إلمامة
مصرع عبد الله بن الزبير
مصرع مصعب بن الزبير
مصرع الحسين
مصارع الخوارج
مصرع عبد الرحمن بن الأشعث
مصرع سعيد بن جبير
مصرع أبي مسلم الخراساني
إلمامة
مصرع عبد الله بن الزبير
مصرع مصعب بن الزبير
مصرع الحسين
مصارع الخوارج
مصرع عبد الرحمن بن الأشعث
مصرع سعيد بن جبير
مصرع أبي مسلم الخراساني
مصارع الأعيان
مصارع الأعيان
تأليف
كامل كيلاني
كلمة
بقلم سليم قبعين
عني المستشرقون والمستعربون الغربيون بجمع شتات اللغة العربية وأوابدها وتاريخها الحافل، فلم يدعوا شاردة ولا واردة إلا زفوها بثوب قشيب نسجت خيوطه من الأبحاث الدقيقة والتنقيب المتواصل. ووجهوا التفاتهم إلى أقطاب العلم عندنا، وذكروا سير حياتهم وأقوالهم وما فيها من عبر وعظات بالغة.
وقد رأت الأمم التي تبوأت أريكة العلم أن من دواعي فخرها ومجدها وسؤددها إحياء ذكرى رجالها الغابرين الذين مثلوا أدوارا هامة في الحياة الاجتماعية - على اختلاف منازعها ومراميها - فوضعوا كتبا قيمة سردوا فيها سير أولئك الأمجاد الذين تركوا لهم أسمى ذكر في التاريخ.
وكان الأولى بنا نحن سلالة أبناء يعرب وقحطان أن ننسج على هذا المنوال، ونجمع سير رجالنا العظام وأقوالهم الحكيمة ونزفها لأبناء هذا العصر ليعتبروا بعبرها ويقفوا على ما كان عليه أسلافهم من المجد والعلم والبطولة. وقد رأينا أن نسد هذا الفراغ فطلبنا إلى حضرة الكاتب اللوذعي الأستاذ كامل أفندي كيلاني المتخصص بالأدب العربي أن يجمع لنا طائفة طيبة من تاريخ أعيان العرب ومصارعهم. •••
ومن عرف كامل أفندي كيلاني وطالع كتبه المختلفة، كالأدب الأندلسي ورسالة الغفران ومصارع الخلفاء، وديوان ابن الرومي، ومختار القصص وقصص الأطفال وغيرها، يثق بأن مجموعته ستكون أنفس مجموعة من نوعها من حيث الدقة وحسن الأسلوب وروعة البيان.
ولعلنا نقوم بذلك ببعض الواجب المطلوب منا للأدب العربي وللشرق والشرقيين وهذا حسبنا وكفى.
إلمامة
1
قلت في كتاب مصارع الخلفاء:
ليس أروع للنفس من تمثل مصارع الناس، والاستماع إليهم في ساعاتهم الأخيرة وتعرف ما قالوه - وقت حلول الأجل - وآخر ما تفوهوا به من الكلم قبل أن يفارقوا هذا العالم - خيره وشره - فراقا أبديا لا عودة لهم بعده.
واذا كان هذا هو شعورنا بجلال الموت وروعته، فلا جرم أنه يعظم ويزداد - إلى أقصى حد - حين يقترن بعظمة الملك وأبهته.
وليس أشجى للنفس من تمثل مصرع خليفة أو قائد كبير أو شاعر عظيم من أولئك الذين تركوا في هذا العالم أكبر أثر، ونقشوا في تاريخه صفحات لا يمحوها الزمن.
ولعل خير ساعة يستعرض فيها المتأمل تاريخ حياة إنسان هي ساعة احتضاره، فإنه ليرى - حينئذ - أمام كل صورة من صور الضعف صورة أخرى من صور القوة، ويلمح بجانب تلك الصور المشجية الحزينة ما يقابلها من الصور الماضية البسامة المشرقة.
2
وقد كانت هذه التأملات - هي الباعث الأول الذي حداني - كما قلت في تلك المقدمة لإخراج كتاب «مصارع الخلفاء» أولا وكتاب «مصارع الأعيان» الذي بين أيدي القراء الآن.
وقد حاولت جهدي - كما ذكرت - أن أدون فيهما طائفة من أروع المشاهد التي ذكرها لنا التاريخ، كما حاولت أن أرسم في ذهن القارئ صورا واضحة مشرقة بالحياة، ولعلي وفقت - في هذه المحاولة - بعض التوفيق. •••
وقد سلكت في هذا الكتاب نهج سابقه متوخيا الإيجاز الشديد في عرض حوادثه وتعليلها، فأنا أعرف زهد الكثيرين وعزوفهم عن قراءة التاريخ المطول، وأعلم - إلى ذلك - أنني إذا أفلحت في تحبيب التاريخ إلى نفوس بعض النافرين منه، بنشر مثل هذه الصور الرائعة التي تركها لنا المؤرخون، فقد أدركت غاية من أجل الغايات التي أسعى إلى تحقيقها. •••
وقد لقي كتاب «مصارع الخلفاء» من عطف القراء وإقبالهم ما فاق كل ما قدرته له، وألح علي الكثيرون - وفي مقدمتهم حضرة الصحفي القدير ناشر الكتاب الذي أشكر له حسن ظنه بأدبي - أن أسرع بإنجاز هذا الكتاب، وأنا أشكر لحضرات القراء إقبالهم وتشجيعهم، كما أشكر لصديقي الأستاذ سليم قبعين عنايته بإظهار هذا الكتاب في أحسن مظهر، وحسن ظنه بصاحبه، وأرجو أن لا تكون حالي معه كما يقول الحريري:
لقد استسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم.
ولا كما يقول المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
على أنني بذلت جهد المقل، ولم يثنني عن إظهار هذا الكتاب ضيق الوقت وازدحامه بما تنوء به صحتي المعتلة وبنيتي الضعيفة من الأعباء المرهقة، متأسيا بقول الطغرائي: «ولولا تكاليف العلى ومغارم
ثقال وأعقاب الأحاديث في غد
لأعطيت نفسي في التخلي مرادها
فذاك مرادي - مذ نشأت - ومقصدي»
كامل كيلاني
مصرع عبد الله بن الزبير
فجاءه حجر من حجارة المنجنيق وهو يمشي فأصاب قفاه فسقط.
المؤرخون (1) الليلة الأخيرة
جمع القرشيين في الليلة التي قتل في صبيحتها فقال لهم: «ما ترون؟»
فقال رجل منهم: «والله لقد قاتلنا معك حتى ما نجد مقاتلا! والله لئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت معك. إنما هي إحدى خصلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا ولك، وإما أن تأذن لنا فنخرج!»
فقال عبد الله: «قد كنت عاهدت الله ألا يبايعني أحد فأقيله بيعته.»
فقال رجل آخر: «اكتب إلى عبد الملك.»
فأجابه: «كنت أكتب إليه: «من عبد الله أمير المؤمنين» فوالله لا يقبل هذا مني أبدا. أو أكتب إليه: «لعبد الله أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟»
1
فوالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إلي من ذلك!»
حواره مع أخيه
فقال «عروة» أخوه: «يا أمير المؤمنين، قد جعل الله لك أسوة.»
فقال له: «من هو أسوتي؟»
قال: «الحسن بن علي بن أبي طالب، خلع نفسه وبايع معاوية.»
قالوا: فرفع عبد الله بن الزبير رجله وضرب «عروة» حتى ألقاه، ثم قال: «يا عروة، قلبي إذن مثل قلبك؟ والله لو قبلت ما تقولون ما عشت إلا قليلا وقد أخذت الدنية، وما ضربة بسيف إلا مثل ضربة بسوط! لا أقبل شيئا مما تقولون.» (2) في اليوم الأخير
فلما أصبح دخل على بعض نسائه فقال: «اصنعي لي طعاما.»
فصنعت له كبدا وسناما، فأخذ منها لقمة فلاكها ساعة ثم لم يسغها، فرماها.
وقال: «اسقوني لبنا.» فأتي بلبن فشرب، ثم قال: «صبرا علي غسلا.»
فاغتسل، ثم تحنط وتطيب. ثم تقلد سيفه وخرج وهو يقول:
ولا ألين لغير الحق أسأله
حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
حواره مع أمه
ثم دخل على أمه «أسماء بنت أبي بكر الصديق» - وهي عمياء من الكبر قد بلغت من السن مائة سنة - قالوا: فدخل عليها وسلم، فقالت: «من هذا؟» فقال: «عبد الله.» ثم قال: «ما ترين؟ قد خذلني الناس، وخذلني أهل بيتي!»
فقالت: «يا بني، لا يلعبن بك صبيان بني أمية، عش كريما ومت كريما!»
فقال لها: «إن الحجاج قد أمنني.»
قالت: «يا بني، لا ترض الدنية؛ فإن الموت لا بد منه.»
قال: «إني أخاف أن يمثل بي!»
قالت: «إن الكبش إذا ذبح لا يؤلمه السلخ!»
ساعة المصرع
قالوا: فخرج، فأسند ظهره إلى الكعبة - ومعه نفر يسير - فجعل يقاتل بهم أهل الشام، فهزمهم وهو يقول: «ويل أمه، فتح لو كان له رجال.»
فجعل «الحجاج» يناديه: «قد كان لك رجال، ولكنك ضيعتهم.»
قالوا: «فجاءه حجر من حجارة المنجنيق - وهو يمشي - فأصاب قفاه فسقط.» فما درى أهل الشام أنه هو حتى سمعوا جارية تبكي وتقول: «وا أمير المؤمنين!» فاحتزوا رأسه، فجاءوا به إلى الحجاج، فبعث به إلى عبد الملك. (3) الأسباب التي أدت إلى مصرعه
إن فيه لثلاث خصال، لا يسود بها أبدا: (1)
عجب قد ملأه. (2)
واستغناء برأيه. (3)
وبخل التزمه.
فلا يسود بها أبدا.
عبد الملك بن مروان
لا نستطيع أن نصف أسباب انكسار ابن الزبير وقتله بأكثر من هذه الخلال التي لا ينال صاحبها نجاحا، فقد أفقدته هذه الصفات كل أنصاره وأضاعت منه فرصا ثمينة، لو انتهزها لعرف كيف يثبت ملكه ويوطد أسس خلافته.
فقد لاحت لعبد الله بن الزبير فرصة لا تعوض، وهي موت خصمه اللدود «يزيد» وبدأت الأمور تضطرب حين تنازل خلفه معاوية عن الخلافة بعد أن لبث فيها أياما.
وكاد يتم الأمر لعبد الله بن الزبير - رغم مناوأة مروان الذي نازعه الأمر - وكانت كفة ابن الزبير في البداية راجحة، فقد بايعه أهل البصرة وأهل مصر واجتمعت له العراق والحجاز واليمن وبايع له بعضهم في الشام سرا. ثم أصبح الناس في الشام فرقتين: اليمانية مع مروان، والقيسية مع دعاة ابن الزبير.
وتهاون ابن الزبير في الأمر واستنام لأعدائه، فانتصر الفريق الأول - بعد قتال - ودخل مروان دمشق دخول الظافر.
ولما مات مروان لاحت لعبد الله بن الزبير فرصة أخرى، فلم ينتهزها وأضاعها بتوانيه وبخله. ولقد صدق الحجاج في قولته المشهورة:
قد كان لك رجال ولكنك ضيعتهم.
وصدق عبد الملك بن مروان في قولته التي صدرنا بها هذا الفصل، حين هدده مصعب بن الزبير بأخيه عبد الله، فأجابه عبد الملك بهذه الجملة التي تلخص لنا أخلاق عبد الله بن الزبير، وتشرح لنا - بأوجز عبارة - السر في انهزامه وانفضاض الناس من حوله وانتصار خليفة أموي عليه - رغم كره جمهرة الناس ومقتهم الأمويين - لاعتقادهم أنهم أخذوا الخلافة اغتصابا، وقتلوا الحسين بن علي كما جنوا على أبيه، وأوقدوا نيران الفتن التي أودت بكثير من أجل المسلمين وكبار رجالهم المعدودين.
ولقد قال عبد الملك وهو على فراش الموت: «ما أعلم أحدا أقوى على الخلافة مني؛ إن ابن الزبير لطويل الصلاة كثير الصيام، ولكنه لبخله لا يصلح للسياسة.» •••
والحق أن الفرق بين عبد الملك وبين ابن الزبير عظيم جدا، نوجزه في أن عبد الملك أقام ملكا ثابتا على أنقاض مهدمة، وفي وسط فتن وقلاقل، حينما هدم ابن الزبير ملكا وطيدا بتهاونه وإضاعة الفرص الثمينة التي مرت به. كان عبد الملك لا يتعفف عن كبيرة في سبيل توطيد ملكه، وكان خصمه عبد الله بن الزبير يتحرج من كل ما يظن فيه أية مخالفة.
ألا ترى أن عبد الملك يظهر لعمرو بن سعيد أنه يرضى بالصلح معه على أن يعهد إليه بالخلافة من بعده، فيفرح ابن سعيد بذلك ويقبل الصلح، ثم يخدعه عبد الملك فيقتله غدرا،
2
ثم يلقي برأسه إلى شيعته وصحبه ومعها دنانير ودراهم ليشغلهم بها، ويمنيهم بالوعود الخلابة فينسيهم بهذه الرشا ثأر صاحبهم؟
فقد كان عبد الملك - كأكثر خلفاء بني أمية - جوادا سمحا يغدق المال إغداقا في سبيل تحقيق مآربه، ويبذل الوعود الكاذبة والأماني المعسولة ليظفر بغايته، غير متورع عن كذب ولا مداهنة، مستهينا بكل وسيلة - مهما كانت مرذولة - في سبيل إدراك أوطاره. وكان عبد الله بن الزبير كأخيه «مصعب بن الزبير»
3
بخيلا، لا يستميل الجنود بمال، ولا يغريهم بوعد كاذب.
كان عبد الملك - كمعاوية - يعتقد ضعف مركزه الشرعي فلا يترك وسيلة لتثبيته وتوثيق أساسه.
وكان عبد الله بن الزبير - كعلي بن أبي طالب - يعتقد أنه على حق فلا يعنى بالحيل السياسية، واهما أن الحق منتصر وحده، دون أن يفتقر إلى مداورة أو خداع.
لقد كان عبد الملك يقتدي بمعاوية في بذل المال واستخدامه في قضاء أغراضه، لتيقنه من سحره العجيب في تذليل العقبات، وتسهيل الصعاب.
وكثيرا ما اقتدى بعبد الملك عماله في استخدام المال في تذليل المستحيلات. •••
ألا ترى إلى الحجاج - وهو يحاصر الكعبة، وفيها عبد الله بن الزبير - فيأمر رجاله أن يرموها بالمنجنيق، فيحجمون، فإذا رأى ترددهم جاء بكرسي وجلس عليه وقال: «يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات عبد الملك.»
فلا يكادون يسمعون منه ذلك حتى يسرعوا إلى تلبية أمره إسراعا. •••
لقد أغفل عبد الله استخدام المال - كما أسلفنا - واكتفى بأن يعلم أنه محبوب من الناس، وأن أعداءه الأمويين مبغضون إليهم، وأنه في جانب الحق والأمويون في جانب الباطل.
ونسي أن الباطل إذا تعهده المبطل وقوى دعائمه وثبت أركانه تغلب - ولو إلى حين - على الحق الذي أهمله صاحبه واستهان بنصرته ولم يعن بتدعيمه.
ومن رعى غنما في أرض مأسدة
ونام عنها، تولى رعيها الأسد
لقد كان عبد الله بن الزبير شجاعا مقداما لا يهاب الموت، ولكن ماذا تجديه الشجاعة أمام الدهاء السياسي والحيل العجيبة التي كان يلجأ إليها أعداؤه؟
والرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول، وهي المحل الثاني (4) حصار مكة
حاصرت جنود يزيد مكة وقذفت الكعبة بالحجارة والصخور ثم أحرقتها وحطمت الحجر الأسود، ومات يزيد فاضطر جنوده - بقيادة الحصين - إلى الرجوع إلى بلادهم مدة من الزمن، حتى إذا انقضت الفوضى وقمعت الاضطرابات وأخضع عبد الملك البلاد إخضاعا وجه الحجاج إلى مكة لمحاصرة عبد الله بن الزبير ففعل.
قال العلامة دوزي : «ذهب الحجاج إلى تلك البقاع المقدسة وحاصر المدينة
4
وطفق يرمي الكعبة بالصخور والحجارة ليدكها دكا.
وبينما كان يقذفها بالنار - ذات يوم - هبت عاصفة شديدة فأحرقت النار اثني عشر جنديا.» قال: فرأى الجيش في ذلك عقابا من الله على انتهاك حرمة ذلك المكان المقدس فأحجم رجال الحجاج وكفوا عن ذلك. وثمة اغتاظ الحجاج وخلع بعض ملابسه وتقدم من المنجنيق فأخذ بيده حجرا ووضعه فيه ثم أطلقه بعد ذلك وهو يقول: «لقد أخطأتم الفهم، فليس معنى ما حدث هو ما دار بإخلادكم. ألا إنني جد خبير بطبيعة هذه البلاد التي نشأت فيها وربيت، ولكم رأيت لهذه العاصفة من أشباه!»
قال: «وظل يشدد الحصار عليها عدة أشهر حتى فتحها بعد أن قتل عبد الله بن الزبير سنة 932م.» •••
وحسب القارئ أن يعرف أن خصم عبد الله بن الزبير هو الحجاج ليدرك حرج الموقف وصعوبته، ونحسبنا في غير حاجة إلى وصف الحجاج. بعد أن وصفه الفرزدق بقوله:
ومن يأمن الحجاج - والجن تتقي
عقوبته - إلا ضعيف عزائمه
وقد رأى القارئ كيف أغرى الحجاج جنوده بالمال وأطمعهم في أعطيات عبد الملك ليشجعهم على اقتحام هذه البقاع المقدسة ودكها دكا.
وقد انتهت المعركة الفاصلة بهلاك عبد الله بن الزبير وانتصار الأمويين عليه كما رأيت.
هوامش
مصرع مصعب بن الزبير
فجاء غلام فضربه بالسيف فقتله.
قالوا: «إن عبد الملك لما أيس من مصعب كتب إلى أناس من رؤساء أهل العراق يدعوهم إلى نفسه ويجعل لهم أموالا عامة وشروطا وعهودا ومواثيق وعقودا.»
قالوا: وكتب إلى «إبراهيم بن الأشتر» يجعل له وحده مثل ما جعل لأصحابه على أن يخلعوا عبد الله بن الزبير إذا التقوا.
فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: «إن عبد الملك قد كتب إلي هذا الكتاب وكتب لأصحابي كلهم «فلان» و«فلان» بذلك. فادع بهم - في هذه الساعة - فاضرب أعناقهم واضرب عنقي معهم.»
فقال مصعب: «ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي ذلك من أمرهم.»
قال إبراهيم: «فأخرى.»
قال: «وما هي؟»
قال: «احبسهم في السجن حتى يتبين لك ذلك .»
فأبى، فقال له إبراهيم بن الأشتر: «عليك السلام ورحمة الله وبركاته ولا تراني - والله - بعد في مجلسك هذا أبدا.»
وقد كان قال له قبل ذلك: «دعني أدعو أهل الكوفة بدعوة لا يخلعونها أبدا. وهي ما شرطه الله.»
فقال له مصعب: «لا والله لا أفعل. لا أكون قتلتهم بالأمس وأستنصر بهم اليوم.»
قال: «فما هو إلا أن التقوا، فحولوا برءوسهم ومالوا إلى عبد الملك بن مروان فبقي مصعب في شرذمة قليلة.»
فجاءه «عبد الله بن ظبيان» فقال: «أين الناس أيها الأمير؟»
فقال «غدركم يا أهل العراق.»
قال: فرفع «عبد الله» سيفه ليضربه. فبدره «مصعب» بالسيف على البيضة، فنشب فيها. فجعل يقلب السيف ولا ينتزع من البيضة. قال: فجاءه غلام «لعبيد الله بن ظبيان» فضرب مصعبا بالسيف فقتله. ثم جاء «عبيد الله» برأسه إلى عبد الملك يدعي أنه قتله. قالوا: فطرح رأسه وقال:
نطيع ملوك الأرض ما قسطوا لنا
وليس علينا قتلهم بمحرم
ثم وقع عبد الملك ساجدا.
1
الأسباب التي أدت إلى مصرعه
لعل القارئ يستغني بتلك القطعة السابقة عن شرح الأسباب التي أدت إلى هلاك مصعب بن الزبير، فهي في اعتقادنا كافية لشرح أخلاقه وإظهار سر هزيمته. فأنت ترى عبد الملك لا يتعفف عن بذل المال وإغداقه على جنود أعدائه ليستميلهم به، وقد رأيت أن مصعبا كان بخيلا على الجند - وإن كان مسرفا على نفسه - حتى قال فيه القائل:
بضع الفتاة بألف ألف كامل
وتبيت سادات الجنود جياعا
وأنت ترى مصعبا لا يأخذ الأمور بالحزم وقوة الشكيمة، ولا يتلافى الشر من أوله؛ فهو يتعرف من صديقه سر المؤامرة التي دبرها له أعداؤه ثم يأبى أن يعد لها ما هو جدير بإعداده من وسائل وقوى.
