بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق المبين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الهادين.
وبعد، فقد سألني القاضي الباقلاني (1) فقال (2): أخبرونا عن أسلافكم في النص على أمير المؤمنين عليه السلام (3) أكثير أم قليل؟
صفحہ 21
فإن قلتم: قليل، قيل لكم: فلا تنكرون أن يتواطؤوا على الكذب لأن افتعال الكذب يجوز على القليل.
وإن قلتم كثير، قيل لكم: فما بال أمير المؤمنين سلام الله عليه لم يقاتل بهم أعداءه، لا سيما وأنتم تدعون أنه لو أصاب أعوانا لقاتل! (1) الجواب وبالله الثقة:
صفحہ 22
قيل له: أسلافنا - بحمد الله - في النص كثير لا يجوز عليهم افتعال الكذب، لكن ليس كل من يصلح لنقل الخبر يصلح للجهاد، لأنه قد يصلح لنقل الخبر الشيخ الكبير، الثقة، الأمين، ولا يصلح ذلك لضرب السيف.
وأيضا فليست الحروب الدينية موقوفة على كثرة الرجال، وإنما هي موقوفة على المصلحة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله جاهد وهو في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا (1)، وقعد عن الجهاد يوم الحديبية (2) وهو في ثلاثة آلاف وستمائة رجل (3). فعلمت أن الحروب الدينية الشرعية موقوفة على
صفحہ 23
المصلحة لا على العدد.
قال السائل: فأرنا وجه المصلحة في قعوده عن أخذ حقه لنعلم بذلك صحة ما ذكر تموه؟
قيل له: أول ما في هذا أنه لا يلزمنا ما ذكرت، لأنه الإمام المعصوم من الخطأ والزلل، لا اعتراض عليه في قعود وقيامه، بل يعلم - في الجملة - أن قعوده لمصلحة في الدين والدنيا. (1)
صفحہ 24
ثم تبين بعد ذلك بعض وجوه المصلحة، فيكون بعض ذلك أنه علم أن في المخالفين من يرجع عن الباطل إلى الحق بعد مدة ويستبصر، فكان ترك قتله مصلحة.
ومنه أنه علم أن في ظهورهم مؤمنين لا يجوز قتلهم واجتياحهم، فكان ترك قتلهم مصلحة.
ومنه شفقة منه على شيعته وولده أن يصطلموا (1) فينقطع نظام الإمامة. و هذا كلام معروف يعرفه أهل العدل والمتكلمون، وهو من أصول الدين، ألا ترى أنا إذا سئلنا عن تغريق قوم نوح عليه السلام وهلاك قوم صالح لأجل ناقته، وبقاء قاتل الحسين عليه السلام، والحسين عند الله أعظم من ناقة صالح (2)، لم يكن الجواب إلا ما ذكرناه من المصلحة، وما علمه الله من
صفحہ 25
بقاء من بقاه. (1) فلم يأت بشئ لذلك. (2)
صفحہ 26
تكميل من كلام الشيخ الطوسي (ره) في المفصح فإن قيل: لو كان النص عليه صحيحا على ما ادعيتوه: وجب أن يحتج به وينكر على من يدفعه عن ذلك بيده ولسانه ولما جاز منه أن يصلي معهم ولا أن ينكح سبيهم ولا أن يأخذ من فيئهم ولا أن يجاهد معهم. وفي فعله عليه السلام ذلك كله دليل على بطلان ما تدعونه.
قيل له: الذي منع أمير المؤمنين عليه السلام من الاحتجاج بالنص عليه ما ظهر له بالأمارات اللايحة من... 1 القوم على الأمر واطراح العهد فيه وعزمهم على الاستبداد به مع البدار منهم إليه والانتهاز له وأيسه 2 ذلك عن الانتفاع بالحجة، وربما أدى ذلك إلى دعواههم النسخ لوقوع النص عليه فتكون البلية بذلك أعظم، وإن ينكروا وقوع النص جملة ويكذبوه في دعواه فيكون البلاء به أشد.
