة، ونزلت في غرفة تطل على بحيرتها المشهورة، وكان الليل قد أرخى سدوله فبتنا ليلتنا فيها. فلما أصبح الصباح علي في تلك الغرفة فتحت شباكها فتجلى لدي منظر بديع فتان لم أر أشهى منه وأبهى في كل سياحاتي؛ لأن البحيرة النقية البهية كانت تحت طاقة غرفتي، وفيها الباخرات الجميلة تنقل ألوف السائحين والمتفرجين، ومن ورائها مباني جنيف وحدائقها الموصوفة، ويلي ذلك مناظر جبال جنيف مما ترى وصفه في الفصل الذي يجيء.
جنيف
هي قاعدة سويسرا الفرنسوية، ويعد تاريخها جزءا من تاريخ سويسرا العام، فنكتفي هنا بالقول إنها تولاها أمير ألماني حين دخلت في حوزة ألمانيا في القرن العاشر، فوقع النفور بين هذا الأمير وبين الأسقف؛ لأن الأمير استقل بالأحكام فأغضب الأسقف وهو يومئذ ذو نفوذ عظيم، فوقع معظم الضرر من هذا التنافس على الأهالي الذين سئموا الحالة ودعوا الكونت سافوا - وهو أمير جبل سافوا المجاور لجنيف - ليريحهم من الاثنين، فلبى الرجل الدعوة وقد لقب خلفاؤه بلقب دوك سافوا، ومن نسله أمراء البيت المالك في إيطاليا الآن، أطلق عليهم اسم موطنهم الأصلي، وهي عادة البيوت المالكة في أكثر الممالك الحديثة، مثل آل كوبرج وآل أورليان وآل هوهنزولرن، وغير هذا كثير ومعروف.
ولمدينة جنيف مأثرة على الإنسانية وفضل على أهلها؛ لأنها نشأت فيها الحركة التي أدت إلى وجود جمعيات الصليب الأحمر، وهي مركز هذه الجمعيات إلى الآن؛ فقد كان جرحى الحروب في أوروبا إلى سنة 1846 يعاملون معاملة سيئة، ويقاسون مر الآلام، فعقد في تلك السنة مؤتمر جنيف الأول، وسن فيها قانون خفف ويلات الحروب وقلل متاعب الجرحى والمرضى، وهو الآن سنة كل الدول في حروبها الحديثة، نذكر هنا أهم بنوده زيادة في البيان، ومنها ما يجيء: (1)
تعتبر جميع المستشفيات الثابتة والنقالة في الحرب على الحياد، فيلزم على الجانبين حمايتها ومراعاتها ما دام فيها جريح أو مريض. (2)
أن رجال الدين والأطباء وخدمة المستشفيات عامة يعدون على الحياد. (3)
يجوز لخدمة المستشفيات أن يبقوا على عملهم في معالجة المرضى والجرحى بعد أن يخرج جيشهم من موضع وجودهم ويحتله العدو، وإذا شاءوا الانسحاب بعد ذلك ساعدهم قائد العدو على الخروج، ولا يأخذون معهم في هذه الحالة غير أمتعتهم الخصوصية. (4)
نامعلوم صفحہ