تذكرة
مصرع عمر
مصرع عثمان
مصرع علي
مصرع الوليد الثاني
مصرع مروان الجعدي
مصرع مروان ومصرع الدولة الأموية
مصرع الأمين
مصرع المتوكل
مصرع المعتز
تذكرة
مصرع عمر
مصرع عثمان
مصرع علي
مصرع الوليد الثاني
مصرع مروان الجعدي
مصرع مروان ومصرع الدولة الأموية
مصرع الأمين
مصرع المتوكل
مصرع المعتز
مصارع الخلفاء
مصارع الخلفاء
مشاهد رائعة نقلها عن التاريخ
تأليف
كامل كيلاني
التاريخ التصويري
بقلم أبو شادي
قل يا أرق الكاتبين، فأنت من
يلقى بكل طريفة مشغولا
صور لنا الماضي تزد أعماره
عمرا، وتشعرنا الحياة الأولى
ما كل من عد المؤرخ وصفه
أثر تزيد به المآثر طولا
أوجزت إيجاز البخيل، وإنما
كان الغنى في طيه محمولا
في كل سطر للوقائع معرض
وبكل فصل ما يعد فصولا
نتأمل الفنان في إبداعه
كالجوهري تأنقا وأصولا
ونطالع الإحسان في آياته
من كل فاتنة ترد عجولا
ونصاحب التاريخ في أيامه
صورا، ونلمس سره المنقولا
شأن الأديب الألمعي بيانه
يغدو الجمال بروحه مأهولا •••
راحت «مصارعهم» وقد تركت لنا
عبرا تسائل أنفسا وعقولا
ومضوا، وما كانوا سوى خبر لهم
فإذا المقاتل صاحب المقتولا
حتى إذا همت براعة «كامل»
صار الدفين ممثلا موصولا
و«الفن» أقدر من يعيد معالما
درست، وأكرم من يشوق ملولا
تصدير
بقلم صاحب مكتبة الوفد محمد محمود
القاهرة في 15 سبتمبر سنة 1929
يمثل هذا الكتاب الطريف حلقة من الدراسات المتنوعة التي يقوم بها الكاتب المتفنن الكبير الأستاذ كامل كيلاني، ويتتبعها جمهور الأدباء بشغف وافر في مصر وفي غيرها من الأقطار العربية.
وقد كان من حظي - بالأمس القريب - إذاعة تصنيفه الجميل «مختار القصص» الذي لاقى من الإقبال العظيم عليه بين محبي الأدب ما هو جدير به، وما هو حري بفخر مؤلفه النابغة، فشجعني ذلك على إصدار هذا الكتاب التصويري التاريخي الذي يدل عنوانه على موضوعه، كما تفسر إلمامة الأستاذ كيلاني حكمة وضعه أحسن تفسير.
وبديهي أنه ما كان يشق على الأستاذ المؤلف أن يتوسع في الشرح والبيان فيتضخم تصنيفه، ولكن مثله يربأ بقلمه عن ذلك، ويؤثر أن يقدم لنا - في كتابه البديع - الطريف من البحث في الطريف من الأسلوب الموجز البليغ، وفي طي كل هذا من العبر التاريخية ومن التصوير للأخلاق والأهواء الإنسانية وتقلب القدر ما فيه متعة وفائدة للقارئين لا تقدر بثمن. •••
وإني أنتهز مناسبة هذا «التصدير» فأشكر للأدباء الكثيرين - في مصر وخارجها - تشجيعهم القيم، وأعدهم ببذلي غاية ما في وسعي من مجهود لإذاعة خير التآليف العصرية التي تتلقاها «مكتبة الوفد»، حتى تبقى سلسلة مطبوعاتها الأدبية موضع فخري ومبعث رضائهم دائما.
إلمامة
بقلم كامل كيلاني
1
ليس أروع للنفس من تمثل مصارع الناس والاستماع إليهم في ساعاتهم الأخيرة، وتعرف ما قالوه وقت حلول الأجل، وآخر ما تفوهوا به من الكلم قبل أن يفارقوا هذا العالم - خيره وشره - فراقا أبديا لا عودة لهم بعده.
وإذا كان هذا هو شعورنا بجلال الموت وروعته، فلا جرم أنه يعظم ويزداد إلى أقصى حد حين يقترن بعظمة الملك وأبهته، وليس أشجى للنفس من تمثل مصرع خليفة أو قائد كبير أو شاعر عظيم، من أولئك الذين تركوا في هذا العالم أكبر أثر ونقشوا في تاريخه صفحات لا يمحوها الزمن.
ولعل خير ساعة يستعرض فيها المتأمل تاريخ حياة إنسان هي ساعة احتضاره، فإنه يرى - حينئذ - أمام كل صورة من صور الضعف صورة أخرى من صور القوة، ويلمح بجانب تلك الصور المشجية الحزينة ما يقابلها من الصور الماضية البسامة المشرقة.
2
ألا ترى إلى «الوليد الثاني» مثلا من موقفيه أمام المصحف؛ يخرقه بالنشاب - وهو في جبروته وطغيانه - ثم يقرؤه معتبرا والناس يحاصرونه، وليس بينه وبين الموت إلا دقائق معدودة!
ألا ترى إلى عثمان - وهو الشيخ الوقور - كيف يصرع ويأبى عليه الثائرون أن يدفن، وتظل جثته كذلك ثلاثة أيام، ثم يدفن خلسة، بعد أن يحمل على باب ويسرع الناس به خوفا من الثائرين فيقرع رأسه الباب؟
1
ألا ترى إلى الأمين - وهو محاصر مهموم - يطلب الخلاص أو النجدة، فلا يجد إلى ذلك سبيلا - بعد أن ضيق عليه طاهر سبيل النجاة - وقد علمت ما كان له من عز وسلطان وبطش؟
ألا ترى إليه يجيئه - من قبل - نبأ هزيمة قائده «علي بن عيسى» وقتله - والأمين حينئذ على الشط يصيد السمك - فيقول لمحدثه: «ويلك، دعني فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئا بعد؟»
فانظر إلى تلك الخاتمة المروعة التي انتهت بها حياة هذا المستهتر الباطش العزيز، وهو يستغيث فلا يغاث، ويطلب النجدة فلا يأبه له أحد، ثم يذبح من قفاه فيذكرنا بقول شاعر المعرة:
وما أجل عظيم من رجالهم - إذا نؤمل - إلا ماعز ذبحا
ونمثله - في صورة أخرى - باطشا ولاهيا، ومترنح الأعطاف زهوا، ومصعرا خده تيها، وقابضا على ناصية الخلق متصرفا في أرزاقهم وأعمارهم، تعنو له الجباه وتنحني أمامه الرءوس وينشده أبو نواس قوله:
وقد كنت خفتك ثم أمنني
من أن أخافك خوفك الله
فسبحان المعز المذل.
هو الموت، مثر عنده مثل مقتر
وراكب نهج مثل آخر ناكب
ودرع الفتى - في حكمه - درع غادة
وأبيات كسرى من بيوت العناكب!
3
هذه التأملات هي الباعث الأول الذي حداني لإخراج هذا الكتاب «مصارع الخلفاء» والكتاب الذي يليه «مصارع الأعيان»، وقد حاولت أن أدون فيهما طائفة من أروع المشاهد التي ذكرها لنا التاريخ، كما حاولت أن أرسم في ذهن القارئ صورا واضحة مشرقة بالحياة، ولعلي وفقت في هذه المحاولة بعض التوفيق.
هوامش
تذكرة
يمر الحول - بعد الحول - عني
وتلك «مصارع الأقوام» حولي
كأني بالألى حفروا لجاري
وقد أخذوا المعاول وانتحوا لي •••
والدهر ينسي كمي الحرب صارمه
ودرعه وفتاة الحي مجولها!
ويسترد من النفس التي شرفت
ما كان في سالف الأيام خولها!
أبو العلاء
مصرع عمر
هم ضربوا حيدرا
1
ساجدا
وحسبك من عمر
2
إذ طعن
أبو العلاء
ودخل «أبو لؤلؤة» في الناس؛ في يده خنجر له رأسان، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته.
المؤرخون (1) وصفه
رجل أبيض تعلوه حمرة، أشيب أصلع، يصفر لحيته بالحناء ويرجل رأسه، أعسر أيسر، طوال يمشي كأنه راكب.
قال بعض من رآه: رأيت عمر يأتي العيد حافيا، أعسر، أيسر، متلببا برداء قطري، مشرفا على الناس كأنه على دابة، وهو يقول: «أيها الناس هاجروا، ولا تهجروا.» (2) أخلاقه
ويا أبا محمد، قد رمقته، فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه.
أبو بكر •••
هذا هو أظهر أخلاق عمر - رضي الله عنه - الميل الشديد إلى التوازن والمساواة؛ يخشى أن يفسد الناس إذا لان، أو يرغمهم ويذلهم إذا اشتد، فيسلك طريقا وسطا بين الشدة واللين.
لقد كان - رحمه الله - ورعا متقشفا زاهدا، كما كان حكيما واسع الخبرة بأخلاق العرب، قوي الشكيمة، لا يتردد لحظة في إحقاق الحق وإنصاف المظلوم من ظالمه، يرى أن أحقر أفراد الرعية وأكبر أمراء الدولة سواء أمام الحق، وهو صاحب القولة المشهورة في إحدى خطبه: «من ظلمه أمير فلا إمرة عليه دوني!»
وقد روى لنا التاريخ عن سهره على رعيته وعدله وإنصافه وديمقراطيته شيئا كثيرا، نجتزئ منه بما رواه الغزالي إذ يقول:
أرسل قيصر رسولا إلى عمر بن الخطاب، لينظر أحواله ويشاهد أفعاله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: «أين ملككم؟» فقالوا: «ما لنا ملك، بل لنا أمير قد خرج إلى ظاهر المدينة!» فخرج الرسول في طلبه فرآه نائما في الشمس على الأرض فوق الرمل الحار وقد وضع درته كالوسادة، والعرق يسقط من جبينه إلى أن بل الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: «رجل جميع الملوك لا يقر لهم قرار من هيبته، وتكون هذه حالته! ولكنك يا عمر عدلت فنمت، وملكنا يجور، فلا جرم أنه لا يزال ساهرا خائفا! (3) لماذا قتل؟
ولهذا الخبر أضراب وأشباه في سيرته الحافلة، وقد كان من الطبيعي جدا أن تنتهي حياة هذا العادل الساهر على مصالح رعيته بسلام، كما انتهت حياة أبى بكر - رضي الله عنهما - ومهما يجهد الباحث نفسه في تلمس أسباب وجيهة يعلل بها مقتله، فلن يظفر من ذلك بشيء ذي خطر؛ لقد عدل عمر، والعدل أساس الملك، وقام في الناس مثالا عاليا للشرف والنزاهة والبعد عن التحيز، وتضحية كل ما أوتي من عزم وقوة وصحة ووقت ومال في سبيل النفع والخير العام، فلم يكن يدور بخلد إنسان عاقل أن يغتال حياة هذا الخليفة النزيه العادل المحسن، إلا إذا جاز في العقل أن يفكر الساري في تحطيم مصباحه الذي ينير له الطريق، أو يقدم القاطن على هدم داره وتخريب بيته بيده! لذلك نستبعد أن تكون هناك مؤامرة مدبرة ضده، وإن كنا لا نجزم باستحالة حدوثها.
وأوجز ما نعلل به موته أن نزوة طائشة - قامت برأس غلام مأفون - قضت على حياة هذا المصلح الكبير! (4) كيف كان مصرعه؟
قالوا: خرج «عمر بن الخطاب» يوما يطوف في السوق، فلقيه «أبو لؤلؤة» - غلام «المغيرة بن شعبة» - فقال: «يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجا كثيرا.»
قال: «وكم خراجك؟» قال: «درهمان في كل يوم!» قال: «وإيش صناعتك؟» قال: «نجار، نقاش، حداد!» قال: «فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال، قد بلغني أنك تقول: «لو أردت أن أعمل رحا تطحن بالريح فعلت؟!» قال: «نعم.» قال: «فاعمل لي رحا.» •••
وكأنما نبهت في نفسه هذه الجملة خاطرا شريرا كان غائبا عنه وحركت فيها نزوة من نزوات الإجرام، فقال موريا: «إن عشت لأعملن لك رحا يتحدث بها من في المشرق والمغرب.»
ثم انصرف عنه، فقال عمر: «لقد توعدني العبد!»
قالوا بعد كلام لا يتسع هذا المقام إلى تحقيقه ومناقشته: «وقد مر على هذا الوعد ثلاثة أيام.» (5) يوم المصرع!
جسد لفف في أكفانه
رحمة الله على ذاك الجسد
عاتكة
وفي صبيحة اليوم التالي خرج عمر إلى صلاة الصبح، وكان يوكل بالرجال صفوفا يسوونها، فإذا استوت جاء هو فكبر.
ودخل «أبو لؤلؤة» في الناس؛ في يده خنجر، له رأسان، نصابه في وسطه فضرب «عمر» ست ضربات، إحداهن تحت سرته. وهي التي قتلته، وقتل معه «كليب بن أبي البكير الليثي» - وكان خلفه - فلما وجد عمر حر السلاح سقط وقال: «أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟» قالوا: «نعم هو ذا.» قال: «فتقدم فصل بالناس.» وعمر طريح! ثم احتمل فأدخل داره، فنادى عبد الله بن عمر، وقال: «اخرج فانظر من قتلني؟» قال: «يا أمير المؤمنين، قتلك «أبو لؤلؤة» غلام المغيرة بن شعبة.» قالوا: «فحمد الله أن لم يقتله رجل سجد لله سجدة!»
ثم جعل الناس يدخلون عليه، المهاجرون والأنصار، فيقول لهم: «أعن ملأ منكم كان هذا؟» فيقولون: «معاذ الله!»
قالوا: ودعوا له بالطبيب فلم يجد للقضاء فيه حيلة، وتوفي ليلة الأربعاء - لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 23 - ودفن بكرة يوم الأربعاء في حجرة عائشة مع صاحبيه، حسبما أوصى!
جزى الله خيرا من أمير، وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أن يركب جناحي نعامة
ليدرك ما أوتيت بالأمس يسبق
قضيت أمورا، ثم غادرت بعدها
بوائج في أكمامها لم تفتق
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت
له الأرض يهتز العضاه بأسوق
تظل الحصان البكر يلقي جنيها
نثا خبر فوق المطي معلق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته
بكف «سبنتي»
3
أزرق العين مطرق
4
هوامش
مصرع عثمان
«كنت أحد حملة عثمان
1 - حين قتل - حملناه على باب، وإن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمرا عظيما، حتى واريناه في قبره في حش كوكب.» (1) تمهيد
ما ذكرت مصرع عثمان إلا ذكرت الهول، وانتابني غم شديد على هذه الضحية - التي قادها إلى الحتف وأوردها موارد التلف - بطانة السوء ورواد المغانم، وطلاب المآرب الذاتية الحقيرة! هذا هو المقتول ظلما وعدوانا، المسفوك دمه بسبب حماقة جماعة من المخرقين الذين لا هم لهم إلا قضاء لبانات أو شفاء حزازات.
