فسألته: وإن صادفتنا أشياء لا يفصل فيها العقل بحكم؟
فقال بحماس: لنبدأ بالعقل باعتباره الإنسان ولننظر أين يذهب بنا.
وواصلنا رحلتنا طوال العامين الأولين من حياتنا الجامعية. واعترضتنا أحداث لم تخطر لنا على بال، فقد ألغى إسماعيل صدقي دستور 1923 وهب الوفد لمحاربته بكل قواه الشعبية.
وكان ثمة يوم رهيب بلغ التوتر فيه مداه، احتلت مفارق الطرق بقوات الشرطة والجيش. ولم يتمكن الشعب من التجمع الذي يصلح أساسا لمظاهرة ضخمة، فعمد الناس من جميع الطبقات إلى التجمد في الحواري والأزقة والشوارع الجانبية، ومنها يندفعون بقوة هاتفين ملقين بالطوب في جميع الجهات، ثم يتفرقون بسرعة ليعيدوا الكرة والرصاص يطاردهم، اشتركنا في مظاهرات ذلك اليوم أنا وطه عنان ورضا حمادة، اشتركنا من أول اليوم في التجمعات المتفرقة والانقضاضات المباغتة والتفرقات السريعة على أنغام الرصاص المتطاير. وشاهدنا المئات وهم يسقطون، كما شاهدنا الجنود وهم ينقضون عليهم كالنسور فيحملونهم بعنف غير إنساني، ويلقون بهم في اللوريات، ويطمسون آثار دمائهم فوق أديم الأرض بالرمل والأتربة، وقبيل المغرب خفت حدة القتال، وندر ظهور التجمعات، ولكن لم يخل الجو من هتافات متقطعة متباعدة ومن طلقات نارية قليلة ولكن مستمرة. وقررنا العودة إلى بيوتنا فسرنا معا مخترقين شارع حسن الأكبر، سرنا متشابكي الأذرع من شدة الإعياء، ونحن نتصبب عرقا، وقال طه عنان وهو يتوسطنا: منذ أشهر والشعب يقاوم، والضحايا يسقطون بلا حساب ولا مبالاة.
فقال رضا حمادة: إنه سفاح متعطش للدماء!
فقال طه: على أي حال فإيجابية الشعب خير من المناقشات الباردة التي نسمعها في صالون أستاذنا الدكتور ماهر عبد الكريم.
وثقل بين أيدينا حتى سألته: هل غلبك التعب؟
ولكنه ثقل أكثر دون أن يجيب فالتفتنا نحوه فرأينا فاه ينفث دما غزيرا، صاح حمادة: أصيب برصاصة.
لم تكن الطلقات قد سكتت، ورأينا لافتة طبيب أسنان فحملناه إليها، ونحن نرتعش من الاضطراب، وكانت العيادة خالية ولكن التمرجي أنامه على كنبه وهرع إلى التليفون لطلب الإسعاف.
ولفظ طه أنفاسه الأخيرة بين أيدينا قبل أن يصل رجال الإسعاف.
نامعلوم صفحہ