فقال بوجد وحماس: عالم الروح عالم عجيب، أعجب من عالم المادة.
فتابعته باهتمام واحترام فاستطرد: وهو أمل الإنسان في الخلاص الحقيقي.
فقلت مجاملا وصادقا في آن: الإنسان في حاجة إلى الخلاص.
فقال بحرارة متشجعا بإقبالي: حضارتنا مادية، وهي تحقق بالعلم - كل يوم - انتصارات مذهلة وتمهد لسيطرة الإنسان على دنياه، ولكن ما جدوى أن تملك الدنيا وتفقد نفسك؟
فقلت بحذر: على الإنسان أن يملك الاثنين!
فابتسم بعذوبة وقال: لعلك لا تؤمن بقولي، أو لعلك لا تؤمن به كل الإيمان، ولكن ثق من أن عالم الروح حافل بالمجاهل كعالم المادة، وأن التنقيب فيه يعد الإنسان بانتصارات مذهلة لا تقل عن انتصاراته في غزو الفضاء، وأنه لا ينقصنا إلا أن نؤمن بمنهج روحي كما نؤمن بالمنهج العلمي، وأن نؤمن أيضا بأن الحقيقة الكاملة هي ملتقى طريقين لا غاية طريق واحد. - حكمة معقولة.
فرنا إلي بنظرة حنون من عينيه السوداوين - أدركت لونهما لأول مرة - وقال برثاء وشفافية: ما أضعف صوت الحق وسط هدير الآلات، ولكن ما أحوج الإنسانية اليوم إلى منقذ.
فسألته بحب استطلاع: كيف تتصور المنقذ؟ - أتصوره رجلا أو فكرة أو درسا باهظ الثمن! - كحرب ذرية؟ - ربما، على أي حال أشعر بأن ثمة حجابا يفصل بيني وبينك، ولكنه حجاب شفاف ضعيف الجذور، وأن استعدادك لحب الحقيقة كبير؛ وإني أمارس تحضير الأرواح في بيتي فلعلك تزورني يوما.
وأعطاني بطاقته التي لم يطبع عليها إلا الاسم والوظيفة والعنوان بشارع دير الملاك. ومع أنني تلقيت كلماته بحب لا باقتناع إلا أنه خطر في جحيم حياتي كعبير زهر اللارنج. وفي مساء اليوم نفسه قابلت الأستاذ سالم جبر في مكتبه بالجريدة، وحدثته عن ناجي مرقص ودعوته، وبإغراء وتحد معا عرضت عليه أن نزوره معا، ولكنه استسخف الفكرة، وذكرني بأنه لم يعد يوجد فاصل بين عالمي المادة والروح، وأن التوغل في حقيقة المادة هو توغل في حقيقة الروح، وأن صديقك يدعوك إلى طقوس سحرية في عصر الفضاء! ولم أر ناجي مرقص بعد ذلك ولكنه يهفو على قلبي أحيانا كذكريات الصبا فأدرك أنه يعيش في ركن من نفسي.
نادر برهان
نامعلوم صفحہ