هلم نرقص في هواه الفنزجا
فأخذ كل رجل بذراع فتاة، وتمايلت الرءوس، وماست الخصور، وسايرت الأقدام دقات الأنغام، واحمرت الوجنات، ولعبت العيون، وانطلقت الضحكات، وطغى المرح فأطلق لنفسه العنان، وطار العقل، وغادر المكان، وكان صياح، وكان هرج، وكان نزق، وبينما القوم في لهوهم إذ علا عند مدخل البهو صوت فيه رصانة، وفيه نبل، فنظر القوم مبهوتين، فإذا أم الوليد في جلال سمتها، واعتدال قوامها، ترسل نظرات ثاقبة ملؤها الغيظ والغضب، فأطرقوا في خشية وخجل، فقالت: ما هذا يا بني إن جواسيس هشام تحيط بقصري من كل جانب، وقد كنت أرضى كارهة عن الغناء والطرب، أما رقصات العلوج وضجيجهم ففوق احتمالي، وأكثر مما تسعه طاقتي.
وما سمعها القوم حتى تسللوا لواذا مطرقين وجلين.
وبقي الوليد وأمه وأبو رقية فالتفتت الأم إلى الوليد وقالت: يا بني، إن من يريد عرشا لا يصل إليه من هذه الطريق، وإن هشاما يقعد لك كل مرصد، ويسجل كل ما تأتي وما تذر؛ ليثبت لرجال بني أمية أنك لا تصلح للخلافة، وأن الحقيق بها ابنه مسلمة، ولقد غشي حبي لك على سمعي وبصري، فأغضيت عن شيء من اللهو، ولكني أراك تستمرئ ما أنت فيه، وتجاوز الحد فيما لا يليق بك؛ فبكى الوليد بكاء الطفل واحتضن أمه، وسرت العدوى إلى أبي رقية؛ فسالت دموعه مدرارا، وقال الوليد بين النحيب والنشيج: صفحك يا أمي، إني ولد عاق حقا، ولكن ماذا أعمل وخيال سلمى يعاودني في كل لحظة فيؤجج أشجاني، ويثير أحزاني؟ وكلما حاولت نسيانه والانصراف عنه وثب أمامي ساحرا فتانا، يعبس مرة، ويبسم أخرى، ويغرس في الأمل حينا، واليأس أحيانا، حتى كاد يسوقني إلى الجنون، إنني يا أمي أحاول نسيانه بهذا اللهو، وأجهد في طرده عني بضرب الدفوف وعزف المزاهر، إنني شقي يا أماه، جاه ومال وسلطان ودولة، ولكن أين السعادة بين كل هؤلاء؟ لا أرى لها أثرا، ولا ظلا من أثر، إن صلاحي في سلمى، وحياتي ومماتي لها، فلو أني نلتها أو فزت بكلمة منها لكنت أتقى الأتقياء، وخير الأصفياء.
وهنا تلعثم أبو رقية والدموع لا تزال تنهمر من عينيه وقال: إذا كان في قرب سلمى صلاحك فلم لا تتزوجها؟ فابتدره الوليد قائلا: ألم تعلم بما كان من أبيها أيها المجنون؟ ألم تعلم أني أطرد دونها كما تطرد غرائب الإبل عن المناهل، وأنها أبعد إلى مناط الثريا، وأنأى من آمال الحمقى؟ - هون عليك أبا العباس، فكل شيء ينال إذا صبرت له حتى آمال الحمقى. - وكيف ذلك يا رضيع «الجرنفش»؟ - إني سأفكر بعقلي، وأدبر لك لقاءها؟ - لقد يئس العقلاء من اجتذابها إلي فلم يبق إلا المجانين! - إن الناس يتقون العقلاء؛ لأنهم يعرفون طرق تفكيرهم فيتحصنون منهم، أما المجانين فلهم أسلوب في الحيل لا يهتدي إليه العقلاء، سأذهب إليها غدا، وستراها بعد غد.
فضحك الوليد ضحك اليائس، وأخذ يسخر من أبي رقية ويهزأ به، وأبو رقية مطرق لا ينبس، ثم طلب الوليد المصحف، وشرع يقرأ حتى إذا انتصف الليل ذهب إلى فراشه.