لقد جبل الناس على ظلم من لا يظلم، والثورة على من يحدب عليهم ويرجو لهم الخير.
وهم لمن لان لهم جانبه
ألذع من حيات أنباث السفا
ولقد كان عثمان - رضي الله عنه - يعرف في الناس هذا الخلق، ويعلم من طباعهم كل ما يعلمه الحصيف الألمعي، ولكنه يأبى إلا التمادي في حلمه، والركون إلى طبعه، وهكذا.
يتحارب الطبع الذي مزجت به
مهج الأنام وعقلهم فيفله
ألا ترى إلى حكايته، حين زاد في البيت الحرام ووسعه فابتاع من قوم وأبى آخرون؛ فثار ثائره وهدم عليهم دارهم ووضع الأثمان في بيت المال؛ فصيحوا بعثمان.
أتعرف ماذا فعل؟
أمر بهم أن يحبسوا وقال جملته المشهورة مخاطبا بها أولئك الثائرين وهي قوله: «أتدرون ما جرأكم علي؟ ما جرأكم علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به.»
وفي هذه الجملة ما فيها من الألم اللاذع والحسرة القاتلة، ولكن هل اقتدى بعمر في شدته بعد ذلك؟
كلا، بل عاد إلى طبعه فأخرجهم حين كلمه فيهم بعض الناس.
ولو أن عمر أو أبا بكر مكانه لما تهاونا في القصاص، ولأنزلا بهم ما يستحقون من نكال، فجعلاهم عبرة للمعتبرين وأمثولة للثائرين! •••
توالت الثورات على «عثمان» - رضي الله عنه - وطمع فيه الناس لحلمه، وتطاولوا عليه، فلما لم يردعهم اجترأ عليه غيرهم.
وتضافرت أسباب أخرى - سنجملها في الفصل التالي - وتعاون معها قدر لا مفر منه، فانتهت هذه وذاك بإهلاكه، وأدت إلى مصرعه المروع! الذي نترك لزوجته «نائلة بنت الفرافصة» روايته بأسلوبها المؤثر، إذ تقول من كتابها إلى معاوية: (2) كيف صرع «وإني أقص عليكم خبره، لأني كنت مشاهدة أمره كله، حتى قضى الله عليه؛ إن أهل المدينة حصروه في داره يحرسونه ليلهم ونهارهم، قياما على أبوابه بسلاحهم يمنعونه كل شيء قدروا عليه، حتى منعوه الماء. يحضرون له الأذى، ويقولون له الإفك، فمكث هو ومن معه خمسين ليلة.»
وهكذا إلى أن تقول: «ثم إنه رمي بالنبل والحجارة، فقتل ممن كان في الدار ثلاثة نفر، فأتوه يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال، فنهاهم عنه وأمرهم أن يردوا عليهم بنبلهم فردوها إليهم فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جرأة، وفي الأمر إلا إغراء. ثم أحرقوا باب الدار.»
وهنا تقول: «ودخل عليه القوم يتقدمهم «محمد بن أبي بكر» فأخذوا بلحيته ودعوه باللقب. فقال: «أنا عبد الله وخليفته.»
فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم.
فسقطت عليه وقد أثخنوه - وبه حياة - وهم يريدون قطع رأسه، ليذهبوا به فأتتني بنت شيبة بن ربيعة ، فألقت نفسها معي فوطئنا وطئا شديدا. وعرينا من ثيابنا - وحرمة أمير المؤمنين أعظم - فقتلوه رحمة الله عليه في بيته وعلى فراشه، وقد أرسلت إليكم بثوبه وعليه دمه. وإنه والله لئن كان أثم من قتله لما سلم من خذله.» (3) بعد موته
قالوا: «ونبذ عثمان - رضي الله عنه - ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن بعض الناس كلم عليا في دفنه وطلب إليه أن يأذن لأهله في ذلك ففعل، وأذن لهم علي.»
قالوا: «فلما سمع بذلك قصدوا له في الطريق بالحجارة وخرج به ناس يسير به من أهله
2
وهم يريدون حائطا بالمدينة كانت اليهود تدفن فيه موتاهم يقال له «حش كوكب» فلما خرج به على الناس رجموا سريره، وهموا بطرحه.»
ويقول آخرون: «إنه أخرج ولم يغسل، وأرادوا أن يصلوا عليه في موضع فأبت الأنصار، وأقبل عمير بن ضابئ - وعثمان موضوع على باب - فنزا عليه، فكسر ضلعا من أضلاعه وقال: «سجنت ضابئا حتى مات في السجن.» •••
ولولا أن تداركهم علي بن أبي طالب ونهى الناس عن التمثيل به لما علم إلا الله إلى أي حد كانوا يتمادون في التمثيل به، وقد انطلق به حتى دفن في «حش كوكب».
3 (4) الأسباب التي أدت إلى مصرعه (4-1) ضعفه
ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له - على ما أحببتم أو كرهتم - ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي.
عثمان
أجملنا في الفصل السابق الأسباب التي أدت إلى مصرعه ووعدنا بتفصيل أهمها في هذا الفصل، ونحن ننجز وعدنا الآن:
أول الأسباب التي انتهت بعثمان - رضي الله عنه - إلى هذه الخاتمة المفجعة ضعفه الشديد ولين جانبه وفرط حيائه.
لقد كان - رضي الله عنه - ذكيا فطنا عارفا بأخلاق الناس، ولكن الإرادة القوية والعزيمة الجريئة والبطش بالمذنبين، وإغفال الرحمة، ونسيان كل اعتبار في سبيل تثبيت الأمن وتوطيد دعائم الملك، والمضي في إنفاذ خطة جلية حازمة وتطبيق سياسة بعينها، هذه هي الخلال التي كانت تنقصه، وهي وحدها الخلال الجديرة بكل حاكم يريد توطيد ملكه وتثبيت دعائمه.
لم تغب عنه صفات عمر ومزاياه الباهرة، ولا غفل عن تقليده في كثير من أموره، ولكن نقصته شخصية عمر القاهرة الجبارة التي تهابها الناس وتلبي رغباتها وتنحني أمامها خاضعة. وتنفذ إشارتها راضخة. وتخشى أن تحيد عنها قيد أنملة حتى لا تقع تحت طائلة عقابه، أو يصيبها قصاصه الذي لا ينجو منه مخطئ ولا يفلت منه مسيء.
وما لنا نحاول وصف عثمان وقد رسم لنا علي - رضي الله عنه - صورة ناطقة لم تدع بعدها غاية لواصفيه إذ يقول له: «الناس ورائي وقد كلموني فيك. ووالله ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه.
إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه. وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ونلت صهره. وما ابن قحافة «أبو بكر» بأولى بعمل الحق منك ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك.»
إلى أن يقول: «فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمى، وتعلم من جهل، وإن الطريق لواضح بين ...» فإذا اعتذر عثمان إليه بأنه يقتفي أثر عمر أجابه «علي» إجابته الموفقة إذ يقول: «سأخبرك أن عمر بن الخطاب كان كل من ولي فإنما يطأ على صماخه، إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية. وأنت لا تفعل. ضعفت ورفقت على أقربائك.»
فإذا ذكر له عثمان أن معاوية كان ممن ولاه عمر مدة خلافته كلها وأنه يقتدي كذلك بعمر في توليته، أبان له «علي» الفرق بين العملين، فقال: «أنشدك الله! هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر، من «يرفأ» غلام عمر؟»
قال: «نعم».
قال علي: «فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها؛ فيقول للناس: «هذا أمر عثمان.» فيبلغك ولا تغير على معاوية!» •••
ولعل في هذه الجمل أبلغ شرح يلمس منه القارئ مواطن الضعف في عثمان رضي الله عنه، التي أطمعت فيه سواه، وأدت إلى استهانة الناس بأمره!
أمثلة من جرأة الناس عليه
ولقد وصل اجتراء الناس عليه إلى أبعد الغايات.
فهذا رجل يشتمه وهو يخطب الناس على عصا النبي في جمع حاشد، ويصيح به: «قم يا نعثل
4
فانزل عن هذا المنبر!»
5
ثم يأخذ العصا فيكسرها على ركبته. •••
وذلك
6
يمر به عثمان، وهو جالس في ندى من قومه، في فناء داره، ومعه جامعة
7
فيسلم عثمان فيرد القوم، فيقول ذلك الرجل: «لم تردون على رجل فعل كذا وكذا.»
ثم يقبل على عثمان فيقول له: «والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه!»
وتدور بينهما مناقشة
8
يقرع فيها الخليفة أشد تقريع ويجترئ عليه أقبح اجتراء.
وهذه مؤامرة مجرمة يكشف أمرها فيحاج أفرادها - بغير السيف - ثم يطلق سراحهم فيؤلبون عليه الثوار ويكونون أول من يرفع علم الثورة في وجهه.
9
وتلك جماعة تحصبه وهو يخطب، فإذا خر صريعا حمل إلى منزله، وهذا ابن العاص يفاخره ويتطاول عليه فلا يدع له مجالا للقول، وتنتهي المناقشة بانكسار عثمان.
وهذا منشوره الذي كتب به في الأمصار ينبئ عن ضعفه وفرط لينه، إذ يقول: «والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا كرهتموه، ولا يعصى الله فيكم إلا استعفيتم منه؛ أنزل فيه عندما أصبتم حتى لا يكون على حجة!»
ومتى لان الخليفة للناس إلى هذا الحد صعب إرضاؤهم ووقف أطماعهم عند غاية لا يعدونها. (4-2) بطانة عثمان ونصحاؤه
أما بطانة عثمان ونصحاؤه فكان أكثرهم مداهنا؛ له مآرب يسعى إلى تحقيقها - كلفه ذلك ما كلفه - وكان بعض نصحائه أحمق، مكروها من الناس، ولنلم مسرعين بأهم نصحائه والمشيرين عليه، الذين لا يسع من يقرأ مصرع عثمان إلا أن يطيف بذهنه ما قام به كل منهم من الدور الخطير الذي أدى إلى مصرعه.
ونبدأ بأولهم:
مروان الأحمق
فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة!
نائلة زوج عثمان
أقل ما نصف به مروان الحماقة والاندفاع، فهو وحده أكبر دليل على صدق المثل القائل «عدو عاقل خير من صديق جاهل» وعلى صحة قول ابن عبد القدوس:
ما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
حسب القارئ أن يعلم أن مروان هذا استطاع بحمقه وحمق أصحابه أن يوغر نفس «علي» على عثمان، قال ابن العباس:
وقد كان علي له
10
صاحب صدق، حتى أوغر نفس علي عليه، جعل مروان وسعيد وذووهما يحملونه على «علي» فيحتمل ويقولون: «لو شاء ما كلمك أحد.»
وذلك على أن عليا يكلمه وينصحه ويغلظ عليه في المنطق في مروان وذويه فيقولون لعثمان: «هكذا يستقبلك وأنت إمامه وسلفه وابن عمه وابن عمته؟ فما ظنك بما غاب عنك منه؟»
قالوا: «فلم يزالوا بعلي حتى أجمع ألا يقوم دونه.» •••
والحق أن عليا بذل النصح لعثمان وأبان له الخطة الرشيدة وأنقذه من مآزق محرجة ولكن:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
ولقد قال علي قولته الشهيرة التي تدل على تألمه الشديد من تردد عثمان: «وما يريد عثمان أن ينصحه أحد، اتخذ بطانة أهل غش ليس منهم أحد إلا قد تسبب بطائفة من الأرض يأكل خراجها ويستذل أهلها.»
وهذه الجملة على شدتها فيها كثير من الصدق، وإن كان في آخرها شيء من المغالاة. •••
وماذا يصنع علي بعد أن هدأ ثائرة الناس وخفف من غلوائهم إذ أعطاهم عثمان مهلة ثلاثة أيام، فلما انتهت واجتمعوا على بابه، مثل الجبال - كما يقول المؤرخون - قال عثمان لمروان: «اخرج فكلمهم فإني أستحي أن أكلمهم.»
قالوا: فخرج مروان إلى الباب - والناس يركب بعضهم بعضا - فقال: «ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنما قد جئتم لنهب؟ شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ بأذن صاحبه! جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟ اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا!» •••
فكانت هذه الخطبة - المملوءة حمقا ورعونة - شرارة شديدة الأثر في إلهاب نار الثورة.
11
ولئن كان مروان قد أفلح في إثارة الناس ضد عثمان بهذا الاندفاع السخيف، فقد أفلح أيضا في إغضاب «علي» وتخليه عن الدفاع عن عثمان بعد أن قال له قولته المأثورة:
أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه! وايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد - بعد مقامي هذا - لمعاتبتك، أذهبت شرفك وغلبت على أمرك.
12
وقد صدق علي؛ فقد أورده مروان ثم لم يصدره، وكان هذا آخر لقاء بين علي وعثمان رضي الله عنهما!
عمرو بن العاص
أنا أبو عبد الله إذا حككت فرحة نكأتها، إن كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان.
عمرو بن العاص
13
ولعل هذه الجملة تمثل بوضوح - لا مزيد عليه - مقدار حقد ابن العاص عليه. وكثيرا ما تظاهر له بمظهر الناصح سرا ثم جبهه علانية، ألا ترى إليه يستشيره عثمان - في جماعة من صحبه - فيقول له عمرو:
أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون، فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل، فان أبيت فاعتزم عزما وامض قدما فيه.
فإذا تفرق القوم قال عمرو:
والله يا أمير المؤمنين لأنت أعز علي من ذلك، ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرا أو أدفع عنك شرا.
أيخفى عليك ما في هذا الاعتذار من المكر والدهاء؟ •••
وانظر إلى كيده وهو يصيح بعثمان على ملأ من الصاخبين المتمردين الذين وقف يخطبهم عثمان:
يا أمير المؤمنين
إنك قد ركبت نهابير
14
وركبناها معك، فتب نتب.» ولا تنس مناقشته الجريئة لعثمان التي ذكرها الطبري في الجزء الخامس (ص108) وأحب أن ترجع إليها.
ولقد حدثنا المؤرخون أنه خرج حتى نزل منزله بفلسطين فكان يقول: «والله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه عليه.»