ويطلب إليه صديقه أن يستنجد بأهل الكوفة - وهو في مثل هذا المأزق الحرج - فلا يقبل له قولا.
وإذا كانت هذه حاله وهو يجابه أشد ساعات حياته هولا وضيقا، فكيف به في أيام رخائه وسلمه؟
وإذا كان غيره يأخذون الأبرياء بالظنة، أفما كان جديرا أن يفحص هذه التهمة ويتعرف صدقها من كذبها على الأقل؟ ولكنه لم يفعل، بل فرط وتهاون فلقي جزاء تهاونه وتفريطه. •••
وقد قلنا في الفصل السابق إن الفرق بين السياستين عظيم جدا، وإن سياسة عبد الملك وأضرابه مبنية على الدهاء والإيقاع وبذل الرشا والمال، حينما نرى سياسة مصعب بن الزبير وأخيه عبد الله بن الزبير قائمة على الاعتقاد بحقهم الشرعي في الخلافة وحب الناس إياهم. ولكن ماذا ينفعهم إقبال الناس عليهم ما داموا لا يستزيدونهم منه ولا يعرفون كيف يستثمرونه ويتعهدونه.
لقد كان عبد الملك - كما كان معاوية - يجعل أمامه هدفا لا يحول عنه. وهو أن يقر الناس ببيعته، فإذا رأى زعيما من زعمائهم تخلف وعصى أغراه بكل وسيلة من وسائل المال والأماني الخداعة، فإذا خدعه أدرك بغيته منه، وإلا لجأ إلى إغراء أنصار هذا الزعيم بالمال وبذل لهم من الوعود والمغريات مثل ما بذل لصاحبهم من قبل.
ألا ترى إلى عبد الملك يكتب إلى «عبد الله بن خازم السلمي» يدعوه إلى بيعته ويطمعه في خراسان سبع سنين.
2
فإذا رأى إصرار عبد الله على الوفاء لخصومه، كتب إلى خليفة «ابن خازم»
3
على «مرو» وهو بكير بن وشاح يغريه بمثل ما أغرى به ابن خازم من قبل ليخلع عبد الله بن الزبير.
قالوا: وكتب عبد الملك إلى «بكير بن وشاح» وكان خليفة بن خازم على (مرو) بعهده على خراسان ووعده ومناه، فخلع بكير بن وشاح عبد الله بن الزبير، ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو. •••
فخشي ابن خازم عاقبة الأمر فأراد الالتجاء إلى ابنه بالترمذ ولكن أعداءه قتلوه قبل أن يصل إليها.
هوامش
مصرع الحسين
فحمل عليه الناس من كل جانب، فضربت كفه اليسرى وضرب على عاتقه، فصار ينوء ويكبو، ثم طعنه أحدهم بالرمح فوقع، ثم احتزوا رأسه وقتل وبه ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة، ثم داسوه بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره.
1
المؤرخون (1) مقدمات المصرع
كتاب أهل الكوفة إليه
أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد
2
الذي اعتدى على هذه الأمة فانتزعها حقوقها واغتصبها أمورها وغلبها على فيئها وتأمر - على غير رضى منها - ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، فبعدا له كما بعدت ثمود.
إنه ليس لنا إمام فاقدم علينا لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى. فإن «النعمان بن بشير» في قصر الإمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد. ولو قد بلغنا مخرجك أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام. (2) الحسين في طريقه إلى المصرع
إن قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية.
الفرزدق
نصيحة العائذي
3
أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستمال ودهم وتستخلص نصيحتهم فهم إلب واحد عليك. وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك.
نصيحة الطرماح بن عدي
قال له الطرماح بن عدي: «إني لأنظر فما أرى معك أحدا. ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكفى بهم! وقد رأيت - قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم - ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعا أكثر منه، فسألت عنهم فقيل: «اجتمعوا ليعرضوا، ثم يسرحوا إلى الحسين». فأنشدك الله إن قدرت أن لا تقدم عليهم شبرا إلا فعلت. فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتى نرى من رأيك ويتبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى «أجأ» امتنعنا به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذل قط. فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم نبعث إلى الرجال من طيئ، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك طيئ رجالا وركبانا.
ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا الزعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف.»
فقال له الحسين: «جزاك الله وقومك خيرا، قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول؛ لسنا نقدر على الانصراف، ولا ندري على ما تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبة.»
فودعه الطرماح قائلا: «دفع الله عنك شر الإنس والجن، إني قد امترت لأهلي من الكوفة ميرة ومعي نفقة لهم فآتيهم فأصنع ذلك فيهم، ثم أقبل إليك إن شاء الله، فإن ألحقك فوالله لأكونن من أنصارك.»
4
مقابلة عبيد الله بن الحر
ويسير الحسين فيرى فسطاطا في طريقه فيسأل: «لمن هذه الفسطاط؟»
فيقال له: «هي لعبيد الله بن الحر الجعفي.»
فيقول: «ادعوه إلي.»
فإذا جاءه الرسول قال له: «هذا الحسين بن علي يدعوك.»
فيقول عبيد الله بن الحر: «إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها. والله ما أريد أن أراه ولا يراني.»
فيعود الرسول إلى الحسين يخبره بما سمعه منه،
5
فيقوم الحسين قاصدا إليه حتى يدخل عليه فيسلم ثم يجلس.
6
ويدعوه الحسين بعد ذلك إلى الخروج معه لنصرته فيعيد عليه ابن الحر تلك المقالة فيقول له الحسين: «فإلا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا.»
فيقول: «أما هذا فلا يكون أبدا إن شاء الله.»
فلا يجد الحسين أمامه إلا الرجوع من حيث أتى.
قالوا: «ثم قام الحسين من عنده حتى دخل رحله.»
7 (3) حلم
يا بني، إني خفقت برأسي خفقة، فعن لي فارس على فرس فقال: «القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم.» فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا.
الحسين
وهكذا لا يكاد يغادر الحسين «عبد الله بن الحر» ويسير ساعة حتى يخفق برأسه خفقة ثم ينتبه وهو يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين!»
ثم يفعل ذلك - فيما يقولون - مرتين أو ثلاث، فيقبل إليه ابنه علي بن الحسين فيسأله عن سر هذا الوجد فيقص عليه هذا الحلم المروع فيقول له: «يا أبت، لا أراك الله سوءا، ألسنا على الحق؟»
فيقول له: «بلى والذي إليه مرجع العباد.»
فيقول له: «يا أبت، إذن لا نبالي، نموت محقين.»
فيقول له: «جزاك الله من ولد خير ما جزى والدا عن ولده.» (4) في اليوم التالي
قالوا: «فلما أصبح الصباح ساروا حتى انتهوا إلى «نينوى» فإذا راكب على نجيب وعليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة.»
قالوا: «فوقفوا جميعا ينتظرونه، فلما انتهى إليهم سلم على «الحر بن يزيد» وأصحابه ولم يسلم على الحسين وأصحابه.»
كتاب ابن زياد
ثم أعطى «الحر» كتابا من عبيد الله بن زياد، يقول له فيه:
أما بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام.
في العراء
وقد أنفذ «الحر» وصية ابن زياد وأخذ الحسين ومن معه بالنزول في ذلك المكان - على غير ماء ولا في قرية - وعبثا حاولوا أن يسمح لهم بالنزول في مكان آخر، فقد أصر على إنفاذ أمر مولاه ولم يحد عنه قيد أنملة.
قالوا له: «دعنا ننزل في هذه القرية - يعنون نينوى - أو هذه القرية - يعنون الغاضرية - أو هذه الأخرى، يعنون شفية.»
ولكنه أبى أن يسمح لهم بذلك وقال: «ما أستطيع ذلك! هذا رجل قد بعث إلينا عينا.»
ومن العجيب أن هذا الرجل الذي يشتد في إنفاذ أمر مولاه ابن زياد، ويأبى إلا التضييق على الحسين - بكل ما أوتي من قوة - فلا يسمح له بالنزول في إحدى القرى القريبة، ويظل محاصرا الحسين حتى يسلمه إلى أعدائه.
نقول إن من أعجب الأعاجيب أن هذا الرجل سينقلب نصيرا للحسين - بعد فوات الوقت - وأن يقتل بين يديه مجاهدا في سبيله، بعد أن أوقعه في الفخ وضيق عليه مسالك الأرض الرحيبة. وكم يسخر القدر من الناس!
نصيحة
والتفت زهير بن القين إلى الحسين فقال: «يا ابن رسول الله، إن قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا بعدهم. فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به.»
فقال الحسين: «ما كنت لأبدأهم بالقتال.»
فقال له زهير بن القين: «سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فإنها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم!»
فلم يأخذ الحسين برأيه ورضخ لحكم الحر.
عمر بن سعد
وفي اليوم التالي قدم عليهم «عمر بن سعد بن أبي وقاص» من الكوفة في أربعة آلاف، أوفدهم ابن زياد لقتال الحسين.
8
قالوا: وبعث عمر بن سعد يسأل الحسين: «ماذا أتى به؟» فقال له: «كتب إلي أهل مصركم هذا أن أقدم؛ فأما إذا كرهوني فأنا أنصرف عنهم.»
فقال عمر بن سعد: «إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله.»
رسالته إلى ابن زياد
قالوا: وبعث عمر بن سعد إلى ابن زياد يقول:
أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عما أقدمه وماذا يطلب ويسأل فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم.
كتاب ابن زياد
قالوا: فلما قرئ الكتاب على ابن زياد قال:
الآن إذ علقت مخالبنا به
يرجو النجاة ولات حين مناص
ثم كتب إلى عمر بن سعد:
أما بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت. فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه. فإذا فعل رأينا رأينا والسلام.
9 (5) مسالمة الحسين
دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس.
الحسين
ولقد طلب الحسين من عمر بن سعد أن يخلي سبيله وأن يمكنه من الرجوع من حيث أتى،
10
قالوا: «والتقى الحسين وعمر بن سعد ثلاثا أو أربعا وتشاوروا في ذلك.» (5-1) كتاب عمر بن سعد
قالوا: فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد:
أما بعد، فإن الله قد أطفأ الثائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة. هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن نسيره إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلا من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبين رأيه، وفي هذا لكم رضى وللأمة صلاح.
وقع الكتاب عند ابن زياد
قالوا: فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال: «هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه ! نعم قد قبلت!»
وسيط السوء
قالوا: فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك؟ والله لئن رحل من بلدك - ولم يضع يده في يدك - ليكونن أولى الناس بالقوة والعز، ولتكونن أولى الناس بالضعف والعجز! فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن. ولكن لينزل على حكمك - هو وأصحابه - فان عاقبت فأنت أولى بالعقوبة وإن غفرت كان ذلك لك.
والله لقد بلغني أن حسينا وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل!» •••
فقال له ابن زياد: «نعم ما رأيت، الرأي رأيك!»
قالوا: ثم دعاه فقال له: «اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما. وإن هم أبوا فليقاتلهم. فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن هو أبى فقاتلهم فأنت أمير الناس، وثب عليه فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه.» (5-2) كتاب ابن زياد
ثم كتب إلى عمر بن سعد:
أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه، ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعا.
انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون. فإن قتل حسين فأوط الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم.
إلى أن قال: «فإن فعلت هذا به جزيناك جزاء السامع المطيع. وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن الجوشن وبين العسكر، فإنا قد أمرناه بأمرنا والسلام.» (5-3) قدوم شمر بن ذي الجوشن
ثم أقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد فلما قرأه قال له: «ويلك يا شمر، لا قرب الله دارك، وقبح الله ما قدمت به علي! والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه. أفسدت علينا أمرا كنا رجونا أن يصلح. لا يستسلم والله حسين، إن نفسا أبية لبين جنبيه.» •••
قال له شمر: «أخبرني ما أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه ؟ وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر.»
قال: «لا، ولا كرامة لك، وأنا أتولى ذلك!»
قال: «فدونك، وكن أنت على الرجال!» (5-4) زحف الخيل
قالوا: ثم نادى عمر بن سعد: «يا خيل اركبي.»
فركب في الناس وزحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه. (5-5) سنة من النوم
قالوا: وإنه لكذلك إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت: «يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟»
قالوا: فرفع الحسين رأسه فقال: إني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المنام فقال لي: «إنك تروح إلينا.»
قالوا: فلطمت أخته وجهها وقالت: «يا ويلتنا!»
فقال: «ليس لك الويل يا أخية! اسكتي رحمك الرحمن.» (6) استماتة أنصاره
والله لوددت أني قتلت ثم نشرت، ثم قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أهلك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.
زهير بن القين
وما أكثر ما نجد في أخبار هذا المصرع المروع من أنباء البطولة والأبطال، وما أكثر ما نسمع من عبارات الفداء والإيثار!
يطلب الحسين إلى أهل بيته أن يتفرقوا عنه في سواد الليل - حين جد الجد وحزب الأمر - ويقول لهم: «إن القوم إنما يطلبونني، ولو قد أصابوني لهوا من طلب غيري.»
فيقول له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: «لم نفعل؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا.»
ويقول كل من أنصاره أمثال هذه الأقوال وأشباهها.
وانظر إلى أحدهم يقول: «والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر - يفعل ذلك بي سبعين مرة - ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك. فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.»
ويقول آخرون: «والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا .» وهكذا . (7) في الليلة الأخيرة
ويحدثنا علي بن الحسين فيقول: إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها، وعمتي زينب عندي تمرضني، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له - وعنده «حوي» مولى «أبي ذر» - وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:
يا دهر أف لك من خليل
كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل
والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل
وكل حي سالك السبيل
قال علي بن الحسين: فأعادها أبي مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها، فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي فرددت دمعي ولزمت السكوت وعلمت أن البلاء قد نزل.
فأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت - وهي امرأة وفي النساء الرقة والجزع - فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه فقالت: «وا ثكلاه! ليت اليوم أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي. يا خليفة الماضي وثمال الباقي.»
فنظر الحسين فقال: «يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان.»
قالت: «بأبي أنت وأمي، يا أبا عبد الله استقتلت نفسي، فداك.»
فرد غصته وترقرقت عيناه وقال: «لو ترك القطا ليلا لنام!»
قالت: «يا ويلتا، أفتغصب نفسك اغتصابا؟ فذلك أقرح لقلبي، وأشد على نفسي.» ولطمت وجهها وأهوت إلى جيبها وشقته، وخرت مغشيا عليها.
فقام إليها الحسين، فصب على وجهها الماء، وقال لها: «يا أخية، اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ويبعث الخلق فيعودون - وهو فرد وحده - أبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة.»
وعزاها بهذا الكلام ونحوه وقال لها: «يا أخية، إني أقسم عليك فأبري قسمي: لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت.»
قال: «ثم جاء بها حتى أجلسها عندي وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض وأن يكونوا هم إلى الوجه الذي يأتيه منه عدوهم.» (8) يوم المصرع
وأمر الحسين أصحابه أن يلقوا بالحطب والقصب في خنادق كانوا حفروها خلف خيامهم لتحميهم من العدو حتى لا يباغتهم من ورائهم، ففعلوا.
ومن عجائب المقادير أن يمر بهم شمر بن ذي الجوشن فيرى النار تضطرم فينادي بأعلى صوته: «يا حسين، استعجلت النار في الدنيا قبل القيامة؟»
ويقول «مسلم بن عوسجة» للحسين: «يا ابن رسول الله جعلت فداك، ألا أرميه بسهم فإنه قد أمكنني.»
فيقول له الحسين: «لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم.»
وفي هذا دليل على ميل الحسين إلى المسالمة حتى في آخر ساعة من ساعاته الحرجة، وكأنما أراد أن يمعنوا في بغيهم إلى آخر لحظة، وأبي على نفسه أن يكون البادئ بالقتال فضيع بذلك فرصة نادرة بقتل هذا الشرير الخطر، كما أضاع من قبلها كثيرا من الفرص.
ودارت بينه وبين الأعداء مناقشات طويلة فياضة بالبلاغة وقوة الحجة، ولكن قلوب أعدائه قدت من صخر فلم يأبهوا لما يقول.
وقد تأثر بقوله الحر بن يزيد وانضم إليه - بعد تردد - حين رأى الحيف قد بلغ أقصاه.
قالوا: ولما زحف «عمر بن سعد» قال له الحر بن يزيد:
11 «أصلحك الله، أمقاتل أنت هذا الرجل؟!»
قال: «أي والله قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي.»
قال: «أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى؟»
قال عمر بن سعد: «أما والله لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك؟»
قالوا: فأقبل حتى وقف من الناس موقفا، وأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا فقال له رجل من قومه: «إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي: «من أشجع أهل الكوفة رجلا؟» ما عدوتك في هذا الذي أرى منك.»
قال: «إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت.» ثم ضرب فرسه فلحق بحسين فقال له: «جعلني الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا ولا يبلغون منك هذه المنزلة! فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم. والله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك. وإني قد جئت تائبا مما كان مني إلى ربي ومواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟»
قال: «نعم يتوب الله عليك ويغفر لك، ما اسمك؟»
قال: «أنا الحر بن يزيد.»
قال: «أنت الحر كما سمتك أمك، أنت الحر إن شاء الله في الدنيا والآخرة.»
وقد بر بوعده وقاتل الأعداء حتى قتل.
12 (9) مصارع الشهداء
وزحف عمر بن سعد، ثم وضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى، فقال: اشهدوا أني أول من رمى.
وهكذا صرح الشر وبدأت الحرب المجرمة بهذا السهم الجائر وقتل أنصار الحسين - واحدا بعد الآخر - وهو يرى بعينه مصارعهم ولا يستطيع أن يدفعها عنهم، وهم يجودون بنفوسهم الكريمة رغبة في افتدائه، وقد ذهبت هذه الأرواح الطاهرة إلى ربها دون أن تتمكن من إنقاذ الحسين، ولو شئنا أن نثبت في هذا الكتيب مصارع هؤلاء الشهداء، لما بقي فيه مكان لغيرهم. رحمة الله عليهم جميعا.
الحسين في ساعته الأخيرة
رأس ابن بنت محمد ووصيه
يا للرجال على قناة يرفع
والمسلمون - بمنظر وبمسمع -
لا جازع من ذا ولا متخشع
أيقظت أجفانا وكنت لها كرى
وأنمت عينا لم تكن بك تهجع
كحلت بمنظرك العيون عماية
وأصم نعيك كل أذن تسمع
ما روضة إلا تمنت أنها
لك مضجع ولخط قبرك موضع
دعبل
وتأبى الأقدار القاسية إلا أن يرى الحسين مصارع أهله وأنصاره واحدا بعد الآخر، وأن يثكل في كل عزيز عنده، فلا يجزع من مصاب جلل حتى يداهمه مصاب جلل،
13
وما زال يلقى المصائب الفادحة بصبر وجلد حتى حانت منيته فلحق بهم أيضا .
وقد أظهر الحسين من البسالة والإقدام ما لا مزيد عليه.
قالوا: «وكان يشد عليهم فينكشفون عنه ويفرون من أمامه، ثم إنهم أحاطوا به إحاطة.»
قالوا: وأقبل إلى الحسين غلام من أهله فأخذته أخته زينب ابنة علي لتحبسه فقال لها الحسين: «احبسيه.»
فأبى الغلام، وجاء يشتد إلى الحسين فقام إلى جنبه وقد أهوى أحدهم إلى الحسين بالسيف فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلا الجلدة فإذا يده معلقة، فنادى الغلام: «يا أمتاه!» فأخذه الحسين فضمه إلى صدره وقال: «يا ابن أخي، اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين.»
كيف صرع الحسين (رواية شاهد عيان)
قال حميد بن مسلم: كانت عليه جبة من خز، وكان معتما، وكان مخصوبا بالوسمة.
وسمعته يقول وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع: «أعلى قتلي تحاثون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله أسخط عليكم لقتله مني.»
قال: «ولقد مكث طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء.»
قال: فنادى شمر في الناس: «ويحكم! ماذا تنظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم.»
فحملوا عليه من كل جانب فضربت كفه اليسرى ضربة، وضرب على عاتقه ثم انصرفوا وهو ينوء ويكبو، وحمل عليه رجل فطعنه بالرمح فوقع، وتعاورته الرماح ووطئته الخيل.
قالوا: «فوجدوا بالحسين ثلاثا وثلاثين طعنة وأربعا وثلاثين ضربة، ثم سلبوا ما كان عليه، ومال الناس على الأسلاب والحلل والإبل فانتهبوها.»
قالوا: «فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها.»