وفي الصباح خرج أبو رقية من القصر، ولما ابتعد عنه كثيرا، وقرب من قصر سعيد بن خالد، أخذ يهارش الصبيان ويغريهم بإيذائه، حتى إذا وصل إلى القصر شرعوا يرجمونه بالحجارة، وقد كثر عددهم، فطفق يصيح ويستغيث، وقد شج رأسه، فخرج العبيد فذادوا عنه الصبيان، وأدخلوه القصر، ولكنه استمر في عويله، وأخذ يرفع الصوت بشتم الصبيان والدعاء عليهم، فأطلت عليه سلمى مع بعض جواريها، وقالت: ماذا أصابك يا أبا رقية؟ - كل ما أصابني بسببك يا سيدتي. - بسببي؟ وهل أنا التي أغرت بك هؤلاء الشياطين؟ - نعم أنت، رأيت لك رؤيا بالأمس فأعجبتني، فجئت لأبشرك بها، فقابلني هؤلاء الأبالسة فشجوا رأسي، ألست أنت السبب في كل هذا؟ فضحكت سلمى ضحكة فاتنة لو سمعها الوليد لباع بها ملك الشام والعراق، ثم أدركتها شفقة على الرجل، ورثاء لما أصابه، وعطف يحسه العاقل على المجانين، فدعته إلى حجرتها، وقالت في دلال وعجب: حدثني بحديث هذه الرؤيا يا أبا رقية. - إنها رؤيا جميلة جدا لم أخبر بها أحدا، وأنا واثق من أنها ستقع؛ لأني لم أر شيئا في المنام إلا تحقق كما رأيته: رأيت مرة ليزيد بن عبد الملك أن حبيبته «حبابة» ستعود إليه، وقد كان يئس من لقائها، فعادت إليه بعد ثلاثة أيام، ورأيت لمسلمة بن عبد الملك قبل سفره إلى العراق أنه سيقود جيشا لمحاربة يزيد بن الملهب، وأنه سيقتله، فلم يمض شهر حتى تحققت الرؤيا. نعم يا سيدتي، إن العقلاء يرون الأشياء في النهار حينما تجيء، ونراها نحن في الليل قبل أن تجيء؛ فأغرقت سلمى في الضحك وقالت: أسرع أبا رقية وخبرني بهذه الرؤيا. - لا بد أن آخذ البشرى أولا. - لك عشرة دنانير. - لا يا سيدتي، وماذا أصنع بالدنانير؟ إنني أريد منك شيئا أعظم من هذا، بشرط أن تقسمي لي بجدك عثمان بن عفان أن تعطيني ما أطلبه منك. - أقسمت بعثمان فماذا تطلب؟ - أطلب طبقا من هريسة.
فأغرقت في الضحك، وأعجبها ما في الرجل من بلاهة وظرف، وأشارت إلى الجواري أن يغادرن الحجرة، واتجهت إليه قائلة: لك ما تطلب يا أبا رقية فاقصص رؤياك. - رأيت يا سيدتي كأنني في ميدان قصر الخلافة، وإذا بك أنت نفسك يا سيدتي تجرين في ذعر ووهل، ووراءك أسد مفترس ما رأيت في حياتي أشد منه شراسة وأنكر زئيرا، وكنت تصيحين وتستجيرين، فاجتمع الناس وملئوا جوانب الميدان، فأعدت النظر إلى الأسد، فإذا هو ينقلب رجلا أمرق العينين، أحمر الوجه، غزير شعر الحاجبين، أصفر شعر اللحية كثها، عظيم الشفتين، بخده الأيسر أثر ضربة سيف كاد يشوه وجهه، فنظرت إليه سلمى في ذهول وقالت: أنا أعرف هذا الرجل. - أنا لا أعرفه يا مولاتي، ولكني في النوم سمعت الناس يصيحون: ابن عنبسة، ولا أدري من هو. - نعم هو ابن عنبسة، يزيد بن عنبسة، إنه خطبني من أبي. - هذا لم يكن في منامي، ولا شأن لي بالرجل ولا بخطبته، انقلب الأسد رجلا في الوصف الذي ذكرت كأنني أراه أمامي الساعة، وكان في يده خنجر هم أن يطعنك به، فصحت وحاولت التخلص من يديه، وبينما أنت كذلك إذ أقبل رجل يشق صفوف الناس، وسيفه في يده، وعلى وجهه الشهامة والبطولة، وغضب الكريم لعرضه وشرفه، فصاح الناس: الوليد أمير المؤمنين. الخليفة. فرجعت البصر فإذا هو مولاي الوليد بن يزيد، فسألت رجلا بجانبي: أأصبح الوليد خليفة؟! فأجاب: نعم، أصبح الخليفة أيها الأبله، ألم تعلم أن هشاما مات منذ سنوات، وأنه الآن خليفة المسلمين؟ فسكت وترقبت فإذا الوليد يهجم بسيفه فيشطر الرجل الذي أراد طعنك بخنجره شطرين، ويأخذ بذراعك في رفق وحنان، ثم يمشي بك حتى يبلغ دار الخلافة بين صياح الصائحين، والدعاء لك ولزوجك أمير المؤمنين.
