فانتهزت إنكلترا هذه الفرصة للتقرب من الروسيا، وأرسلت في بادئ الأمر إلى بلاد اليونان ثم إلى الآستانة سفيرا يعرض توسط إنكلترا بين الدولة العلية واليونان، فرفضت الدولة طلبه بعد أن قبله اليونانيون الذين كانوا في أسوأ الحالات بفضل «إبراهيم باشا» بطل مصر وابن عزيزها، فاغتاظت إنكلترا من الدولة، وعملت على الإضرار بمصالحها والانتقام منها، وأرسلت «والنجتون» الشهير - بطل واترلو التي هزم فيها نابليون - إلى سان بطرسبورغ؛ ليتفق مع القيصر على المسألة اليونانية ضد الدولة العلية، وبالفعل اتفق معه، وأمضى بينهما اتفاق يتضمن أن الروسيا تقبل توسط إنكلترا بين الدولة العلية واليونان، وأن بلاد اليونان تصير مستقلة استقلالا نوعيا، وأنها تختار بنفسها حاكما عليها.
ومن الغريب أن إنكلترا لما لم تفلح في أمر التوسط بين الدولة العلية واليونان أرادت أن تتوسط بالقوة والقهر، وبالرغم عن الدولة العلية نفسها مستعينة في ذلك بالروسيا، وهكذا كانت إنكلترا تفهم معنى صداقتها لتركيا ومعنى إخلاصها لملك آل عثمان.
ولما رأى المرحوم السلطان «محمود الثاني» أن إنكلترا والروسيا متفقتان ضده، اضطر إلى قبول مطالب الروسيا منتظرا الفرص المناسبة، وأرسل مندوبين من قبله للمخابرة مع مندوبي الروسيا في أمر عقد معاهدة بين الدولتين، وقد اجتمع المندوبون في «آق كرمان» ووضعوا بها في سبتمبر عام 1826 عهدة سميت باسم هذه المدينة، تضمنت أن يكون للروسيا حق الملاحة في البحر الأسود، والمرور من البوغازين بدون أن تفتش الدولة سفنها، وأن تكون بلاد الصرب مستقلة تقريبا ، وتضمنت كذلك بعض شروط مختلفة بامتيازات الأفلاق والبغدان.
ويقول بعض المؤرخين: إن الذي حمل تركيا على قبول هذه المعاهدة غير اتفاق إنكلترا والروسيا ضدها؛ هو تعهد الروسيا صريحا للحكومة العثمانية بعدم التداخل في صالح اليونان.
وقد اجتهدت إنكلترا بعد عقد هذه المعاهدة في استمالة فرنسا لها وللروسيا، وتوصلت إلى عقد اتفاق بينها وبين الدولتين؛ لمساعدة اليونان ضد تركيا، أمضى عليه في لوندرة بتاريخ 6 يوليو سنة 1827. •••
وقد كان هذا الاتفاق أساسا لواقعة «ناورين» الشهيرة، فإن الدول الثلاث لما رأت أن «إبراهيم باشا» فاز في المورة وانتصر نصرا مبينا، وأخضع اليونانيين كافة، وأن الثورة قاربت الانتهاء وأخذ لهيبها في الانطفاء، أمرت كل واحدة منها أميرال أسطولها بأن ينذر «إبراهيم باشا» بالوقوف عن كل عمل عدائي ضد اليونانيين، وبالعودة إلى الإسكندرية مع رجاله وأسطوله؛ فرفض «إبراهيم باشا» هذا الطلب أو هذا الإنذار قائلا لكل أميرال إنه لا يتبع غير أوامر أبيه وأوامر الدولة العلية، ولكنه لما رأى من قواد الأساطيل الأوروبية استعدادهم لإشهار الحرب لأسطوله وعدهم برفع بلاغهم إلى الآستانة وإلى والده الجليل، واتفق معهم على هدنة وقتية لحين ورود أوامر الدولة وأوامر أبيه.