15
معاوية
16
فلما جاء معاوية الكتاب تربص به وكره إظهار مخالفته أصحاب رسول الله.
المؤرخون
ولعلك تعجب من ذكر معاوية في هذا المقام، ولكن مم العجب، وأقل ما يقال في هذا الداهية أنه كان يستطيع إنقاذ عثمان من القتل وأنه أضاع هذه الفرصة عمدا وفاق خطة مرسومة.
لقد استنجد به عثمان، لينقذه من مخالب الموت، ولكن شبح الخلافة لاح لمعاوية فتباطأ عن نصرة عثمان، وأنساه عرض الدنيا الزائل وزخرفها الكاذب واجب الوفاء والنجدة.
قالوا: لما رأى عثمان ما قد نزل به وما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فإن أهل المدينة قد كفروا، وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول.
قالوا: «فلما جاء معاوية الكتاب تربص به وكره مخالفة أصحاب الرسول. وقد علم اجتماعهم.»
وليس بخفي على أحد مغزى هذا الكلام وسر امتناعه عن نصرة أحق الناس بنصرته.
17
ومن تهكمات القدر وعجائب الأيام ومضحكات العبر أن يحرض ابن العاص على قتل عثمان ويتخلى معاوية عن نجدته، ثم يطالبان بدمه علي بن أبي طالب الذي أخلص له النصيحة وأبان له طريق النجاة واضحا فتنكبه.
هوامش
مصرع علي
«هم ضربوا حيدرا
1
ساجدا
وحسبك من عمر إذ طعن»
أبو العلا (1) تمهيد
من ذكر عليا
2
فقد ذكر أسمى الصفات الإنسانية؛ النزاهة، الاستقامة، الشجاعة، الصراحة، النبل، القوة، الفطنة.
وإن أوجز ما يقال في علي أنه اقتبس أكبر قسط من أخلاق النبوة، وعرف كيف يستفيد من أخلاق الرسول.
ربما قال قائل: «ولكن عليا كان شديد البطش، وقد ألف الناس من ليونة عثمان ما جعلهم ينفرون من شدة علي.»
ذلك حق، وليت عليا - رضي الله عنه - تريث قليلا فلم يعزل بعض الولاة ويهم بعزل الباقين قبل أن يستتب له الأمر، وتستقر له الخلافة، ولكنها الصراحة تأبى عليه أن يعلن خلاف ما يضمر، والغيرة على الحق تدفعه إلى الذود عنه، جالبا عليه من عداوة الناس ما جلب!
كان عثمان لينا فأطمع لينه الناس فيه، وكان «علي» شديدا فانتفع خصومه بهذه الشدة، فاستمالوا الناس إليهم بما أتوه من دهاء وحذق، وحسبك أن تعلم أي قوتين هائلتين من قوى العالم النادرة كانتا تناوئانه لتلتمس له ألف عذر!
لقد تعاونت سياسة معاوية، ودهاء ابن العاص، على استغلال صراحة علي واستقامته، فلم يتركا وسيلة من وسائل المكر والحيلة إلا سلكاها، ولا دعوى من دعاوى الكيد إلا أذاعاها، حتى أوهما أنصارهما أنه قاتل عثمان، وأنه مستميت في طلب الخلافة، بل نحلاه ما هو أكثر من ذلك وأشنع، وألصقا به من الصفات ما يعلمان علم اليقين أنه أبعد الناس عنه، وأشدهم براءة منه.
حسب القارئ أن يذكر المثال التالي، ليعرف مدى دعايتهما ومقدار ما تحدثه مثل هذه المفتريات في نفوس الناس وفي إلهاب قلوبهم حماسا وبغضا لعلي!
قال بعض من شهد تلك المعارك الهائلة: «فإنهم لكذلك إذ خرج عليهم فتى شاب وهو يقول:
أنا ابن أرباب الملوك غسان
والدائن اليوم مدين عثمان
إني أتاني خبر فأشجان
أن عليا قتل ابن عفان
ثم يشد، فلا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم يشتم ويلعن ويكثر الكلام، فقال له «هاشم بن عتبة»: «يا عبد الله إن هذا الكلام بعده الخصام، وإن هذا القتال بعده الحساب، فاتق الله فإنك راجع إلى الله فسائلك عن هذا الموقف، وما أردت به.»
قال: «فإني أقاتلكم لأن صاحبكم
3
لا يصلي، كما ذكر لي، وأنتم لا تصلون أيضا، وأقاتلكم لأن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم أردتموه على قتله.»
4
فانظر إلى أي مدى طوح بهما الكيد لعلي بن أبي طالب والرغبة في تأليب الناس عليه!
على أن عليا ظل منتصرا - رغم كل هذه الدسائس - وكاد يتم له الأمر لولا حيلة ابن العاص التي لجأ إليها أخيرا، حين رفع المصاحف ودعا عليا إلى التحكيم، فافترق أصحابه شيعا، ودب في صفوفهم دبيب الشقاق والفتنة، وانتهى الأمر بمصرعه المروع. (2) ليلة المصرع وساعة الهول
قال محمد بن الحنفية: «كنت والله، وإني لأصلي تلك الليلة التي ضرب فيها علي، في المسجد الأعظم - في رجال كثير من أهل المصر - يصلون قريبا من السدة، ما هم إلا قيام وركوع وسجود، وما يسأمون، من أول الليل إلى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة ، فجعل ينادي: «أيها الناس، الصلاة، الصلاة»، فما أدري أخرج من السدة فتكلم أم لا.
فنظرت إلى بريق وسمعت: «الحكم لله يا علي، لا لك ولا لأصحابك!» فرأيت سيفا، ثم رأيت ثانيا، ثم سمعت عليا يقول: «لا يفوتنكم الرجل!» وشد الناس عليه من كل جانب.
قال: «فلم أبرح حتى أخذ «ابن ملجم» وأدخل على «علي»، فدخلت - فيمن دخل الناس - فسمعت عليا يقول: «النفس بالنفس» إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي!» (2-1) وصاياه قبل موته
وقبل أن تفيض روحه الطاهرة إلى بارئها، نقية بارة رسم لبنيه صورة يحتذونها، أوجز ما نصفها به أنها تمثل منزعه، وتصف ما امتازت به نفسه من خلال عالية وأخلاق سامية فريدة، هي جماع الفضائل:
قالوا: إن أحد الناس قد دخل عليه فسأله: «يا أمير المؤمنين، إن فقدناك - ولا نفقدك - فنبايع الحسن؟»
فقال: «ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر!»
فرد عليه مثلها.
فدعا حسنا وحسينا، فقال: «أوصيكما بتقوى الله، وألا تبتغيا الدنيا - وإن بغتكما - ولا تبكيا على شيء زوى عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأغيثا الملهوف، واصنعا للآخرة، وكونا للمظلوم ناصرا، واعملا بما في الكتاب، ولا تأخذكما في الله لومة لائم.» قالوا: ثم نظر إلى محمد بن الحنفية، فقال: «هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟» قال: «نعم!»
قال: «فإني أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك فاتبع أمرهما، ولا تقطع أمرا دونهما!»
ثم قال: «أوصيكما به، فإنه شقيقكما وابن أبيكما، وقد علمتما أن أباكما كان يحبه ...» وهكذا إلى آخر هذه الوصية الثمينة.
وصيته الأخيرة
قالوا: فلما حضرته الوفاة أوصى فكانت وصيته:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى به «علي بن أبي طالب»، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين.
ثم أوصيك يا حسن، وجميع ولدي وأهلي، بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، فإني سمعت أبا القاسم
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام!»
انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم، يهون عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تعنوا أفواههم، ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم
صلى الله عليه وسلم ، ما زال يوصي به حتى ظننا أنه سيورثه، والله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم ...
وهكذا إلى أن يقول:
والله الله في الفقراء والمساكين، فأشركوهم في معايشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم ...» ثم يقول: «ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولى الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتبادل وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله؛ إن الله شديد العقاب! حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم، أستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله!
الجملة الأخيرة
قالوا: «ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله.» حتى قبض، وهكذا انتهت حياة هذا البطل، وختم تاريخه الحافل بجلائل الأعمال! (3) أهم الأسباب التي أدت إلى مصرعه
يا معاوية! إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب؛ إنك لم تجد شيئا تستغوي به الناس، وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم إلا قولك: «قتل إمامكم مظلوما، فنحن نطلب بدمه.» فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب! ورب متمني أمر وطالبه، الله - عز وجل - يحول دونه بقدرته، وربما أوتي المتمني أمنيته، وفوق أمنيته. ووالله ما لك في واحدة منها خير!
لئن أخطأت ما ترجو، إنك لشر العرب حالا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنى، لا تصبه حتى تستحق من ربك صلي النار، فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله!
ابن ربعي التميمي (3-1) دم عثمان
أنطل
5
دم عثمان؟ لا والله، لا أفعل ذلك أبدا؟
بهذه الجملة وأشباهها يرد معاوية على كل من ينشده العدل ويطلب إليه «أن يعدل عن فتنته التي أثارها، ويتقي الله في تفرق جماعة هذه الأمة وسفك دمائها بينها.»
وبهذا السلاح الماضي الأخاذ بالأبصار يستميل الناس إليه ويؤلب جموعهم ضد «علي» وأشياع «علي» وأنصاره، كأنما لا هم له من الدنيا إلا الثأر لعثمان وحده، ولا غرض له في خلافة أو ملك!
وبهذا المعول القوي يهدم كل دعوة للتوفيق، ويدك كل صرح للوئام من أساسه، فتذهب جهود المخلصين والراغبين في حقن دماء المسلمين سدى، ويسد الطريق سدا على كل خطيب بليغ، ويرد به على كل حجة، بالغة ما بلغت من الأصالة والصدق!
فإذا قال له وفد «علي»: «يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة وإن الله - عز وجل - محاسبك بعملك وجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله عز وجل أن تفرق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها.»
أسرع معاوية فقطع عليه الكلام، وقال له: «هل أوصيت بذلك صاحبك؟»
فإذا أجابه: «إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر، في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول
صلى الله عليه وسلم !» قال له معاوية: «فيقول ماذا؟» فإذا أجابه بقوله: «يأمرك بتقوى الله عز وجل، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك.»
ارتبك معاوية، ولم يبق أمامه ما يبرر به إحداث هذه الفتنة الشعواء التي أوقد نارها، وأشعل ضرامها في سبيل الخلافة، وضحى من أجلها بالألوف من أرواح المسلمين البريئة، وثمة يقذف بهذا الحجر في وجه ناصحه فيقول له: «ونطل دم عثمان رضي الله عنه؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا.»
وبذلك يبرر سلوكه وتمرده على الخليفة «علي» ويتظاهر بالغيرة على دم عثمان أن يطل، ويذهب دون أن يثأر له، وقد كان - بالأمس - يتباطأ عن حقنه، وصون حياة صاحبه وهو يستنجده فيصم أذنيه عن سماع دعوته، ولا يخف لنجدته، كما يخف الآن للانتقام ممن يزعمهم قاتليه!
فإذا توادع القوم - يوم صفين - واختلفت الرسل فيما بين علي ومعاوية كان رده على الوفود شبيها برده على سابقيهم من قبل.
6
فباسم المطالبة بدم عثمان أهدر دماء المسلمين، وباسم المطالبة بدم عثمان اندلعت نيران الفتنة فالتهمت جمهرة من أبطال المسلمين وقادة الرأي فيهم، وباسم المطالبة بدم عثمان ستر معاوية وابن العاص وأشياعهما أطماعهم وأغراضهم السياسية وألبوا الجموع الزاخرة على «علي بن أبي طالب». (3-2) الدسائس
لم يكتف معاوية وأشياعه بهذا السلاح وحده في محاربة «علي». بل عززوه بأسلحة أخرى أهمها سلاح الدس والإيقاع بين أنصار علي، ولم تكن الحرب بينهما - على الحقيقة - إلا سلسلة متصلة من الحلقات من دسائس معاوية وابن العاص، وحسب القارئ أن يعلم أن معاوية لم يترك وسيلة من وسائل الإيقاع والدس للوصول إلى إربته والنكاية بخصمه إلا سلكها بلا تردد.
ألا ترى إليه يحاول استمالة «قيس بن سعد» الذي ولاه «علي» على مصر، فإذا أخفق في سعيه ويئس من استمالته إليه لجأ إلى الدس، فأشاع في الشام أن والي مصر على اتفاق معه، ثم عمل دائبا على نشر هذه الإشاعة وتقويتها حتى يحسبها الناس حقا لا مراء فيه؛ فإذا بلغ عليا ذلك عزله وولى محمد بن بكر مكانه!
بل هو يحاول الإيقاع جهرة بين اثنين من ولد علي حين قطع أحدهما على الآخر قوله ليرد على معاوية، فأراد معاوية أن ينتهز هذه الفرصة للإيقاع بينهما فأخفق، ولا تنس حكاية المصاحف التي أوقعت الفرقة في صفوف أنصار «علي» وفرقتهم شيعا، وحكاية ابن العاص وأبي موسى الأشعري، التي زادت في الانقسام والتفرقة، فليست كل هذه إلا آثارا ناطقة شاهدة بما للقوم من دهاء ومكر وقدرة على استغلال الظروف والإيقاع بين الناس! (3-3) شدة علي
أما شدة علي فقد أشرنا إليها في كلمتنا السابقة ولا نراها في حاجة إلى الإسهاب فيها، فقد عرفت أن عليا كان لا يتسامح في الحق ولا يقبل فيه لومة لائم، وكان يحاسب على القطمير، وقد بدأ عمله بعزل كثير من الولاة قبل أن يستتب له الأمر، ونحب أن نضيف إلى ما أسلفناه مثلا واحدا نجتزئ به عن أمثلة كثيرة:
قال ابن أبي رافع - وكان خازنا لعلي على بيت المال: «دخل «علي» يوما، وقد زينت ابنته، فرأى عليها لؤلؤة من بيت المال كان قد عرفها، فقال: «من أين لها هذه؟ لله علي أن أقطع يدها!»
قال ابن أبي رافع: «فلما رأيت جده في ذلك، قلت: «أنا والله يا أمير المؤمنين زينت بها ابنة أخي، ومن أين كانت تقدر عليها، لو لم أعطها.» فسكت.»
