الخرطوم في 19 أغسطس سنة 1883
تلقى الحاكم العام برقية فحواها أن سمو الخديو عينني قائدا عاما للقوات هنا. وهذا أفضل فيما أظن. أما من حيث الشعور الديني فلا إخال أن هناك أي خوف من إثارة روح التعصب. فالمديريتان اللتان يسودهما أحسن الأمن والنظام - وهما دارفور وبحر الغزال - حاكم الأولى رجل نمسوي، وحاكم الأخرى إنجليزي.
وأما علاقتي مع علاء الدين باشا فعلى أحسن ما يرام.
الخلاصة
ومجمل هذا الباب أن السودان كان قبل الثورة المهدية جزءا متمما لمصر غير منفصل عنها. ولما قامت هذه الثورة وكان ذلك قبل الاحتلال البريطاني لمصر أصابت في بداية الأمر بعض النجاح، ولكن لم تلبث هذه الحال بعد تعيين عبد القادر حلمي باشا حكمدارا عاما للسودان أن انقلبت، وكبح هذا الجندي القدير جماح الثائرين تماما بالقوات المحلية وحدها. ولو كان أمد بال 15000جندي التي أمد بها هكس باشا لقضي على الثورة قضاء محققا.
وكانت خطة عبد القادر باشا تنحصر في أن يرابط هو وجيوشه على النيل الأبيض بعد تخليص المنطقة التي في شرقيه من الثوار، وتوطيد الأمن في ربوعها، ويدع المهدي وجموعه في مديرية كردفان الصحراوية، ومرور الزمن على انحصارهم فيها خير كفيل للقضاء على المهدي وأتباعه. وهذا ما رآه سلاطين باشا والكولونيل استوارت الذي درس أحوال السودان جيدا. غير أنه لسوء الحظ أهملت هذه الخطة ولم يعمل بها.
ثم جاء الاحتلال الإنجليزي واستدعي عبد القادر باشا من السودان. وهذا تدبير غير حكيم ولم تقدم عليه مصر من نفسها؛ لأن هذا الضابط أحد أبنائها العاملين، وانتصر على الثوار، وكان ساعيا في انتشالها من شدة من أعظم الشدائد التي لاقتها في أدوار حياتها. فليس من المعقول أو الجائز أبدا أن تكون مصر أقدمت على استدعائه دون إكراهها على ذلك إكراها. وسبب ذلك ليس بخاف ولا يحتاج إلى بحث وعناء. فقد وقع الاحتلال الإنجليزي وحصر جميع المناصب الخطيرة في قبضة الإنجليز. فكان عليه أن يسلم قيادة جيش السودان إلى ضابط إنجليزي يعاونه في عمله ضباط آخرون إنجليز. ولما كان الحماس الديني هو الذي أثار الثورة؛ فقد رؤي من الحكمة أن لا يعين رسميا قائد نصراني على رأس جيش السودان، وأن يعين لهذا المنصب اسميا ضابط مسلم ضعيف الإرادة، حتى يكون الأول القائد الفعلي، وتكون كلمته النافذة وأمره المتبع المطاع.
ولما كان منصب كهذا لا يقبله بالطبع رجل قوي الشكيمة كعبد القادر باشا، فقد استدعي وعين مكانه سليمان نيازي باشا، وهو رجل طاعن في السن، واهن الإرادة والعزم. على أن الأمور لم تجر على ما كان يرام ويشتهى حتى بقيادة هذا الشيخ الاسمية. واقتضت الضرورة أن تدخل المسألة في دور الاضطرار لا الاختيار، وكان لا مفر من تعيين ضابط بريطاني على رأس جيش السودان، فأسند هذا المنصب إلى هكس باشا.
فإذا كانت مصلحة مصر كما يقول الإنجليز في حاجة إلى سيطرة ضباط بريطانيين على هذا الجيش، فلم لم تبد هذه الحاجة قبل احتلالهم لها؟
هذا، ومن يتصفح الوثائق الرسمية التي ذكرناها آنفا نقلا عن كتاب الحكومة البريطانية الأزرق، يتجلى له الدور الذي لعبه قنصل بريطانيا العام في مصر بصفة غير رسمية، محاولا بقوة نفوذه وتدخله جعل يد هكس باشا فيما قل وجل فوق كل يد في السودان.
نامعلوم صفحہ