نخبة من مراثي الشعراء
وما أروع رثاء دعبل:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى
وبالبيت والتعريف والجمرات
ديار علي، والحسين، وجعفر،
وحمزة، والسجاد، ذي الثفنات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها
متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الألى شطت بهم غربة النوى
أفانين في الأوقات مفترقات
أحب قصي الدار من أجل حبهم
وأهجر فيهم زوجتي وبناتي
ألم تر أني - مذ ثلاثين حجة -
أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسما
وأيديهم من فيئهم صفرات
فإن قلت عرفا أنكروه بمنكر
وغطوا على التحقيق بالشبهات
قصاراي منهم أن أذوب بغضة
تردد بين الصدر واللهوات
كأنك بالأضلاع قد ضاع رحبها
لما ضمنت من شدة الزفرات
لقد خفت في الدنيا وأيام عيشها
وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
وقول سليمان العدوي:
مررت على أبيات آل محمد
فلم أرها أمثالها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها
وإن أصبحت من أهلها قد تخلت
ألا إن قتيل الطف من آل هاشم
أذل رقابا من قريش فذلت
وكانوا غياثا ثم أضحوا رزية
لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
فما حفظوا قربى النبي وحقه
لقد عميت عن ذاك منه وصمت
وقول زوج الحسين عاتكة بنت نفيل:
14
وحسينا فلا عدمت حسينا
أقصدته أسنة الأعداء
غادرته بكربلاء صريعا
جادت المزن في ذرى كربلاء (10) الأسباب التي أدت إلى مصرعه
ويأتي قضاء ما لكم عنه حاجز
فألقوا إلى مولاكم بالمقالد
أبو العلاء
إن أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنهم.
أقم بهذا البلد فإنك سيد الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم.
ابن عباس
لقد صرع عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - فكان لمصرع كل منهم أثر في النفس لا ينسى وجزع متجدد كلما استعدنا مصارعهم.
على أن مصرع الحسين كان وحده سلسلة من الفجائع المروعة والنكبات الأليمة أربت على مصارع كل هؤلاء مجتمعة، وتضاءل أمامها كل مصاب مهما جل وعظم. وأي هول نراه في مصرع عثمان مثلا ثم لم نر من أشباهه في مصرع الحسين أهوالا؟ إن أقسى الناس قلبا - مهما اختلفت ملته ونحلته - ليذوب قلبه أسى لهذا الشهيد الذي راح وأسرته شهداء أطهارا يشكون إلى الله ظلم الإنسان أخاه الإنسان من أجل المطامع الدنيوية الفانية. وإني لأذكر مؤرخا عصريا - هو مثال المؤرخ المنصف الذي لا يستسلم للأهواء ومثال الرجل الجلد الذي لا يجزع لمصاب مهما جل وعظم - قد فقد ولده بعد أن عاد ولده من إنجلترا وأحرز أعلى الشهادات، فلم يغلبه المصاب، وتلقاه متجملا متأسيا دون أن تقطر من عينه دمعة واحدة.
قال لي ذلك المؤرخ الرزين: «ولكنني لا أستطيع قراءة مصرع الحسين دون أن أسح الدمع مدرارا.»
ونحن حين نقول ذلك لا نقوله مستسلمين إلى العاطفة، بل واصفين الحقيقة مجردة عن التزويق والبلاغة اللفظية؛ فقد ارتكب أعداء الحسين من ضروب الشنع والنذالة ما أربى على كل حد، واقترفوا في سبيل المال والمنصب والجاه ما لم يجرؤ عليه أحد قبلهم، ثم كانوا أسوأ قدوة عرفها التاريخ.
لقد كانت الدلائل كلها متضافرة تؤيد الوصول إلى هذه النتيجة المحزنة وإن كانت لا تحتم وقوعها. ولقد كان الحسين نفسه يتوقع في كل مرحلة من مراحل سفره هذه العقبى المحزنة ولكنه - مع توقعه حدوثها - أو على الأصح مع استيقانه من ذلك، يشك في إقدام الناس على قتله، ويحسب أن مكانه الرفيع سيستثير - في أقسى القلوب وأصلبها - عاطفة نبيلة، وأن منزلته من الرسول لا بد مستثيرة النخوة في كل قلب مهما بلغ من الصلابة والتحجر.
وأعجب مني كيف أخطئ دائما
على أنني من أعرف الناس بالناس
لقد حذره الفرزدق، وقال له قولته المشهورة التي ذكرناها حين سأله رأيه فأجابه: «إن قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية.»
وحذره كثيرون غير الفرزدق فلم يستمع إلى نصحهم. وأبى سوء الحظ ونكد الطالع إلا أن يستصحب معه أسرته فيتضاعف المصاب.
ولقد كان الناس كلما أحجموا عن قتله تقدم شرير منهم خطوة فدب الطمع في نفوس أصحابه وخشوا أن يسبقهم إلى الاستئثار بذلك فينال بذلك السبق مالا أو جاها يحرصون على أن لا يحرموه.
ولقد تعاون حب المال وعدم قبول الحسين نصيحة المخلصين وتخاذل أنصاره وعدم تنظيم الدعوة على الوصول به إلى هذه الغاية المروعة.
حب المال
فأما المال فقد لعب دورا هاما، وكان له من الأثر الفعال مثلما كان له من الأثر في قتل عبد الله بن الزبير وتثبيت ملك معاوية ومن جاء بعده من خلفاء بني أمية.
وقد اختار الأمويون لتنفيذ آرابهم قوما لا يبالون بما يقدمون عليه مهما بلغ من النذالة والانحطاط، ما داموا يحصلون على الرفعة أو المال أو الجاه.
ولنذكر للقارئ مثلا واحدا يتبين منه مدى الانحطاط الذي وصلت إليه هذه الفئة من الناس: فقد ذكروا أن عمر بن سعيد بن العاص حين بعث جيشا من المدينة لمقاتلة ابن الزبير، وضرب على أهلها البعث إلى مكة - وهم كارهون للخروج - قال لهم: «إما أن تأتوا ببدل وإما أن تخرجوا.»
قالوا: فجاء أحدهم برجل استأجره بخمسمائة درهم إلى عمرو بن سعيد. فقال له: «قد جئتك برجل بدلي.»
ثم التفت إلى الرجل الذي استأجره فقال له: «هل لك أن أزيدك خمسمائة أخرى وتغشى أمك.»
فقال له: «أما تستحي؟»
فقال: «إنما حرمت عليك أمك في مكان واحد وحرمت عليك الكعبة في كذا وكذا مكان من القرآن.»
قالوا: فجاء به إلى عمرو بن سعيد وقال له: «قد جئتك برجل لو أمرته أن أمه لفعل.»
فقال له عمرو: «لعنك الله من شيخ!»
وإنما أتينا بهذا المثال ليتبين القارئ منه أي فئة من الناس كانت تلك الفئة التي أقدمت على قتل الحسين وهو من هو من رسول الله!
عدم قبول النصائح
ولقد أصر الحسين - رضي الله عنه - على الذهاب دون أن يستمع إلى نصح الناصحين، وقد ذكرنا قولة الفرزدق الحكيمة له، ولنذكر ههنا نصيحة ابن عباس البعيد النظر.
ذكروا أن الحسين لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس فقال له: «يا ابن عم، إنك قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟»
فقال له الحسين: «إني قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى.»
فقال له ابن عباس: «فإني أعيذك بالله من ذلك. أخبرني - رحمك الله - أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم. وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستغفروا إليك، فيكونوا أشد الناس عليك.»
فقال له الحسين: «وإني أستخير الله وأنظر ما يكون.»
وقد كان في هذه النصيحة الحكيمة مقنع لولا أن القضاء يأبى إلا أن ينفذه. ثم جاء منافسه في الخلافة «عبد الله بن الزبير» فحدثه ساعة - كما يقولون - ثم قال: «ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم؟ خبرني ما تريد أن تصنع؟»
فقال الحسين: «والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله.»
فقال له ابن الزبير: «أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها شيئا.»
قالوا: ثم إنه خشي أن يتهمه فقال له: «أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ها هنا ما خولف عليك إن شاء الله!» ثم قام فخرج من عنده.
فقال الحسين: «ها إن هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن الناس لم يعدلوه بي فود أني خرجت منها لتخلو له.»
قالوا: فلما كان من العشي - أو من الغد - أتى الحسين عبد الله بن العباس فقال: «يا ابن عم، إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال. إن أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم. أقم بهذا البلد فإنك سيد الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم، ثم اقدم عليهم. فإن أبيت إلا أن تخرج، فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة. فتكتب إلى الناس وتبث دعاتك؛ فإني أرجو أن يأتيك - عند ذلك - الذي تحب في عافية.»
فقال له الحسين: «يا ابن العم، إني والله أعلم أنك ناصح مشفق، ولكني زمعت وأجمعت على المسير.»
فقال له ابن عباس: «فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.»
ثم قال ابن عباس: «لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك. والله الذي لا إله إلا هو، لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت ذلك.»
قالوا: ثم خرج ابن عباس من عنده فمر بعبد الله بن الزبير فقال: «قرت عينك يا ابن الزبير!» ثم قال:
يا لك من قنبرة بمعمر
خلا لك الجو فبيضي وأصفري
ونقري ما شئت أن تنقري •••
وهكذا ضرب الحسين بتلك النصائح القيمة عرض الأفق وسار إلى حينه سيرا حثيثا، وهو الأديب الفطن الذي لم تكن لتفوته خافية ولكنه القدر: «والعقل زين ولكن فوقه القدر» كما يقول أبو العلاء.
عدم تنظيم الدعوة
أما العناية بتنظيم الدعوة وتنظيم أمرها، فقد أغفلت إغفالا تاما، فقد اكتفى الحسين بثقته من محبة الناس إياه وإجلالهم له لمكانه من الرسول، واكتفى أنصاره بإخلاصهم له وتفانيهم في حبه، دون أن ينظموا دعوتهم ويوحدوا صفوفهم ويحتاطوا لمكائد أعدائهم. فكانت العاقبة فشلا محققا.
تخاذل أنصاره
أما تخاذل أنصاره فهو واضح لا يحتاج أي تدليل. فقد كانوا متخاذلين في سياستهم مترددين في عزيمتهم، مكتفين بإخلاصهم للحسين معتمدين على أن حقهم سيغلب - بلا شك - باطل خصومهم. وقد كان فيهم أفراد غاية في البطولة، ولكنهم صرعوا لتخلف الجماعة عنهم. انظر إلى هانئ بن عروة يتمارض ليعوده ابن زياد في بيته، ثم يوصي أصحابه بقتل ابن زياد وقت زيارته إياه، متى قال لهم هانئ: «اسقوني» فيجيء ابن زياد يعوده، ويقول هانئ اسقوني فلا يلبيه أحد. ثم يخرج ابن زياد آمنا مطمئنا ويتبين المكيدة فيأمر بإحضار هانئ إليه، فيحضرونه إليه رغم أنفه، فيتناول ابن زياد العصا التي كانت مع هانئ فيضرب بها وجهه حتى يكسرها ثم يقدمه فيضرب عنقه. وهكذا يتبدل مجرى التاريخ بسبب ذلك الضعف وتسير الأمور في غير مجراها الذي كان من الطبيعي أن تسير فيه.
وانظر إلى مسلم بن عقيل يخذله من معه وهم نحو ثلاثين ألفا - وهم كثيرون - ويتفرقون عنه فيسلموه إلى عدوه، وقد كان النصر حليفه لو كان أنصاره مخلصين في معاونته مستبسلين في الدفاع عن رأيهم، فإذا دعا به عبيد الله بن زياد ليضرب عنقه قال له مسلم: «دعني حتى أوصي.» ثم ينظر في وجوه الناس فيرى عمر بن سعد فيقول له: «ما أرى ها هنا من قريش غيرك فادن مني حتى أكلمك.» فيدنو منه عمر بن سعد فيقول له مسلم: «هل لك أن تكون سيد قريش ما كانت قريش؟ إن الحسين ومن معه - وهم تسعون بين رجل وامرأة - في الطريق فارددهم واكتب إليهم بما أصابني.»
قالوا: ثم ضرب عنقه وقد أفضى عمر بن سعد إلى زياد بما أخبره به مسلم فقال له ابن زياد: «أما والله إذ دللت عليه لا يقاتلهم أحد غيرك.»
15
وهكذا أراد الله أن تتضافر الأسباب كلها على إهلاك الحسين وأن يشترك أعداؤه مع أنصاره - على الرغم منهم - في تعجيل موته. ونحسب أن كلمة ابن عباس التي ذكرناها في هذا الفصل قد جمعت أهم الأسباب الأخرى التي أدت إلى هذا المصرع المروع.
هوامش
مصارع الخوارج
(1) مصرع صالح بن مسرح
1
فلما شد عليهم الحارث بن عميرة في جماعة أصحابه انكشف سويد وضارب شبيب حتى صرع، وثبت صالح بن مسرح فقتل. (1-1) كيف أوقد نار الفتنة
ما أدري ما تنتظرون؟
حتى متى أنتم مقيمون؟
هذا الجور قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا وتباعدا عن الحق وجرأة على الرب، فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي يريدون، فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون.
صالح بن مسرح
هكذا كان يوقد صالح نار الفتنة ويحتث أصحابه من الخوارج ويذيع دعوته بين الناس ويتخذ من زهده ونسكه - أو من تظاهره بالزهد والنسك على الأصح - وسيلة إلى استنفار المسلمين لقتال إخوانهم من المسلمين وتمزيق وحدتهم وشق عصا الطاعة على الحكام، وإيقاظ نار فتنة هوجاء طالما أيقظها أضرابه من الخوارج، فشغلت الأمم الإسلامية بعضهم ببعض، وأضاعت من قواها ما لو وجهت بعضه إلى الغزو لتضاعف انتصارها أو إلى الإصلاح لأتى بأطيب الثمار.
نموذج من قصصه
وإليك نموذجا من قصصه الذي كان يذيعه بين الناس مؤيدا به مذهبه ووجهة نظره، فقد كان يكثر من حمد الله والصلاة على نبيه وعلى أبي بكر وعمر ليمهد بذلك إلى الطعن على عثمان وعلى كافة المسلمين، والتحريض على سفك الدماء وقتل الأبرياء، ومما نذكره من كلامه قوله: إن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال تعالى في كتابه:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .
إلى أن يقول: «ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولا من أنفسهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم ووفقهم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما. حتى قبضه الله
صلى الله عليه وسلم
ثم ولي بعده النقي الصديق - على الرضى من المسلمين - فاقتدى بهديه واستن بسنته حتى لحق بالله - رحمه الله - واستخلف عمر فولاه الله أمر هذه الرعية، فعمل بكتاب الله وأحيا سنة رسول الله ولم يخف في الله لومة لائم حتى لحق به رحمة الله عليه.»
ومتى أتم مدحه الرسول وخليفتيه انتقل إلى بيت القصيد الذي مهد إليه بهذا التمهيد، وهو الطعن على كل مسلم لا يرى رأي الخوارج وسب الخليفتين عثمان وعلي ومن تلاهما من الخلفاء، فيقول: «وولي المسلمين - من بعده - عثمان فاستأثر بالفيء وعطل الحدود وجار في الحكم واستذل المؤمن وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين.
وولي أمر الناس - من بعده - علي بن أبي طالب فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، فنحن من علي وأشياعه برآء.»
ومتى انتهى من هذه المرحلة الثانية، وهي الطعن على عثمان وعلي ومن سار على أثرهما، اتخذ من طعنه تكأة للوصول إلى غرضه الذي أراد التمهيد إليه، وهو الثورة وإشعال نار الفتنة عن طريق التظاهر بالغضب للدين والغيرة عليه والحث على طاعة الله، فيقول: «فتيسروا - رحمكم الله - لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة وأئمة الضلال الظلمة، وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق إلى إخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة.
ولا تجزعوا من القتل في الله فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم غير ما ترجم الظنون، فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتد لذلك كرهكم وجزعكم.
ألا فبيعوا الله أنفسكم وأموالكم طائعين تدخلوا الجنة آمنين وتعانقوا الحور العين.
جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.»
كتاب شبيب إلى صالح
نشط أصحاب صالح يذيعون دعوته ويتراسلون، وإنهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من شبيب بن يزيد يحتثهم على الإسراع في الجهاد، ويقول لصالح:
أما بعد فقد علمت أنك أردت الشخوص، وقد كنت دعوتني إلى ذلك فاستجبت لك، فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين ولن نعدل بك منا أحدا، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني، فإن الآجال غادية ورائحة ولا آمن أن تخترمني المنية ولما أجاهد الظالمين. فيا له غبنا ويا له فضلا متروكا.
جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه والنظر إلى وجهه ومرافقة الصالحين في دار السلام. والسلام عليك.
رد صالح على شبيب
وقد كتب إليه صالح يقول:
أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطأ عني حتى أهمني ذلك، ثم إن امرأ من المسلمين نبأني بنبأ مخرجك ومقدمك فنحمد الله على قضاء ربنا.
وقد قدم علي رسولك بكتابك فكل ما فيه قد فهمته، ونحن في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من الخروج إلا انتظارك، فأقبل إلينا ثم اخرج بنا متى أحببت، فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه ولا تقضى دونه الأمور. والسلام عليك.
انضمام شبيب إلى صالح
لم يكد يصل كتاب صالح إلى شبيب حتى بعث إلى نفر من أصحابه فجمعهم إليه ثم خرج إلى صالح فلما لقيه قال له: «اخرج بنا - رحمك الله - فوالله ما تزداد السنة إلا دروسا ولا يزداد المجرمون إلا طغيانا.»
فأجابه صالح إلى ذلك وبعث إلى أصحابه وواعدهم الخروج في هلال صفر سنة 76. فلما كانت الليلة التي اتفقوا عليها اجتمعوا وخرج صالح بهم وكانوا مائة وعشرين رجلا.
دواب محمد بن مروان
هذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق فابدءوا بها فشدوا عليها فاحملوا أرجلكم وتقووا بها على عدوكم.
صالح
ولقد كانوا متعطشين إلى الشر فبدءوا عدوانهم بأخذ تلك الدواب فحملوا رجالتهم عليها وصاروا فرسانا، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين.
المعركة الأولى
واستخف بهم محمد بن مروان حين بلغه أمرهم فبعث إليهم أحد قواده
2
في ألف رجل. وأراد القائد أن يهادنهم فبعث إليهم رسولا يخبرهم أنه يلقاهم وهو كاره، ويطلب إليهم أن ينصرفوا عن هذا البلد إلى غيره، فحبسوا الرسول ودهموا ذلك الجيش - وهو على غير تعبئة وقائدهم يصلي الضحى - فهزموه وهرب عدي وأصحابه وانتهبوا أموالهم وأسلابهم.
الموقعة الثانية
لم يكد يعلم محمد بن مروان بهزيمة الجيش حتى غضب وأرسل قائدين من قواده على جيشين: عدد كل جيش منهما ألف وخمسمائة فارس وطلب إلى القائدين التعجيل بالخروج إليه، وقال لهما: «اخرجا إلى هذه الخارجة الخبيثة، وعجلا الخروج وأغذا السير، فأيكما سبق صاحبه فهو الأمير على صاحبه.»
قالوا: فخرجا من عنده فأغذا السير وجعلا يسألان عن صالح بن مسرح فيقال لهما: «إنه توجه نحو آمد.»
فاتبعاه حتى انتهيا إليه - وقد نزل على أهل آمد - فنزلا ليلا فخندقا وانتهيا إليه - وهما متساندان - كل واحد منهما في أصحابه على حدته. فوجه صالح شبيبا إلى أحدهما في شطر أصحابه وتوجه إلى الآخر في الشطر الثاني.
رواية شاهد عيان
وبدأ القتال من العصر إلى المساء.
قال أحد أصحاب صالح: صلى بنا صالح العصر ثم عبأنا لهم فاقتتلنا كأشد قتال اقتتله قوم قط. وجعلنا - والله - نرى الظفر، يحمل الرجل منا على العشرة منهم فيهزمهم وعلى العشرين فيهزمهم. وجعلت خيلهم لا تثبت لخيلنا. فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وأمرا جل من معهما فترجل. فعند ذلك جعلنا لا نقدر منهم على الذي نريد.
إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجالتهم بالرماح ونضحتنا رماتهم بالنبل، وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فقاتلناهم إلى المساء حتى حال الليل بيننا وبينهم وقد أفشوا فينا الجراحة وأفشيناها فيهم.
ووالله ما أمسينا حتى كرهناهم وكرهونا، وقد قتلوا منا نحوا من ثلاثين رجلا وقتلنا منهم أكثر من سبعين، فوقفنا مقابلهم ما يقدمون علينا وما نقدم عليهم. فلما أمسوا رجعوا إلى عسكرهم ورجعنا إلى عسكرنا.
وقد اجتمع صالح وأصحابه للشورى فقال شبيب: «إنا قد لقينا هؤلاء القوم فقاتلناهم وقد اعتصموا بخندقهم، فلا أرى أن نقيم عليهم.»
فوافقه صالح على رأيه وخرجوا في ليلتهم سائرين حتى وصلوا إلى أرض الموصل ثم قطعوها ومضوا حتى قطعوا الدسكرة.
