فضحكت زوجته وقالت: وهذا هو الأهم!
ومضى يشرح الشيوعية باعتبارها نظرية علمية، ولكنني شعرت بأنها حلت في نفسه محل العقيدة الدينية. وفي أعقاب الحرب فصل من الدار الصحفية بإيعاز من الداخلية في ظل الحكم الرجعي الذي سيطر على البلاد بعد إقالة الحكومة الوفدية. وتحرج مركزه، حتى سكنه المتواضع أصبح مهددا بالطرد منه لعجزه عن دفع الإيجار. وكنت أزوره، وأقدم له أحيانا مساعدات لا تغني، ثم تبين لي أن مسكنه يتحول إلى شيء جديد غريب، إلى ملتقى لبعض أهل البلد من أغنياء الحرب، حيث تدور الجوزة. وتجلس زوجته بينهم كربة الاستقبال والبيت! وآثرت - تفاديا للإحراج - أن تقتصر مقابلاتنا على المقهى، وأخذ يبدو لي مكشوف الوجه مستهترا، وماجنا عابثا، ورغم ذلك كله فإن عقيدته لم تتخلخل، ولم يتسلل إليها الفساد، وبقيت جوهرة مدفونة في العفن ولكن محتفظة بقيمتها. وفي عام 1950 رجع إلى عمله بالدار الصحفية، ولكنه لم يغير أسلوبه في الحياة، لزهادة المرتب من جهة ولفقدان الثقة من ناحية أخرى. ولقيت زوجته بعد انقطاع طويل فهالني أن أرى غانية متبرجة ذكرتني بالمحترفات فتقطع قلبي وحزنت حزنا لا حد له، ولعله لاحظ انقباضي إذ قال: مهما يكن من أمرنا فثمة جانب فينا يستطيع أن يصنع المعجزات، وهو الذي خلق الله!
وبعد قيام ثورة يوليو 1952 أمكن بعض زملائه أن يهيئوا له عملا أرقى، فتحسنت أحواله، بل وغير مسكنه، فانتقل إلى شقة في عمارة بميدان الجيزة، رمزا لعزمه على تغيير أسلوبه في الحياة، وممارسة حياة محترمة، وبسبب نشاطه العقائدي اعتقل أعواما حتى اضطرت زوجته إلى اللجوء إلى حماية أحد زبائن بيتها القديم. ولما خرج من المعتقل خرج متعبا متقززا، استعاد عمله ودخله ولكنه لم يستطع استنقاذ زوجته. قال: أدمنت الأفيون.
وهز رأسه في رثاء وقال: إني أحبها، وسأحبها إلى الأبد، ولكنها لم تعد قادرة على إعطاء الحب!
ثم بغضب: إني أحمل على الفساد بصدق أيان أجده، ولا يخيفني أن يشهر بي أحد.
وقدس علاقته بها، متفانيا في الإخلاص لها والتسامح معها، فهيأ لها الحياة الطيبة، ولم يسمح لنفسه بمحاسبتها على تصرف، تواجدت أم غابت، استقامت أم استهترت. وزحف عليه العجز قبل الأوان فلم يبق له من مسرات الدنيا إلا العمل والحديث والتسامح اللانهائي مع زوجته. وبالرغم من آلامه وحرمانه وتدهور زوجته المحبوبة فقد بلغ في تلك الفترة غاية نضجه وأعطى أطيب ثماره فتتابعت مقالاته السياسية والاجتماعية متسمة بالطلاوة والعمق، وإني لأعد كتابه عن الفكر العربي التقدمي من أمتع الكتب المعاصرة وأقواها إيحاء وتفاؤلا، كما أعد وجهه الشعبي، وتناقضات حياته الشخصية، ومتاعبه الجسمانية، ووحدة ذهنه وصفائه، مثالا لعصر مضطرب جياش بعوامل هدم وبناء، وتفكك وتجمع، ويأس وأمل. ولشد ما تألمت عندما لم أجد من أستاذي الدكتور ماهر عبد الكريم استعدادا للترحيب به في صالونه، فقال بهدوئه المعروف: يقال إنه شخص ...
وابتسم ابتسامة استغنى بها عند تسجيل وصف لا يرتاح إليه ذوقه الرفيع! وعلمت أن الذي وشى به عنده هو جاد أبو العلا، ذلك الشخص الذي لا وجود له في الواقع!
عدلي بركات
له في الذهن صورة قديمة، كالعباسية القديمة بحقولها وسكونها الأبدي، عندما كان يتهادى به الحنطور من العباسية الشرقية إلى المدرسة، فيغادره وهو يسير - رغم حداثة سنه - في عظمة خيالية تناسب ولاة العرش، ويمر بنا دون أن يلقي نظرة على أحد، وحيدا بلا صاحب إلا فيما ندر، ونتابعه بسخرية تخفي تحتها إعجابا وحسدا. وكان آل بركات - كآل الكاتب - من أرستقراطية العباسية الشرقية المقيمين في القلاع. وكانت أم عدلي تركية، وكان الأب فلاحا مصريا غنيا، فأنجبا غلامين عدلي وأخا أكبر، وماتت الأم وعدلي في الثانية عشرة، فتزوج الأب بعد عام من وفاتها بسيدة مصرية، وقيل لي إن وفاة أمه رسبت الحزن في أعماق روحه، كما إن حلول أخرى محلها قضى على توازنه مدى العمر. تلك أحزان يمكن تخيلها فحسب أما تحليلها فلا سبيل إليه، وبخاصة وأن عدلي لم يكن يذكر سيرة أمه أمام أحد، ولا يسمح لأحد بالتسلل إلى ذلك التاريخ القديم، وبالرغم من أنني عرفته في تدهوره، وهو لا يعترف لشيء باحترام أو يعفيه من سخريته، فإنه كان من المسلم به بيننا أن أمه سر مغلق مقدس لا يجوز مسه أو الحومان حوله أو مجرد التفكير في الاقتراب منه. وكنا في صبانا نراه كثيرا، في المدرسة، وفي حديقة القصر، ولكن لم تنشأ بيننا وبينه أي معرفة أو حتى ميل إلى ذلك. ومرة وكنا عائدين من ملعب الكرة في الصحراء وجدناه واقفا أمام قصره فقرر خليل زكي أن يتحرش به فوقف أمامه وسأله بوقاحة: هل تعرف أين تقع دكان عم فلقوس بياع المدمس؟
فتراجع إلى داخل القصر دون أن ينبس، ومضينا ونحن نكتم الضحك، ونلعن خليل، ولكن اجتاحنا سرور لا شك فيه. وطالما كان خليل يقول: يا ما نفسي أطبق في زمارة رقبته!
نامعلوم صفحہ