خامسا:
أن يكون لقناصل الدول أو لمندوبيها الحق في مراقبة تنفيذ هذه الطلبات، وطلبت الدول الثلاث غير هذه الطلبات أن تمنح تركيا للثوار هدنة شهرين، وهددتها بأنها إن لم تنفذ هذه الطلبات مدة الشهرين اتخذت معها طرق القوة والقهر.
وقد قبلت فرنسا وإيطاليا التوقيع على هذه المذكرة، أما إنكلترا فرفضت التوقيع عليها بالمرة.
ولا شك أن المطالع لهذه الشروط يقف مندهشا مستغربا من معاملة دول أوروبا للدولة العلية، واعتدائها عليها بأشنع الصور وأقبحها، ويدرك من نفسه أن هذه الشروط لو كان يطلب تنفيذها من أحقر دول الأرض لكانت رفضت قبولها، ولو أدى رفضها إلى دمارها وخرابها؛ فموت فيه شرف خير من حياة تلطخ بالعار؛ ولذلك كان يستحيل على الدولة العلية أن تقبل هذه الشروط ولو لحظة واحدة؛ فإن طلب الدولة بقاء الجنود العثمانية في جهات مخصوصة وقلاع معينة، مع بقاء المسيحيين مسلحين هو تشجيع للثوار عظيم، وطلب الدول إعطاء الحكومة العثمانية للمسيحيين كل ما يحتاجون إليه من المساعدات المادية، وإصلاح المنازل التي دمرت بسبب الثورة هو طلب لا تستطيع ميزانية تركيا أن تقوم به، وتهديد الدول للدولة باتخاذ طرق القوة والقهر معها إن لم تنفذ طلباتها هو تشجيع لكل أمم البلقان على الثورة ضد الدولة العلية.
ومن سوء حظ الدولة أن أسقط عن عرش السلطنة العثمانية في هذا الوقت الممتلئ بالاضطرابات والأخطار المرحوم السلطان «عبد العزيز خان»، وأجلس مكانه السلطان «مراد الخامس» الذي لم يحكم إلا خمسة أشهر. •••
وبديهي أن الروسيا كانت ترمي إلى إضعاف تركيا بالثورات والاضطرابات والحرب مع أمم البلقان، حتى إذا ثبطت عزيمتها وقلت همتها تحولت ضدها برجالها وقوتها. وهي سياسة لا يمكن لمؤرخ عادل أن يقول إنها سياسة شريفة؛ لأن الروسيا كان يجب عليها أن تحارب تركيا من بادئ الأمر لا أن تهيج ضدها البوسنة والهرسك وصربيا والجبل الأسود وبلغاريا.
فقد قام البلغاريون في وجه الدولة، وجعلوا غايتهم قتل المسلمين؛ فأتوا من الفظائع والجرائم ما لا يستطيع وصفه قلم، وصار أنصار الضلال في أوروبا يكذبون على العالم كله، ويدعون أن الدولة تذبحهم هم ونساءهم وأطفالهم مع أنهم كانوا المعتدين على الأبرياء من المسلمين.
وقد استعدت كذلك صربيا والجبل الأسود لمحاربة الدولة، فاتحد أميرا هاتين الإمارتين ضد الدولة، وحشدا الجنود بكثرة، وأرسلت الروسيا ضابطا من أمهر ضباطها «تشرنايف» لقيادة الجيش الصربي، فلما علمت الدولة العلية باستعدادات صربيا والجبل الأسود الحربية أرسلت إلى أميريهما في 9 يونيو عام 1876 تسألهما عن سبب هذه الاستعدادات، فأجابت الصرب بأنها تطلب من الباب العالي أن تنجلي العساكر العثمانية من مقاطعتي البوسنة والهرسك، وأن تحتل العساكر الصربية مقاطعة البوسنة، وأن تحتل عساكر الجبل الأسود مقاطعة الهرسك؛ فرفض الباب العالي هذا الطلب الغريب بغاية الشدة والشهامة، وأرسل بجيشه إلى حدود الصرب والجبل الأسود، وفي 30 يونيو أعلنت الصرب الحرب على تركيا، وفي 2 يوليو أعلنها الجبل الأسود.
ولما كانت الروسيا تعلم أن تظاهر صربيا والجبل الأسود برغبة احتلال البوسنة والهرسك من شأنه أن يكدر النمسا التي تريد تقوية نفوذها في البلقان، وتطمح إلى الاستيلاء على هاتين المقاطعتين سافر القيصر «إسكندر الثاني» بنفسه إلى «ريشتاد» في بوهيميا، وتقابل مع «فرنسوا جوزيف» إمبراطور النمسا، وتحادث معه طويلا في أمور الشرق. ويحقق كثيرون من المؤرخين بأن القيصر وعد إمبراطور النمسا بإعطائه البوسنة والهرسك بعد انتهاء أزمة المسألة الشرقية، فبقيت النمسا بذلك على الحيادة وقت الحرب بين الدولة العلية وبين صربيا والجبل الأسود.
وقد كان يظن سواس أوروبا وكتابها ورجال الحرب فيها أن الدولة العلية ستقهر في هذه الحرب أمام صربيا والجبل الأسود، ولكنهم علموا بعدئذ أن جنود تركيا لا يزالون ليوثا في الحرب وآسادا في معامع القتال، فقد انتصروا على عساكر الجبل الأسود وجنود صربيا نصرا مبينا بقيادة الغازي عثمان باشا والمرحوم عبد الكريم باشا، وهزموهم في «زيتشار» هزيمة اهتزت لها أوروبا، ومادت لها محافلها ونواديها، ولما شعرت صربيا بأن بلغراد عاصمة بلادها صارت نفسها في خطر طلبت من الدول بتاريخ 28 أغسطس سنة 1876 أن تتوسط بينها وبين الدولة العلية، فسألت الدول الأوروبية الدولة العلية أن تعرض عليها الشروط التي تقبل معها عقد الصلح، فأجابتها بهذه الشروط:
نامعلوم صفحہ