الموقعة الحاسمة
ولم يكد يعلم الحجاج بذلك حتى بعث إليهم «الحارث بن عميرة» في ثلاثة آلاف رجل، فلقيهم في إحدى قرى الموصل - وصالح في تسعين رجلا - فعبأ صالح أصحابه في ثلاثة كراديس في كل كردوس ثلاثون رجلا؛ فهو في كردوس وشبيب في كردوس في ميمنته وسويد في كردوس في الميسرة.
مصرع صالح
قالوا: «فلما شد عليهم الحارث بن عميرة - في جماعة أصحابه - انكشف سويد وثبت صالح بن مسرح فقتل وضارب شبيب حتى صرع.»
3 (2) مصرع شبيب
4
فأقبل شبيب على فرسه - وكانت بين يديه فرس أنثى - فنزا عليها فرسه وهو فوق الجسر فاضطربت ونزل حافر فرسه على حرف السفينة فسقط في الماء وسقط معه شبيب - وهو مثقل بالحديد من درع ومغفر وغيرهما - فقال:
ليقضي الله أمرا كان مفعولا .
وارتمس في الماء ثم ارتفع فقال له بعض أصحابه وهو يغرق: «أغرقا يا أمير المؤمنين؟!»
فقال:
ذلك تقدير العزيز العليم . (2-1) شجاعة شبيب
ليت شعري أي مصرع كان يلقاه شبيب لو لم يهلك غرقا؟
لقد كان شبيب قوة لا تقهر، وقد أظهر من ضروب البسالة والإقدام ما سلكه في عداد القوم العالمين الذين كتبوا في سجل الخلود، ولست أدري إلى أي مدى كان يتغير التاريخ الاسلامي لو لم يعاجله القضاء.
ويأتي قضاء ما لكم عنه حاجز
فألقوا إلى مولاكم بالمقالد
لقد كان يهزم الجيش المكون من ألوف الفرسان وهو - في عشرات من رجاله - وكان ملهم الخاطر فطنا بطرق النصر، بطلا في انتصاره وهزيمته على السواء، لا يكاد يرى أن حربه مع خصمه غير مجدية حتى يولي وجهه إلى مكان آخر تجدي فيه الشجاعة والإقدام، ولا يضعف إلا ريثما يستريش وينجبر ويعود بعد قليل من الزمن أقوى منه من قبل. ومن الناس من تقرأ تاريخه فتشعر من أعماق نفسك أن مثل هذا لا يغلب ولا سبيل إلى هزيمته، ولو تألبت عليه قوى الأرض كلها، وهذا هو شعور كل من يتتبع أخبار شبيب وحروبه المظفرة.
ولو كان شبيب رجلا غربيا لكان رجلا عالميا لا يجهله أحد من خاصة الناس وعامتهم في أقطار الأرض قاطبة، ولكنه عربي أولا، وخارجي ثانيا. (2-2) النصر الأول
رأينا في مصرع صالح بن مسرح كيف انتهت الموقعة الأخيرة بقتل صالح وكادت تنتهي بقتل شبيب معه، فقد صرع عن فرسه، ولكن شجاعته الخارقة لم تفته في هذا الموطن الحرج، فشد على أعدائه فكشفهم، ثم نادى أصحابه فلاذوا به فقال لهم: «ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه إذا أقدم عليه؛ حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا.»
وقد استطاع أصحابه - وعدتهم سبعون رجلا - أن يصلوا إلى الحصن ويدخلوه بفضل هذه النصيحة الحكيمة، وكان ذلك في المساء. ولم يلبثوا في الحصن إلا قليلا حتى قال لهم شبيب: «ما تنتظرون؟ فوالله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم.»
فقالوا له: «مرنا بأمرك.»
فقال لهم: «إن الليل أخفى للويل، بايعوا من شئتم ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم، فإنهم لذلك منكم آمنون وأنا أرجو أن ينصركم الله عليهم.»
قالوا له: «فابسط يدك فلنبايعك.»
فبايعوه، ثم خرجوا، فلم يشعر أعداؤهم إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضاربوهم حتى صرع قائدهم «الحارث» فاحتمله أصحابه وانهزموا وخلوا لهم المعسكر وما فيه.
وهكذا استطاع شبيب - بفضل شجاعته وإقدامه وبعد نظره - أن يغنم موقعة خاسرة وأن ينتصر في موقف كل ما فيه ينطق بأن الهزيمة لا بد حائقة به، والخذلان لا بد مكتوب عليه، كما استطاع أن يهزم الجيش الذي قتل صالحا وكاد يقضي على أصحاب صالح وشبيب، وتم لشبيب النصر بفضل إقدامه وحزمه.
قالوا: «وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.» (2-3) نصر جديد
وعظم أمر شبيب بعد هذه الوقعة، ولم يلبث أن رأى فيه الحجاج مناوئا خطرا وخصما لدودا، وبعث الحجاج إلى «سفيان الخثعمي» أن يسير حتى ينزل بالدسكرة فيمن معه، ثم يقيم حتى يأتيه جيش الحارث بن عميرة الهمداني «الذي قتل صالح بن مسرح» فيسيروا جميعا إلى شبيب لمناجزته.
ولكن سفيان عجل الارتحال في طلب شبيب فلحقه بخانقين في سفح جبل.
قالوا: وأصحر لهم شبيب ثم ارتفع عنهم - كأنه يكره لقاءه - وكان شبيب قد أكمن له أخاه ومعه خمسون، فحسبوا شبيبا قد هرب فأسرعوا خلفه، حتى إذا جازوا الكمين عطف عليهم وخرج الكمين من خلفهم، فحمل شبيب عليهم من أمامهم وصاح بهم الكمين من ورائهم، فكانت الهزيمة لهم والنصر لشبيب. وقد خر سفيان بين القتلى ثم حمل جريحا، بعد أن استبسل في قتاله، وأخبر الحجاج بما كان من أمره فقبل عذره وكتب إليه الحجاج:
أما بعد فقد أحسنت البلاء وقضيت الذي عليك، فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك والسلام.
وخرج «سورة بن أبجر» في طلب شبيب كما أمره الحجاج، قالوا: تخير ثلاثمائة رجل من أهل القوة والجلد والشجاعة، ولكن شبيبا انتهى بالتغلب عليه وهزمه وجيشه. (2-4) حربه مع الجزل بن سعيد
ودعا الحجاج إليه «الجزل عثمان بن سعيد» فقال له: «تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق ولا تحجم إحجام الواني الفرق، هل فهمت.»
فقال: «نعم أصلح الله الأمير، قد فهمت.»
فقال: «فاخرج فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس.»
فقال: «أصلح الله الأمير، لا تبعثن معي أحدا من أهل الجند المفلول المهزوم فإن الرعب قد دخل قلوبهم.»
فقال له: «ذلك لك، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي ووفقت.»
وجمع له الحجاج أربعة آلاف رجل، ثم نادى منادي الحجاج فيهم أن «برئت الذمة من رجل أصبناه من هذا البعث متخلفا.»
وما زال الجزل بن سعيد يسير في أثر شبيب - وشبيب يريه الهيبة - ويخرج من رستاق إلى رستاق، وإنما أراد شبيب بذلك أن يفرق الجزل أصحابه ويتعجل إليه فيلقاه في يسير من الناس على غير تعبئة. ولكن الجزل كان حريصا فلم يكن يسير إلا على تعبئة، ولا ينزل إلا خندق على نفسه خندقا.
وطال الزمن عليهم، وأراد شبيب أن يبيته، ولكنه وجد الجزل حذرا وقد بث العيون والأرصاد فلم يظفر منهم بطائل، قالوا: فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم تركهم بعد أن أعاد الكرة فلم يفلح.
وجد الجزل في أثرهم، وكان - كما يقولون - يتبعهم فلا يسير إلا على تعبئة ولا ينزل إلا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب فيما يليه من الأراضي يكسر الخراج، وطال ذلك على الحجاج، فكتب إلى الجزل:
أما بعد، فقد بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس وأمرتك باتباع هذه المارقة الضالة المضلة حتى تلقاها فلا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها، فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لما أمرتك به من مناهضتهم ومناجزتهم والسلام.
قال أحد جنود ذلك الجيش: «فقرئ الكتاب علينا، فشق ذلك على الجزل، وأمر الناس بالسير، فخرجوا في طلب الخوارج جادين، وأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل.» •••
وبعث الحجاج «سعيد بن المجالد» على ذلك الجيش وعهد إليه: «إن لقيت المارقة فازحف إليهم ولا تناظرهم ولا تطاولهم، واستعن بالله عليهم، ولا تصنع صنيع الجزل، واطلبهم طلب السبع، وحد عنهم حيدان الضبع.»
حماسة سعيد بن المجالد
وسار سعيد حتى وصل عسكر أهل الكوفة، وكان الجزل قد أدرك شبيبا في النهروان، ولزم عسكره وخندق عليه، فقام سعيد فيهم خطيبا متحمسا، فقال: «يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم وأنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين، وقد خربوا بلادكم وكسروا خراجكم، وأنتم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلى أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلدا سوى بلدكم! اخرجوا على اسم الله إليهم.»
قالوا: فخرج وأخرج الناس معه وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل: «ما تريد أن تصنع؟»
قال: «أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل.»
فقال له الجزل: «أقم أنت في جماعة الجيش - فارسهم وراجلهم - وأصحر له، فوالله ليقدمن عليك، فلا تفرق أصحابك فإن ذلك شر لهم وخير لك.»
ولكن سعيدا المتحمس أبى أن يصيخ إلى هذه النصيحة القيمة المؤسسة على الروية والتجربة وأصالة الرأي، فقال للجزل: «قف أنت في الصف.»
فقال له الجزل: «يا سعيد بن مجالد، ليس لي فيما صنعت رأي، أنا بريء من رأيك هذا، سمع الله ومن حضر من المسلمين.»
فقال سعيد: «هو رأيي، إن أصبت فالله وفقني له، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برآء.»
وهكذا تأهب سعيد للحرب وأخرج الجند من الخنادق. ليعجل بقتل شبيب وأصحابه - فيما يزعم - وهو في الحقيقة إنما يتعجل الهلاك لنفسه والهزيمة لجيشه من حيث لا يعلم.
مثال على شجاعة شبيب
وكان شبيب قد أمر بإغلاق باب المدينة وأمر الدهقان بإحضار طعام لهم، وصعد الدهقان السور، فنظر إلى الجند مقبلين قد دنوا من الحصن، فنزل وقد تغير لونه، فقال له شبيب: «ما لي أراك متغير اللون؟!»
فقال له الدهقان: «قد جاءتك الجنود من كل ناحية.»
قال: «لا بأس، هل أدرك غداؤنا؟»
قال: «نعم.» قال: «فقربه.»
وأتي بالغداء فتغدى وتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا ببغل له فركبه، ثم اجتمعوا، وأمر بالباب ففتح ثم خرج على بغله.
مصرع سعيد بن مجالد
وحمل عليهم شبيب وهو يقول: «لا حكم إلا للحكم الحكيم، اثبتوا إن شئتم.»
قالوا: وجعل سعيد يجمع قومه وخيله ثم يدلفها في إثره وهو يقول: «ما هؤلاء؟ إنهم أكلة رأس؟»
ولم يلبث شبيب أن شد عليهم فهزمهم، وثبت سعيد بن مجالد وظل ينادي أصحابه: «إلي، إلي، أنا ابن ذي مروان!»
قالوا: «فأخذ قلنسوته فوضعها على قربوس سرجه، وحمل عليه شبيب فعممه بالسيف فخالط دماغه فخر ميتا .»
وهكذا هزم الجيش وقتلوا كل قتلة حتى انتهوا إلى الجزل، وقد قاتل الجزل قتالا شديدا حتى حمل من بين القتلى جريحا. ثم كتب إلى الحجاج بما حدث.
كتاب الجزل إلى الحجاج
أما بعد، فإني أخبر الأمير - أصلحه الله - أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم ورأيه؛ فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك.
ولقد أرادني العدو بكل إرادة فلم يصب مني غرة، حتى قدم علي «سعيد بن مجالد» رحمة الله عليه، ولقد أمرته بالتؤدة ونهيته عن العجلة، أمرته أن لا يقاتلهم إلا في جماعة من الناس عامة فعصاني وتعجل إليهم في الخيل، فأشهدت عليه أهل المصرين أني بريء من رأيه الذي رأى، وأني لا أهوى ما صنع، فمضى فأصيب - تجاوز الله عنه - ودفع الناس إلي فنزلت ورفعت لهم رايتي وقاتلت حتى صرعت، فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم - على رأس ميل من المعركة - فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها.
فليسأل الأمير - أصلحه الله - عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتي عدوه، وعن موقفي يوم البأس، فإنه يستبين له - عند ذلك - أني قد صدقته ونصحت له، والسلام.
كتاب الحجاج إلى الجزل
أما بعد، فقد أتاني كتابك، وقرأته وفهمت كل ما ذكرت، وقد صدقتك في كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدتك على عدوك.
وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه، فقد رضيت عجلته وتؤدتك، فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة، وأما تؤدتك فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت، وترك الفرصة - إذ لم تمكن - حزم.
وقد أصبت وأحسنت البلاء وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك «حيان بن أبجر» ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك والسلام. (2-5) بين شبيب وسويد بن عبد الرحمن
ورأى الحجاج أن يبعث سويد بن عبد الرحمن إلى شبيب ليحاربه في ألفي فارس مختارين، وقد قال له الحجاج: «إذا خرجت إلى شبيب فالقه، واجعل ميمنة وميسرة، ثم انزل إليه في الرجال، فإن استطرد لك فدعه ولا تتبعه.» •••
أما شبيب فقد كان على عادته يذهب إلى حيث يجد مجالا للفتك والنهب، ويرحل عن كل مكان يستعصي عليه أو يمتنع دونه؛ فقد سار شبيب إلى المدائن فوجد أهلها متحصنين فيها ولا سبيل إليهم، فراح إلى الكرخ ثم عبر دجلة. وما زال سويد بن عبد الرحمن يطارده حتى قطع بيوت الكوفة إلى الحيرة. وما زال شبيب يفعل ذلك حتى أضجره وأيأسه.
ومما يؤثر عن شبيب أن أكثر الجيوش التي كانت تحاربه «كانت تذهب إليه - كما يقولون - وكأنما كانت تساق إلى الموت».
وليس يتسع المقام للتفصيل والإسهاب في ذكر الوقائع التي شهدها شبيب فلنجتزئ بالقليل منها ما وجدنا إلى الإيجاز سبيلا. (2-6) مصرع محمد بن موسى
كان عبد الملك قد ولى محمد بن موسى «سجستان» قالوا: «وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان» فلما مر بالكوفة - وبها الحجاج - قيل للحجاج: «إن صار هذا إلى «سجستان» مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلب منعك منه.»
قال: «فما الحيلة؟»
قيل: «تأتيه وتسلم عليه، وتذكر نجدته وبأسه، وأن شبيبا في طريقه وأنه قد أعياك وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده فيكون له ذكر ذلك وشهرته.»
وقد رأى الحجاج في هذه النصيحة فرصة سانحة، وانخدع بها محمد بن موسى وذهب لمحاربة شبيب وقد كتب إليه الحجاج: «إنك عامل كل بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك.»
قالوا: فلما التقى بشبيب أرسل إليه: «إنك امرؤ مخدوع قد التقى بك الحجاج وأنت جار لك حق، فانطلق لما أمرت به ولك الله لا آذيتك.»
ولكن محمد بن موسى أبى إلا محاربته، وزين له الغرور أن شبيبا إنما يتحامى لقاءه خشية من بأسه وقوته.
قالوا: فواقفه شبيب وأعاد إليه الرسول، فأبى إلا قتاله فدعا إلى البراز ، فبرز إليه «البطين» ثم «قضب» ثم «سويد» فأبى إلا شبيبا.
فقالوا لشبيب: «قد رغب عنا إليك.» فبرز إليه شبيب وقال له: «إني أنشدك الله في دمك فإن لك جوارا.» فأبى إلا قتاله.
فقال له: «إني قد علمت خداع الحجاج، وإنما اغترك ووقى بك نفسه، وكأني بأصحابك قد أسلموك فصرعت مصرع أصحابك، فأطعني فإني أنفس بك عن الموت.» فأبى محمد بن موسى إلا قتاله.
قالوا: «فحمل عليه شبيب، فضربه بعصا حديد فهشم بها رأسه، فسقط ثم كفنه وابتاع ما غنموه من عسكره فبعث به إلى أهله.» (2-7) بين شبيب وعبد الرحمن بن الأشعث
ولما رأى شبيب أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة، جعل يخرج حتى إذا دنا منه رحل عن مكانه ونزل في أرض غليظة جدبة، فيجيء عبد الرحمن فإذا بلغه ارتحل وهكذا، حتى أحفى دوابهم ولقوا منه كل بلاء.
هي رواية لا تكاد تتغير فصولها، ولا يكاد شبيب يغير تمثيل دوره فيها. تتألب عليه الجيوش بالغة ما بلغت من الكثرة فلا يقف أمامها وقفة حاسمة، ولكنه يتنقل من مكان إلى آخر مترقبا فرصة سانحة لمهاجمة تلك الجيوش الكبيرة أجزاء متفرقة بعد أن رأى من العبث مهاجمتها مجتمعة.
يبعث إليه الحجاج بجيوش - ملء السهل والجبل - فيطاولها شبيب ويبيتها الفينة بعد الفينة، فإن كان قائدها حذرا عاد شبيب من حيث أتى، وإلا هاجمها واشتبك معها في موقعة حاسمة تنتهي بهزيمة أعدائه ومحاربيه.
ولا معدى لمحاربه عن أحد أمرين: أن يخندق على عسكره ولا يترك وسيلة من وسائل الحيطة إلا اتخذها، أو ينفد صبره فيهاجمه في حيثما كان.
فإن كانت الأولى فقد تمضي الأيام والأسابيع، بل والشهور بلا طائل. وإن كانت الأخرى فقد تعجل الهزيمة أو الهلاك لنفسه وجيشه جميعا. •••
قالوا إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال له: «انتخب الناس واخرج في طلب هذا العدو.»
منشور الحجاج
وكتب الحجاج إلى رجال جيشه المنشور التالي:
أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلاء، ووليتم الدبر - يوم الزحف - وذلك دأب الكافرين، وإني قد صفحت عنكم - مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة - وإني أقسم لكم بالله قسما صادقا، لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا أشد عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب وتستترون منه بأثناء الأنهار وألواذ الجبال، فخاف من له معقول على نفسه ولم يجعل عليها سبيلا، وقد أعذر من أنذر.
وقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
والسلام عليكم.
وقد خرج عبد الرحمن بجيشه حتى مر بالمدائن فنزل بها يوما وليلة وتشرى أصحابه حوائجهم، ثم ارتحلوا حتى وصلوا إلى «الجزل بن سعيد».
نصيحة الجزل
فقال الجزل لعبد الرحمن: «يا ابن عم، إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها ثم بنوا على ظهورها.
ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم تبدأ به بدأ بك، وإن هجهج أقدم. فإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني، وكان لهم الفضل علي، وإذا خندقت عليهم وقاتلتهم في مضيق نلت منهم بعض ما أحب، وكان لي عليهم الظفر. فلا تلقهم - وأنت تستطيع - إلا في تعبئة أو في خندق.»
في أثر شبيب
خرج عبد الرحمن بجيشه - بعد أن شكر الجزل على نصيحته القيمة - فلما دنا من شبيب ارتفع عنه شبيب إلى مكان آخر، فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان على التخوم أقام وقال: «إنما هو في أرض الموصل فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوه.»
ولكن كتابا من الحجاج جاءه يقول:
أما بعد فاطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده والسلام.
قالوا: «فخرج عبد الرحمن - حين قرأ كتاب الحجاج - في طلب شبيب فكان شبيب يدعه، حتى إذا دنا منه بيته، فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغه أنه تحمل وأنه يسير أقبل في الخيل، فإذا انتهى إليه وجده قد صف الخيل والرجال وأدنى الرامية فلا يصيب له غرة، فيمضي ويدعه.»
قالوا: «ولما رأى أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة ولا يصل إليه جعل يخرج حتى إذا دنا منه عبد الرحمن في خيله فينزل عن مسيرة عشرين فرسخا ثم يقيم في أرض غليظة جدبة، فيجيء عبد الرحمن فإذا دنا من شبيب ارتحل.»
وما زال شبيب يعذبهم حتى شق عليهم وأحفى دوابهم ولقوا منه كل بلاء. ولما التقى الجيشان في «جوخا» أرسل شبيب إلى عبد الرحمن: «إن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فافعلوا.» فرضي بذلك عبد الرحمن.
قالوا: «ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة.»
من عثمان بن قطن إلى الحجاج
أما بعد، فإني أخبر الأمير - أصلحه الله - أن عبد الرحمن بن محمد قد حفر جوخا كلها خندقا واحدا، وخلى شبيبا وكسر خراجها، وهو يأكل أهلها والسلام.
من الحجاج إلى عثمان بن قطن
أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت لي عن عبد الرحمن، وقد لعمري فعل ما ذكرت، فسر إلى الناس فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم، فإن الله ناصرك عليهم والسلام.
