فقاطعه سيد شعير: وماذا ستقدم لنا نحن الأصدقاء؟
فأجاب: ستكون سهرتكم في حديقة القصر، وسيقدم لكم أجود ألوان الطعام والخمور والنساء، عهد الله بيني وبينكم.
وهمس رضا حمادة في أذني: سوف يكون يوما تاريخيا يوم يرث صديقنا تركته الخيالية.
وظل يسكر ويحلم بالتركة، يسكر ويحلم، ومع الأيام رق عوده، وجف جلده، وبرغم شبابه جرى المشيب في شعره. وإذا بالباشا العجوز يفاجئ البلد بمغامرة لا تخطر بالبال، فعاد من رحلة بالنمسا بصحبة غادة شقراء فتنة في العشرين من عمرها، قيل إنه ينوي الزواج منها على سنة الله ورسوله. وثار الرأي العام، واضطربت جماعتنا، أما صديقنا فكاد يجن، وما ندري إلا وشعراوي يقيم على الباشا دعوى للحجر عليه باعتباره سفيها. وأدهشنا ذلك وبحثنا عما خفي علينا منه فوضح لنا أن خليل زكي هو الذي أشار عليه بذلك! غير أن قوى مجهولة تدخلت لتعيد إلى الأمر توازنه ، فسافرت الفتاة النمساوية فجأة، وقيل إنها لم توافق على السفر حتى استولت على عشرين ألفا من الجنيهات. وبتدخل السراي كفت الجرائد عن الخوض في الموضوع، وبتدخلها أيضا رفضت دعوى الحجر، واعتكف الباشا في قصره لا يزور ولا يزار، ثم أعلن وقفيته المشهورة التي أوقف أرضه بها للخيرات والمساجد. تذكرنا صديقنا فأحزننا مآله وخيبة آماله، وأقبل علينا في مقهى الفيشاوي سكران كالعادة محمر العينين ذاهل الطرف، نظر في وجوهنا مليا، ثم أغرق في الضحك! وخلع حذاءه فوثب إلى أريكة في صدر المقصورة فتربع عليها وراح يغني:
البخت لو مال حتعمل إيه بشطارتك
وأغرق في الضحك مرة أخرى حتى أعدانا فضحكنا كالمجانين. ولم يطرأ عليه من جديد بعد ذلك سوى الإفراط في الشراب، فكان يشرب في النهار كما يشرب في الليل، ولم يتيسر له من أنواع الخمور إلا الأنبذة الرخيصة الشيطانية، أنبذ السلسلة، ودرب المبلات، وخمارات شارع محمد علي، وخبت شهواته الأخرى كشهوة الطعام وشهوة النساء، وبدا أنه يعيش في منفى من صنعه، يتخاطب بلغته القائمة على الإشارة، ويضحك لخيالاته الراقصة أو يطرق في كآبة حيال أشباحه، وأنه يسير بقوة نحو الذوبان. وحاول جعفر خليل أن يجره إلى دنيا السينما كما فعل مع خليل زكي، ولكنه رفض الفكرة وضحك طويلا، وعرض عليه سيد شعير أن يعمل في المقهى بشرط أن يمتنع عن السكر فضحك أيضا. لم تكن لديه همة ولا رغبة ولا دافع. وقامت الحرب العظمى الثانية، وفي نفس العام توفيت والدته، فأجر البيت وأقام في حجرة مستقلة بمرافقها فوق السطح، وفي عام 1941 أغارت الطيارات الإيطالية على القاهرة في النصف الثاني من الليل، وكان جالسا فوق السطح في غيبوبة تامة من السكر. والظاهر أنه لم يغادر كرسيه إذ وجد مطروحا عليه قتيلا بشظية مستقرة في رأسه. وكان مصرعه أول تجربة من نوعها في حياتنا المشتركة، فهو أول من فقدنا من أصدقاء العمر، وكان جعفر خليل أشدنا حزنا؛ إذ عرف دائما بتعاطفه مع أصدقائنا المنحرفين كسيد شعير وخليل زكي، وجمعنا المأتم حتى الذين باعدت بيننا وبينهم الظروف الطارئة، وجعل سيد شعير يقول بأسف حقيقي: رحم الله شعراوي، كان الوحيد المواظب على زيارتي.
صادق عبد الحميد
قال الأستاذ جاد أبو العلا يقدمه لي في صالونه بالدقي: الدكتور صادق عبد الحميد.
سرت في روحي رعدة وأنا أصافحه، تذكرت الاسم بقوة مخيفة، تذكرت درية زوجته وهي تحدثني عنه، ترى أيكون آخر له نفس الاسم؟ ولكن هذا الأمل تلاشى عندما واصل جاد أبو العلا حديثه قائلا: كان في بعثة قصيرة أخيرا في إنجلترا، ولكنه حصل على الدكتوراه من إنجلترا على عهد طلب العلم، وهو باطني ممتاز ولكنه أديب وفنان وفيلسوف وسياسي أيضا.
إذن فهو زوج عشيقتي دون غيره! ذلك الرجل الذي بلغ الأربعين بالكاد، والذي يفيض حيوية ويتألق ذكاء، وأعجبني حديثه الذكي وجولاته المضيئة في الفن والفكر والسياسة، ووجدته يجذبني بطلاوة الحديث وعمقه وتنوعه، ووجدت في روحه سرا ينفث صداقة راسخة، وازدادت مع الأيام رسوخا، وصفا جوها بقطع العلاقة بيني وبين درية زوجته، وإن لم أخل من ضيق كلما تذكرتها. وبتحريض حار من ناحيته قدمته إلى صالون الدكتور ماهر عبد الكريم، ومجلس الأستاذ سالم جبر. كما قدمته إلى الأستاذ زهير كامل، وخيل إلي كثيرا أنه يضمر تجربة نفسه في الكتابة، ولكنه قنع - ولو إلى حين - بالاستماع والمناقشة، وكان يحظى منهما بسعادة لا توصف. وكان من المتحمسين لثورة يوليو عن إيمان وعقيدة. وكان يحلم بالاشتراكية منذ عهد طلب العلم، ولم تكن له جذور حزبية أو إقطاعية تمنعه من الارتماء في أحضان الثورة. سأله رضا حمادة يوما: أليس لك مأخذ ولو على بعض تصرفاتها؟
نامعلوم صفحہ