ولكن قواد الأساطيل لم يعملوا باتفاقهم مع «إبراهيم باشا» بل أخذوا يراقبون حركاته وسكناته، ويشجعون - خلافا لشروط الهدنة - كل ضابط يوناني أو أوروبي في خدمة اليونان على مهاجمة المدائن والمواقع التي وقعت في قبضة «إبراهيم باشا» وجنوده، فشجعوا اللورد كوشران على مهاجمة قلعة «فازيلادي» كما شجعوا غيره من الضباط، وقد احتج «إبراهيم باشا» على هذه الأعمال، ولما رأى أن احتجاجه لدى قواد الأساطيل الأوروبية لم يفد شيئا، وتحقق من تشجيعهم اللورد كوشران على مهاجمة مدينة «باتراس» خرج من ميناء «ناورين» مع بعض مراكبه لإنقاذ تلك المدينة التي كان بها فوق الألف مصري، ولكن الأسطول الإنكليزي أنذر «إبراهيم باشا» بالعودة إلى «ناورين»، فعاد هو وأسطوله احتراما للهدنة التي كان يذكره بها قواد الأساطيل الأوروبية، وكانوا لا يذكرون بها أنفسهم.
وجرى عندئذ أن «إبراهيم باشا» نزل إلى البر، وتوغل في المورة ، فانتهز قواد الأساطيل الدولية فرصة غيابه عن الأساطيل المصرية العثمانية، وأجمعوا على تدميرها؛ فأصدر الأميرال «كودرنجتون» الإنكليزي - الذي كانت له القيادة العامة على الأساطيل الفرنساوية والروسية والإنكليزية - أمره باستعداد السفن الدولية، وعين لكل سفينة مكانها، وألقى التعليمات اللازمة لكل ضابط يقود مركبا، وفي يوم 20 أكتوبر سنة 1827 ادعى الأميرال «كودرنجتون» أن مركبا من المراكب المصرية قتل أحد بحارته إنكليزيا من سفينة إنكليزية، وجعل هذه الجريمة المختلقة سببا لتدمير المراكب المصرية والتركية، فسلط عليها الأساطيل المتحدة الدولية حتى دمرتها عن آخرها، وزالت هذه الأساطيل الفخمة في يوم واحد، حيث كان قومندانها الأول وأميرها الأعظم «إبراهيم باشا» متغيبا عنها، ظانا أن قواد الأساطيل الأوروبية يحترمون كلامهم وعهودهم!
ويقدر المؤرخون عدد الذين ماتوا من بحارة مصر في هذه المذبحة الشهيرة بستة آلاف بحري، وقد عد أنصار اليونان مذبحة «ناورين» بواقعة المجد والفخار. أما أنصار الحقيقة فقد قضوا عليها شر قضاء، ووجهوا الملام أشد الملام إلى حكومات فرنسا والروسيا وإنكلترا التي قامت باسم المدنية بأمر ليس فيه إلا العار والشنار، وقد قال إمبراطور النمسا وقتئذ عن حادثة «ناورين» بأنها «مذبحة»! ونعم التسمية، وقال عنها جورج الرابع نفسه ملك إنكلترا: «إنها حادثة مشئومة.»
وقد تهيج الأحرار في إنكلترا ضد الأميرال «كودرنجتون» واعتبروا عمله وحشيا لا شرف فيه ولا فخار، فاضطرت الحكومة الإنكليزية لأن تعلن عدم موافقتها على عمل «كودرنجتون» ولكنها لم تعلن عدم موافقتها على هذا العمل الفظيع الوحشي إلا بعد حدوثه ... ويتضح من المستندات الرسمية التي لا تزال باقية في وزارة البحرية الفرنساوية، والتي أتى على بعضها المسيو «ألفريد لميتر» في كتابه عن استقلال اليونان أن حكومات فرنسا والروسيا وإنكلترا كانت متفقة من قبل على كل ما أتاه قواد أساطيلها، وقد قال الأميرال «كودرنجتون» لما علم بعدم موافقة حكومته على مذبحة «ناورين»: «إن الوزراء يضحونني ليحفظوا مراكزهم.»
نامعلوم صفحہ