فإذا أضفنا - إلى ذلك - اعتماده على نفسه وعدم استشارته سواه من أولي الرأي، مما أحقد عليه أمثال طلحة والزبير فنقضا بيعته وانضما إلى السيدة «عائشة» التي شبت أول نيران الفتنة في موقعه «الجمل»، وأضفنا إلى ذلك حذق معاوية في اكتساب قلوب الناس واجتذابهم إليه، وبغض السيدة عائشة - رضي الله عنها - لعلي بعدما أبداه من الرأي في حادثة الإفك من قبل، وذكرنا ما أبداه معاوية من المهارة السياسية في استرداد مصر وأخذ الحرمين واليمن أثناء انشغال علي بالخوارج، نقول: إذا ذكرنا هذه الأسباب سهل علينا أن نفهم سر هذه الفتنة الشعواء التي انتهت بقتل علي. وقد كانت - لولا عجائب القدر - منتهية بقتل معاوية وابن العاص أيضا، ولكنه القدر المحتوم والأجل الذي لا مفر منه قد انتهى ولا راد لقضاء الله، قالوا: اجتمع «ابن ملجم» و«البرك بن عبد الله» و«عمرو بن بكر التميمي» فتذاكروا أمر الناس، وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهر، فترحموا عليهم، وقالوا: «ماذا نصنع بالبقاء بعدهم شيئا، إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا، فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد وثأرنا بهم إخواننا.»
فقال ابن ملجم: «أنا أكفيكم علي بن أبي طالب.» وكان من أهل مصر، وقال البرك بن عبد الله: «أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان.» وقال عمرو بن بكر: «أنا أكفيكم عمرو بن العاص.»
فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه؛ فأخذوا أسيافهم فسموها، واتحدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه عليه، وأقبل كل رجل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه الذي يطلب.
فأنت ترى أن قتل هؤلاء الزعماء الثلاثة «علي ومعاوية وابن العاص» كان أمرا مقررا محتوما. وأن القدر وحده هو الذي حال دون هذه الخاتمة، وأنقذت تصاريفه العجيبة «معاوية وابن العاص» ولم يمت من بين هؤلاء إلا «ابن أبي طالب» رضي الله عنه.
7
فقد رووا أن «البرك بن عبد الله» قعد لمعاوية في الليلة التي ضرب فيها علي، فلما خرج معاوية ليصلي (الغداة) شد عليه بسيفه فوقع في إليته، فأخذ، فقال: «إن عندي خبرا أسرك به، فإن أخبرتك فنافعي ذلك عندك؟» قال: «نعم» قال «إن أخا لي قتل عليا في مثل هذه الليلة.» قال: «فلعله لم يقدر على ذلك؟» قال: «بلى، إن عليا يخرج ليس معه من يحرسه.» فأمر به معاوية فقتل. وبعث معاوية إلى طبيبه؛ فلما نظر إليه قال: «اختر إحدى خصلتين: إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد وتبرأ منها؛ فإن ضربتك مسمومة.» فقال معاوية: «أما النار فلا صبر لي عليها، وأما انقطاع الولد فإن في «يزيد وعبد الله» ما تقر به عيني.» فسقاه تلك الشربة فبرأ ولم يولد له بعدها.
8
وكان ذلك كل ما لقيه معاوية من الجزاء على هذه الفتنة التي سعر نارها وأذكى أوارها.
أما «عمرو بن العاص» فقد جلس له «عمرو بن بكر» تلك الليلة، ولكن «ابن العاص» لم يخرج تلك الليلة، وكان اشتكى بطنه، فأمر «خارجة بن حذافة» - وكان صاحب شرطته - فخرج ليصلي فقتله «عمرو بن بكر» فأخذه الناس فانطلقوا به إلى عمرو يسلمون عليه بالإمرة، فقال: «من هذا؟» قالوا: «عمرو» قال: «فمن قتلت!» قالوا: «خارجة بن حذافة» قال: «أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك!»
فقال عمرو: «أردتني وأراد الله خارجة.» فقدمه عمرو فقتله؟
فليتها إذ فدت عمرا بخارجة
فدت عليا بما شاءت من البشر
ولكن:
تقفون والفلك المسخر دائب
وتقدرون فتضحك الأقدار
هوامش
مصرع الوليد الثاني
ويا دهر لحاك الله
ما هنأت فرحانك
أبو العلاء «ويقال إنه لما أحيط به دخل القصر وأغلق بابه، وقال:
دعوا لي «هندا» و«الرباب» و«فرتنى»
ومسمعة، حسبي بذلك مالا
خذوا ملككم، لا ثبت الله ملككم
فليس يساوي - بعد ذاك - عقالا
وخلوا سبيلي (قبل عير وما جرى
1 )
ولا تحسدوني أن أموت هزالا
فألب عن تلك المنزلة أي ألب، ورؤي رأسه في فم كلب كذلك نقل بعض الرواة، والله القائم بجزاء الغواة.
رسالة الغفران (1) إلمامة تاريخية
ما ذكرت مصرع الوليد،
2
إلا ذكرت معه مصرع الدولة الأموية الوشيك، وذكرت كيف تنجز الثورات الداخلية ما عجزت عنه الثورات الخارجية، وكيف تقضي الحروب الأهلية على دولة قوية لها ماض مجيد في الفتوحات والانتصارات الباهرة، بعد أن تمكنت من البطش بأقوى الثائرين وأشدهم مراسا وأصلبهم عودا.
ولكن المطامع والأحقاد التي شبت في جوانح أفراد هذه الأسرة - في عهد الوليد وبعده - عرفت كيف تنهك هذه الدولة وتقودها إلى الدمار، ثم تسلمها لقمة سائغة - بعد قليل من الزمن - إلى العباسيين المتطلعين إلى الملك.
ولقد تنبأ العباس «ابن عم الوليد» بهذه العاقبة، ودل على أصالة رأيه وبعد نظره، إذ عنف أخاه يزيد أشد تعنيف، وحذره من إثارة الفتن حين رآه متطلعا إلى الخلافة راغبا في الانقضاض على الوليد، وأغلظ له القول، ثم تمثل قائلا:
إني أعيذكم بالله من فتن
مثل الجبال، تسامي، ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم
إن الذئاب ما ألحمت رتعوا
لا تبقرن بأيديكم بطونكم
فثم لا حسرة تغني ولا جزع!
ولقد صحت نبوءته، وتحقق صدق ما تمثل به من الشعر، ووقع كل ما قال. •••
لقد أساء يزيد بن عبد الملك إلى ابنه الوليد عن غير ما قصد أيما إساءة، إذ أسند الأمر - من بعده - إلى أخيه هشام، ثم أدرك خطأه وندم أشد الندم ولكن بعد فوات الفرصة.
فقد استخلف أخاه هشاما حين بلغ «الوليد» إحدى عشرة سنة، فلما بلغ خمس عشرة، ندم على تسرعه.
قالوا: وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد قال: «الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك.»
وفي هذه الجملة كل معاني الحسرة والندم!
وبعد أن مات «يزيد بن عبد الملك» بدأ هشام بتعظيم الوليد، ثم داخله الطمع فأراد استخلاف ابنه بعده، فلما رأى الوليد حجر عثرة في طريق مطامعه أراده على ذلك، فأبى، فطلب إليه أن يستخلف ابنه بعد خلافته، فأبى الوليد ذلك أيضا.
هنا حقد هشام على ابن أخيه، وتنمر للوليد، وأخذ يملأ الدنيا عليه تشنيعا ثم أقصاه عنه، واضطهد أصدقاءه والمقربين إليه، ونكل ببعضهم تنكيلا،
3
ومات هشام وفي فؤاده حسرة من الوليد.
4
فلما آل الأمر للوليد كان أول همه الانتقام والتمثيل بأعدائه حتى كال لهشام المد صاعا،
5
وانتقم لنفسه من أبناء أخيه وأهله وأنصاره انتقاما أحفظ عليه أسرته، وما زال يمعن في التنكيل بأعدائه، وهم يمعنون في التشهير به ونشر الدعاية ضده وعلى رأسهم «يزيد بن الوليد» الذي اتخذ - من ظهوره بالنسك أمام الناس ومحبتهم إياه - وسيلة لتبغيضهم في الوليد، فما ترك فرصة للتشنيع عليه إلا انتهزها، ولا عرض ذكره إلا لقبه بالفاسق.
قالوا: وكان يظهر النسك، ويتواضع ويقول: «ما يسعنا الرضا بالوليد!» حتى أدرك إربته، وألب الناس ضده، رافعا أمامهم علم الثورة التي انتهت بالفتك بالوليد، وانتقال الأمر إلى يزيد.
وهكذا تضافرت الظروف على إهلاك الوليد ونال أعداؤه منه ما يريدون، وقد يمكن تلخيصها جميعا فيما يلي: (1)
تهتك الوليد واستهتاره، وميله الشديد إلى مراغمة الناس ومجاهرته بعصيانه وآثامه، واحتقار ما تواضعوا على احترامه. (2)
استغلال خصومه هذه الناحية منه وإذاعة سوآته مكبرة مبالغا فيها، نافخين في أبواق الفتنة، مستثيرين حمية الناس لتنفيرهم منه، وكان ألد خصومه وأشدهم تشهيرا به اثنان: هشام قبل خلافة الوليد، ويزيد بعدها. (3)
ثقة الوليد بنفسه وشدة اعتداده بقوته، إلى حد أغفل معه كل احتياط لدرء الفتنة والقضاء على دسائس خصومه وهي في مهدها ، قبل أن تستفحل وتصل إلى هذا الحد. (2) الثورة: شجاعة الوليد
قالوا: «كان الوليد شديد البطش، طويل أصابع الرجلين، وكان يوتد له سكة حديد فيها خيط، ويشد الخيط في رجله ثم يثب على الدابة فينتزع السكة ويركب، ما يمس الدابة بيده.»
قالوا: «ولما اندلعت نيران الثورة التي شبها «يزيد بن الوليد» علم وبلغه ذلك، أمر أصحابه فأخرجوا سريرا، وجلس عليه، وقال: أعلي توثب الرجال، وأنا أثب على الأسد، وأتخصر الأفاعي؟» •••
وهذا قليل من كثير مما يحدثنا به التاريخ عن شجاعته ورباطة جأشه، ولكن ماذا تجديه شجاعته في مثل هذا المأزق الحرج؟ وماذا تغنيه قوته ورباطة جأشه أمام هذه الجموع الزاخرة المتألبة عليه؟
ماذا يفعل وقد خذله أنصاره، وتفرق عن نصرته رجاله، وتم الأمر - أو كاد - لخصمه «يزيد بن الوليد» الذي عرف كيف يشهر به، ويذيع مخازيه وآثامه مكبرة مجسمة في الآفاق؛ حتى بلغ إربته، وبايعه أكثر الناس؟
ليس أمامه غير الهزيمة، ولكنه لم يشأ أن يتعجلها، وأبى إلا الثبات لعل فيه فرجا، ولم تخنه شجاعته في هذا الظرف العصيب فخرج محاربا مستبسلا في دفاعه.
وقد ظاهر بين درعين - كما يقول المؤرخون - وأتوه بفرسيه «السندي» و«الزائد» فقاتل أعداءه قتالا شديدا. (3) انخذال الوليد
ولكن رجلا من أعداء الوليد ناداهم: «اقتلوا عدو الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة!»
فلم يكد يسمع ذلك، حتى شعر بالخيبة، وأدرك أن أمره وشيك الزوال، وعلم أن ليس في استطاعته أن يصد هذه الجموع المتألبة الملتهبة حماسا، وأن الدفاع في هذا الموطن معناه الدمار.
فلجأ مضطرا إلى الانسحاب، فدخل القصر وأغلق الباب، ولكن أعداءه أحاطوا بالقصر. (4) محاسبة الوليد
قالوا: فلما رأى الوليد هذه الجموع الزاخرة دنا من الباب فقال: «أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟»
فقال له أحدهم: «كلمني.»
فقال له: «من أنت؟»
قال: «أنا يزيد بن عنبسة السكسكي!»
قال: «يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أرفع المؤن عنكم؟ ألم أعط فقراءكم؟ ألم أخدم زمناكم؟»
فقال: «إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر، وإتيان أولاد أمهات أبيك واستخفافك بأمر الله!»
قال: «حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت وإن فيما أحل لي لسعة!»
ثم قال: «لعمري لقد أكثرتم وأغرقتم! أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجمع كلمتكم!» (5) الساعة الأخيرة
تقسم كسرى رهطه بسيوفهم
وأمسى أبو العباس
6
أحلام نائم
وقد كان لا يخشى انقلاب مكيدة
عليه ولا جري النحوس الأشائم
مقيما على اللذات حتى بدت له
وجوه المنايا حاسرات العمائم!
وقد ترد الأيام غرا، وربما
وردن كلوحا، باديات الشكائم!
بشار بن برد
وكذلك حان مصرع الوليد، ودقت ساعته الأخيرة، مؤذنة بذهابه من هذا العالم إلى العالم الثاني.
وهنا يحدثنا الرواة؛ فيقول أحدهم: إن الوليد رجع إلى الدار، فجلس وأخذ مصحفا وقال: «يوم كيوم عثمان.» ونشر المصحف يقرأ.
وفي هذا المنظر ما فيه من الروعة، إذا تمثلنا المنظر الآخر المقابل له، وأجلنا الفكر فيما بين الموقفين من التباين الشديد.
فهو هنا يتعزى بقراءة المصحف وهو يشعر بدنو أجله وقرب ساعته الأخيرة.
وهو هناك يقرأ المصحف شامخا مستكبرا تائها - وأمره في تمامه - فيرى فيه قوله تعالى:
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد .
فيشتعل غيظا وحقدا، وتأخذه العزة بالإثم، فيمزق المصحف ويلقي به إلى الأرض ويخرقه بالنشاب، ثم ينشد غاضبا:
أتوعد كل جبار عنيد
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر
فقل يا رب، مزقني الوليد!
وشتان ما بين المنظرين!! •••
على أن الوليد لم يلبث أن عاوده شيء من صلفه وشجاعته، فلم يرض لنفسه استخذاء الذليل أمام الموت.
قال أبو العلاء يحدثنا - في رسالة الغفران - عن الوليد في هذه الساعة:
ويقال إنه لما أحيط به دخل القصر وأغلق بابه، وقال:
دعوا لي «هندا» والرباب «فرتني»
ومسمعة، حسبي بذلك مالا
خذوا ملككم - لا ثبت الله ملككم -
فليس يساوي بعد ذاك عقالا
وخلوا سبيلي (قبل عير وما جرى)
ولا تحسدوني أن أموت هزالا
فألب عن تلك المنزلة أي ألب، ورؤي رأسه في فم كلب ! (6) كيف قتل: رواية شاهد عيان
قال من شهد هذا المنظر المروع: «نظرت إلى شاب طويل على فرس؛ فدنا من حائط القصر فعلاه ثم صار إلى داخل القصر! فدخلت القصر، فإذا الوليد قائم في قميص قصب، وسراويل موشى، ومعه سيف في غمد، والناس يشتمونه.»