وأما ترك النكير عليهم باليد فهو أنه لم يجد ناصرا ولا معينا على ذلك، ولو تولاه بنفسه وحامته لربما أدى ذلك إلى قتله أو قتل أهله وأحبته فلأجل ذلك عدل عن النكير.
وقد بين ذلك عليه السلام في قوله: (أما والله لو وجدت أعوانا لقاتلتهم) وقوله أيضا بعد بيعة الناس له حين توجه إلى البصرة: (أما والله لولا حضور الناصر ولزوم الحجة وما أخذ الله على أوليائه ألا يقروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألفيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز).
فبين عليه السلام أنه إنما قاتل من قاتل لوجود النصار وعدل عن قتال من عدل عن قتالهم لعدمهم.
وأيضا فلو قاتلهم لربما أدى ذلك إلى بوار الاسلام وإلى ارتداد الناس إذ
صفحہ 27
أكثر 1 وقد ذكر ذلك في قوله: (أما والله لولا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم).
فأما الإنكار باللسان فقد أنكر عليه السلام في مقام بعد مقام، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: (لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله،)، وقوله:
(اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم منعوني حقي وغصبوني إرثي)، وفي رواية أخرى: (اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني في) الحجر والمدر...)، قوله في خطبته المعروفة: (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير...) إلى آخر الخطبة، صريح بالانكار والتظلم من الحق.
فأما ما ذكره السائل من صلاته معهم فإنه عليه السلام إنما كان يصلي معهم لا على طريق الاقتداء بهم بل كان يصلي لنفسه وإنما كان يركع بركوع ويكبر بتكبيرهم، وليس ذلك بديل الاقتداء عند أحد من الفقهاء.
فأما الجهاد معهم فإنه لم ير واحد أنه عليه السلام جاهد معهم ولا سار تحت لوائهم، وأكثر ما روى في ذلك دفاعه عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وعن نفسه، وذلك واجب عليه وعلى كل أحد أن يدفع عن نفسه وعن أهله وإن لم يكن هناك أحد يقتدي به.
فأما أخذه من فيئهم فإن ما كان يأخذ بعض حقه، ولمن له حق، له أن يتوصل إلى أخذه بجميع أنواع التوصل ولم يكن يأخذ من أموالهم هم.
وأما نكاحه لسبيهم فقد اختلف في ذلك - فمنهم من قال: إن النبي عليه السلام وهب له الحنفية 2 وإنما استحل فرجها بقوله عليه السلام.
وقيل أيضا: إنها أسلمت وتزوجها أمير المؤمنين عليه السلام.
وقيل أيضا: إنه اشتراها فأعتقها ثم تزوجها.
وكل ذلك ممكن جائز، على أن عندنا يجوز وطء سبي أهل الضلال إذا كان المسبي مستحقا لذلك -، وهذا يسقط أصل السؤال.
فإن قيل: لو كان عليه السلام منصوصا عليه لما جاز منه الدخول في الشورى، ولا الرضا بذلك، لأن ذلك خطأ على مذهبكم.
صفحہ 28
قيل له: إنما دخل عليه السلام في الشورى لأمور:
منها أنه دخلها ليتمكن من إيراد النص عليه والاحتجاج بفضائله وسوابقه، وما يدل على أنه أحق بالأمر وأولى، وقد علمنا أنه لو لم يدخلها لم يجز منه أن يبتدئ بالاحتجاج، وليس هناك مقام احتجاج وبحث فجعل عليه السلام الدخول فيها ذريعة إلى التنبيه على الحق بحسب الإمكان، على ما وردت به الرواية، فإنها وردت بأنه عليه السلام عدد في ذلك اليوم جميع فضائله ومناقبه أو أكثرها.
