والمشروع الثالث: يتضمن بقاء الترك على الشاطئ الشمالي للدانوب، وإعطاء صربيا والبوسنة والهرسك للنمسا، وما على شواطئ البحر الأسود للروسيا، مع استقلال التاتار ... وقدم الكونت «ماسين» غير ذلك مشروعات أخرى تتعلق بتقسيم بولونيا بين الروسيا والنمسا والبروسيا.
وقد اطلعت النمسا على هذه المشروعات كلها، وتباحثت فيها واحدا بعد آخر في وقت كانت تعد فيه متحالفة مع تركيا تحالفا يقتضي رد الروسيا عن أملاك الدولة العلية وبقاء تركيا سليمة كما كانت قبل الحرب والمحافظة على احتلال بولونيا ...
وبينما كانت النمسا تتباحث في هذه المشروعات الغريبة، كان فريدريك الكبير ملك بروسيا يسعى لتقسيم بولونيا مع بقاء مقاطعات الدانوب تحت سلطة الدولة العلية، أي لحل المسألة الشرقية في بولونيا كما قدمنا.
أما الدولة العلية: فقد قامت بما تعهدت به نحو النمسا، وأرسلت إلى حكومة فيينا بتاريخ 25 يوليو سنة 1771 جانبا من مبلغ المليون جنيه الذي فرضته على نفسها، وقد طلبت الدولة العلية جملة مرات التوقيع على معاهدة التحالف، غير أن النمسا كانت تهمل طلب الدولة رغبة منها في الوصول إلى نوال مآربها وأغراضها بدون حرب وقتال، وقد كانت سياسة «كونيتز» ترمي إلى عقد اتفاق يفيد النمسا فائدة عظمى، إما مع الروسيا ضد تركيا، أو مع تركيا ضد الروسيا؛ فلذلك كان يؤجل كل مرة أمر التوقيع على معاهدة التحالف مع تركيا أملا منه في الوصول إلى عقد اتفاق مع الروسيا يكون أكبر فائدة وأعظم نفعا، وكان يخشى «كونيتز» أنه إذا أمضى على معاهدة الاتحاد مع تركيا تقسم الروسيا والبروسيا بلاد بولونيا بين دولتيهما بدون أن تأخذ النمسا شيئا منها.
ولما رأى كونيتز أن الدولة العلية تلح كثيرا في أمر التوقيع على عهدة التحالف، كتب إلى الحكومة العثمانية بتاريخ 14 أكتوبر سنة 1771 كتاب صدق وإخلاص قال لها فيه: «إن دولته محافظة على عهودها وفية في تحالفها.» ولكنه لم يرسل مع ذلك بالعهدة موقعا عليها.
وفي هذه الأثناء علم سفير إنكلترا بالآستانة اللورد «موري» بأمر المبلغ الذي أرسلته الدولة العلية للنمسا فأخبر سفير دولته في باريس، وهذا أخبر سفير البروسيا بها. فلما علم فريدريك الكبير بهذا الخبر بعث به في الحال إلى القيصر، وكتب إلى سفيره بالآستانة يأمره بأن يرشد وزراء الدولة العلية إلى حقيقة أغراض النمساويين، ويبين لهم أنها تعمل للإضرار بمصالح حكومة جلالة السلطان، وكتب كذلك فريدريك إلى سفيره بباريس يأمره أن يعرض على الوزارة الفرنساوية أن تطلب عقد مؤتمر بالآستانة لعقد الصلح بين الروسيا وتركيا. كل ذلك قصد به فريدريك الكبير أن يظهر النمسا لدول أوروبا بمظهر الدولة الخداعة في ودها الخائنة لعهودها مع تركيا وفرنسا في آن واحد.
وقد كانت الحرب مع تركيا أضعفت الجيوش الروسية كثيرا، وقتالها في بولونيا جعلها في أشد حاجة للراحة والسكينة، فضلا عن أن المال كان ينقص وقتئذ الدولة الروسية، فكتبت «كاترينا» إمبراطورة الروسيا بتاريخ 6 ديسمبر سنة 1771 إلى فريدريك الكبير ملك بروسيا تخبره أنها تنازلت عن مطالبها بشأن «البغدان والأفلاق»، ولكنها تطلب من تركيا التنازل لها عن بعض مدائن منها «بندر» و«أوتشاكوف»، وتعلمه بأنها قبلت تقسيم بولونيا، وإعطاء البروسيا ما طلبته منها؛ أي بولونيا البروسية و«فارميا»، وتطلب القيصرة مقابل ذلك من ملك بروسيا أن يسير عشرين ألف جندي على مقاطعتي «الأفلاق والبغدان» إذا قامت النمسا بمحاربة الروسيا.
وعند وصول هذا الكتاب إلى فريدريك الكبير ملك البروسيا كان همه موجها إلى تقسيم بولونيا وتوسيع دائرة أملاك بلاده، ففرح غاية الفرح بكتاب القيصرة، وانتهى الأمر باتفاق الروسيا والبروسيا على تقسيم بلاد بولونيا التعسة، وصارت النمسا بهذا الاتفاق بين أمرين: إما الوفاء بالعهد لتركيا وفرنسا ومعارضة مشروع تقسيم بولونيا، وإما الاتفاق مع الروسيا والبروسيا وعدم احترام عهودها نحو تركيا وفرنسا. فاختار كونيتز الأمر الثاني عاملا بالمبدأ السياسي القائل: «بأن لا عهد ولا شرف في السياسة»، ووافق الإمبراطور جوزيف والإمبراطورة ماري تيريزيا والدته على خطة كونيتز، وكان ذلك في أوائل عام 1772.
وفي يوم 28 يناير سنة 1772 كتب «كونيتز» إلى حكومة الروسيا يبلغها قبول النمسا لمشروع تقسيم بولونيا، ولمطالب القيصرة نحو الدولة العلية، مظهرا أمله وأمل حكومته في أن النمسا تأخذ من أملاك الدولة العلية شيئا كما أخذت من بلاد بولونيا، أي أن تقسم الدولة العثمانية كما قسمت بولونيا!
وبذلك يرى القارئ أن النمسا بعد أن تحالفت مع تركيا على أن ترد الروسيا عن أملاكها بواسطة المخابرات السياسية أو بواسطة الحرب وأن تدافع عن استقلال بولونيا، وبعد أن قامت إليها الدولة العلية ما طلبت من المال، عرضت بنفسها على الروسيا والبروسيا في يناير عام 1772 تقسيم بولونيا وتجزئة الدولة العلية!
نامعلوم صفحہ