وقال شاهد آخر: وكان أول من علا الحائط هو عنبسة السكسكي؛ فنزل إليه وسيف الوليد إلى جنبه، فقال له: «نح سيفك.»
فأجابه الوليد: «لو أردت السيف لكانت لي ولك حالة غير هذه.» فأخذ الوليد، فنزل من الحائط عشرة.
قال بعض الرواة: ومضى الوليد يريد الباب؛ فضربه أحدهم على رأسه، وتعاوره الناس بأسيافهم، فقتل.
وطرح أحدهم نفسه عليه يحتز رأسه.
7 (7) كيف مثلوا به؟
قالوا: وأقبل آخر فسلخ من جلد الوليد قدر الكف. ثم انتهب الناس عسكره وخزائنه.
وقد أمر «يزيد» بتنصيب الرأس؛ فقال له بعض خواصه (واسمه ابن فروة): «إنما تنصب رءوس الخوارج، وهذا ابن عمك وخليفة! ولا آمن - إن نصبته - أن ترق له قلوب الناس فيغضب له أهل بيته!»
فقال: «والله لأنصبنه!»
ونصبه على رمح، ثم قال: «انطلق، فطف به مدينة دمشق، وأدخله دار أبيه.»
ففعل، وثم صاح الناس وأهل الدار وانزعجوا من ذلك أشد الانزعاج.
وكذلك أسدل الستار على حياة هذا المستهتر الجبار! (8) خلاعة الوليد واستهتاره
قلنا في الفصل السابق إن أول الأسباب التي تضافرت على إهلاك الوليد خلاعته وتفانيه في لهوه وفجوره، ووعدنا في ختامه بالإلمام بطائفة من مخازيه وآثامه، وليس يسعنا أن نبر بهذا الوعد، دون أن نضطر إلى ذكر كثير من الأشياء التي ينبو عنها الذوق، وتأباها الآداب الكريمة، لهذا تجاوزنا عن كثير من فحشه، وألممنا بما يمكننا الإلمام به من مخزيات هي - على شناعتها - أقل ما اقترفه من الدنايا، وهي - على إمعانها في الفجر - أيسر من غيرها وأخف على النفس من سواها. (8-1) أبو الوليد
وإذا صدق القائل:
هذي العصا من هذه العصية
لا تلد الحية إلا حية!
فما أصدق هذا القول، وما أشد انطباقه على الوليد وأبيه معا، فقد حدثنا المؤرخون عن نزعة أبيه إلى اللهو والقصف، وشغفه بحبابة المغنية واشتهاره بذكرها، بما فيه من الكفاية، قالوا:
كان يزيد «أبو الوليد» قد حج أيام سليمان أخيه، فاشترى «حبابة» بأربعة آلاف دينار، فقال سليمان: «لقد صممت أن أحجر على يزيد!»
فلما سمع يزيد ردها فاشتراها رجل من أهل مصر.
فلما أفضت الخلافة إليه قالت له امرأته «سعدة»: «هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟»
فقال: «نعم، حبابة!» قالوا:
فأرسلت فاشترتها وصنعتها، وأتت بها يزيد، وأجلستها من وراء الستر.
فقالت: «يا أمير المؤمنين، أبقي من الدنيا شيء تتمناه؟»
قال: «أعلمتك.»
فرفعت الستر وقالت: «هذه حبابة.» وقامت وتركتها عنده فحظيت سعدة عنده وأكرمها!
وقال يوما، وقد طرب بغناء حبابة: «دعوني أطير.» وأهوى ليطير.
فقالت: «يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة!» فقال: «والله لأطيرن.» فقالت: «فعلى من تدع الأمة والملك؟» قال لها: «عليك والله.» وقبل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول: «سخنت عينك ما أسخفك!»
قالوا: «وخرجت معه إلى ناحية الأردن يتنزهان، فرماها بحبة عنب فاستقبلتها بفيها فدخلت حلقها، فشرقت بها وماتت، فتركها ثلاثة أيام لا يدفنها؛ حتى نتنت وهو يشمها وينظر إليها ويبكي، فلما دفنت بقي بعدها خمسة عشر يوما ومات، ودفن إلى جانبها!» (8-2) مؤدب الوليد
قالوا: «وكان عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبا للوليد، وكان زنديقا فحمل الوليد على الشراب والاستخفاف بدينه.» (8-3) ندمان الوليد
قالوا: «ولما ولي الوليد لم يزدد من الذي كان فيه - من اللهو والركوب للصيد وشرب الخمر ومنادمة الفساق - إلا تماديا.»
وإذا صدق القائل:
عن المرء لا تسأل، وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
فإن ندمان الوليد وخلانه، كانوا نخبة مختارة من الفساق والمجان والمستهترين بلغوا في العهر غايته، ووصلوا في الفجر إلى نهايته.
أليس من ندمانه ومغنيه وأقرب المقربين إليه «ابن عائشة» الذي يجيب بعض سائليه بقوله: «غنيت أمير المؤمنين صوتا، فأطربته، فكفر وترك الصلاة وأمر لي بهذا المال وهذه الكسوة.»
نعم، وهو الذي يحدثنا عنه صاحب ستر الوليد فيقول: «إن ابن عائشة غناه ذات يوم:
إني رأيت صبيحة النفر
حورا نفين عزيمة الصبر
مثل الكواكب في مطالعها
بعد العشاء وطفن بالبدر
وخرجت أبغي الأجر محتسبا
فرجعت موفورا من الوزر
فطرب الوليد وألحد ...» إلى أن يقول: «ثم أكب الوليد على ابن عائشة المغني، ثم لم يبق عضوا من أعضائه إلا قبله ...» ثم ماذا؟
ثم بقية هذا الخبر الذي لا يحتمل المقام روايته، لبذاءته وفحشه. •••
وليس ابن عائشة إلا واحدا من كثيرين حفلت بهم مجالس الوليد ومغانيه، وكان له معهم ما يخجل القلم من ذكره.
هذا عمر بن أبي ربيعة يرجع من أحد مجالس الوليد، فيسأل: «ما الذي كنت تضحك أمير المؤمنين به؟» فيجيب سائله: «ما زلنا في حديث الزنا حتى رجعنا!»
الحق أن الوليد قد وصل به الاستهتار إلى أبعد الغايات، وطوح به في مهاوي الغواية حتى تردى في ظلماتها السحيقة. (8-4) الوليد يخطب الناس شعرا وهو سكران
قالوا: «خرج الوليد - وكان مع أصحابه على شراب - فقيل له: «إن اليوم الجمعة!» فقال: «والله لأخطبنهم اليوم بشعر.» فصعد المنبر فخطب. فقال:
الحمد لله ولي الحمد
أحمده في يسرنا والجهد
وهو الذي في الكرب أستعين
وهو الذي ليس له قرين
أشهد في الدنيا وما سواها
أن لا إله غيره إلها
ما أن له في خلقه شريك
قد خضعت لملكه الملوك
أشهد أن الدين دين أحمد
فليس من خالفه بمهتد
وأنه رسول رب العرش
القادر الفرد الشديد البطش
أرسله في خلقه نذيرا
وبالكتاب واعظا بشيرا
ليظهر الله بذاك الدينا
وقد جعلنا قبل مشركينا •••
من يطع الله فقد أصابا
أو يعصه - أو الرسول - خابا
ثم القرآن والهدى السبيل
قد بقيا لما مضى الرسول
كأنه لما بقي لديكم
حي صحيح لا يزال فيكم
إنكم من بعد إن تزلوا
عن قصده أو نهجه، تضلوا
لا تتركن نصحي فإني ناصح
إن الطريق فاعلمن واضح
من يتق الله بحد غب التقى
يوم الحساب سائرا إلى الهدى
إن التقى أفضل شيء في العمل
أرى جماع البر فيه قد دخل
إلى آخر هذه الخطبة!
ومن نوادره الطريفة ما حدث له مع الوليد البندار الذي يحدثنا فيقول:
8
حججت مع الوليد بن يزيد، فقلت له لما أراد أن يخطب الناس: «أيها الأمير، إن اليوم يوم يشهده الناس من الآفاق وأريد أن يشرفني بشيء.»
قال: «وما هو؟»
قلت: «إذا علوت المنبر دعوت بي فيتحدث الناس بذلك، وبأنك أسررت إلي شيئا!»
فقال: «أفعل!» فلما جلس على المنبر قال: «الوليد البندار!» فقمت إليه، فقال: «ادن مني.» فدنوت، فأخذ بأذني ثم قال: «البندار ولد زنا، والوليد ولد زنا، وكل من ترى من حولنا ولد زنا، أفهمت؟»
قلت: «نعم» قال: «انزل الآن.» فنزلت! (8-5) ميله إلى مذهب ماني
9
وقد عزا إليه بعض المؤرخين ميله إلى الأخذ بالمذهب المانوي وروى «ابن القارح» أن الوليد أحضر ذات يوم صورة رجل فسجد له وقبله وقال لبعض الناس: «اسجد له يا علج.»
فقال: «ومن هذا؟»
قال: «هذا «ماني» شأنه كان عظيما؛ اضمحل أمره لطول المدة.»
فقال: «لا يجوز السجود إلا لله.» فقال: «قم عنا.»
قال ابن القارح: وكان يشرب على سطح، وبين يديه باطية كبيرة بلور، وفيها أقداح، فقال لندمائه: «أين القمر الليلة؟» فقال بعضهم: «في الباطية.»
فقال: «صدقت، أتيت على ما في نفسي، والله لأشربن الهفتجة.»
10
وكان بموضع حول دمشق يقال له «البحر» فقال: «تلعب بالنبوة هاشمي
بلا وحي أتاه ولا كتاب»
فقتل به، ورأوا رأسه في الباطية التي أراد أن يهفتج بها.» (8-6) كلمة ختامية
ونذكر - قبل أن نختم هذا الفصل - كلمة أبي العلاء التي أوجز بها رأيه في الوليد، وهي قوله:
11
وأما الوليد بن يزيد، فكان عقله عقل وليد، وقد بلغ سن الكهل، وقد رويت له أشعار يلحق به منها العار، كقوله: «أدنيا مني خليلي «عبدلا» دون الإزار
فلقد أيقنت أني
غير مبعوث لنار
واتركا من يطلب الجن
ة، يسعى في خسار
سأروض الناس حتي
يركبوا دين الحمار
فالعجب لزمان صير مثله إماما!
ولعل مثله - ممن ملك - يعتقد مثله أو قريبا، ولكن يساير ويخاف تثريبا. •••
ومما يروى له قوله: «أنا الإمام الوليد مفتخرا
أجر بردي وأسمع الغزلا
ما العيش إلا سماع محسنة
وقهوة تترك الفتى ثملا
أسحب ذيلي إلى منازلها
ولا أبالي من لام أو عذلا
لا أرتجي الحور في الجنان وهل
يأمل حور الجنان من عقلا
إذا حبتك الوصال غانية
فجازها بذلها كمن وصلا»
هوامش
مصرع مروان الجعدي
أو «حمار الجزيرة»
1
ولو علم بنو مروان أنهم إنما يوقدون على رضف يلقونه في أجوافهم، ما فعلوا.
الوليد الثاني (1) كيف صرع
وطعنه رجل من أهل البصرة، وهو لا يعرفه فصرعه، فصاح صائح: «صرع أمير المؤمنين!» وابتدروه، فسبق إليه رجل من أهل الكوفة فاحتز رأسه!
المؤرخون (1-1) طلائع الثورة
فراخ عامين، إلا أنها كبرت
لما يطرن، وقد سربلن بالزغب
فإن يطرن ولم يحتل لهن بها
يلهبن نيران حرب أيما لهب
نصر بن سيار
ولكن الفراخ كبرت وطارت ولم يحتل لها فصحت نبوءة «نسر بن سيار» وألهبت نيران حرب شعواء، ذكا أوارها واندلع لهيبها، فكان وقودها مروان الجعدي والدولة الأموية معا، ولم تخمد جذوة هذه النار المستعرة، إلا بعد أن أتت على الأخضر واليابس وغيرت وجه التاريخ، وأحدثت انقلابا هائلا في كل مرافق الأمة العربية وشئونها تقريبا.
لقد رأى «نصر بن سيار» خطر المنافسين يتعاظم يوما بعد يوم، وشاهد أتباعهم في ازدياد، ودعوتهم في ذيوع وانتشار، فلم يدخر وسعا في تحذير الأمويين من أعدائهم واحتثاث هممهم ليقضوا على الثورة - وهي في مهدها - وكان يرى نجاح دعوة «أبي مسلم الخراساني» واتساع نطاقها، فيبعث التحذير بعد التحذير والإنذار تلو الإنذار، حتى بح صوته وذهبت صيحاته كلها أدراج الرياح!
ولعل أحدا لا يجهل أبياته الصادقة التي ختم بها إحدى كتبه التي بعث بها إلى مروان الجعدي، حين رأى انتشار الدعوة لبني العباس وذيوعها في خراسان سنة 129، وهي قوله:
أرى خلل الرماد وميض جمر
فأحج بأن يكون لها ضرام
فإن النيران بالعودين تذكى
وإن الحرب مبدؤها الكلام
فقلت من التعجب «ليت شعري
أأيقاظ أمية، أم نيام!
ولكن بني أمية كانوا نياما عن عدائهم، منهمكين في إشباع شهواتهم الحقيرة، مشتغلين بالانتقام بعضهم من بعض، لا هم لهم إلا التباغض وإثارة الفتن الداخلية بينهم، حتى جاءهم أمر الله فأمحى ملكهم من المشرق، وقضى عليهم قضاء مبرما في سنة 132ه. وصدق قول القائل: «ولكل أهل بيت مشائيم يغير الله النعمة بهم ولن ينتقل سلطان قوم قط إلا في تشتيت كلمتهم!» كما صح فيهم قول من قال: «أوتيت ملكا، فلم أحسن سياسته
كذاك من لا يسوس الملك يخلعه» (1-2) موقعة الزاب سنة 132ه
كل شيء قاتل
حين تلقى أجلك
ليس أدل من هذه الموقعة على الفوضى الضاربة أطنابها في جيش الأمويين والتخاذل الشامل وسوء الرأي، فقد تجلت في هذه الموقعة صفات النذالة والإحجام في أكثر الجيش الأموي واضحة جلية، كما تجلى فيها ارتباك مروان وخوره وتوانيه في رسم خطة يسير عليها جيشه قبل أن يلتحم في المعركة، وكان لإحجام قواده ومخالفتهم أوامره أسوأ النتائج وأبعد الأثر في هزيمتهم الشاملة، أما «الوليد بن معاوية بن مروان» صهر الجعدي، فقد ذكرتنا حماقته وتهوره بصهر عثمان - رضي الله عنه - وما أبداه من خرق في مخالفة رأيه.
