واجتاحته موجة من الضحك ثم قال: يتساءلون كثيرا عن سر ازدهار المسرح، أتدري ما هو سر ذلك؟ السر أننا صرنا جميعا ممثلين!
فقلت: وبالرغم من ذلك فقد حقق هذا العهد من الخير ما لم يحققه عهد سابق بلا استثناء!
فقال وهو يتنهد: وأصبح لكل شيء قيمة إلا الإنسان!
فتساءلت بمرارة شديدة: متى كان للإنسان قيمة في بلادنا؟! على الأقل فهو يحرر اليوم من عبوديته الاقتصادية، والطبقية، والعنصرية، وستجيء الخطوة الذاتية عندما يستحقها بجدارة!
وقد بلغ قمة سقوطه الأدبي عندما ألف رسالة صغيرة عن أدب «جاد أبو العلا»! وكان جاد أبو العلا سعى إلى التعرف به حوالي عام 1960 نفس العام الذي تعرف بي فيه. ورغم ذلك كانت الرسالة مفاجأة لي لم أتوقعها بحال. ومهما يكن الثمن الذي قبضه - قيل إنه طاقم تحف عربية وألف جنيه - فقد دل على أن صاحبي تمرغ في السقوط حتى فقد إحساس الحياء الذي يصاحبه، وصدق عبده البسيوني عندما قال لي يوما في حديث جرى لمناسبة الرسالة المذكورة: هذا كتاب لا يجرؤ على تأليفه إلا مومس!
وأوشك زهير كامل أن يعلن ارتداده في ظرفين لولا حسن حظه، أولهما الاعتداء الثلاثي عام 1956 والآخر النكسة عام 1967، ففي كل مرة خيل إليه أن الثورة صفيت وانتهت فتوثب للعمل لمستقبله من جديد، ووضح لي في المرتين مدى ما ينطوي عليه من انتهازية وزيف، بالرغم من أنه يدين للثورة بجاهه وماله، وقارنت بينه وبين رضا حمادة، فكلاهما يتمتع بثقافة إنسانية عميقة وشاملة، وكلاهما من الجيل السياسي السابق الذي أجهضته الثورة، وكلاهما ينتمي إلى عقيدة معادية للاشتراكية، ولكن أحدهما يحتوي على طوية عفنة تتقزز منها الحشرات، والآخر تستقر في أعماقه روح نبيل يستحق الفرد من أجله أن يقدس ويعبد. وفي العام التالي للنكسة دهمته أحداث في صميم أسرته لم تخطر له ببال؛ إذ صمم ابناه المهندسان على الهجرة إلى كندا! ولم يستطع أن يثنيهما عن عزمهما، أما أمهما فمالت إلى تشجيعهما، وما لبث الشابان أن حققا رغبتهما بالفعل، وحزن زهير لذلك حزنا شديدا وراح يقول لي: أنا فلاح، ومن طبيعة الفلاح حبه لالتصاق أبنائه به.
فسألته عما دعاهما للهجرة فقال: الأمل في مستقبل أفضل.
وهز منكبيه في أسف وقال: لم يعد للوطن قيمة، تركاه في محنة قاسية، عن عدم اكتراث أو يأس، وجريا وراء الأمل الخلاب.
واجتاحه غضب مفاجئ فقال: عقلي معهما، ولكن قلبي يتوجع.
وأما كريمته فقد أحبت شابا يونانيا، وهي في رحلة إلى اليونان بصحبة أمها. وبكل بساطة تزوجت منه هازئة بكافة التقاليد، وجعلت زوجته تتردد بين القاهرة وأثينا حتى استقرت بصفة نهائية في موطنها الأصلي قبيل انقضاء العام. ووجد الدكتور زهير كامل نفسه وحيدا في الستين، مريضا بالسكر والضغط .. وهو في ذلك يشبه رضا حمادة غير أن هذا خلق نهايته بنفسه متجاوزا كافة أحزانه، أما زهير فعانى مرارة الوحدة والسأم والهجر، ويوما سألني عبده البسيوني في صالون جاد أبو العلا: هل تعرف نعمات عارف؟
نامعلوم صفحہ