بين عثمان بن قطن وشبيب
وهكذا ظفر عثمان بإمارة الجيش وبعث الحجاج إلى المدائن مكانه «مطرف بن المغيرة» وحسب عثمان أنه أقدر من عبد الرحمن على قتل شبيب وهزيمة جيشه وأظهر من الحماسة مثلما رأيناه من «سعيد بن مجالد» الذي كان سببا في هزيمة جيش «الجزل» وهلاك نفسه. وقد كانت عاقبة عثمان كعاقبة سعيد بن مجالد، وحاق به البوار وحلت الهزيمة بالجيش.
فقد ذهب عثمان متحمسا يريد مناجزة الخوارج - في الحال - وألح عليه الناس أن يتريث قليلا - وكان الجو عاصفا والرياح شديدة تهب على الجيش - فأقام يوما وليلة حتى إذا انتهت العاصفة عبأ جيشه وزحف على شبيب وثبت وجيشه أمامه قليلا. ثم كر عليه شبيب وأصحابه فقتلوه وهزموا أصحابه، وتشتت شمل الجيش بعد أن انهزم عبد الرحمن بن الأشعث - فيمن انهزم - وغنم شبيب من هذه الموقعة أكبر الغنائم، وزاد جيشه وأقبل عليه كثيرون من الناقمين على الحجاج والراغبين في المغانم وقوي شأنه.
ورأى الحجاج أن أمر شبيب قد استفحل وأن توالي انتصاراته يضاعف أعوانه ويفت في عضد محاربيه، فأعد جيشا كبيرا مختارا من صفوة الرجال وأفذاذ القواد وجعل على رأس ذلك الجيش عتاب بن ورقاء. (2-8) عتاب بن ورقاء
يا أهل الكوفة اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلا قد وليناه من أعمالنا. ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة. ألا إن للناكل الهارب الهوان والجفوة، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن - كفعلكم في المواطن التي كانت - لأولينكم كنفا خشنا ولأعركنكم بكلكل ثقيل.
من خطبة للحجاج
كان الحجاج قد أمر عتابا بطاعة المهلب، فكبر ذلك على عتاب، ووقع بينه وبين المهلب شر كبير، حتى كتب عتاب إلى الحجاج يستعفيه من ذلك ويضمه إليه، وقد أحضره الحجاج ووجهه لمحاربة شبيب على رأس ذلك الجيش. وقد اختاره الحجاج بعد أن رأى توالي انتصارات شبيب.
قالوا: وقام الحجاج في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم، أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على اللأواء والقيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيأكم.»
قالوا: فقام إليه الناس من كل جانب فقالوا: «نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليندبنا الأمير إليهم فإنا حيث سره.»
نصيحة زهرة بن حوية
وقام إليه زهرة بن حوية، قالوا: وهو شيخ كبير لا يستقيم قائما حتى يؤخذ بيده، فقال: «أصلح الله الأمير، إنك إنما تبعث إليهم الناس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة، وابعث عليهم رجلا ثبتا شجاعا مجربا للحرب، ممن يرى الفرار هضما وعارا، والصبر مجدا وكرما.»
فقال الحجاج: «فأنت ذاك فاخرج.»
فقال: «أصلح الله الأمير، إنما يصلح للناس - في هذا - رجل يحمل الرمح والدرع ويهز السيف ويثبت على متن الفرس. وأنا لا أطيق من هذا شيئا، وقد ضعف بصري وضعفت.
ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إنما أثبت على الراحلة، فأكون مع الأمير في عسكره وأشير عليه برأيي.»
فقال له الحجاج: «جزاك الله عن الإسلام وأهله - في أول الإسلام - خيرا، وجزاك الله عن الإسلام وأهله - في آخر الإسلام - خيرا، فقد نصحت وصدقت، أنا مخرج الناس كافة.» ثم دعا الحجاج - بعد أن اختار عتاب بن ورقاء أشراف الكوفة وفيهم زهرة بن حوية - فقال لهم: «من ترون أبعث على هذا الجيش؟»
فقالوا: «رأيك أيها الأمير أفضل.»
قال: «فإني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء، وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة، فيكون هو الذي يسير في الناس.»
قال زهرة بن حوية: «أصلح الله الأمير، رميتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل!» (2-9) قبيل المعركة
ولما التقى شبيب بعتاب، وتأهب جيشاهما للحرب، أخذ عتاب يحمس جنوده وينظم صفوفهم، وقد ذكر بعض جنوده شيئا مما فاه به عتاب قبيل المعركة فقال: وقف علينا عتاب فقص علينا قصصا كثيرا، كان مما حفظت منه ثلاث كلمات قال: «يا أهل الإسلام، إن أعظم الناس نصيبا في الجنة الشهداء، وليس لأحد من خلقه أحمد منه للصابرين، ألا ترون أنه يقول:
واصبروا إن الله مع الصابرين .
فمن حمد الله فعله فما أعظم درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي.
ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون إلا أن ذلك قربة عند الله، فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار!»
ثم قال: «أين القصاص؟»
قال ذلك فلم يجبه - والله - منا أحد.
فلما رأى ذلك قال: «أين من يروي شعر عنترة؟»
فلا والله ما رد عليه إنسان كلمة. •••
وهكذا عقد الخوف ألسنتهم وقلوبهم فلم يجيبوا قائدهم بشيء، وثمة أدرك عتاب أنهم لا بد خاذلوه، ولكن ماذا يصنع وليس أمامه إلا أن يستميت في قتاله حتى ينتصر أو يقتل؟ وقد كانت الثانية. (2-10) مصرع عتاب
هذا يوم كثر فيه العدد وقل الغناء! وا لهفي على خمسمائة فارس - من نحور رجال تميم معي - من جميع الناس!
عتاب
وقد بدأت المعركة شديدة حامية الوطيس
5
وحمل عليهم شبيب وهو يقول: «أنا أبو المدله، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم.»
فأدخل الرعب في قلوب الكثيرين واستبسل جماعة من أصحاب عتاب حتى قيل لهم: «مات عتاب» فتفرقوا.
قالوا: ولم يزل عتاب جالسا على طنفسة في القلب - وزهرة بن حوية معه - إذ غشيهم شبيب، فقال له عتاب: «هذا يوم كثر فيه العدد، وقل فيه الغناء! وا لهفي على خمسمائة فارس - من نحو رجال تميم - معي من جميع الناس!»
وقد ظل عتاب ينادي جنوده: «ألا صابر لعدوه؟ ألا مؤاس بنفسه؟» ولكن:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
فقد انفض من حوله الجند وتركوه وهو يقاتل قتال الأبطال. وماذا تجدي الشجاعة بعد أن خذله ناصروه؟ على أن زهرة بن حوية كان له خير رفيق وكان إلى جانبه مثلا من أمثلة البسالة العجيبة والاستهانة بالموت، فقال له زهرة: «أحسنت يا عتاب فعلت فعل مثلك، والله والله لو منحتهم كتفك ما كان بقاؤك إلا قليلا، أبشر فإني أرجو أن يكون الله قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا.»
فقال له عتاب: «جزاك الله خير ما جزى امرأ لمعروف.»
وقال له أحد أصحابه: «إن عبد الرحمن بن محمد قد هرب عنك فانصفق معه أناس كثير.»
فقال عتاب: «قد هرب قبل اليوم وما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع!»
كيف صرع عتاب
وقد قاتلهم عتاب ساعة وهو يقول: «ما رأيت كاليوم قط موطنا - لم أبتل بمثله قط - أقل مقاتلا ولا أكثر هاربا خاذلا!»
وما زال يقاتل حتى علم شبيب مكانه، فحمل عليه فطعنه فوقع. (2-11) مصرع زهرة بن حوية
أما زهرة بن حوية فقد وطئته الخيل، فأخذ يذب بسيفه - وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يقوم - فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله
6
وهكذا تمت هزيمة الجيش، وانتصر شبيب وأصحابه أبهر انتصار. (2-12) خروج شبيب إلى الكوفة
وكأن شبيبا لم يكتف بما أحرزه من انتصارات باهرة فتطلعت نفسه إلى الفوز الأكبر والاستيلاء على الكوفة نفسها، فسار شبيب حتى قطع الجسر وعسكر دونه إلى الكوفة. (2-13) الحجاج يشاور أصحابه
قال شاهد عيان: لما فض شبيب كتائب الحجاج أذن لنا فدخلنا عليه في مجلسه الذي يبيت فيه - وهو على سرير وعليه لحاف - فقال: «إني دعوتكم لأمر فيه أمان ونظر، فأشيروا علي، إن هذا الرجل قد تبحبح بحبوحتكم ودخل حريمكم وقتل مقاتلكم فأشيروا علي.»
فأطرقوا، وفصل رجل من الصف بكرسيه فقال: «إن أذن لي الأمير تكلمت.»
فقال: «تكلم.»
فقال: «إن الأمير - والله - ما راقب الله قط، ولا حفظ أمير المؤمنين، ولا نصح للرعية.»
ثم جلس بكرسيه في الصف - وإذا هو قتيبة - فغضب الحجاج وألقى اللحاف ودلى قدميه من السرير - كأني أنظر إليهما - فقال: «من المتكلم؟»
فخرج قتيبة بكرسيه من الصف فأعاد الكلام، قال الحجاج: «فكيف ذلك؟»
فقال: «تبعث الرجل الشريف، وتبعث معه رعاعا من الناس فينهزمون عنه، ويستحيي فيقاتل حتى يقتل.»
قال: «فما الرأي؟»
قال: «أن تخرج بنفسك ويخرج معك نظراؤك فيواسونك بأنفسهم.»
قال بعضهم: «فلعنه الحجاج» وقال آخر: «وخنقه الحجاج بعمامته خنقا شديدا» ثم قال الحجاج: «والله لأبرزن له غدا.»
وهكذا أحرج الحجاج في قتال شبيب إحراجا. (2-14) بين شبيب والحجاج
فلما جاء اليوم التالي فرق الحجاج كثيرا من رجال جيشه على أفواه السكك، ثم أقبل الحجاج - وقد رأى أمامه جيش شبيب - وكان شبيب في ستمائة فارس.
ودعا الحجاج بكرسي له فقعد عليه، ثم نادى: «يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة.»
فجثوا على الركب وأشرعوا الرماح وكأنهم حرة سوداء. وأقبل شبيب حتى إذا دنا منهم عبأ أصحابه ثلاثة كراديس: (1)
كتيبة مع سويد بن سليم. (2)
وكتيبة مع المحلل بن وائل. (3)
وكتيبة مع شبيب.
فشل الكتيبة الأولى
فأمر شبيب الكتيبة الأولى أن تحمل عليهم، فحمل عليهم سويد فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الأسنة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدما حتى انصرف.
وصاح الحجاج: «يا أهل السمع والطاعة هكذا فافعلوا. قدم كرسي يا غلام.»
فشل الكتيبة الثانية
وأمر شبيب قائد الكتيبة الثانية «المحلل بن وائل» أن يحمل، فكان نصيبه من الفشل مثل ما مني به سلفه.
فشل الكتيبة الثالثة
فلما رأى شبيب فشل سابقيه حمل على أعدائه في كتيبته فثبتوا له حتى إذا غشي أطراف الرماح وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا، ثم إن أهل الشام طعنوه قدما حتى ألحقوه بأصحابه.
الهزيمة الشاملة
فلما رأى شبيب هذا الفشل قال لأصحابه: «إنما شرينا الله، ومن شرى الله لم يكن يكبر عليه ما أصابه من الأذى والألم في جنب الله. الصبر الصبر، شدة كشداتكم في مواطنكم الكريمة.»
ثم جمع أصحابه فلما ظن الحجاج أنه حامل عليهم قال لأصحابه: «يا أهل السمع والطاعة، اصبروا لهذه الشدة الواحدة، ثم ورب السماء ما شيء دون الفتح.» فجثوا على الركب، وحمل شبيب - بجميع أصحابه - فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويضربون وهم مستميتون في القتال.
قالوا: وخرج «خالد بن عتاب بن ورقاء» الذي وتره شبيب، فسار في عصابة من أهل الكوفة حتى دخل عسكرهم من ورائهم فقتل «مصادا» أخا شبيب وقتلت غزالة امرأته وحرق خالد في عسكر شبيب.
فكبر الحجاج وأصحابه تكبيرة واحدة، وفت في أعضاد شبيب وأصحابه وقال الحجاج لأهل الشام: «شدوا عليهم فإنهم قد أتاهم ما أرعب قلوبهم.» فشدوا عليهم فهزموهم.
قالوا: ثم إن الحجاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب ثم صعد المنبر فقال: «والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها! ولي - الله - هاربا وترك امرأته يكسر في استها القصب!» (2-15) المعركة الأخيرة
ذهب شبيب إلى الأهواز ثم إلى فارس ثم ارتفع إلى كرمان، وكان الحجاج قد أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إليه فلحقه بالأهواز بجسر دجيل، وانضم إليه زياد بن عمر العتكي في أربعة آلاف.
ثم نشبت المعركة عنيفة وأظهر فيها شبيب من ضروب البسالة والإقدام والافتنان في الحرب ما بهر أعداءه وحير ألبابهم. قال السكسكي: «فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ولا يأمن - مع ذلك - ظفرهم، دعا الرماة فقال: «ارشقوهم بالنبل.» وذلك عند المساء - وكان التقاؤهم نصف النهار - فرماهم حينئذ أصحاب النبل بالنبل. فلما رشقوهم بالنبل ساعة شدوا عليهم. فلما شدوا على رماتنا شددنا عليهم فشغلناهم عنهم. فكر شبيب وأصحابه على أصحاب النبل كرة صرع منهم أكثر من ثلاثين رجلا. ثم عطف بخيله علينا فطاعناه حتى أتى المساء ثم انصرف عنا. فقال سفيان لأصحابه: «أيها الناس دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم غدوة.» فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا.»
فانظر إلى عبارة السكسكي الأخيرة التي تعبر عن شعور الجيش كله وبغضه قتال شبيب وأصحابه! •••
ولما انتهت المعركة أمر «شبيب» أصحابه أن يعبروا جسر «دجيل» حتى إذا أصبحوا باكروا أعداءهم، فعبروا أمامه وتخلف في آخرهم. (2-16) كيف صرع شبيب
قالوا: فأقبل شبيب على فرسه، وكانت بين يديه فرس أنثى فنزا عليها فرسه وهو على الجسر فاضطربت أمامه ونزل حافر فرسه على حرف السفينة فسقط في الماء وسقط معه شبيب - وهو مثقل بالحديد من درع ومغفر وغيرهما - فقال:
ليقضي الله أمرا كان مفعولا .
وارتمس في الماء ثم ارتفع، فقال له بعض أصحابه وهو يغرق: «أغرقا يا أمير المؤمنين؟»
فقال:
ذلك تقدير العزيز العليم . •••
ثم غرق شبيب وتنادى أصحابه: «غرق أمير المؤمنين.» وانصرفوا راجعين وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد.
قالوا: «فكبر سفيان وأصحابه، ولما أصبح الصبح طلبوا شبيبا حتى استخرجوه.» (2-17) أمثلة من شجاعة شبيب
قال شبيب: قتلت أمس «من الأعداء» رجلين، أحدهما أجبن الناس والآخر أشجع الناس.
خرجت - عشية أمس - طليعة لكم، فلقيت ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجكم. فاشترى أحدهما حاجته ثم خرج قبل أصحابه - وخرجت معه - فقال: «كأنك لم تشتر علفا؟»
فقلت: «إن لي رفقاء قد كفوني ذلك.»
ثم قلت له: «أين ترى عدونا هذا نزل؟»
قال: «بلغني أنه نزل منا قريبا، وايم الله لوددت أني قد لقيت شبيبهم هذا.»
قلت: «فتحب ذلك؟»
قال: «نعم.»
قلت: «فخذ حذرك، فأنا والله شبيب.»
وانتضيت سيفي، فخر - والله - ميتا. فقلت له: «ارتفع ويحك!»
وذهبت أنظر، فإذا هو قد مات، فانصرفت راجعا. •••
ولقيت الآخر خارجا من القرية فقال: «أين تذهب هذه الساعة، وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم؟»
فلم أكلمه، ومضيت يقرب بي فرسي، واتبعني حتى لحقني ، فقطعت عليه، فقلت له: «ما لك؟»
فقال: «أنت والله من عدونا!»
فقلت: «أجل والله!»
فقال: «والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك!»
فحملت عليه وحمل علي، فاضطربنا يسيفنا ساعة فوالله ما فضلته - في شدة نفس ولا إقدام - إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته. ا.ه. •••
وما نحسب القارئ في حاجة إلى أن نسهب في التعليق على هذا الخبر، فهو وحده غني عن كل تعليق.
فقد كان اسم شبيب وحده كافيا للقضاء على فارس محارب، وما نظن الفارس الآخر الذي وصفه شبيب بالشجاعة كان يستطيع أن يثبت أمامه لو علم أنه يواجه شبيبا الذي كان يكفي اسمه في ترويع الجيوش الجرارة وهزيمتهم - بالغا ما بلغ عددهم - وقد بغت الفارس الأول حين علم أن مخاطبه هو شبيب الذي هزم الجيوش وقتل أفذاذ القواد وأذكى الرعب في كل نفس، وأقلق بال الحجاج وذعره وأقض عليه مضجعه، والحجاج - هو من يعرف القارئ - جبار العراق ومدوخ جبابرته وثائريه.
وما نحسب الحجاج كان قادرا على هزيمة شبيب لو لم يستعن بجند الشام الذي لم تروعه فتكات شبيب وشداته العنيفة التي روعت جيوش الكوفة وخلعت قلوبهم، فأصبحوا يلقونه كارهين وكأنهم يلقون الموت أمامهم، وصاروا لا يثبتون أمامه إلا ريثما يلوذون بأكناف الفرار.
وما كان الحجاج يخرج لمحاربة شبيب إلا محرجا مضطرا. وقد رأى الحجاج مجده يترجح في كفة الأقدار، وأحس أن هزيمته أمام شبيب معناها اندحاره وضياع هيبته؛ فألهب قلوب الجند حماسة ولم يدخر وسيلة من وسائل التشجيع واستثارة الحمية والنخوة إلا سلكها، وقد أعانه خالد بن عتاب الذي قتل شبيب أباه «عتاب بن ورقاء» البطل الكمي المنقطع النظير، فقد قتل خالد أخا شبيب وزوجه أثناء اشتغال شبيب بمحاربة الحجاج وجيشه، ففت ذلك في عضد شبيب، وكان من أسباب هزيمته.
على أن الحجاج لم يستطع أن يظهر مكانه أمام شبيب، فتوارى عن عينه وأجلس مكانه فارسا آخر، لم يفت شبيبا أن يضربه بعمود من الحديد فيقتله، ظانا أنه إنما يقتل الحجاج.
فلما انهزم جيش شبيب لم يعبأ شبيب بشيء، بل خرج شبيب وتبعه خيل الحجاج وهو لا يكترث بهم.
قال أحد أصحابه: فجعل شبيب يخفق برأسه، فقلت له: «يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك!» فالتفت شبيب غير مكترث، ثم أكب يخفق برأسه، ودنوا منا، فقلنا: «يا أمير المؤمنين قد دنوا منك.»
فالتفت - والله - غير مكترث ثم جعل يخفق برأسه.
وقد هابه جند الأعداء فلم يجرأ على قتله أحد منهم - والفرصة سانحة تناديهم - وهم يتهيبون الدنو منه، فلما أفلتت منهم الفرصة راحوا يتعقبونه بعد فوات الوقت. •••
وانظر إلى ابن الأشعث يسأله شبيب أن يوادعه في أيام العيد «فلا يكون شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة» كما يقولون.
ويشتبك شبيب - ومعه ثلاثون شخصا - مع جيش كبير جدا فيصمد صمود الأبطال حتى يضطر قائد الجيش إلى أن يقول: «لو كان هؤلاء الخوارج يزيدون على مائة رجل لأهلكونا.» •••
وقد رأى القارئ كيف كان اسم شبيب وحده كافيا في ذعر الجيش الكثير العدد، وكيف كان عتاب بن ورقاء يحمس جيشه ويستنفرهم لمهاجمة شبيب، ويبذل جهده في إلهاب قلوبهم، فلا يصل إلى ذلك، ولا يرى أمامه إلا خورا أو هلعا من لقاء شبيب.
ينادي: أين القصاص، فلا يجيبه أحد، وينادي: أين من يروي شعر عنترة؟ «فلا والله ما يرد عليه إنسان كلمة.» فيعلم عتاب أنهم خاذلوه ويفت ذلك في عضده وهو البطل الكمي العظيم الخطر. •••
ومن الأمثلة الدالة على حزم شبيب تظاهره بالزهد في المال؛ خوفا على الجند أن يفتتنوا به فيعوقهم ذلك عن الاستماتة في الجهاد.
قالوا: إن شبيب حين وجه من يأتيه برأس عامل «سورا» جاءوا برأسه فقال لهم شبيب: «ماذا أتيتمونا به؟»
فقالوا: «جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال.» والمال على دابة في بدوره، فقال شبيب: «أتيتمونا بفتنة المسلمين! هلم الحربة يا غلام فخرق بها البدر.»