لقد أمر «الجعدي» جيشه ألا يبدأ القتال وقر رأيه على ذلك.
ولكن صهره الأحمق «الوليد بن معاوية» بدأ القتال فحمل على الميمنة فاشتبكت الحرب - على رغم الجعدي - واستعرت فجأة أيما استعار، ونفذ قضاء الله.
وهنا يسرع «مروان الجعدي» بعد أن نفذ السهم فيقول لقضاعة: «احملوا!» فيقولون له: «قل لبني عامر فليحملوا.»
فيرسل إلى «السكون» أن احملوا فيقولون: «قل لغطفان فليحملوا.»
فيقول لصاحب الشرطة: «انزل!» فيجيبه: «والله ما كنت لأجعل نفسي غرضا.»
فيقول له الخليفة متوعدا: «أما والله لأسوءنك».
فيجيبه صاحب الشرطة هازئا: «وددت والله أنك قدرت على ذلك.»
وثم زاد ارتباك مروان، وتعاظم خباله؛ أمام جيش الخراسانيين فكان - كما يقول المؤرخون - لا يدبر شيئا إلا كان فيه الخلل والفساد.
أراد أن يشجع رجال جيشه وهم يقتتلون فأمر بأموال فأخرجت وقال للناس: «اصطبروا وقاتلوا فهذه الأموال لكم.»
فانعكست الآية، وتهافتت فئة منهم على ذلك المال فجعلت تصيب منه.
فلما قالوا له: «إن الناس قد مالوا عن هذا المال، ولا تأمنهم أن يذهبوا به.» أراد أن يتدارك هذا الخطأ، فوقع فيما هو شر منه؛ فقد أرسل إلى ابنه «عبد الله» أن يسير في صحابته إلى مؤخر عسكره فيقتل من أخذ من ذلك المال ويمنعهم! فماذا كانت النتيجة؟
رأى الناس «عبد الله» وقد مال برايته وأصحابه فحسبوهم مولين؛ فصاحوا «الهزيمة»، فكانت الهزيمة الشاملة!
وبمثل هذه التصرفات العجيبة المربكة الخاطئة اندحر الجيش الأموي وانهزم مروان في موقعة «الزاب» شر هزيمة.
قالوا: «وقطع الجسر، فكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل.» (1-3) فرار الخليفة
كذبتم أمير المؤمنين لا يفر.
قالوا: «وانهزم مروان حتى وصل مدينة الموصل، فناداهم أهل الشام «هذا مروان!» فقالوا: كذبتم أمير المؤمنين لا يفر. (1-4) طريق الفرار
ولكن أمير المؤمنين قد فر وأمعن في فراره، فما يكاد يستقر بموضع حتى تداهمه طلائع العدو، فيغادره هاربا إلى موضع آخر.
فر إلى «حران» فأقام بها نيفا وعشرين يوما، ومضى منهزما حتى مر بقنسرين و«عبد الله بن علي» متبع له، ثم هرب مروان إلى «حمص» فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم شخص منها وهو مرعوب منهزم، ومضى حتى مر بدمشق وتركها حتى قدم «فلسطين» وتابع فراره حتى وصل إلى مصر. (1-5) مطاردته في مصر
وجاء كتاب «أبي العباس» يأمر بتوجيه «صالح بن علي» في طلب «مروان»، فسار صالح بن علي في ذي القعدة حتى نزل بالرملة، وسار «صالح» بجيشه حتى نزل ساحل البحر، وتجهز يريد «مروان» الهارب بالفرماء حتى نزل صالح «بالعريش»، فلما علم مروان بذلك أحرق ما كان حوله من علف وطعام وهرب؛ قالوا: «ومضى صالح بن علي فنزل النيل، ثم سار حتى نزل الصعيد، وبلغه أن خيلا لمروان بالساحل يحرقون الأعلاف، فوجه إليهم قوادا؛ فأخذوا رجالا فقدموا بهم على «صالح» - وهو بالفسطاط - فعبر مروان النيل وقطع الجسر وحرق ما حوله، ومضى صالح يتبعه فالتقى - هو وخيل لمروان - على النيل فاقتتلوا، فهزمهم صالح. وهكذا ظل يطارده «صالح» حتى اهتدى إلى مكانه الذي لجأ إليه في كنيسة «بوصير». (1-6) خاتمة مروان: كيف صرع
قالوا: فوافوهم في آخر الليل ، فهرب الجند، وخرج إليهم «مروان» - في نفر يسير - فأحاطوا به.
قالوا: وطعنه رجل من أهل البصرة، وهو لا يعرفه فصرعه فصاح صائح: «صرع أمير المؤمنين».
وابتدروه فسبق إليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه! •••
وهنا يروي لنا بعض المؤرخين رواية أقرب إلى القصص والخيال - وإن كانت غير مستحيلة الوقوع - فيقول: إنهم لما أحضروا رأسه قدام صالح بن علي أمر أن ينفض فانقطع لسانه فأخذه هر وأرسله صالح إلى السفاح وقال:
قد فتح الله الله مصر عنوة بكم
وأهلك الفاجر الجعدي إذ ظلما
وذاك مقوله هر يجرره
وكان ربك من ذي الكفر منتقما
قالوا ولما وصل الرأس إلى السفاح وهو بالكوفة سجد شكرا لله!
هوامش
مصرع مروان ومصرع الدولة الأموية
الأسباب التي أدت إلى ذلك
انتزعت الدولة الأموية الخلافة انتزاعا بفضل دهاء معاوية وانتفاعه باستغلال الظروف، ولم يكد يستقر أمرها حتى قامت أمامها عقبات شتى، ونازعها الملك ثوار قادرون، فلم يكد يخلو عهد واحد من عهودها من فتن وقلاقل.
كان يناوئها الشيعة ودعاة بني العباس والخوارج وأتباع عبد الله بن الزبير والمختار وغيرهم. فلم يكن لخلفائها بد من اليقظة التامة والحذر الدائم، وبهاتين الخلتين استطاع الأقوياء منهم أن يخمدوا نيرانا مستعرة، ما كانوا ليقدروا على إخمادها لولا ما امتازوا به من حكمة وسياسة وما عرفوا به من الانصراف لشئون الملك، وافتنانهم في التنكيل بأعدائهم.
وكان من الطبيعي أن يتربص الموتور بواتره الدوائر، ويتحين الفرص للتنكيل به، ولئن أخفق العلويون والعباسيون في مسعاهم أيام صولة الدولة فقتل من أئمتهم أعلام، ألهب فقدهم قلوبهم حقدا على بني أمية، فما نسوا الثأر لحظة واحدة.
1
وظلوا مثابرين على ذلك حتى أمكنتهم الفرص من عدوهم. (1) تفرق كلمة الأمويين
ذكرنا في موضوع الوليد الثاني، أنه كان إيذانا بمصرع الدولة الأموية الوشيك، ينتقم الوليد من ولدي عمه ومن أنصار هشام له، ويؤلب يزيد الناس على الوليد ملهبا في نفوسهم الحماسة الدينية، رافعا أمامهم علم الثورة حتى إذا تم الأمر ليزيد الناقص
2
أظهر مروان بن محمد الخلاف له، فإذا مات يزيد وولي الخلافة أخوه «إبراهيم» لم يتم له الأمر لاضطراب الأحوال
3
ومناوأة الجعدي له، والحروب التي أشعل نارها ضده وانتهت بهزيمة إبراهيم، فإذا بويع للجعدي ثار عليه أهل حمص، فلا يكاد يخضعهم له حتى يسمع بخلاف أهل الغوطة وحصارهم دمشق، فلا يكاد يهزمهم جيشه حتى يثور أهل فلسطين، فيرسل إليهم من يهزمهم، ثم يشق عصا الطاعة «سليمان بن هشام بن عبد الملك» ويجتمع إليه من أهل الشام عدد كبير، فإذا هزمه مروان هرب سليمان إلى حمص فألب عليه أهلها، فلا يكاد يهزمه مروان حتى يهرب إلى «تدمر».
هكذا تفرقت كلمة بني أمية، واشتغلوا بقتال أنفسهم عن قتال أعدائهم، فلم يصغ مروان الجعدي إلى نصائح نصر بن سيار وتحذيره من استفحال دعوة العباسيين لأنه كان مشغولا بالانتقام من أقاربه وأبناء أسرته. (2) توحيد الدعوة ضد الأمويين
كان من أكبر الطامحين إلى الخلافة أسرتان عظيمتان، الأسرة العلوية والأسرة العباسية، وكان كل منهما يدعو إلى نفسه، وقد فطن العباسيون إلى ما في ذلك من تفرق الكلمة، مع حاجتهم إلى الاتحاد ضد عدوهم المشترك، فأعملوا جهودهم في حل هذه العقدة، حتى وفقوا إلى حيلة عجيبة - كما يقول الأستاذ نيكلسون - واهتدوا إلى نداء شامل تنضوي تحته دعوتا الأسرتين.
فالعلويون أبناء علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم!
والعباسيون أبناء العباس بن عبد المطلب بن هاشم.
فالعباس وعبد المطلب أعمام النبي يلتقيان معه في جدهم هاشم، ففيم الخلاف وتشتيت الكلمة؟ لتكن الدعوة إذن باسم جدهم هاشم. وقد نجح العباسيون في هذه الحيلة حتى إذا أدركوا غايتهم، انفردوا بالأمر وحدهم. (3) أسباب أخرى
بقي هناك أسباب كثيرة أخرى لا يتسع المقام لتفصيلها فلنجتزئ بذكر أهمها، وهي: (1)
توفق العباسيين إلى أبي مسلم الخراساني الذي قام بأكبر قسط في تنشيط الدعوة إلى العباسيين. (2)
ترفع الأمويين عن مخالطة الأجناس الأخرى غير العرب، وإطلاقهم عليهم اسم الموالي، مما يبغضهم فيهم وجعلهم ينضمون إلى مناوئيهم ليتخلصوا من دولتهم المبغضة إليهم. (3)
تغالي الأحزاب المناصرة لآل البيت والشيعة وما تركه شعر دعاتهم من الأثر الديني في نفوسهم (اقرأ شعر الكميت مثلا).
فإذا أضفنا إلى ذلك ما أسلفنا ذكره من الفتن الداخلية: (1)
التي أشعل نارها يزيد ضد الوليد. (2)
التي أشعل نارها مروان الجعدي ضد يزيد. (3)
التي أشعل نارها سليمان بن هشام ضد مروان.
وزدنا على ذلك تخاذل الأمويين في موقعة الزاب وسوء رأي مروان الجعدي وقواده، سهل علينا فهم الأسباب التي أودت بهذه الدولة العظيمة وأزالتها من عالم الوجود.
هوامش
مصرع الأمين
ويا دهر لحاك الله
ما هنأت فرحانك
أبو العلاء
فنخسه واحد بالسيف في خاصرته، وركبوه وذبحوه من قفاه.
المؤرخون (1) حلم الأمين
قال الأمين:
رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء، عريض الأساس، لم أر مثله في الطول ولا في العرض، وعلي سوادي ومنطقتي وسيفي، وكان «طاهر» في أصل ذلك الحائط، فما زال يضربه حتى سقط وسقطت، وطارت قلنسوتي عن رأسي. (2) في أواخر أيامه
وهكذا امتلأت نفس «الأمين» بالهواجس - في يقظته وفي نومه - فأصبح لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار، بعد أن حصره «طاهر» وأخذ عليه الأبواب ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما.
1
وليس أصدق - في تمثيل ما وصل إليه من الرعب والفزع - من هذا الحلم.
على أن «الأمين» قد حاول أن يرفه عن نفسه أو يذهل عن حقيقة موقفه، فلم يستطع إلى ذلك سبيلا، وأبى القدر المحتوم إلا أن يتضافر كل شيء على إزعاجه وتكدير صفوه!
قال إبراهيم بن المهدي: خرج الأمين - ذات ليلة - يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر له بناحية «الخلد» ثم أرسل إلي فحضرت عنده، فقال: «ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء على شاطئ «دجلة»، فهل لك في الشرب؟»
فقلت: «شأنك».
فشرب رطلا، وسقاني آخر، ثم غنيته ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: «ما تقول فيمن يضرب عليك؟» فقلت: «ما أحوجني إليه!»
فدعا بجارية متقدمة عنده اسمها «ضعف».
فتطيرت من اسمها ونحن في تلك الحال، فقال لها: «غني».
فغنت شعر الجعدي:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا
وأيسر جرما منك، ضرج بالدم
فاشتد ذلك عليه، وتطير منه، وقال: «غني لنا غير ذلك.»
فغنت:
أبكي فراقكم عيني، فأرقها
إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم
حتى تفانوا، وريب الدهر عداء
فقال لها: «لعنك الله! أما تعرفين من الغناء غير هذا؟!»
فقالت: «ما تغنيت إلا ما ظننت أنك تحبه.» ثم غنت آخر:
أما ورب السكون والحرك
إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار، وما
دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان عن ملك
قد زال سلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدا
ليس بفان، ولا بمشترك •••
فقال لها: «قومي، غضب الله عليك ولعنك.»
وكان له قدح من بلور حسن الصنعة، وكان موضوعا بين يديه، فتعثرت الجارية به فكسرته، فقال: «ويحك يا إبراهيم! أما ترى ما جاءت هذه الجارية، ثم ما كان من كسر القدح؟ والله ما أظن أمري إلا قد قرب!»
فقلت: «يديم الله ملكك، ويعز سلطانك، ويكبت عدوك.» فما استتم الكلام، حتى سمعنا صوتا:
قضي الأمر الذي فيه تستفتيان .
فقال: «يا إبراهيم أما سمعت ما سمعت؟»
قلت: «ما سمعت شيئا.» وكنت قد سمعت.
قال: «تسمع حسا.»
فدنوت من الشط، فلم أر شيئا، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت بمثله، فقام من مجلسه مغتما إلى مجلسه بالمدينة.
قال: «فما مضى إلا ليلة أو ليلتان حتى قتل!» (3) يوم الوداع
قالوا: ودعا بابنيه، فضمهما إليه، وقبلهما وبكى، وقال: «أستودعكما الله عز وجل.» ودمعت عيناه فمسح دموعه بكمه.
ثم جاء راكبا إلى الشط، فإذا حراقة «هرثمة» فصعد إليها فأحسن هرثمة لقاءه.
