ولم تقع على حنان عيناي مذ غادرت حينا حتى التقيت بها في جليم في مايو 1969 وهي تقترب من الستين من عمرها، أما شقيقها سليمان فقد ترامت إلي بعض أنبائه عن طريق المرحوم جعفر خليل عقب انعطافه إلى الوسط السينمائي؛ إذ صادفه ليلة في استديو مصر وهو يعمل راقصا ضمن فرقة جيء بها للتصوير في بعض مناظر فيلم استعراضي، قال: سلمت عليه وذكرته بنفسي فتذكرني، وأخبرني بأنه هوى الرقص وكرس له حياته.
ودهشت يومذاك لتلك النهاية غير المتوقعة؛ فقال لي جعفر وهو يضحك ضحكته الكبيرة: يبدو لي أنه يمارس هوايته وحياته في حرية مطلقة!
وفي لقاء جليم أخبرتني حنان أن أباها توفي في ختام عام انتقالها من العباسية إثر جراحة لاستئصال الزائدة الدودية، وأن أمها توفيت منذ عامين فقط، أما سليمان فقد انقطع عنها انقطاعا كليا فهي لا تعلم أخباره إلا من المجلات الفنية.
خليل زكي
كان اسمه يطلق على الشر والعدوان بين أصدقاء العباسية. فرضته الجيرة فرضا لا حيلة لنا فيه ولا اختيار، وأي اختلاف معه يعني معركة فلم يفلت أحدنا من عدوانه. حتى اليوم في جبيني أثر من ضربة قبقابه، اختلف رأيانا في حسين حجازي ومحمود مختار، أيهما أمهر في اللعب فقلت إنه حسين حجازي، وقال إنه محمود مختار، ثم كانت ضربة القبقاب فسال الدم على وجهي وجلبابي، وتشاجر مع جعفر خليل لاختلاف حول شارلي شابلن، وماكس لندر. وتضارب مع عيد منصور لاقتراضه منه قرشا ومماطلته في رده، ولم يكن له كفء في مجموعتنا سوى سيد شعير، ولما نشب بينهما القتال شهدنا معركة عادلة لأول مرة، فسال الدم من أنفيهما معا وتمزق جلبابهما، وتخيلنا ما ينتظره في البيت بسبب تمزق جلبابه فتضاعف سرورنا، ولم تجد معه المقاطعة فسرعان ما يتناسى الخصام، ويقبل علينا هاتفا «صافية يا لبن» فإما نقبله وإما يتجدد القتال. على أنه من الحق أن أعترف بأنه لم يخل من فائدة لنا، فقد كان قائدنا في المعارك التي تنشب بيننا وبين غلمان الأحياء القريبة خاصة في أعقاب مباراة الكرة. وكان أبوه عطارا في بين الجناين، وكان يعامله بفظاظة ضرب بها المثل، وكثيرا ما كان ينهال عليه ضربا في الطريق على مرأى من أصحابه، كان يضربه بقسوة وحشية وبلا رحمة، وكان خليل يمقته مقتا ويحلم ليل نهار بموته، وكان الأب مدمن أفيون، وكان خليل من أفشى سره وشهر به في كل مكان، وكان أسوأ مثال لرب الأسرة، ولكنه خص خليل بلب كراهيته وشراسته، وكنا نتابع تلك العلاقة باستغراب وفزع، وفسرها سرور عبد الباقي تفسيرا دينيا فقال: إن الله سلط عليه أباه كما سلط الطوفان على آل نوح!
ولم يفلح خليل في دراسته الابتدائية، ولما تكرر سقوطه شغله أبوه في دكانه وتنفسنا الصعداء كما يقولون، وخيل إلينا أننا تخلصنا من شره، ولكنه لم يغب عنا أكثر من شهر واحد، وأقبل علينا ضاحكا وهو يقول: عادت ريمة لعادتها القديمة.
فقلنا ونحن نداري خيبتنا: خير إن شاء الله. - طردني ابن المجنونة! - من الدكان؟ - ومن البيت!
وجاءنا سيد شعير بالأخبار - كان أبوه تاجرا ومن أصدقاء والد خليل - فأخبرنا بأن خليل اعتدى على زبون بالضرب، وتكررت سرقاته لنقود الدكان حتى اضطر الرجل إلى طرده، وجمنا للأخبار، وأدركنا أنه سيتفرغ لنا بثقله وعناده، وبالفعل تحملنا نفقاته في المقهى والرحلات، وعدا ذلك فلم ندر شيئا عن أين يذهب بقية الأوقات ولا أين ينام ولا كيف يأكل. وفي تلك المرحلة من دراستنا الثانوية اتصل جعفر خليل بدنيا السينما فجره معه ليعمل ضمن الكومبارس فدرت عليه قليلا من النقود، وهناك التقى بسليمان مصطفى الراقص فحام حوله بغريزته النفعية. وما لبثت أن نشأت بينهما صداقة غريبة فسار في ركابه وانتفع إلى أقصى حد بماله. وكان جعفر خليل يحكي لنا مغامراته السينمائية تلك وهو يضحك من أعماق قلبه، حتى قال لنا يوما: صاحبنا تمادى كعادته حتى ضاق به سليمان فطرده!
فهتفنا ونحن نتوقع شرا: طرده؟! - وانقلب عليه يهدده ويتحرش به. - وقع المسكين في شر أعماله! - ولكن سليمان صديق لقوم من الكبراء فما يدري صديقنا خليل إلا وهو يساق إلى نقطة الشرطة، وهناك جلد حتى بح صوته من الصراخ، ثم أفرج عنه بعد ما أخذ عليه تعهد بألا يتعرض للشاب.
وعاد خليل يتسكع هنا وهناك، ثم اختفى زمنا فلم نعد نسمع عنه خبرا، وكان عيد منصور أول من جاءنا عنه بنبأ إذ تسلل ذات ليلة إلى بيت دعارة سرية بالسكاكيني. - فلمحته هناك يجلس مع المعلمة كأنه شريك!
نامعلوم صفحہ