قالوا: وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى وردت «الصراة».
فقال: «إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء.»
لقد خشي شبيب أن يشتغل أصحابه بالمال فيفتنوا به وينسوا واجبهم الأول الذي يستميتون في سبيل تحقيقه.
وقد أذاع العامة كثيرا من المزاعم التي لا تخفى دلالتها على تهيبهم له وإكبارهم لشجاعته الخارقة إكبارا جعلهم يفتتنون في نسبه المعجزات إليه. والعامة لا يكادون يتمثلون المزايا المعنوية إلا في قالب مادي ملموس. لذلك راحوا يروجون أن شبيبا حين أخرج من الماء وشق بطنه وأخرج قلبه وجدوه مجتمعا صلبا كأنه صخرة، وأنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان؛ لأن العامة لم يستطيعوا أن يتصوروا مثل هذه الشجاعة الخارقة التي امتاز بها شبيب في قلب كقلب الأناسي.
ولو أن شبيبا لم يمت غرقا ولو أنه كان من أنصار الخليفة لكان للتاريخ شأن آخر - في كلتا الحالتين - وإن كان في إحداهما يناقض الأخرى مناقضة تامة. •••
ولقد نعي شبيب لأمه فلم تصدق، وكانوا يقولون لها «قتل شبيب» فلا تقبل.
فلما قيل لها: إنه غرق صدقت كلامهم وقالت: «أما الآن فقد صدقت ما تقولون.»
ثم قصت عليهم حلما كانت رأته حين ولدته، فقد رأت أنه خرج قبيلها شهاب نار ثاقب ما زال حتى بلغ السماء وبلغ الآفاق كلها.
قالت أم شبيب: «فبينما هو كذلك إذ وقع في ماء كثير حار فخبا.»
7
فإذا صحت هذه الرواية فإن هذه الرؤيا تعد من أصدق الأحلام، وربما كانت من أسباب هذا الإقدام العجيب الذي عرفناه من شبيب في الحروب وتلك الثقة المدهشة التي امتلأ بها قلبه، وربما كانت هذه الرؤيا أيضا سببا في استسلامه للموت غرقا، ذلك الاستسلام الذي نراه في قوله حين صاح به أحد أتباعه، وهو يغرق: «أغرقا يا أمير المؤمنين؟»
فقال شبيب مستسلما: «ذلك تقدير العزيز العليم!»
وهكذا طويت صفحة خالدة من صفحات البطولة والإقدام، وانتهت حياة طالما هزئت بالموت وروعت الجيوش ودوخت الأبطال. (3) مصرع قطري بن الفجاءة
كيف صرع
ورأى علج من أهل البلد «قطريا» حين تدهدى من الشعب، فقال له قطري: «اسقني من الماء!» وكان قد اشتد به العطش، فقال له: «أعطني شيئا حتى أسقيك.» فقال: «ويحك، والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيتني بماء.» قال: «لا، بل أعطنيه الآن.»
قال: «لا، ولكن ائتني بماء.»
فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجرا عظيما من فوقه دهدأه عليه فأصاب إحدى وركيه فأوهنته، وصاح بالناس فأقبلوا نحوه - والعلج حينئذ لا يعرف قطريا غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه - فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه وأتوا برأسه إلى الحجاج.
مقدمات المصرع
لما تشتت شمل الأزارقة بسبب الخلاف الذي دب بينهم بعد حروبهم الطويلة مع المهلب انضم بعض الأزارقة إلى قطري بن الفجاءة وانضم آخرون إلى عبد ربه الكبير.
8
قالوا وتوجه قطري يريد «طبرستان» وبلغ أمره الحجاج، فوجه إليه سفيان بن الأبرد ومعه جيش كبير من أهل الشام حتى لحقه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه قتالا شديدا انتهى بتفرق أصحاب قطري عنه، قالوا: ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتدهدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: «رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزا فيهن، فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد، فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فضربت به عنقي فقطعت المغفر وقطعت جلده من حلقي، فضربتها بالسيف فأصاب قحف رأسها فوقعت ميتة، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان، وإنه ليضحك من العجوز وقال: ما أرادت أخزاها الله؟ فقلت: أوما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي؟ والله إن كادت لتقتلني! قال: قد رأيت، فوالله ما ألومك على فعلك. قال: ورأيت قطريا حيث تتهدى من الشعب، وقد جاءه علج من أهل البلد، فقال له قطري: «اسقني ماء!» وقد كان اشتد عطشه فقال: «أعطني شيئا حتى أسقيك.» فقال: «ويحك والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيتني بماء.» قال: لا، بل أعطنيه الآن.» قال: «لا، ولكن ائتني بماء قبل.» فانطلق العلج حتى أشرف على قطري ثم حدر عليه حجرا عظيما من فوقه دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهنته، وصاح بالناس فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريا، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه.
أسباب الخلاف
قلنا في مقدمة مصرع قطري: إن الخلاف قد وقع بين الأزارقة، فانضم قوم إليه، وانضم آخرون إلى عبد ربه الكبير، فما سبب هذا الخلاف؟
قالوا: إن المهلب بعد قتاله الطويل مع الخوارج من غير أن ينال منهم أو ينالوا منه قتل عاملا لقطري على ناحية من كرمان يقال له: «المقعطر الضبي»، رجلا من الخوارج كان ذا بأس وكان كريما عليهم، فجاءوا إلى قطري يسألونه أن يسلم إليهم الضبي ليقتلوه فأبى، فأنكروا عليه ذلك، وكان رجل من الأزارقة حداد يسمى أبزي يعمل لهم نصالا مسمومة فيرمون بها أصحاب المهلب، فشكوا إليه ذلك، فقال لهم: سأكفيكموه إن شاء الله، ثم وجه رجلا من أصحابه إلى أبزي بألف درهم ومعه كتاب نصه بعد الديباجة: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إلي وقد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها. وقال للرجل: «ألق هذا الكتاب والدراهم في عسكر قطري واحذر على نفسك.» فوقع الكتاب والدراهم إلى قطري فدعا بأبزي فقال: «ما هذا الكتاب؟»
قال: لا أدري. قال: فهذه الدراهم؟ قال: ما أعلم علمها. فأمر به فقتل، فجاء عبد ربه الكبير فقال له: أقتلت رجلا على غير ثقة ولا تبين؟ فقال له: ما حال هذه الدراهم؟ قال: يجوز أن يكون أمرها كذبا، ويجوز أن يكون حقا. فقال له قطري: قتل رجل في صلاح الناس غير منكر وللإمام أن يحكم بما يراه صلاحا، وليس للرعية أن تعترض عليه. فتنكر له عبد ربه وجماعته ولكنهم لم يفارقوه.
فلما بلغ ذلك المهلب دس إلى قطري رجلا نصرانيا، وقال له: إذا رأيته فاسجد له فإذا نهاك فقل: إنما سجدت لك. ففعل النصراني ذلك، فقال قطري: إنما السجود لله! فقال: ما سجدت إلا لك. فقال له رجل من الخوارج: قد عبدك من دون الله وتلا قوله تعالى :
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون . فقال قطري: إن النصارى قد عبدوا عيسى بن مريم فما ضر ذلك عيسى شيئا. فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر قطري عليه ذلك وقال: أقتلت ذميا؟ فكان ذلك مما قوى الاختلاف بين الخوارج، وبلغ المهلب فوجه إليهم رجلا يسألهم عن رجلين خرجا مهاجرين إليهم، فمات أحدهما في الطريق ووصل إليهم الآخر، فامتحنوه في عقيدتهم فلم يؤمن بها فقتلوه، فقال بعضهم: أما الميت فمؤمن من أهل الجنة وأما الآخر فكافر. وقال آخرون: بل هما كافران. فاشتد الخلاف بينهم، فثاروا على قطري وخلعوه وولوا عليهم عبد ربه الكبير، وبقي مع قطري عصابة قليلة منهم ووقع القتال بينهم نحو شهر.
حزم المهلب
ولما علم المهلب خبر تفرقهم كف عن محاربتهم وألح عليه الحجاج في كتبه أن يناهضهم، ولكن المهلب لجأ إلى الحزم والحكمة، ورد على الحجاج بقوله: إن الرأي أن نتركهم يقتل بعضهم بعضا، فإن في ذلك هلاكهم أو إضعافهم، وليس من الرأي أن نناهضهم لئلا يتفقوا علينا.
ولما اشتد إلحاح الحجاج على المهلب أعاد الكرة عليهم ثم حاربهم حتى قهرهم فاختلفت كلمتهم مرة أخرى.
سبب الخلاف
قالوا: وكان سبب خلافهم أن عبيدة بن هلال كان يختلف إلى امرأة رجل حداد في بيته ويدخل عليها بغير إذن، فشكوه إلى قطري فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم ومن الجهاد بحيث رأيتم. فقالوا: إنا لا نقاره على الفاحشة. فبعث إليه قطري فقام فيهم وقال: بسم الله الرحمن الرحيم
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم . فبكوا واعتنقوه وقالوا: استغفر لنا. فقال لهم عبد ربه الكبير: لقد خدعكم. فرجعوا إلى اعتقادهم الأول، ولكنهم لم يجدوا سبيلا إلى إقامة الحد عليه، وكان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين، فظهرت له أحوال كثيرة، فقالوا لقطري: إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا. فقال قطري: إني استعملته وله ضياع وتجارات. فأوغر ذلك صدورهم وقالوا له: ألا تخرج بنا إلى عدونا؟ فقال: لا، ثم خرج. فقالوا: كذب وارتد. فاتبعوه يوما فأحس بالشر منهم فدخل دارا مع جماعة من أصحابه، فصاحوا به: يا دابة اخرج إلينا. فخرج إليهم وقال: رجعتم بعدي كفارا؟ فقالوا: أما أنت فإنك دابة. قال الله تعالى:
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها
وأما نحن فلسنا كفارا، فأنت كافر بتفكيرك إيانا. فقال له بعض أصحابه: قل لهم إني استفهمت ولم أخبر. فقبلوه منه، ولما رأى منهم هذا التغير بايع المقعطر العبدي، فكرهت الخوارج ذلك وسألوه إعفاءهم من مبايعة المقعطر فأبى، فاختلفوا وتهايجوا، وحمل فتى من العرب على صالح بن مخراق فقتله، ثم اقتتلوا فيما بينهم قتالا شديدا، وارتحل قطري مع أتباعه إلى طبرستان.
وجلس المهلب للناس بعد ارتحال قطري فدخل إليه وجوههم. •••
ولعل القارئ يرى من هذه الأمثلة ولع الخوارج بالتمسك بالمجادلات اللفظية الفارغة، والجدال فيما لا طائل تحته، وهذه ظاهرة تبدو لكل من يقرأ تاريخ الخوارج، وحسبك أن تعلم كيف خرجوا على علي بن أبي طالب متمحلين أوهى الأسباب، ثم تتبع منازعتهم فيما بعد، وكيف كانوا يثيرون مسألة عرضية فارغة، فتثور معها حروب طاحنة تطيح فيها الرءوس وتزهق النفوس، وإن الباحث ليحار في التوفيق بين براعة هؤلاء الرجال وتفوقهم في أساليب الحرب والدين معا، وبين ما يتمسكون به من سفساف الأمور وما يرتكبونه من الأخطاء التي لا يقع فيها الأطفال، على أن حل هذه المشكلة وذلك التناقض في نظرنا يسير، إذا أعملنا الرؤية واصطنعنا الأناة والفكر؛ فقد كان زعماء الخوارج - ويجب أن نفرق بين زعماء الخوارج وجمهرتهم - ذوي أغراض سياسية بعيدة ومطامح جريئة لا تقل عن التفرد بالملك والاستئثار بالأمر، وكانوا خطباء مهرة يلهبون الحماسة في نفوس أصحابهم إلهابا، ويدفعونهم باسم الورع والصلاح ونصرة الدين وقهر أعدائه الألداء وإقامة حدود الله، فتنخدع الجمهرة وتقدم - بما فيها من شجاعة وقوة وتفان في نصرة العقيدة - إلى اقتحام الموت، ويندفع سادتهم وأشرافهم، بما في نفوسهم من مطامح بعيدة المدى وآمال كبار في تحقيق مآربهم الجريئة، بحماسة زائدة إلى خوض غمار الحروب واقتحام الصفوف والاستهانة بالموت حتى لتقول إحدى نسائهم وهي تخوض الحرب:
9
أحمل رأسا قد مللت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله
وكان يكفي زعيم الخوارج أو المتطلع للزعامة أن يثير مشكلة دينية لفظية فارغة؛ لينتقم من زعيم آخر، فينزله من زعامته ويسقط مكانته الدينية ليحل مكانه ويتولى الزعامة بعده، ولولا هذه الخلافات ما علم إلا الله وحده كيف كانت تكون عاقبة أمرهم. •••
وما نحسب أن ثورة زعماء الخوارج على علي بن أبي طالب إلا تطلعا للملك وتمحلا لأسباب الكيد من قريش حسدا وغيرة لما نالته قريش من السلطان والرفعة، فقد طالما حاول الخوارج أن يجدوا فرصة يتحينونها لإشباع رغباتهم ومطامعهم حتى أتيحت لهم فرصة التحكيم فانتهزوها للانشقاق والفتنة. •••
ولولا ما سلكه المهلب بن أبي صفرة من ضروب الشجاعة والحزم مع ما وهبه من خبرة بالحرب وبعد نظر، لاستفحل أمر الخوارج استفحالا ما كان أجدره أن يغير وجه التاريخ.
وفي يقيننا أن المهلب لو كان خارجيا كشبيب، أو لو كان شبيب من أنصار بني أمية كالمهلب، لكان لحوادث التاريخ مجرى يخالف كل المخالفة ما وقع، وليس في قدرتنا في هذه الكلمات الموجزة أن نوضح ما امتاز به المهلب من المزايا الباهرة وما أبلاه في حروب الخوارج من البلاء الحسن؛ فإن هذا يخرج بنا عن موضوع الكتاب، وما أجدر المهلب بسفر مطول يتناول فيه المؤرخ شخصيته العظيمة وتاريخه المجيد، وحسبنا أن نختم هذا الفصل بوصف أحد الشعراء المجيدين المهلب بعد انتصاره على الخوارج في قصيدة طويلة نجتزئ منها بقوله:
أمسى العباد بشر لا غياث لهم
إلا المهلب - بعد الله - والمطر
كلاهما طيب ترجى نوافله
مبارك سيبه يرجى وينتظر
هذا يذود ويحمي عن ذمارهم
وذا يعيش به الأنعام والشجر
واستسلم الناس إذ حل العدو بهم
فلا ربيعتهم ترجى ولا مضر
وأنت رأس لأهل الدين منتخب
والرأس فيه يكون السمع والبصر
إن المهلب في الأيام فضله
على منازل أقوام إذا ذكروا
حزم وجود وأيام له سلفت
فيها يعد جسيم الأمر والخطر
ماض على الهول ما ينفك مرتحلا
أسباب معضلة يعيا بها البشر
شهاب حرب إذا حلت بساحته
يخزي به الله أقواما إذا عذروا
تزيده الحرب والأهوال إن حضرت
حزما وعزما ويجلو وجهه السفر
ما إن يزال على أرجاء مظلمة
لولا يكفكفها عن مصرهم دحروا
سهل إليهم حليم عن مجاهلهم
كأنما بينهم عثمان أو عمر
كهف يلوذون من ذل الحياة به
إذا تكنفهم من هولها ضرر
أمن لخائفهم فيض لسائلهم
ينتاب نائله البادون الحضر
هوامش
مصرع عبد الرحمن بن الأشعث
(1) كيف صرع
وما زال في سيره هاربا حتى لحق بخراسان، ورجا في لحوقه بها النجاة من الحجاج والحذر لنفسه، ولم يشعر بالخيل التي في طلبه حتى غشيته، فلم تزل تطلبه من موضع إلى موضع حتى استغاث بقصر منيف، فحصره ابن عم الحجاج فيه، وأحاطت به الخيل من كل جانب حتى ضيق عليه، ودعا بالنار ليحرقه في القصر، فلما رأى ابن الأشعث أنه لا محيص له ولا ملجأ وخاف النار رمى بنفسه من أعلى القصر، وطمع أن يسلم ولا يشعر به، فيدخل في غمار الناس فيخفى أمره ويكتم خبره، فسقط فانكسرت ساقه وانخذل ظهره ووقع مغشيا عليه، فشعر به أصحاب الحجاج فأخذوه - وقد أفاق بعض الإفاقة ولا يقدر على النهوض - فأتوا به إلى ابن عم الحجاج، فلما رآه بتلك الحال أيقن أنه لا يقدر أن يبلغ الحجاج حتى يموت، فأمر به فضربت رقبته وانطلق برأسه إلى الحجاج. (2) مقدمات المصرع
وهكذا انتهت حياة هذا الجبار المزهو الذي لم تقف أطماعه عند حد، والذي كان يأبى إلا ازدراء الحجاج والتكبر عليه، ولقد حاول الحجاج أن يترضاه بكل وسيلة، واحتال على استمالته إليه بألف حيلة فلم يفلح، فلم ير الحجاج أمامه إلا أن يمهد له الأسباب ليتعرف حقيقه نواياه بصراحة، ويغريه بالثورة عليه فيشتبك معه في موقعة حاسمة، أو يظل بعيدا عنه حتى يستريح من رؤيته ولا يضايق نفسه بما يبديه له من صلف.
ولقد أراد الحجاج أن يستعين بأسرة ابن الأشعث حين ولي العراق ليكونوا له قوة يعتز بها على أعدائه، فلم يكد يقدم العراق أميرا حتى زوج ابنه محمد من ميمونة بنت محمد الأشعث ليستميل بذلك أهلها وقومها إليه، وقد أفلح في ذلك، وإن أخفق في استمالة أخيها عبد الرحمن بن محمد الأشعث. قالوا: وكان له أبهة في نفسه وكان جميلا بهيا منطيقا - مع ما كان له من التقدم والشرف - فازدهاه ذلك كبرا وفخرا وتطاولا. وقد قربه الحجاج، وألحقه بأفاضل أصحابه وخاصته وأهل سره - كما يقولون - وأجرى عليه العطايا الواسعة؛ صلة لصهره وحبا لإتمام الصنيعة إليه وإلى جميع أهله، فأقام عبد الرحمن كذلك حينا مع الحجاج لا يزيده الحجاج إلا إكراما ولا يظهر له إلا قبولا، وفي نفس الحجاج من عجبه ما فيها، لتشمخه زاهيا بأنفة حتى إنه كان ليقول إذا ما رآه مقبلا: «أما والله يا عبد الرحمن، إنك لتقبل علي بوجه فاجر وتدبر عني بقفاء غادر، وأيم الله لنبتلين حقيقة أمرك على ذلك.»
قالوا: فمكث بهذا القول منه دهرا حتى إذا عيل صبر الحجاج من صلف عبد الرحمن أراد أن يبتلي حقيقة ما يتفرس فيه من الغدر والفجور، وأن يبدي منه ما يكتم من غائلته، فكتب إليه عهده على سجستان.
وإنما أراد الحجاج بذلك أن يمهد له سبيل الثورة حتى يحسم أمره، وقد أدركت أسرة ابن الأشعث ما يريده الحجاج، وذعرت من ذلك أشد الذعر، فتوسلوا إلى الحجاج أن يرجع عن عزمه فلم يقبل، فقالوا له: «أصلح الله الأمير، إنا أعلم بك منك فإنك به غير عالم ولقد أدبته بكل أدب، فأبى أن ينتهي عن عجبه بنفسه، ونحن نتخوف أن يفتق فتقا أو يحدث حدثا يصيبنا فيه منك ما يسوءنا.»
فقال لهم الحجاج: «القول كما قلتم والرأي كالذي رأيتم، ولقد استعملته - على بصيرة - فإن يستقم فلنفسه نظر.»
وقد صدق رأي الحجاج فيه، فقد توجه ابن الأشعث وهو مصر على الغدر.
رسالة الخلع
ولم يكد يمر عليه عام حتى بعث إلى الحجاج برسالة يخلع بها طاعته ويقول فيها:
1
سلام على أهل طاعة الله وأوليائه الذين يحكمون بعدله ويوفون بعهده ويجاهدون في سبيله ويتورعون لذكره ولا يسفكون دما حراما، ولا يعطلون للرب أحكاما ...
إلى أن يقول:
إن الله أنهضني لمصاولتك وبعثني لمناضلتك حين تحيرت أمورك وتهتك ستورك فأصبحت عريان حيران مهينا لا توافق وفقا ولا ترافق رفقا ولا تلازم صدقا، أؤمل من الله الذي ألهمني ذلك أن يصيرك في حبالك وأن يجيء بك في القرن ويسحبك للذقن، وينصف منك من لم تنصفه من نفسك ويكون هلاكك بيد من اتهمته وعاديته، فلعمري لقد طال ما تطاولت وتمكنت ... إلخ.
وهكذا بدأت الحرب بين ابن الأشعث والحجاج.