وهنا بغتهم أصحاب «طاهر» في الزواريق، فنقبوا الحراقة فغرقت بهم بعد أن رموهم بالآجر والنشاب، وسقط «الأمين» إلى الماء فشق ثيابه؛ حتى خرج إلى الشط حيث قبض عليه. (4) ذلة العزيز
قال من رآه: لما ذهب من الليل ساعة رأيت الباب قد فتح، وأدخلوا الأمين - وهو عريان - وعليه سراويل وعمامة وعلى كتفه خرقة خلقة.
فتركوه معي، فاسترجعت وبكيت فيما بيني وبين نفسي فسألني عن اسمي فعرفته.
فقال: «ضمني إليك فإني لأجد وحشة شديدة.»
قال: «فضممته إلي، وإذا بقلبه يخفق خفقانا شديدا.»
فقال: «يا أحمد ما فعل أخي؟»
قلت: «هو حي.»
قال: «قبح الله بريدهم، كان يقول قد مات!» (وكأنما قال ذلك معتذرا من محاربته)
فقلت: «بل قبح الله وزراءك!»
فقال الأمين: «ما تراهم يصنعون بي، أيقتلونني، أم يفون لي بأمانهم؟»
فقلت: «بل يفون لك.»
وجعل يضم الخرقة على كتفه، فنزعت مبطنة كانت علي، وقلت: «ألق هذه عليك.»
فقال: «دعني، فهذه من الله عز وجل - في هذا الموضع - خير كثير.» فبينما نحن كذلك، إذ دخل علينا رجل، فنظر في وجوهنا فاستثبتها؛ فلما عرفته انصرف، وعلمت أن الأمين مقتول. (5) الساعة الرهيبة: عند منتصف الليل
قال: فلما انتصف الليل - أو قارب - فتح الباب، ودخل الدار قوم من العجم معهم السيوف مسلولة،
2
فلما رآها قام قائما، وجعل يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهبت والله نفسي في سبيل الله، أما من حيلة؟ أما من مغيث؟ أما من أحد من الأبناء؟» •••
وجاءوا حتى وقفوا على باب البيت الذي نحن فيه، وجعل بعضهم يقول للبعض «تقدم» ويدفع بعضهم بعضا
3
وقام الأمين، فأخذ بيده وسادة وجعل يقول: «ويحكم، أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون، الله الله في دمي.» (6) دفاع اليائس
فدخل عليه رجل منهم، فضربه بالسيف ضربة، وقعت في مقدم رأسه، وضربه الأمين بالوسادة على وجهه، وأراد أن يأخذ السيف منه. فصاح. «قتلني! قتلني!» (7) كيف صرع الأمين
وهنا دخل منهم جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته. وركبوه؛ فذبحوه من قفاه. وأخذوا رأسه، ومضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته!
فلما كان السحر، أخذوا جثته فأدرجوها في جل، وحملوها فنصب طاهر الرأس على برج، وخرج أهل بغداد للنظر، وطاهر يقول: «هذا رأس المخلوع محمد.»
4 (8) الأسباب التي أدت إلى مصرعه
أما الأسباب التي أدت إلى هذه الخاتمة المروعة فهي كثيرة تضيق هذه الإلمامة السريعة عن استيعابها غير أننا نذكر منها الأسباب التالية: (1)
نكث الأمين وغدره بأخيه المأمون. (2)
حقد الفضل بن الربيع على المأمون وإلحافه في إغراء الأمين بنقض بيعته. (3)
إهمال علي بن عيسى وغروره بنفسه. (4)
يقظة طاهر وبعد همته.
أضف إلى ذلك عناية المأمون بتخيره قواده وأصحاب الرأي، وإلى تحمس الفرس وتعصبهم للمأمون وما أبداه أنصاره منهم من الاستماتة في نصرته. في حين كان الأمين مخلدا بثقته إلى جماعة من المتملقين وقصار النظر وأصحاب الخلاعة والمجون. (8-1) غدر الأمين
أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهده ونقض ميثاقه واستخف بيمينه ورد رأي الخليفة قبله.
يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك. لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول.
عبد الله بن خازم
5
ولكن الأمين أبى إلا أن يصم أذنيه عن نصيحة الناصحين، وتملكه الطمع في ملك أخيه، والاستسلام إلى الفضل بن الربيع فبدأ بالغدر بأخيه القاسم فعزله ثم تطلع إلى عزل المأمون بعده.
ولقد استشار القواد - واحدا بعد الآخر - فحذروه سوء العاقبة، ولكنه أصر على إنفاذ خطته الخاطئة التي أوردته موارد الحتف، وكانت خير مثل يلقاه الباغي المعتدي. (8-2) الفضل بن الربيع
وعلم أن الخلافة - إن أفضت إلى المأمون يوما وهو حي - لم يبق عليه وكان في ظفره عطبة.
المؤرخون
وهكذا لم يترك الفضل بن الربيع وسيلة من وسائل الإغراء إلا سلكها حتى أقنع الأمين بوجوب الإغارة على ما في يد أخيه من ملك وعزله والدعاء لابنه بدله، كما يقولون.
فقد فكر الفضل بن الربيع - بعد مقدمه من العراق على محمد - أن ينكث بالعهود التي أخذها عليه الرشيد لابنه المأمون.
قالوا: وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما - وهو حي - لم يبق عليه وكان في ظفره به عطبة.
فسعى في إغراء محمد به وحثه على خلعه وصرف ولاية العهد به من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه الوفاء لأخويه عبد الله والقاسم .
قالوا: فلم يزل الفضل يصغر - في عينيه - شأن المأمون ويزين له خلعه. •••
وهكذا بدأ الأمين أخويه بالغدر.
فعزل أخاه القاسم عما وليه من الأعمال وأقدمه إلى بغداد وكتب إلى عماله بالدعاء لابنه موسى. فعلم المأمون أن أخاه يدبر في خلعه، فقطع البريد عنه.
وانضم قوم إلى المأمون فأكرم وفادتهم وأعد عدته لمناضلة أخيه، وبث العيون والأرصاد وعرف كيف يحصن مواقعه ويحتاط للطوارئ.
6 •••
وقد قال أحد شعراء بغداد قصيدة يندد فيها بالأمين ويذكر فيها تشاغله فيه بلهوه وبطانته وركونه إلى الفضل بن الربيع.
أضاع الخلافة غش الوزير
وفسق الإمام وجهل المشير
ففضل وزير وبكر مشير
يريدان ما فيه حتف الأمير
إلى آخر هذه القصيدة التي لا نسمح لأنفسنا بإثباتها في هذا المقام لما فيها من شناعة التعبير.
7 (8-3) علي بن عيسى
أما «علي بن عيسى» فقد عرف كيف يفسر لنا قول صالح بن عبد القدوس:
ما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
فقد كان الظفر له محققا لولا استسلامه للغرور والحمق واستهانته بأمر طاهر، ولم يكن يرتاب أحد في انتصاره، ولكن للقدر تصاريف عجيبة.
ألا ترى إلى «أم جعفر» تعتقد أن أمر المأمون قد انتهى وتتمثل هزيمته كأنها أمر واقع لا سبيل إلى تلافيه، فتشفق من مصيره، وتوصي «علي بن عيسى» الذي عقد له الأمين على خمسين ألف فارس وراجل من أهل بغداد لمحاربة المأمون فتقول له: «يا علي، إن أمير المؤمنين - وإن كان ولدي - إليه تناهت شفقتي وعليه تكامل حذري، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطان.»
ثم تقول: «فاعرف لعبد الله حق والده وإخوته ولا تجبهه بالكلام - فإنك لست نظيره - ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد ولا غل ولا تمنع منه جارية ولا خادم. ولا تعنف عليه في السير ولا تساوه في المسير. ولا تركب قبله ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده.»
قالوا: ثم دفعت إليه قيدا من فضة وقالت: «إن صار في يدك فقيده بهذا القيد.» فقال لها: «سأقبل أمرك وأعمل في ذلك بطاعتك.»
وهكذا يذهب صاحبنا وهو يحسب أنه قد أسر طاهرا أو كاد، ويبدي من صنوف الغرور ما لا قبل لإنسان بوصفه.
فقد كان يقال له: إن طاهرا مقيم بالري يعرض أصحابه ويرم آلته.
فيضحك ثم يقول: «وما طاهر؟ فوالله ما هو إلا شوكة من أغصاني أو شرارة من ناري، وما مثل طاهر يتولى على الجيوش ويلقى الحروب؟»
ثم يلتفت إلى أصحابه قائلا: «والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلا أن يبلغه عبورنا «عقبة همذان»، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد، فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظباة السيوف وأعنة الرماح.» •••
فإذا وصل «علي بن عيسى» إلى «عقبة همذان» استقبل قافلة قدمت من «خراسان» فسألهم عن الخبر فقالوا له: «إن طاهرا مقيم بالري وقد استعد للقتال واتخذ آلة الحرب وإن المدد يترى عليه من خراسان وما يليها من الكور، وإنه في كل يوم يعظم أمره ويكثر أصحابه وإنهم يرون أنه صاحب جيش خراسان.»
فلا يكاد يسمع منهم ذلك حتى يهزأ بأقوالهم ويبدي لهم كل ما يستطيع أن يبديه من صنوف الاحتقار لطاهر وقوته، وإذا بلغ الري وقال له صاحب مقدمته: «لو كنت أذكيت العيون وبعثت الطلائع، وارتدت موضعا تعسكر فيه وتتخذ خندقا لأصحابك يأمنون به كان ذلك أبلغ في الرأي وآنس للجند.»
أجابه صاحبنا هازئا: «ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ، إن حال طاهر تئول إلى أحد أمرين: إما أن يتحصن بالري فيبهته أهلها فيكفونا مؤنته، أو يخليها ويدبر راجعا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه وأتاه يحيى بن علي.»
ويقول له صاحب مقدمته: «اجمع متفرق العسكر واحذر على جندك البيات، ولا تسرح الخيل إلا ومعها كنف من القوم، فإن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار، والثقة أن تحترز، ولا تقل: «المحارب لي طاهر» فالشرارة الخفية ربما صارت ضراما، والثلمة من السيل - ربما اغتر بها وتهون - فصارت بحرا عظيما. وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه في الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا.»
فيجيبه صاحبنا على هذه النصيحة الثمينة المملوءة حكمة وتعقلا وإخلاصا، بقوله الطائش المغرور: «اسكت فإن طاهرا ليس في هذا الموضع الذي ترى، وإنما تتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعد إذا كان المناوئ لها أكفاءها ونظراءها.» •••
وهكذا يمعن صاحبنا في غروره وصلفه واعتداده بنفسه بينما عدوه «طاهر» لا يترك وسيلة من وسائل الحيطة وإحكام الدفاع وترتيب الخطط إلا سلكها، ويأبى القدر إلا أن يعيد لنا حكاية الأرنب والسلحفاة الشهيرة حين تراهنا على السباق إلى غاية، وأهمل الأرنب اعتمادا على قوته، وجدت السلحفاة لتعوض من ضعفها ففازت عليه وسبقته.
8
وقد كان من نتائج هذه المعركة أن قوي بأس المأمون وعز مركزه وتكاثرت عليه وفود المهنئين.
وقد أعلن في ذلك اليوم خلع أخيه ودعا لنفسه بالخلافة في جميع كور خراسان وما يليها.
وأرجف الناس ببغداد وضعف مركز الأمين، وندم أشد الندم على محاربة أخيه وما بدأه به من الغدر.
وعرف قواد الأمين أنه شديد الحاجة إلى اصطناع الرجال فاتفقوا مع الجند على إحداث الشغب ليصطنعهم بالمال، ولا يكاد الجند يشتبكون مع جنود القصر حتى يكفهم الأمين ويأمر لهم بما طلبوه من الأرزاق ويصل قوادهم وخواصهم بما يشتهون، فتكون هذه فاتحة الثورات العديدة التي جلبتها هذه الهزيمة الشنعاء. (8-4) شجاعة طاهر
أما شجاعة طاهر فقد كانت تتمثل في كل مواقفه المشرفة التي تجلت في هذه الحروب الطاحنة، فقد كان يشرف على كل شأن - جل أو حقر - من شئون جيشه، ويتعرف كيف يستميل إليه جنوده ويغري جنود الأعداء بالانضمام إليه.
وكان طاهر لا تلوح له فرصة إلا أسرع إلى انتهازها، وقد رأيت ما أبداه من صنوف الحزم في حربه مع «علي بن عيسى» وليست هذه العجالة بموفية شيئا من مواهبه وميزاته الباهرة. (8-5) نكبة بغداد
ولا يسعنا أن نختم هذه الكلمة دون أن نشير إلى نكبة بغداد - التي اقترنت بمصرع الأمين - فقد لقي أهلها من صنوف العذاب ما لا قبل لإنسان باحتماله، ونحن ندع الوصف إلى شعرائها الذين شهدوا ما حل بها ورأوا بأعينهم ما أصاب أهلها من الروع والفزع.
فمن ذلك قول بعض فتيان بغداد:
بكيت دما على بغداد لما
فقدت غضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموما من سرور
ومن سعة تبدلنا بضيق
أصابتها - من الحساد - عين
فأفنت أهلها بالمنجنيق
فقوم أحرقوا بالنار قسرا
ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي «واصباحا»
وباكية لفقدان الشقيق
وحوراء المدامع ذات دل
مضمخة المجاسد بالخلوق
تفر من الحريق إلى انتهاب
ووالدها يفر إلى الحريق
ينادين: «الشفيق» - ولا شفيق -
وقد فقد الشفيق من الشفيق
وقوم أخرجوا من ظل دنيا
متاعهم يباع بكل سوق
ومغترب قريب الدار ملقى - بلا رأس - بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعا
فما يدرون من أي الفريق
فلا ولد يقيم على أبيه
وقد هرب الصديق بلا صديق
ومن ذلك قول «العتري».