كانت سلمى ذاهلة واجمة، كأنها تسبح في حلم آخر، وكانت بفطرتها جمة المطامع، بعيدة الآمال طموحا، وكانت تبغض ابن عنبسة لثقل فيه ودمامة؛ ولأنه جاوز سن الشباب، فلما تعرض لخطبتها طلبت من أبيها أن يسوف الرجل ويمهله؛ لأن قلبها كان يهفو إلى الوليد على الرغم مما عرف عنه، وعلى الرغم من إباء هشام وتحريضه أباها ألا يزوجها إياه كانت تحب الوليد وتخاف رعونته، وكان مما يزهدها فيه، ويخفف من ثورة حبها له سعي هشام الحثيث لخلعه من ولاية العهد، وإطباق أكثر الناس على أنه لا يصلح للخلافة، بعد أن أرخى لنفسه العنان، وإذا ضاعت الخلافة من الرجل لم يبق منه إلا شبح هزيل من بني الإنسان لا جاه ولا غناء فيه، ولكن الرؤيا التي قصها عليها أبو رقية محت من نفسها كل شك، وأججت خامد الآمال، فالتفتت إليه وقالت: وبم تعبر هذه الرؤيا؟ - إنها لا تحتاج إلى تعبير، إنها كفلق الصبح. - وهل أصبح حقا في يوم من الأيام زوجة الخليفة؟ - ذلك بعد أن آكل الهريسة. فضحكت سلمى طويلا، ثم قالت: ولكني لا أحب الوليد، وقد خطبني من أبي، فرد طلبه في عنف وإباء! فكيف أتزوجه؟ لا يا أبا رقية إنك واهم، فلعلك رأيت في منامك فتاة أخرى تشبهني. - لم أرك وحدي، إن الناس الذين كانوا في ميدان الخلافة رأوك معي، وقالوا: هذه سلمى بنت سعيد، على أني أعرف أن الوليد بك صب مفتون، وأنه إنما يعبث ويلهو لينسى حبك بعد أن أيأسه أبوك من قربك، فلو أنه ظفر بك لرأى في حبك كل ما يحجبه عن اللهو والمرح، ثم إني لمحت منذ أيام أن جارية «عاتكة» بنت العباس بن الوليد قد أكثرت التردد على قصر حبابة، وأكثرت من الخلوة بالوليد، وعلمت من الجواري أن عاتكة مفتونة بحب الوليد، وأنها تحاول أن تجتذب مودته بعد أن يئس منك، ولست أبالي أتزوج عاتكة أم تزوج غيرها، ولكني لا أحب عاتكة؛ لأني ائتمنتها مرة على حجر قذفني به الصبيان فضيعته.
ثارت الغيرة في نفس سلمى، وتيقظت فيها غريزة المرأة فقالت : وماذا أعمل للوليد، وقد رأيت أنه محجوب عني وعن قصري؟ ثم ماذا أصنع وقد أقسم أبي ألا يزوجني إياه؟ - إنه يريد أن يطفئ نار غرامه برؤيتك والحديث إليك، أما زواجه بك فقد كتب في سجل القدر، ولن يستطيع يمين أبيك أن يمحو ما كتبه القدر. - وكيف أراه وعلي ألف عين من أهلي؟ - ذلك هين يسير، إنه سيأتي إلى القصر غدا متنكرا في هيئة رجل يبيع ثيابا، ومعه حماره وفوقه بضاعته، ولا تثريب عليك في شراء ثياب من بائع ثياب، فصاحت في خوف ممتزج بالفرح: أنت أعقل مجنون رأيته يا أبا رقية. - وأنت أجن عاقلة رأيتها، عمي صباحا، أرجو ألا ألتقي بالصبيان في عودتي، ثم انفتل من حولها فكأنما ابتلعته الأرض.
نامعلوم صفحہ