ولقد حاول «سعيد بن جبير» أن يرد ابن الأشعث وأصحابه عن عزيمته الجريئة فلم يستطع، فقال لهم: «إن الخلع فيه الفتنة والفتنة فيها سفك الدماء واستباحة الحرم وذهاب الدين والدنيا.»
فقالوا له: «إنه الحجاج وقد فعل ما فعل!»
قالوا: «وما زالوا يذكرون له من مساوئ الحجاج حتى صار معهم وهو كاره.» •••
قالوا وبعث الحجاج «الغضبان الشيباني» ليأتيه بخبر «ابن الأشعث» فتوجه الغضبان إليه وأفضى إليه بسره، وقال له: تغد الحجاج قبل أن يتعشاك.
2
وقد عرف الحجاج ما قاله الغضبان فسجنه
3
مدة طويلة ثم أطلق سراحه فيما بعد. (3) بين الحجاج وابن الأشعث
وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله.
4
المؤرخون
أعد الحجاج جيوشه لمحاربة ابن الأشعث، فجعل ابن الأشعث لا يلقى خيلا إلا هزمها، قالوا: وعلم المهلب بشقاق عبد الرحمن فكتب إليه: (3-1) كتاب المهلب إلى عبد الرحمن
أما بعد، فإنك وضعت رجلك يا ابن محمد في غرر طويل الغي على أمة محمد
صلى الله عليه وسلم
الله الله فانظر لنفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تغرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم ولا استحلال محرم والسلام. (3-2) كتاب المهلب إلى الحجاج
وكتب المهلب إلى الحجاج:
أما بعد، فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل، ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم ويشموا أولادهم ثم واقفهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله.
ولكن حقد الحجاج على عبد الرحمن وغيظه منه كان قد بلغا أقصى مدى، فأعمياه عن سماع هذه النصيحة الحكيمة، كما أعميا خصمه عبد الرحمن عن الرجوع إلى سبيل الرشد، فكانت الحرب الهوجاء الطاحنة التي كادت تعصف بالحجاج فتهلكه، ثم دار القدر دورة أخرى في الساعة الحاسمة فانهزم عبد الرحمن وغنم الحجاج الفوز في ساعة اليأس المميت.
ولقد استهان الحجاج برأي المهلب وظنه يخدعه، فقال بعد قراءته: «فعل الله به وفعل، لا والله ما لي نظر، ولكن لابن عمه نصح.»
والحق أن المهلب قد نصح ابن عمه كما نصح الحجاج، وكان بعيد النظر سديد الرأي موفق التدبير، وقد ظهر للحجاج بعد نظر المهلب وصدق رأيه حين هزمه ابن الأشعث فقال: «لله أبوه، أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي ولكن لم نقبل.»
ولقد امتلأ ابن الأشعث غرورا بعد هزيمة الحجاج، وظهرت مطامعه الجريئة واضحة في قوله وهو يخطب أصحابه: «أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك.» (3-3) وقعة الزاوية
قال أبو الزبير الهمداني: كان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في المحرم من سنة 82، فتزاحفوا ذات يوم، فاشتد قتالهم، ثم إن أهل العراق هزموهم حتى انتهوا إلى الحجاج وحتى قاتلوهم على خنادقهم وانهزمت عامة قريش وثقيف.
ثم إنهم تزاحفوا في المحرم في آخره - في اليوم الذي هزم فيه أهل العراق أهل الشام - فنكصت ميمنتهم وميسرتهم واضطربت رماحهم وتقوض صفهم حتى دنوا منا. (3-4) ساعة حرجة
قال الهمداني: فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه وانتضى نحوا من شبر من سيفه وقال: «لله در مصعب ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل !»
فعلمت أنه والله لا يريد أن يفر، فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فيه فأضربه بسيفي فغمزني غمزة شديدة فسكنت. (3-5) انتصار الحجاج
قال: وحانت مني التفاتة فإذا سفيان بن الأبرد قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة فقلت: «أبشر أيها الأمير فإن الله قد هزم العدو.»
فقال لي: «قم فانظر». فقمت فنظرت، فقلت: «قد هزمهم الله.»
قال: «قم يا زياد فانظر.» فنظر، فقال: «الحق - أصلحك الله - يقينا قد هزموا.» قال: فخر الحجاج ساجدا.
فلما رجعت شتمني أبي وقال: «أردت أن تهلكني وأهل بيتي؟!»
وهكذا كسب الحجاج المعركة بعد أن تحقق خسرانها، وأدرك الفوز - وهو على حافة الهلاك - وحاطته العناية والتوفيق في ساعة تشيب فيها النواصي وتنخلع القلوب. (3-6) وقعة دير الجماجم
ونزل دير الجماجم، واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور وغيرهم بدير الجماجم على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له.
كان موقف الحجاج حرجا جدا في هذه الموقعة، فقد علم أن عبد الملك يهم بخلعه وتولية غيره حتى تستتب الأمور، وقد كاد يتم خلعه، ورأى الحجاج أن خسران هذه الوقعة البوار أهون منه، ففرق الأعطيات واستحث الجند وتخير للموقعة الحاسمة يوم الأربعاء.
قالوا: «وهو يوم يتطير به أهل العراق؛ فلا يتناكحون ولا يسافرون فيه ولا يدخلون من سفر ولا يبايعون فيه بشيء.»
وقد حمي وطيس الحرب واشتد القتال وكسرت ميسرة جيش الحجاج.
قالوا: «فحمل سفيان على جيش ابن الأشعث وهم بالميسرة مشغولون قد طمعوا فيها فهزمهم وكانت الغلبة له.»
ساعة النصر
ولما انهزم ابن الأشعث دعا الحجاج بدابته فركبها - بعد سجود ودعاء وشكر - وكبر الحجاج وكبر أصحابه معه تكبيرا عاليا.
قالوا: ثم انتهوا إلى ربوة فأومأ إليها ثم استقبل ناحيتهم والسيوف تأخذهم، وحسر بيضته عن رأسه، فجعل يقرع رأسه بخيزران في يده وهو يتمثل بهذه الأبيات:
5
كيف ترجون سقوطي بعدما
جلل الرأس بياض وصلع
ساء ما ظنوا وقد أريتهم
عند غايات المدى كيف أقع
رب من أنضجت غيظا قلبه
قد تمنى لي موتا لم يطع
ويراني كالشجا في حلقه
عسرا مخرجه ما ينتزع
مزيد يهدر ما لم يرني
فإذا أسمعته صوتي انقمع
ويحييني - إذا لاقيته -
وإذا يخلو له لحمي رتع
ورث البغضاء عن والده
حافظا منه الذي كان استمع
ولساني صيرفي صارم
كذباب السيف ما مس قطع
هلاك ابن الأشعث
وما زال ابن الأشعث يمعن في فراره وجيوش الحجاج تتبعه، حتى لحق بخراسان ورجا في لحوقه بها النجاة من الحجاج والحذر لنفسه، ولم يشعر بالخيل التي في طلبه حتى غشيته، فلم تزل تطلبه من موضع إلى موضع حتى استغاث بقصر منيف.
فحصره ابن عم الحجاج وأحاطت به الخيل من كل جانب حتى ضيق عليه. ودعا بالنار ليحرقه في القصر، فلما رأى ابن الأشعث أنه لا محيص له ولا ملجأ، وخاف النار، رمى بنفسه من القصر وطمع في أن يسلم ولا يشعر به فيدخل في غمار الناس، فيخفى أمره ويكتم خبره، فسقط فانكسرت ساقه وانخذل ظهره ووقع مغشيا عليه.
فشعر به أصحاب الحجاج فأخذوه - وقد أفاق بعض الإفاقة - ولا يقدر على النهوض، فأتوا به إلى ابن عم الحجاج، فلما رآه بتلك الحال أيقن أنه لا يقدر على أن يبلغ الحجاج حتى يموت، فأمر به فضربت رقبته وانطلق برأسه إلى الحجاج.
وهكذا انتهت حياة هذا الجبار، وانقضت مطامعه الجريئة، التي لم تقف عند حد الانتصار على الحجاج بعد تعدته إلى دك الرغبة في عرش الخلافة الأموية وعزل عبد الملك بن مروان، ولكن:
تقفون والفلك المسخر دائب
وتقدرون فتضحك الأقدار
هوامش
مصرع سعيد بن جبير
بعثني الحجاج في حاجة فجيء بسعيد بن جبير
1
فرجعت، فقلت لأنظرن ما يصنع، فقمت على رأس الحجاج، فقال له الحجاج: يا سعيد ألم أشركك في أمانتي؟ ألم أستعملك؟ ألم أفعل حتى ظننت أنه يخلي سبيله.
قال: بلى قال: فما حملك على خروجك علي؟
قال: عزم علي.
فطار غضبا وقال: هل رأيت لعزمة عدو الرحمن عليك حقا، ولم تر لله ولا لأمير المؤمنين ولا لي عليك حقا؛ اضربوا عنقه. فضربت عنقه.
الفضل بن سويد
سبب قتله
قلنا - في الكلام على مصرع عبد الرحمن بن الأشعث - إن سعيد بن جبير ناصره وخلع معه طاعة الحجاج، بعد أن فشل في إقناع ابن الأشعث بالرجوع عن عزمه، وكأنما كان ابن ربيعة يعنيه بقوله:
وخل كنت عين النصح منه
اذا نظرت ومستمعا سميعا
أطاف بغية فنهيت عنها
وقلت له: أرى أمرا شنيعا
أردت رشاده جهدي فلما
أبى وعصى أتيناها جميعا
فلما هزم ابن الأشعث هرب معه سعيد وظل مختفيا والحجاج يطلبه إلى سنة 94 وأخيرا مل سعيد الاختفاء، بعد أن ضيق عليه الحجاج الحصار.
قال له أحد خلصائه: «إن فلانا قد أمر على مكة، وهو رجل سوء لا يؤمن، وأنا أتقيه عليك فاظعن وأشخص.»
فقال له ابن جبير: «قد والله فررت حتى استحييت من الله، سيجيئني ما كتب الله لي.»
وهكذا استسلم ابن جبير لقضاء الله حتى قبض عليه عامل الحجاج وبعث به إليه.
في الطريق إلى المصرع
قالوا: ولما أقبل الحرسيان بسعيد بن جبير، نزل منزلا قريبا من «الربذة» فانطلق أحد الحرسيين في حاجته، وبقي الآخر.
فاستيقظ الذي عنده - وقد رأى رؤيا - فقال له: «يا سعيد أبرأ إلى الله من دمك، إني رأيت في منامي، فقيل: «ويلك، تبرأ من دم سعيد بن جبير!» اذهب حيث شئت، لا أطلبك أبدا.»
فقال له سعيد: «أرجو العافية وأرجو.»
وأبى حتي جاء ذاك. فنزلا من الغد، فأري مثلها فقيل: «ابرأ من دم سعيد.»
فقال: «يا سعيد، اذهب حيث شئت، إني أبرأ إلى الله من دمك.» فلم يقبل سعيد وأصر على الذهاب معهما إلى الحجاج.
قال شاهد عيان: لما رأى الحجاج سعيد بن جبير أقبل عليه وقال له: «يا سعيد، ما أخرجك علي؟»
فقال: «أصلح الله الأمير، إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة.»
فطابت نفس الحجاج وتطلق وجهه ورجا أن يتخلص من أمره.
2
قال: فغضب الحجاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه.
فقال: «يا سعيد ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟»
قال : «بلى .»
قال: «ثم قدمت الكوفة واليا على العراق، فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية؟»
قال: «بلى.»
قال: فتنكث ببيعتين لأمير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك بن الحاتك؟
3
وهنا اهتاج الحجاج وامتلأت نفسه غيظا وحنقا فصاح قائلا: اضربوا عنقه.
حوار قصصي
وقد ذكروا حوارا ظريفا لا نشك في أن للخيال جانبا كبيرا فيه فقالوا: لما قدم سعيد على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال سعيد. قال: ابن من؟ قال: ابن جبير. قال: بل أنت شقي ابن كسير. قال سعيد: أمي أعلم باسمي واسم أبي. قال الحجاج: شقيت وشقيت أمك. قال سعيد: الغيب يعلمه غيرك. قال الحجاج: لأوردنك حياض الموت. قال سعيد: أصابت إذا أمي اسمي. فقال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال سعيد: ولو أني أعلم أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها. قال الحجاج: فما قولك في محمد؟ قال سعيد: نبي الرحمة ورسول رب العالمين إلى الناس كافة بالموعظة الحسنة. فقال الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟ قال سعيد: لست عليهم بوكيل كل امرئ بما كسب رهين. قال الحجاج: اشتمهم أم امدحهم.
قال سعيد: لا أقول ما لا أعلم إنما استحفظت أمر نفسي. قال الحجاج: أيهم أعجب إليك؟ قال: حالاتهم يفضل بعضهم على بعض. قال الحجاج: صف لي قولك في علي؛ أفي الجنة هو أم في النار؟ قال سعيد: لو دخلت الجنة فرأيت أهلها علمت، ولو رأيت من في النار علمت، فما سؤالك عن غيب قد حفظ بالحجاب؟! قال الحجاج: فأي رجل أنا في يوم القيامة؟ فقال سعيد: أنا أهون على الله من أن يطلعني على الغيب. قال الحجاج: أبيت أن تصدقني. قال سعيد: بل لم أرد أن أكذبك. فقال الحجاج: فدع عنك هذا كله، أخبرني ما لك لم تضحك قط؟ قال: لم أر شيئا يضحكني، وكيف يضحك مخلوق من الطين والطين تأكله النار ومنقلبه إلى الجزاء، واليوم يصبح ويمسي في الابتلاء. قال الحجاج: فأنا أضحك. فقال سعيد: كذلك خلقنا الله أطوارا. قال الحجاج: هل رأيت شيئا من اللهو؟ قال: لا أعلمه . فدعا الحجاج بالعود والناي قال: فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد، قال الحجاج: ما يبكيك؟ قال: يا حجاج ذكرتني أمرا عظيما، والله لا شبعت ولا رويت ولا اكتسيت ولا زلت حزينا لما رأيت. قال الحجاج: ما كنت رأيت هذا اللهو؟! فقال سعيد: بل هذا والله الخرق، أما هذه النفخة فذكرتني يوم النفخ في الصور، وأما هذا المصران فمن نفس ستحشر معك إلى الحساب، وأما هذا العود فنبت بحق وقطع لغير حق، فقال الحجاج: أنا قاتلك. قال سعيد: قد فزع من تسبب موتي. قال الحجاج: أنا أحب إلى الله منك. قال سعيد: لا يقدم أحد على ربه حتى يعرف منزلته منه، والله بالغيب أعلم. قال الحجاج: كيف لا أقدم على ربي في مقامي هذا، وأنا مع إمام الجماعة وأنت مع إمام الفرقة والفتنة؟ قال سعيد: ما أنا بخارج عن الجماعة ولا أنا براض عن الفتنة، ولكن قضاء الرب نافذ لا مرد له. فقال الحجاج: كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟ قال سعيد: لم أر شيئا. فدعا الحجاج بالذهب والفضة والكسوة والجوهر فوضع بين يديه قال سعيد: هذا حسن إن قمت بشرطه. قال الحجاج: وما شرطه؟ قال: أن تشتري له بما تجمع الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، وإلا فإن كل مرضعة تذهل عما أرضعت، ويضع كل ذي حمل حمله، ولا ينفعه إلا ما طاب منه. قال الحجاج: جمعنا طيبا. قال: برأيك جمعته وأنت أعلم بطيبه. قال الحجاج: أتحب أن لك منه شيئا؟ قال: لا أحب ما لا يحب الله. قال الحجاج: ويلك! قال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة فأدخل النار. قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه. قال: إني أشهدك يا حجاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أستحفظكهن يا حجاج حتى ألقاك. فلما أدبر ضحك قال الحجاج: ما يضحكك يا سعيد؟! قال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك. قال الحجاج: إنما أقتل من شق عصا الجماعة ومال إلى الفرقة التي ينهى الله عنها. اضربوا عنقه. قال سعيد: حتى أصلي ركعتين. فاستقبل القبلة وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. قال الحجاج: اصرفوه عن القبلة إلى قبلة النصارى الذين تفرقوا واختلفوا بغيا بينهم فإنه من حزبهم. فصرف عن القبلة فقال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله الكافي بالسرائر. قال الحجاج: لم نوكل بالسرائر وإنما وكلنا بالظواهر. قال سعيد: اللهم لا تترك له ظلمي واطلبه بدمي واجعلني آخر قتيل يقتل من أمة محمد.
فضربت عنقه ثم قال الحجاج: هاتوا من بقي من الخوارج. فقرب إليه جماعة فأمر بضرب أعناقهم فقال: «ما أخاف إلا دعاء من هو في ذمة الجماعة من المظلومين، فأما أمثال هؤلاء فإنهم ظالمون حين خرجوا عن جمهور المسلمين وقائد سبيل المتوسمين.» وقال قائل: إن الحجاج لم يفرغ من قتله حتى خولط في عقله وجعل يصيح: قيدونا قيدونا يعني القيود التي كانت في رجل سعيد بن جبير، ويقال متى كان الحجاج يسأل عن القيود ويعبأ بها. •••
وما نحسب الحجاج إلا فزع وارتاع لقتل هذه الشخصية الكبيرة الفذة وندم أشد الندم، ولكن بعد أن سبق السيف العذل.
هوامش
مصرع أبي مسلم الخراساني
وأخذ أبو مسلم بيد المنصور يعركها ويعتذر إليه. ولكن المنصور أسرع فصفق بيده، فخرج عثمان بن نهيك فضربه ضربة خفيفة بالسيف فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه.
فأومأ أبو مسلم إلى رجل أبي جعفر يقبلها ويقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، استبقني لأعدائك. فدفعه برجله وقال له: لا أبقاني الله إذن، وأي عدو لي أعدى منك؟
فضربه شبيب فقطع رجله.
فقال أبو مسلم: واتعساه، ألا قوة؟ ألا مغيث؟
وصاح المنصور: اضربوه، قطع الله أيديكم. فاعتوره القوم بالسيوف فقتلوه. (1) مقدمات المصرع
في الحج
بدأت مطامع أبي مسلم تتجلى واضحة في آخر خلافة أبي العباس وأول خلافة أبي جعفر، وبدأ النفور يظهر رويدا حتى انتهى بهذا الموضوع المروع!
وقد بدأ الخلاف يظهر واضحا والامتعاض يشتد حين كتب أبو مسلم إلى أبي العباس يستأذنه في الحج سنة 136، قالوا: «وإنما أراد أن يصلي بالناس.» فأذن له.
وخشي أبو العباس من نفوذ أبي مسلم وتعاظم شأنه وخطره، فكتب إلى أبي جعفر يقول: «إن أبا مسلم كتب إلي يستأذن في الحج وقد أذنت له، وقد ظننت أنه إذا قدم يريد أن يسألني أن أوليه إقامة الحج للناس، فاكتب إلي تستأذنني في الحج، فإنك إن كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك.» ففعل.
ولم يكد يعلم أبو مسلم بخروج أبي جعفر إلى الحج حتى امتلأت نفسه غيظا وحقدا وقال: «أما وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا.»
ولم تكن مثل هذه الحيلة لتخفى على ذكاء أبي مسلم وبعد نظره، فقد شعر أنهم ينفسون عليه مكانته ويستكثرون عليه ما ناله من رفعة وخطر. قالوا: فاضطغنها على أبي جعفر.
ولم يقف أبو مسلم عند هذا الحد، فكان يتحبب إلى العرب ويستجلب مودتهم قالوا: «وكان يصلح العقاب ويكسو الأعراب في كل منزل ويصل من سأله.» قالوا: «وكسا الأعراب البتوت والملاحف، وحفر الآبار وسهل الطرق. فكان الصوت له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه.»
وفي بعض هذا ما يثير الأحقاد، ويلهب الحسد في نفس أبي جعفر الذي لم ينس له تقدمه عليه في الحج، ولم يترك حيلة إلا احتالها عليه حتى شفى نفسه بالانتقام منه. •••
وإن أبا جعفر ليفكر في الانتقام من أبي مسلم والكيد له، إذا بأبي جعفر ينادى به خليفة المسلمين - بعد أن مات أبو العباس - فيصبح وفي يده كل وسائل الانتقام والكيد.
ثم يكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يعزيه بأمير المؤمنين، ويغفل تهنئته بالخلافة. قالوا: «ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع.»
فيزيد بذلك غضب أبي جعفر، فيأمر بتقريعه في كتاب شديد اللهجة قاسي الأسلوب، فيبعث إليه أبو مسلم يهنئه.
ويريد أبو جعفر أن يعمل بالانتقام من أبي مسلم، فيشير إليه أحد نصحائه البعيدي النظر بالتريث حتى يعد للانتقام عدته. ويحذره من الاشتباك مع أبي مسلم في الطريق، والناس جنده وهم له أطوع وله أهيب، وليس مع أبي جعفر أحد . فيرى صواب رأي هذا الناصح فيأخذ به.