من ذا أصابك يا بغداد بالعين
ألم تكوني - زمانا - قرة العين؟
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم
وكان قربهم زينا من الزين؟
صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا
ماذا لقيت بهم من لوعة البين؟
أستودع الله قوما ما ذكرتهم
إلا تحدر ماء العين من عيني
كانوا، ففرقهم دهر وصدعهم،
والدهر يصدع ما بين الفريقين
وقال آخر
9
في وصف وقعة:
10
وقعة يوم الأحد
صارت حديث الأبد
كم جسد أبصرته
ملقى، وكم من جسد
وناظر كانت له
منية بالرصد
أتاه سهم عاثر
فشك جوف الكبد
وصائح «يا والدي»
وصائح: «يا ولدي»
وكم غريق سابح
كان متين الجلد
لم يفتقده أحد
غير بنات البلد
وكم فقيد بئس
عز على المفتقد
إلى أن قال:
لم يبق في كهل لهم
فات، ولا من أمرد
و«طاهر» ملتهم
مثل التهام الأسد
خيم لا يبرح في ال
عرصة مثل اللبد
تقذف عيناه - لدى ال
حرب - بنار الوقد •••
فقائل: «قد قتلوا
ألفا، ولما يزد»
وقائل: «أكثر، بل
ما لهم من عدد»
وهارب نحوهم
يرهب من خوف غد
ثم قال بعد أبيات:
قلت لمطعون وفي
ه روحه لم تؤد: «من أنت يا ويلك يا
مسكين من محمد؟»
فقال: «لا من نسب
دان، ولا من بلد»
لم أره قط ولم
أجد له من صفد»
وقال: «لا للغي قا
تلت، ولا للرشد
إلا لشيء عاجل
يصير منه في يدي» •••
ولعل أبدع وأحفل قصيدة قرأناها في وصف هذه النكبة المروعة التي حلت ببغداد هي قصيدة «الخزيمي» التي نختتم بها هذا الفصل وهي - على طولها - آية من آيات البلاغة وصدق الشاعرية ودقة الوصف، ونحن نختار منها ما يلي:
جنة دنيا، ودار مغبطة
قل من النائبات واترها
درت خلوف الدنيا لساكنها
وقل معسورها وعاسرها
فانفرجت بالنعيم وانتجعت
فيها بلذاتها حواضرها
فالقوم منها في روضة أنف
أشرق - غب القطان - زائرها
من غرة العيش في بلهنية
لو أن دنيا يدوم عامرها •••
دار ملوك رست قواعدها
فيها، وقرت بها منابرها
أهل العلى والثرى وأندية الفخ
ر، إذا عددت مفاخرها
أفراخ نعمى في إرث مملكة
شد عراها لها أكابره
فلم يزل - والزمان ذو غير -
يقدح في ملكها أصاغرها
حتى تساقت كأسا مثملة
من فتنة، لا يقال عاثرها
وافترقت - بعد ألفة - شيعا
مقطوعة بينها أواصرها
يا هل رأيت الأملاك ما صنعت
إذ لم يزعها بالنصح زاجرها
أو رد أملاكنا نفوسهم
هوة غي أعيت مصادرها
ما ضرها لو وفت بموثقها
واستحكمت - في التقى - بصائرها
ولم تسافك دماء شيعتها
وتبتعل فتنة تكابرها
وأقنعتها الدنيا التي جمعت
لها ورغب النفوس ضائرها
إلى أن يقول:
يا هل رأيت الجنان زاهرة
يروق عين البصير زاهرها؟
وهل رأيت القصور شارعة
تكن مثل الدمى مقاصرها؟
وهل رأيت القرى التي غرس الأم
لاك مخضرة دساكرها؟
فإنها أصبحت خلايا من الإن
سان، قد ميت محاجرها
ففرا خلا تعوي الكلاب بها
ينكر منها الرسوم داثرها
وأصبح البؤس ما يفارقها
إلفا لها والسرور هاجرها
ثم يقول بعد أبيات:
فأين حراسها وحارسها؟
وأين مجبورها وجابرها؟
وأين خصيانها وحشوتها؟
وأين سكانها وعامرها؟
أين الجرادية الصقالب والأح
بش تعدو هدلا مشافرها
ينصدع الجند عن مواكبها
تعدو بها سربا ضوامرها
بالسند والهند والصقالب والنو
بة، شيبت بها برابرها
طيرا أبابيل أرسلت عبثا
يقدم سودانها أحامرها؟ •••
أين الظباء الأبكار في روضة المل
ك تهادي بها غرائرها
أين غضاراتها ولذتها؟
وأين محبورها وحابرها؟
المسك والعنبر اليماني والأذ
جوج مشبوبة مجامرها؟
يرفلن في الخز والمجاسد والمو
شى مخطومة مزامرها
فأين رقاصها وزامرها
يجبن حيث انتهت حناجرها
تكاد أسماعهم تسل إذا عا
رض عيدانها مزامرها؟
أمست «كجوف الحمار» خالية
يسعرها بالجحيم ساعرها
كأنما أصبحت بساحتهم
عاد ومستهم صراصرها؟
لا تعلم النفس ما يبايتها
من حادث الدهر أو يباكرها
إلى أن يقول:
يا بؤس بغداد دار مملكة
دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الدهر، ثم عاقبها
لما أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبالحر
ب التي أصبحت تساورها
حلت ببغداد - وهي آمنة -
داهية لم تكن تحاذرها
طالعها السوء من مطالعه
وأدركت أهلها جرائرها
رق بها الدين واستخف بذي
الفضل وعز النساك فاجرها
وخطم العبد أنف سيده
بالرغم واستعبدت مخادرها
وصار رب الجيران فاسقهم
وابتز أمر الدروب ذاعرها
من ير بغداد والجنود بها
قد ربقت حولها عساكرها
ثم يقول بعد أبيات:
بحرقها ذا، وذاك يهدمها
ويشتفي بالنهاب شاطرها
والكرخ أسواقها معطلة
يستن عيارها وعائرها
أخرجت الحرب من سواقطها
آساد غيل غلبا تساورها •••
لا الرزق تبغي ولا العطاء، ولا
يحشرها للقاء حاشرها
ثم يقول بعد أبيات:
والنهب تعدو به الرجال، وقد
أبدت خلاخيلها حرائرها
معصوصبات وسط الأزقة، قد
أبرزها للعيون ساترها
كل رقود الضحى مخبأة
لم تبد في أهلها محاجرها
بيضة خدر مكنونة برزت
للناس منشورة غدائرها
تعثر في ثوبها، وتعجلها
كبة خيل زيعت حوافرها
تسأل: «أين الطريق؟» والهة
والنار من خلفها تبادرها
لم تجتل الشمس حسن بهجتها
حتى اجتلتها حرب تباشرها •••
يا هل رأيت الثكلى مولولة
في الطرق تسعى، والجهد باهرها؟
في إثر نعش عليه واحدها
في صدره طعنة يساورها
تنظر في وجهه، وتهتف بالثك
ل، وعز الدموع خامرها
غرغر بالنفس، ثم أسلمها
مطلولة، لا يخاف ثائرها •••
وهل رأيت الفتيان في عرصة
المعرك معقورة مناخرها؟
كل فتى مانع حقيقته
تشقى بها في الوغى مساعرها
باتت عليه الكلاب تنهشه
مخضوبة من دم أظافرها
أما رأيت الخيول جائلة
بالقوم منكوبة دوائرها
تعثر بالأوجه الحسان من القت
لى، وغلت دما أشاعرها
يطأن أكباد فتية نجد
تفلق هاماتهم حوافرها •••
أما رأيت النساء تحت المجاني
ق تعادي شعثا ضفائرها
يحملن قوتا من الطحين على الأ
كتاف معصوبة معاجرها
وذات عيش ضنك ومقعسة
تشدخها صخرة تعاورها
تسأل عن أهلها، وقد سلبت
وابتز عن رأسها غفائرها
إلى أن يقول:
هل ترجعن أرضنا كما غنيت
وقد تناهت بنا مصائرها
وهكذا إلى آخر هذه القصيدة الرائعة.
هوامش
مصرع المتوكل
ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم، أخذ مجلسه، ودعا بالندماء والمغنين وأخذ في الشراب واللهو، ولهج يقول: «أنا والله مفارقكم عن قليل!
الطبري
لا أذكر مصرع المتوكل
1
دون أن أتمثل معه سوء التصرف، والإسراف في الحذر وسوء الظن وما جناه ذلك عليه من البوار والتلف.
لقد جنى المتوكل على نفسه، وأمعن في الإساءة إلى ابنه المنتصر، ولم يدع فرصة للزراية عليه والتهكم به إلا انتهزها!
لقد أحس قلبه أن مصرعه سيكون على يد ابنه وفلذة كبده، ونما فيه هذا الإحساس حتى أصبح يقينا.
وللنفس أحوال تظل كأنها
تشاهد فيها كل غيب سيشهد
وثم أصبح لا يطيق رؤية هذا الولد العاق الذي لا يراه إلا تمثل فيه شبح الجلاد!
وهكذا صدق المثل القائل: إن من خشي العفريت لم يلبث أن يراه.
شعر المتوكل أن ابنه المنتصر هو قاتله، ومثل اسمه في ذهنه «المنتظر» فأصبح لا يناديه بغير هذا اللقب، وكثيرا ما قرعه وأهانه وسلط عليه من يؤذيه ويصفعه من أتباعه، وربما صارحه بما يجنه لهذا الابن من الاحتقار والمقت، وربما قال له إنه لا يطيق أن يرى أمامه قاتلا يتربص الفتك به، وما أكثر ما استفزه وأمعن في إيلامه امعانا.
قالوا: وكان يقول له: أنت تتمنى موتي وتنتظر وقتي!
ثم يأمر الندمان أن يعبثوا به. (1) أسباب الخلاف والكره
قال ابن خلدون: (1)
كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر، ثم ندم وأبغضه، لما كان يتوهم منه استعجاله الأمر لنفسه. وكان يسميه «المنتظر» «والمستعجل» لذلك. (2)
وكان المنتصر ينكر عليه انحرافه عن سنن سلفه فيما ذهبوا إليه من مذهب الاعتزال والتشيع لعلي! وربما كان الندمان في مجلسه يفيضون في ثلب علي! فينكر المنتصر ذلك ويتهددهم ويقول للمتوكل: «إن عليا هو كبير بيتنا، وشيخ بني هاشم، فإن كنت لا بد ثالبه، فتول ذلك بنفسك، ولا تجعل لهؤلاء سبيلا إلى ذلك!» (3)
فيستخف به ويشتمه، ويأمر وزيره «عبيد الله» بصفعه، ويتهدده بالقتل، ويصرح بخلعه. (4)
قالوا: وربما استخلف غيره في الصلاة والخطبة مرارا، وتركه! فطوى من ذلك على النكث. (2) نتائج الحقد
وكأنما كان يوحي إليه - بمثل هذه الأعمال - أن يحقق هذه النبوءة المروعة، ويرسم له - بما يأتيه من تلك الحماقات المتوالية - خطة ممهدة واضحة السبيل للفتك به، بعد أن أثبت في روعه أن حينه لن يكون إلا على يديه. وقد أفلح المتوكل في ذلك، وانتهى به الأمر إلى إيغار صدره، وإثارته لمناوأته والفتك به. (3) الليلة الأخيرة
جاءت ليلة الأربعاء (3 شوال سنة 247ه) وكان المتوكل يشرب مع الفتح
2
في قصره المعروف بالجعفري، ومعه جماعة من الندماء والمغنين.
قالوا: ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم، وقد أخذ مجلسه،
3
ودعا بالندماء والمغنين، وأخذ في الشراب واللهو ولهج يقول: «أنا والله مفارقكم عن قليل.» (4) كيف صرع
بعد العتمة بساعة أغلقت الأبواب كلها، إلا باب الماء - الذي دخل منه القتلة - وكان المتوكل حينئذ ثملا!
وجاء غلام تركي اسمه «باغر» فضرب المتوكل ضربة، قطع بها حبل عاتقه! (5) وفاء صديقين
وليس يسعنا أن نمر بهذا الموضوع دون أن يطيف بخاطرنا ثلاثة أمور: إخلاص الفتح بن خاقان في هذه الساعة الحرجة. ووفاء البحتري له وفاء أذهله عن كل احتياط، وكاد يكون سببا في إهلاكه. وعقوق ابنه المنتصر، الذي اشترك في قتل أبيه؛ فأما الفتح بن خاقان فإنه أسرع إلى سيده حين رآه مضرجا بدمائه، ورمى بنفسه عليه، وقال: «ويلكم تقتلون أمير المؤمنين؟» فبعجوه بسيوفهم فقتلوه!
وأما البحتري، فرثاه بقصيدته الخالدة التي نعدها من أروع ما قرأناه في الرثاء، ونرى فيها مثلا من أعلى أمثلة الإخلاص والوفاء وقد ختمنا بها هذا الفصل، وأما المنتصر، فإن مدته في الخلافة لم تطل. ولم تزد على ستة أشهر.
قالوا: «وهي مدة شيرويه بن كسرى بعد أن قتل أباه!» (6) قصيدة البحتري
وإلى القارئ قصيدة البحتري الفذة، التي صرح فيها - كما يقول الثعالبي - تصريح من أذهلته المصائب عن تخوف العواقب، قال:
تغير حسن الجعفري وأنسه
وقوض بادي الجعفري وحاضره
تحمل عنه ساكنوه فجاءة
فآضت سواء دوره، ومقابره
ولم أر مثل القصر إذ ريع سربه
وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره
وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت
على عجل أستاره وستائره
إذا نحن زرناه أجد لنا الأسى
وقد كان قبل اليوم يبهج زائره
فأين عميد الناس في كل نوبة
تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره؟
تخفى له مغتاله تحت غرة
وأولى لمن يغتاله لو يجاهره
صريع تقاضاه السيوف حشاشة
يجود بها، والموت حمر أظافره •••
حرام على الراح - بعدك - أو أرى
دما بدم يجري على الأرض مائره
وهل يرتجى أن يطلب الدم طالب
مدى الدهر والموتور بالدم واتره
فلا ملي الباقي تراث الذي مضى
ولا حملت ذاك الدعاء منابره!
هوامش
مصرع المعتز
ثم أدخلوه سردابا وجصصوه عليه فمات.
المؤرخون (1) سبب مصرعه
قالوا: «إن الأتراك طلبوا منه
1
أرزاقهم فلم يكن عنده مال يعطيهم، فأرسل إلى أمه يسألها مالا، فقالت له: «ما عندي شيء.»
قالوا: فاتفق الأتراك والمغاربة والفراعنة على خلع المعتز، فساروا إلى بابه فقالوا: «اخرج إلينا.»
فقال: «قد شربت أمس دواء، وقد أفرطت في العمل، فإن كان لا بد من الاجتماع فليدخل بعضكم إلي.» (2) كيف صرع
فدخل إليه جماعة منهم فجروه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأقاموه في الشمس.»
فكان - كما يقول المؤرخون - يرفع رجلا ويطوي أخرى لشدة الحر.
وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وأدخلوه حجرة وأحضروا القاضي
2
وجماعة فأشهدوهم على خلعه.
ثم سلموا المعتز إلى من يعذبه، ومنعوه الطعام والشراب ثلاثة أيام ثم أدخلوه سردابا وجصصوه عليه فمات، ودفنوه بسامرا مع المنتصر.
هوامش
نامعلوم صفحہ