ومنها أن السبب في دخوله عليه السلام كان للتقية والاستصلاح لأنه عليه السلام لما دعى الدخول في الشورى أشفق من أن يمتنع فينسب 1 منه الامتناع إلى المظاهرة والمكاشفة، وإلى أن تأخره عن الدخول إنما كان لاعتقاده أنه صاحب الأمر دون من ضم إليه فحمله على الدخول ما حمله في الابتداء على إظهار الرضا والتسليم.
بأن قيل: لو كان عليه السلام منصوصا عليه السلام 2 على ما تدعون لوجب أن يكون من دفعه عن مقامه مرتدا كافرا، وفي ذلك، إكفار الأمة بأجمعها، وذلك خروج عن الاسلام:
قيل له: الذي نقوله في ذلك: إن الناس لم يكونوا بأسرهم دافعين للنص وعاملين بخلافه مع علمهم الضروري به، وإنما بادر قوم من الأنصار - لما قبض الرسول عليه السلام - إلى طلب الإمامة واختلفت كلمة رؤسائهم واتصلت حالهم بجماعة من المهاجرين فقصدوا السقيفة عامين على إزالة الأمر من مستحقه والاستبداد به، وكان الدعي لهم إلى ذلك والحامل لهم عليه رغبتهم في عاجل الرياسة والتمكن من الحل والعقد، وانضاف إلى هذا الداعي ما كان في نفس جماعة منهم من الحسد لأمير المؤمنين عليه السلام والعداوة له لقتل من قتل من أقاربهم ولتقدمه واختصاصه بالفضائل الباهرة والمناقب الظاهرة التي لم يخل من اختص ببعضها من حسد وغبطة وقصد بعداوة وآنسهم بتمام ما حاولوه بعض الأنس بتشاغل بني هاشم وعكوفهم على تجهيز النبي عليه السلام فحضروا السقيفة ونازعوا في الأمر وقووا على الأمر وجرى ما هو مذكور.
صفحہ 29
فلما رأى الناس فعلهم - وهم وجوه الصحابة ومن يحسن الظن بمثله وتدخل الشبهة بفعله - توهم أكثرهم أنهم لم يتلبسوا بالأمر ولا أقدموا فيه على ما أقدموا عليه إلا لعذر يسوع لهم ويجوزه، فدخلت عليه الشبهة واستحكمت في نفوسهم، ولم يمعنوا النظر في حلها فمالوا ميلهم وسلموا لهم، وبقي العارفون بالحق والثابتون عليه غير متمكنين من إظهار ما في نفوسهم فتكلم بعضهم ووقع منهم من النزاع ما قد أتت به الرواية، ثم عاد عند الضرورة إلى الكف والامساك وإظهار التسليم مع إبطان الاعتقاد للحق ولم يكن في وسع هؤلاء إلا نقل ما علموه وسمعوه من النص إلى أخلافهم ومن يأمنونه على نفوسهم فنقلوه وتواتروا الخبر به عنهم.
على أن الله تعالى قد أخبر عن أمة موسى عليه السلام أنها قد ارتدت بعد مفارقة موسى إياها إلى ميقات ربه وعبدوا العجل واتبعوا السامري وهم قد شاهدوا المعجزات مثل فلق البحر وقلب العصا حية واليد البيضاء وغير ذلك من المعجزات، وفارقهم موسى أياما معلومة، والنبي عليه السلام خرج من الدنيا بالموت فإذا كان كل ذلك جايزا عليهم فعلى أمتنا أجوز وأجوز.
على أن الله تعالى قد حكى في هذه الأمة وأخبر أنها ترتد، قال الله تعالى: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه! قالوا: فاليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن إذن؟!).
وقال عليه السلام: (- ستفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية وثنتان وسبعون في النار).
وهذا كله يدل على جواز الخطأ عليهم بل على وقوعه فأين التعجب من ذلك؟.
فإن قيل: كيف يكون منهم ما ذكرتموه من الضلال وقد أخبر الله تعالى أنه رضي عنهم، وأعد لهم جنات في قوله: " السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها
صفحہ 30
الأنهار " 1 وقال: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم " 2 وذلك مانع من وقوع الضلال الموجب لدخول النار.
