ليس غرضنا أن نأتي في هذا الفصل على تاريخ الدولة العلية في القرن الحاضر، بل على أشهر وأهم أزمات المسألة الشرقية؛ فلذلك نهمل الحوادث الصغار، ونفصل الأزمات الشداد أزمة بعد أخرى. (1) الأزمة الأولى: استقلال اليونان
كل من قرأ تاريخ الدولة العلية يعلم أن المرحوم السلطان الغازي «محمد الثاني» لما فتح الآستانة أمن الناس على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم على أموالهم وأرواحهم ودياناتهم وتقاليدهم، حيث اتبع أوامر الشرع الشريف ونشر راية الاعتدال الديني، فنال اليونانيون من هذه المعاملة الحسنة ما لم يكن يخطر لهم على بال من السعادة والرفاهية، ورأوا من سلطان آل عثمان إكراما لهم واحتراما لدينهم ولرجال دينهم، حتى إنه لما انتخب بطريرقهم بعد فتح الآستانة قال له المرحوم السلطان محمد الثاني: «كن بطريرقا لليونان والله يحميك، وفي كل الأحوال والظروف اعتمد على مساعدتي، وتمتع بكل الامتيازات التي كانت لأسلافك من قبل.»
وقد كانت هذه المعاملة الإسلامية فريدة في نوعها، غريبة في بابها، فإن الكاثوليكيين أنفسهم كانوا يعاملون اليونانيين بالاحتقار والازدراء، ويستحيل على المؤرخين أن ينكروا على محمد الفاتح وعلى المسلمين هذه الصفات العالية والمكارم الجليلة التي ظهرت في الآستانة بعد الفتح كشمس تبدد الظلمات، وآية من أكبر آيات الدين الإسلامي الباهر.
وقد أدى هذا الاعتدال الديني إلى نمو التجارة في أيدي اليونانيين، فصاروا بفضل الدولة العلية وبفضل تساهلها الديني أغنياء أثرياء عائشين في أتم الراحة والهناء، ولكنهم لم يحفظوا للدولة العلية عهدا ولم يرعوا لها نعمة، بل أنكروا المعروف والجميل، وصاروا في الصف الأول من أرباب الدسائس العاملين ضد السلطنة العثمانية، وأضر الآلات لأعداء الدولة في قلبها.
وقد بلغت ثقة الدولة العلية برعاياها على اختلاف دياناتهم وأجناسهم وحسن نواياها نحو المسيحيين المحكومين بها أنها عينت لمقاطعات صربيا والأفلاق والبغدان حكاما من اليونانيين مؤملة أنهم يخدمونها بصدق وأمانة كما أكرمتهم وأكرمت أمتهم، فكانوا الأعداء الألداء في ثياب الأصدقاء الأمناء، وعوضا عن أن يقوموا بالواجب عليهم نحو دولة رفعتهم إلى أسمى المناصب استعملوا سلطتهم ونفوذهم في تهييج أهالي هذه البلاد ضد الدولة العلية، وإلقاء بذور الثورات والاضطرابات فيها. •••
وقد أسس المهيجون من اليونانيين جمعية في بلاد الروسيا اسمها «هيتري» - أي الجمعية اليونانية الوطنية - غرضها: استقلال اليونان والانتقام من الدين الإسلامي، وقد ساعد القيصر هذه الجمعية كل المساعدة؛ فأخذت تنمو وتنتشر، وأخذ الكثير من أعضائها يقتلون ويسلبون باسمها وبدعوى المطالبة باستقلال اليونان، وكان «إسكندر إيبسيلانتي» و«ديمتريوس إيبسيلانتي» أهم أعضاء الهيتري في خدمة القيصر الشخصية، وكان «كابوديستريا» زعيم الثورة اليونانية أحد وزراء القيصر إسكندر الأول.
وكان ابتداء الثورة اليونانية دخول «إيبسيلانتي» في المقاطعات اليونانية في عام 1821 محرضا على الثورة بلاد اليونان كلها، وقد اعتبر هذا العمل بإيعاز من الروسيا، وكان من البديهيات أن «إيبسيلانتي» الذي كان ضابطا بمعية القيصر عمل ما عمل بأمر القيصر أو برضاه، وقد أتى «إيبسيلانتي» نفسه بما يدل على ذلك حيث كتب في دعوته للثورة: «وإذا اعتدى أحد من الأتراك على أراضي بلادكم فلا تخشوا له بأسا؛ فإن دولة عظيمة مستعدة لمعاقبة المعتدين عليكم.»
ولم يكن بين دول أوروبا دولة تعارض هذه الحركة اليونانية مثل دولة النمسا، فإنها كانت تحيط الباب العالي علما بكل دسائس ثورويي اليونان، وبكل تشجيعات الروسيا لهم وأعمالها السرية.
أما إنكلترا فكانت خطتها في بادئ الأمر التظاهر بمساعدة تركيا ضد الروسيا، ومقاومة الحركة اليونانية أشد المقاومة، ولكن الدولة العلية أظهرت شكها في نوايا بريطانيا؛ لعلمها بطمعها وجشعها وكراهتها الحقيقية للإسلام. خصوصا وأن سوء قصدها كان قد ظهر باستيلائها على الجزائر اليونانية، وقد جاءت الأيام مبرهنة بأسطع برهان على أن الدولة العلية كانت مصيبة في سوء ظنها بالإنكليز، فقد انقلبت إنكلترا في مسألة الثورة اليونانية ضد الدولة العلية كل الانقلاب، وغيرت كراهتها الأولى لليونانيين بالمحبة العلنية والمساعدة الظاهرة.
ولما علمت النمسا بأعمال الروسيا ومساعداتها لليونانيين بذل وزيرها الأول «مترنيخ» الشهير أقصى جهده لدى القيصر إسكندر الأول؛ ليعيد السكون إلى بلاد اليونان، ويأمر الثورويين بعدم القيام في وجه حكومة المرحوم السلطان محمود، والامتثال والخضوع لأوامر الدولة، وقد أظهر مترنيخ للقيصر إسكندر الأول مقدار الخطر الذي ينتج عن اشتعال نار الفتنة والثورة في بلاد اليونان مبينا له أن تعضيده لثورة اليونان يكون داعيا لانتشار الثورة في كل أنحاء أوروبا ضد الملوك، فأثرت هذه الأقوال على القيصر إسكندر الأول، وأعلن رسميا غضبه وسخطه على إيبسيلانتي، ووجه ملامه لليونانيين ناصحا لهم بالسكينة والانصياع لحكم الدولة العلية.
نامعلوم صفحہ