ويعلم: أن ما سلكه هؤلاء من الكلام معهم مذموم، كما ذمه السلف والأئمة؛ لما تضمن من تكذيب بحق، وتصديق بباطل، وموافقتهم على أقوال باطلة احتجوا بها على أهل الملل، والاحتجاج عليهم بأقوال باطلة ردوها على أهل الملل، وصار من لا يعرف أصول الملل يظن أنها من أصول أهل الملل، فتارة يكفر من ينكرها، وتارة يتلقاها تقليدا لمن قالها؛ لما استقر عنده: أن أصول الملل صحيحة، وتارة ينظر فيها فلا يتبين له صحتها؛ فيبقى شاكا في أصول أهل الملل، وتارة يتبين له فسادها؛ فإما أن يرد على أهل الملل، وإما أن يتبين له مع ذلك فساد أصول الملاحدة الفلاسفة الدهرية؛ فلا يبقى لا مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء، بل حائرا مستريبا شاكا.
وهذه حال حذاق النظار الذين لم يعرفوا حقائق ما جاءت به المرسلون.
فإن هؤلاء المتكلمين من المعتزلة -ومن سلك سبيلهم- وافقوهم على نفي الصفات والأفعال القائمة به عنه سبحانه وتعالى، وأرادوا مع ذلك إثبات حدوث العالم؛ فلزمهم حادث بلا سبب.
فقامت عليهم الفلاسفة وقالوا: حادث بلا سبب محال؛ فلا يكون العالم محدثا ويكون قديما .
فلم يمكن أولائك أن يقولوا: السبب هو صفاته أو أفعاله القائمة به؛ لأنهم نفوا الصفات والأفعال.
فحجة ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة على مثل هؤلاء المتكلمين -وإن كانوا عاجزين عن حل حجته- فكلامهم أسد من كلامه، وهم على بيان فساد / (¬1) قول المتفلسفة أقدر من المتفلسفة على بيان فساد أقوالهم؛ لأن في أقوال المتفلسفة من التناقض والاختلاف أعظم مما في أقوال هؤلاء المتكلمة. إذ كان هؤلاء المتكلمة أقرب إلى الرسل من المتفلسفة.
صفحہ 149