قيل له: أما قوله: " والسابقون الأولون...) فإنما ذكر فيها الأولون منهم، ومن ذكرناه ممن دفع النص لم يكن من السابقين الأولين لأنهم أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وخباب بن الإرث، وغيرهم ممن دفع النص كان إسلامه متأخرا عن إسلام هؤلاء.
على أن من ذكروه لو ثبت له السبق فإنما يثبت له السبق إلى الاسلام في الظاهر والباطن لا يعلمه إلا الله، وليس كل من أظهر السبق إلى الاسلام كان سبقه على وجه يستحق به الثواب، والله تعالى إنما عنى من يكون سبقه مرضيا على الظاهر والباطن، فمن أين لهم أن من ذكروه كان سبقه على وجه يستحق به الثواب.
على أنهم لو كانوا هم المعنيين بالآية لم يمنع ذلك من وقوع الخطأ منهم ولا واجب لهم العصمة لأن الرضى المذكور في الآية وما أعد الله من النعيم إنما يكون مشروطا بالإقامة على ذلك والموافاة به، وذلك يجري مجرى قوله " وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار " 3 ولا أحد يقول إن ذلك يوجب لهم العصمة ولا يؤمن وقوع الخطأ منهم بل ذلك مشروط بما ذكرناه وكذلك حكم الآية.
وأيضا فإنه لا يجوز أن يكون هذا الوعد غير مشروط وأن يكون على الإطلاق إلا لمن علم عصمته ولا يجوز عليه شئ من الخطأ، لأنه لو عنى من يجوز عليه الخطأ بالاطلاق، على كل وجه كان ذلك إغراء له بالقبيح ذلك فاسد بالاجماع، وليس أحد يدعي للمذكورين العصمة فبطل، أن يكونوا معنيين بالآية على الإطلاق.
وأما قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين...) فالظاهر يدل على
صفحہ 31
تعليق الرضى بالمؤمنين، والمؤمن هو المستحق للثواب وألا يكون مستحقا لشئ من العقاب فمن أين لهم أن القوم بهذه الصفة؟ فإن دون ذلك خرط القتاد.
على أنه تعالى قد بين أن المعني بالآية من كان باطنه مثل ظاهره بقوله:
" فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم... " ثم قال: " وأثابهم فتحا قريبا " 1.
فبين أن الذي أنزل السكينة عليه هو الذي يكون الفتح على يديه، ولا خلاف أن أول حرب كانت بعد بيعة الرضوان خيبر، وكان الفتح فيها على يدي أمير المؤمنين عليه السلام بعد انهزام من انهزم من القوم فيجب أن يكون هو المعني بالآية.
على أن ما قدمناه في الآية الأولى من أنها ينبغي أن تكون مشروطة وأن لا تكون مطلقة، يمكن اعتماده هاهنا، وكذلك ما قلناه من أن الآية لو كانت مطلقة كان ذلك إغراء بالقبيح موجود في هذه الآية.
ثم يقال لهم: قد رأينا من جملة السابقين ومن جملة المبايعين تحت الشجرة من وقع منهم الخطأ، ألا ترى أن طلحة والزبير كانا من جملة السابقين ومن جملة المبايعين تحت الشجرة وقد نكثا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام وقاتلاه وسفكا دماء شيعته، وتغلبا على أموال المسلمين، وكذلك فعلت عائشة، وهذا سعد بن أبي وقاص من جملة السابقين والمبايعين تحت الشجرة وقد تأخر عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وكذلك محمد بن مسلمة، وما كان أيضا من سعد بن عبادة وطلبه الأمر خطأ، بلا خلاف، وقد استوفينا الكلام على هذه الطريقة في كتابنا المعروف بالاستيفاء في الإمامة، فمن أراد الوقوف عليه فليطلبه من هناك إن شاء الله.#
صفحہ 32