قالوا: فكان يتأخر ويتقدم أبو مسلم. (2) تمادي أبي مسلم في عدائه
فأبلغ أبا أيوب أني قد ارتبت بأبي مسلم منذ قدمت عليه.
إنه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرؤه ثم يلوي شدقه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر فيقرؤه ويضحكان استهزاء.
مسلم بن المغيرة
ولقد وجدت الوشايات مرتعا خصيبا، فقد حاول الواشون أن يتقربوا إلى هاتين القوتين بالتفرقة بينهما، وكان أبو مسلم يعرف حق المعرفة منعة جانبه وعجز أبي جعفر عن الانتقام منه.
وكان أبو جعفر يسترخص كل غال ويذلل كل عقبة في سبيل الانتقام، وكان يميل إلى سماع الاتهام، كما كان خصمه متوتر الأعصاب ثائر النفس متأهبا للانقضاض عليه ودك عرشه.
ولقد اعتز أبو مسلم بقوته أيما اعتزاز، فلم يكن يني عن عناد (أبي جعفر) ومكايدته، فإذا بعث إليه (أبو جعفر) رسولا يسأله عما أصاب من الأموال - بعد أن هزم عبد الله بن علي - غضب أبو مسلم وهم بقتل الرسول،
1
ولم يتركه إلا بعد شفاعة واعتذار بأنه رسول لا ذنب له؛ فيزداد قلق أبي جعفر وإصراره على قتل أبي مسلم.
قالوا: وخاف أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان فتعظم قوته، فكتب إليه كتابا يقول فيه: «قد وليتك مصر والشام، فهي خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام، فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب.»
وما كان أبو مسلم الذكي الفطن ليخفى عليه معنى هذا الكلام، فغضب أشد الغضب حين قرأه، وقال: «هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي.»
قالوا: وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعا على الخلاف، وخرج من وجهه معارضا يريد خراسان.
بين أبي جعفر وأبي مسلم
ثم كتب أبو جعفر إلى أبي مسلم في المصير إليه، فكتب إليه أبو مسلم:
كتاب أبي مسلم
إنه لم يبق لأمير المؤمنين - أكرمه الله - عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان، إن أخوف ما يخاف الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة، غير أنهما من بعيد حيث تقارنهما السلامة، فإن أرضاك ذاك فأنا كأحسن عبيدك، فإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي.
2
كتاب أبي جعفر
قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم؟
فأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سماع ولا طاعة.
وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك.
رسائل أبي جعفر
ولم يكتف أبو جعفر بما كان يبعث به من الكتب المنمقة إلى أبي مسلم، وبما كانت تحويه من العبارات الخلابة والثناء المزيف، فقد كانوا يكتبون إليه يعظمون أمره ويشكرون ما كان منه، ويسألونه أن يتم على ما كان منه وعليه من الطاعة، ويحذرونه عاقبة الغدر ويأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين وأن يلتمس رضاه. نقول: لم يكتف أبو جعفر بذلك، فكان يرسل دهاة الساسة عنده إلى أبي مسلم يغررون به، ويظهرون له إعجاب أبي جعفر بحزمه وشجاعته وتقديره لخدماته وبعد نظره.
فقد بعث بأحد هذه الكتب مع أبي حميد المروروذي وقال له: «كلم أبا مسلم بألين ما تكلم به أحدا، ومنه وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد، إن هو صلح وراجع ما أحب، فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: «لست للعباس وأنا بريء من محمد إن مضيت مشاقا ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم آل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك.» ولا تقولن له هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ولا تطمع منه في خير.»
فيذهب أبو حميد في معشر من دهاة أصحابه وذوي الرأي والتأثير إلى أبي مسلم فيدفع إليه الكتاب ويقول له: «إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله وخلاف ما عليه رأيه فيك حسدا وبغيا يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك.»
ولا يزال يضرب له على هذه الوتيرة ويبالغ له في التعظيم، ثم يقول له: «يا أبا مسلم، إنك لم تزل أمين آل محمد، يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذاك أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينك الشيطان.» فيقول له أبو مسلم: «متى كنت تكلمني بهذا الكلام؟!»
فيقول له متظاهرا بالإخلاص له والحب: «إنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة أهل بيت النبي
صلى الله عليه وسلم
بني العباس، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك، فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم وألف بين قلوبنا بمحبتهم وأعزنا بنصرنا لهم، ولم نلق منهم رجلا إلا بما قذف الله قلوبنا حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن نفسد أمرنا ونفرق كلمتنا، وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه وإن خالفتكم فاقتلوني.»
وهنا يقبل أبو مسلم على أحد أصفيائه فيقول له من غير أن ينخدع: «يا مالك، أما تسمع ما يقول لي هذا؟ ما هذا بكلامه يا مالك.»
فيقول له صاحبه موافقا: «لا تسمع كلامه ولا يهولنك هذا منه، فلعمري لقد صدقت، ما هذا بكلامه، ولما بعد هذا أشد منه فامض لأمرك ولا ترجع، فوالله لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع في نفسه منك شيء، لا يأمنك أبدا.»
ثم يأمرهم بالقيام فينفض المجلس، ويرسل أبو مسلم إلى «نيزك» فيعرض عليه الأمر، فيشير عليه أن يقيم بالري ولا يذهب إلى أبي جعفر، ويقول له: «فيصير ما بين خراسان والري لك، وهم جندك ما يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جندك وكانت خراسان من ورائك، ورأيت رأيك.»
ثم يرسل أبو مسلم إلى أبي حميد رسول أبي جعفر ليبلغه رفضه نصيحته، ويقول له أبو مسلم: «ارجع إلى صاحبك فليس من رأيي أن آتيه.»
فيقول له أبو حميد مدهوشا: «أعزمت على خلافه؟» فيقول له أبو مسلم: «نعم» فيقول له أبو حميد: «لا تفعل.»
ويدور بينهما حوار يتمثل في دهاء أبي حميد ويقظة أبي مسلم، فيلجأ أبو حميد إلى إظهار عاقبة المخالفة وما ينتج عنها من النتائج الخطيرة، فيبدو الوجوم على وجه أبي مسلم، ويتردد في قراره، ثم يصرف عنه أبا حميد.
ولا يفوت أبا جعفر أن يتقرب إلى أنصار أبي مسلم وأعوانه الأشداء بكل وسيلة، فيبعث إلى «أبي داود» خليفة أبي مسلم بخراسان: «إن لك إمرة خراسان ما بقيت.» فيصبح بهذا الوعد من أشد أنصار الخليفة المتحمسين لطاعته، فيكتب إلى أبي مسلم: «إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه
صلى الله عليه وسلم ، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه.» ويوافيه كتاب أبي داود وهو على هذه الحال من التردد والقلق فيزيده رعبا وهما، فيبعث إلى أبي حميد فيقول له: «إني كنت معتزما على المضي إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه فإنه ممن أثق به.»
فإذا ذهب أبو إسحاق - الذي يثق به أبو مسلم - إلى الخليفة أبي جعفر تلقاه الخليفة بالبشر والترحيب وأجازه ورغبه بكل وسائل الترغيب، وقال له: «اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان.»
فيعود أبو إسحاق ووجهه طافح بالبشر لما لقي من عطف الخليفة ولما ظفر به من جائزة ووعد، فيقول لأبي مسلم: «ما أنكرت شيئا، رأيتهم معظمين لحقك يرون لك ما لا يرون لأنفسهم ...» ثم يختم كلامه بنصحه أن يذهب إلى أبي جعفر فيعتذر إليه مما كان منه.
وهكذا تتضافر الظروف كلها على خلق جو من الرهبة، والأمل في نفس أبي مسلم، فيعتزم المضي إلى أبي جعفر، وكأنما كان يصف ابن الرومي حاله حين قال:
تنازعني رغب ورهب كلاهما
قوي وأعياني اطلاع المغايب
فقدمت رجلا رغبة في رغيبة
وأخرت رجلا رهبة للمعاطب
أخاف على نفسي وأرجو مفازها
وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي
ومن أين والغايات بعد المذاهب
وكأنما كان يتنبأ بمصيره حين سأله نيزك ليثنيه عن الذهاب: «قد أجمعت على الرجوع؟»
فقال له أبو مسلم: نعم، وتمثل:
ما للرجال مع القضاء محالة
ذهب القضاء بحيلة الأقوام!
فقال له نيزك: «احفظ عني واحدة، إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك.» (3) أبو مسلم في طريقه إلى مصرعه
نهاب أمورا ثم نركب هولها
على عنت من صاغرين قماء
أبو العلاء
وهكذا خدع أبو مسلم وهو الذكي الفطن، ونسي عزمه على الخلاف ونسي أن أحقاد الخلفاء وذوي السلطة لا سبيل إلى إزالتها إلا بقتل مثيرها. وكتب أبو مسلم إلى الخليفة أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه:
ألا يا قوم للعجب العجيب
وللغفلات تعرض للأريب
ثم أعد أبو مسلم عدته للذهاب، وسار في طريقه إلى الموت حتى وصل المدائن.
أبو جعفر يتأهب لقتل أبي مسلم
والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.
أبو جعفر
قال شاهد عيان:
3
دخلت يوما على أبي جعفر، وهو في خباء شعر، جالس على مصلى بعد صلاة العصر وبين يديه كتاب أبي مسلم.
قال: فرمى به إلي فقرأته، ثم قال: «والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.»
فقلت في نفسي: «إنا لله وإنا إليه راجعون، طلبت الكتابة، حتى إذا بلغت غايتها فصرت كاتبا للخليفة وقع هذا بين الناس.
والله ما أرى أنا إن قتل يرضى أصحابه بقتله، ولا يدعون هذا حيا ولا أحدا ممن هو بسبيل منه.»
قال: «وامتنع عني النوم، ثم قلت: لعل الرجل يقدم وهو آمن، فإن كان آمنا فعسى أن ينال ما يريد، وإن قدم وهو حذر لم يقدم عليه إلا في شر، فلو التمست حيلة.» وقد تملك الخوف قلبه وخشي أن يخفق التدبير المحكم في قتل أبي مسلم ففكر في حيلة أخرى تضمن الفوز.
قال: فأرسلت إلى سلمة بن سعيد فقلت له: «هل عندك شكر؟»
فقال: «نعم.» فقلت: «إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق تدخل معك حاتم بن أبي مسلم سليمان أخي؟»
قال: «نعم.» فقلت وأردت أن يطمع ولا ينكر: «وتجعل له النصف؟» قال: «نعم» قلت له: «إن «ككر» كالت عام أول كذا وكذا وكذا، ومنها العام أضعاف ما كان أول، فإن دفعتها إليك أصبت ما تضيق به ذرعا.»
قال: «فكيف لي بهذا المال؟»
قال: «تأتي أبا مسلم فتلقاه وتكلمه غدا وتسأله أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه أن تتولاها أنت بما كالت في العام الأول، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه - إذا قدم - ما وراء بابه ويستريح ويريح نفسه.»
قال: «فكيف لي أن يأذن أمير المؤمنين في لقائه؟»
قلت: «أنا أستأذن لك.»
ودخلت إلى أبي جعفر فحدثته الحديث كله، فدعا سلمة وقال له: «إن أبا أيوب استأذن لك، أفتحب أن تلقى أبا مسلم؟»
قال: «نعم.» قال: «فقلت أذنت لك، فاقرأه السلام وأعلمه بشوقنا إليه.»
وهكذا أحكمت المؤامرة من كل جهاتها وافتنوا في تدبيرها ما شاء لهم الحقد أن يفتنوا حتى أوقعوا أبا مسلم في حبالهم وهو آمن من مكرهم.
ولم يكد يخرج سلمة فيقابل أبا مسلم حتى قال له: «إن أمير المؤمنين أحسن الناس فيك رأيا» ثم عرض عليه ما جاء فيه من أمر. فانخدع أبو مسلم وطابت نفسه - بعد أن كانت كئيبة - ووعده خيرا.
قالوا: «ولم يزل مسرورا حتى قدم.»
بين يدي المنصور
لو بعث المنصور نادى «أيا
مدينة التسليم لا تسلمي
قد سكن القفر بنو هاشم
وانتقل الملك إلى الديلم
لو كنت أدري أن عقباهم
كذاك لم أقتل أبا مسلم!»
أبو العلاء
قال أبو أيوب: فلما دنا أبو مسلم من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه، فلما كان عشية قدم دخلت على أمير المؤمنين، وهو في خباء على مصلى.
فقلت: «هذا الرجل يدخل العشية فما تريد أن تصنع؟»
قال: «أريد أن أقتله حين أنظر إليه.»
قلت: «أنشدك الله، إنه يدخل معه الناس - وقد علموا ما صنع - فإن دخل عليك ولم يخرج لم آمن البلاء ، ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف، فإذا غدا عليك رأيت رأيك.»
قال أبو أيوب: «وما أردت بذلك إلا دفعه بها، وما ذاك إلا من خوفي علينا جميعا من أصحاب أبي مسلم.»
فدخل عليه أبو مسلم - من عشية - وقام قائما بين يديه، فرحب به المنصور وتلطف معه، ولم يبد له شيئا من النفور حتى لا يرتاب في نواياه.
وقال أبو جعفر: «انصرف يا عبد الرحمن فأرح نفسك وادخل الحمام، فإن للسفر قشفا، ثم اغد علي.» فانصرف أبو مسلم وانصرف الناس معه.
وقد ندم أبو جعفر على تضييع هذه الفرصة بعد أن خرج أبو مسلم من عنده ونقم على أبي أيوب مشورته وقال له: «متى أقدر على مثل هذه الحال منه التي رأيته قائما على رجليه ولا أدري ما يحدث في ليلتي.»
ولما جاءه أبو أيوب في اليوم التالي قال له أبو جعفر والغيظ يكاد يقتله: «يا ابن اللخنا لا مرحبا بك، أنت منعتني منه أمس، والله ما غمضت الليلة.»
قال أبو أيوب: «ثم شتمني حتى خفت أن يأمر بقتلي.» (4) اللقاء الأخير
فقال عثمان قولة ضعيفة: أقتله.
ثم دنت الساعة الحرجة التي يفصل فيها التاريخ قوتين قاهرتين، ويغلب إحداهما على الأخرى، فإما أن ينتصر أبو جعفر فيطيح برأس أبي مسلم، وإما أن يتغلب عليه أبو مسلم فيطيح به وبخلافته ويغير وجه التاريخ.
ولقد كان اسم أبي مسلم وحده كافيا في إزعاج من يسمعه، وكان أبو جعفر يعرف حقيقة ما يقدم عليه من أمر خطير يتوقف مجده على النجاح فيه، ولم يكن أحد يجهل أن فشل المنصور في قتل أبي مسلم معناه الاشتباك معه في حرب طاحنة لا يعرف أي نتيجة تسفر عنها، وأن قتله ربما أثار عليه جنده فعاثوا في المدينة نهبا وقتلا ثم لا يدري أحد عاقبة الأمر. على أن من حسن حظ المنصور أن قواد أبي مسلم وأنصاره كان أكثرهم يخلص له خوفا من بطشه وجبروته، فلم يكد يقتله المنصور ويغريهم بالمال حتى انضموا إليه ونفضوا أيديهم من الأخذ بثأره، بعد أن أمنوا غائلته وبطشه بهم.
وليس أدل على الخوف من أبي مسلم من تلك الدهشة التي كانت تستولي على كل شجاع جريء حين يطلب إليه أبو جعفر أن يفتك بأبي مسلم.
انظر إلى ابن نهيك يدعوه المنصور فيقول له: «كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟» فيجيبه متحمسا: «إنما أنا عبدك، والله لو أمرتني أن أتكئ على سيفي حتى يخرج من ظهري لفعلت.»
فيقول له وهو في حماسته هذه: «كيف أنت إن أمرتك بقتل أبي مسلم.»
وهنا يرتاع عثمان بن نهيك ويبدو عليه الذعر من هول ما يطلب إليه الإقدام عليه، وكأنما انقضت عليه صاعقة من السماء. أيقتل أبا مسلم الذي روع الدنيا ودوخ الممالك وقلب دولة وأقام مكانها أخرى، وكان يهزم الجيش الجرار اسمه وحده؟ هنا يبدو التردد والخوف. وتفتر الحماسة المتقدة، فقد طلب إليه ما لم يكن يخطر على بال.
قالوا: ووجم ساعة لا يتكلم، فقال له أبو أيوب: «ما لك لا تتكلم؟»
فلما أحرج ابن نهيك قال قولة ضعيفة: «أقتله؟!» قال: «انطلق فجئ بأربعة من وجوه الحرس.» فلما كان عند الرواق ناداه: «يا عثمان، يا عثمان.» فرجع، فقال له: «اجلس وأرسل إلي من تثق من الحرس.» وكأنما خشي المنصور أن يتردد ابن نهيك في عزيمته، إذا بعد تأثير شخصيته عليه فأمر ببقائه، وأرسل في طلب أربعة أشداء.
ولقد كان الموقف غاية في الحرج، فقد صار أبو مسلم مع المنصور في بلد واحد، وأصبح أقل همس يصل إليه عن هذه المؤامرة كافيا لإحباطها وقلب التاريخ رأسا على عقب.
وقد كان من الطبيعي أن يتقرب أحد هؤلاء إلى أبي مسلم فيفضي إليه بسر المؤامرة وينال الحظوة عنده، فقد كانت الآمال معقودة به كذلك.
ولما أحكمت المؤامرة أمرهم الخليفة أن يكونوا خلف الرواق حتى إذا صفق خرجوا فقتلوا أبو مسلم، قالوا: «أرسل إليهم رسلا بعضهم على إثر بعض.» فقالوا: «قد ركب.»
قال أبو أيوب: «فقلت يا أمير المؤمنين ألا أخرج فأطوف في العسكر فأنظر ما يقول الناس، هل ظن أحد ظنا أو تكلم أحد بشيء؟»
قال: «بلى» فخرجت، وتلقاني أبو مسلم داخلا فتبسم، وسلمت عليه ودخل فكان هذا آخر أيام أبي مسلم من الدنيا. (5) بين براثن الموت
والعجب لأبي مسلم، حطب لنار أكلته، وقتل في طاعة ولاة قتلته، وليس بأول من دأب لسواه، وأغواه الطمع فيمن أغواه، وإنما سهر لأم دفر،
4
وتبع سرابا في قفر، فوجد ذنبه غير المغتفر عند صاحب الدولة أبي جعفر، وكل ساع للفانية لا بد له من الندم.
رسالة الغفران
ولما دخل عليه أبو مسلم قال له أبو جعفر: «أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بن علي؟» قال: «هذا أحدهما الذي علي.» قال: «أرنيه» فانتضاه، فناوله فهزه أبو جعفر ثم وضعه تحت فراشه. وأقبل عليه يعاتبه، فقال: «أخبرني عن كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين؟»
قال: «ظننت أخذه لا يحل! فكتب إلي فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم.» قال: «فأخبرني عن تقدمك إياي في الطريق؟»
قال: «كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك التماس المرفق.»
قال: «فقولك حين أتاك الخبر بموت العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إلي «نقدم فنرى من رأينا» ومضيت فلا أنت أقمت حتى نلحقك ولا أنت رجعت إلي؟»
قال: «منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب المرفق بالناس وقلت تقدم الكوفة فليس عليه مني خلاف.»
قال: «فجارية عبد الله بن علي، أردت أن تتخذها؟»
قال: «لا، ولكني خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها.» قال: «فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟»
قال: «خفت أن يكون دخلك مني شيء، فقلت آتي خراسان فأكتب إليك بعذري، وإلى ذاك قد ذهب ما في نفسك علي.»
قال: «تالله ما رأيت كاليوم قط، والله ما زدتني إلا غضبا.»
فقال أبو مسلم: «ليس يقال هذا بعد بلائي وما كان مني؟»
فقال: «يا ابن الخبيثة، والله لو كنت أمة أو امرأة مكانك لبلغت ما بلغت، إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا.
ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك؟ والكاتب إلي تخطب آمنة بنت علي وتزعم أنك أبو مسلم بن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت - لا أم لك - مرتقى صعبا.»
وكان أبو جعفر يقول ذلك - ويده ترتعد - فلما رأى أبو مسلم غضبه قال: «يا أمير المؤمنين، لا تدخل على نفسك هذا الغم من أجلي، فإن قدري أصغر مما بلغ منك هذا.»
وأخذ أبو مسلم يده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، ولكن أبا جعفر أسرع فصفق بيده، فخرج عثمان بن نهيك فضربه ضربة خفيفة بالسيف، فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه، فأومأ أبو مسلم إلى رجل أبي جعفر يقبلها ويقول: «أنشدك الله يا أمير المؤمنين، استبقني لأعدائك.» فدفعه برجله وقال له: «لا أبقاني الله إذن، وأي عدو لي أعدى منك؟» فضربه شبيب فقطع رجله.
فقال أبو مسلم: «وا تعساه، ألا قوة ألا مغيث!»
وصاح المنصور: «اضربوه قطع الله أيديكم.»
5
فاعتوره القوم بالسيوف فقتلوه.
هوامش
نامعلوم صفحہ