انتشرت هذه العلل والأوبئة انتشار النار في الهشيم يوم ريح صرصر عاتية، حتى امتلأت الأرض بالآثام واكتظ البحر بالشرور، ها هي الأمراض لا تنفك تصيب البشر من تلقاء نفسها ليلا ونهارا، فتجر في أذيالها البلاء والشقاء لبني الإنسان في هدوء وسكون، إذ قد جردها زوس العاقل من النطق، فلم يكن هناك مهرب من إرادة زوس.
لما رأت باندورا مغبة العمل الذي أقدمت عليه، وعاقبة فضولها الأثيم، أغلقت الصندوق، ولكن متى أغلقته؟ يا للأسف والحسرة! لقد أغلقته بعد أن ولت جميع محتوياته هاربة، ما عدا «الأمل» الذي ظل باقيا في قاع الصندوق.»
لهذا السبب نرى اليوم أننا - رغم ما يحيط بنا من مصائب وآلام وبلايا وسقام - لا نزال نتمسك بذيل الأمل فلا تستطيع الشرور مهما بلغت أن تسبب تعاسة نفوسنا تعاسة تامة أبدية.
وهناك رواية أخرى، تقول إن باندورا قد أرسلت بأمر من زوس، لتبارك البشر، وإنها كانت تحمل صندوقا به هدايا زواجها، والبركات التي وهبتها إياها الآلهة، فلما فتحت الصندوق، عن غير قصد، هربت جميع البركات ما عدا الأمل، وهناك من يميل إلى تصديق الرواية الثانية، وحجتهم في ذلك أن الأمل، ذلك الدرة الثمينة، جدير بأن يوضع مع البركات والدرر، وليس من المعقول أن يوضع بين الشرور والآثام.
عندما امتلأ الكون بالبشر عقب ذلك، كان العصر الأول عصر طهارة وسعادة، ويسمى «العصر الذهبي» وقد ساد فيه الحق والعدل، ولم تكن الغابات قد قطعت أشجارها لتمدهم بالأخشاب لصنع السفن، ولم يكن القوم بعد قد أقاموا الحصون حول مدنهم، ولم تكن هناك معدات أو أسلحة، من سيوف أو رماح أو خوذات، بل كانوا يعيشون كالآلهة بعيدا عن هموم الحياة وأحزانها دون القيام بأي عمل شاق أو بذل أي مجهود، فلم تحل بهم الشيخوخة العابسة، بل كانت حياتهم كلها فرحا ومرحا وسرورا وولائم.
ولما طواهم الثرى، كانوا كمن أخذتهم سنة من النوم، وكان لهم كل ما هو جميل، إذ كانت الأرض الطيبة تخرج لهم من تلقاء نفسها ثمارا كثيرة وقطوفا دانية، دون حقد أو ضغينة، وكانوا يقيمون في بطاحهم قانعين سالمين، متمتعين بالنعم والرخاء، والسعادة والهناء، يملكون الأغنام الوافرة، والخيرات العديدة، ويحبون آلهتهم المباركين حبا جما.
ما إن اندثر هذا الجيل - وكان يطلق عليه اسم «جيل الأرواح النقية الرحيمة القاطنة على الأرض الطاهرة الخالية من الآثام» - حتى قاموا بحراسة البشر ، فقد كانوا يجوسون خلال مناكب الأرض في حلل من الرذاذ، لمراقبة الأحكام وأعمال القسوة، وعلاوة على ذلك، كانوا يسمون «واهبي الثروة» إذ كانوا قد منحوا ذلك الشرف العظيم الملكي.
عاد القائمون فوق أوليمبوس، بعد ذلك، فصنعوا جيلا ثانية من الفضة، أقل نبلا من الجيل الذهبي، غير مطابق له من حيث الجسد والروح، في ذلك العصر جعل زوس الربيع قصيرا، وقسم السنة إلى فصول، وصار على الناس أن يتحملوا الحر اللافح والبرد القارس، وأصبحت المنازل ذات قيمة عظيمة، إذ كانت الكهوف والمغارات والأكواخ مساكن العصر الأول، ولم تعد المحاصيل والثمار تنمو دون أن يزرعها الإنسان أو يحرث لها الأرض، بل صار لزاما على الفلاح أن يحرث ويبذر ويزرع، وصار على الثور القوي أن يجر المحراث ويتعب مع الإنسان.
كان هذا الجيل الفضي طفلا ترعرع في كنف أمه مائة عام؛ وكان عاجزا كل العجز عن النطق، يلهو في بيته لهو الأطفال، بيد أنهم لما بلغوا عنفوان الشباب واقتربوا من سن الشيخوخة الناضجة عاشوا مدة وجيزة جدا مملوءة بالآثام التي سببتها حماقتهم، إذ لم يستطيعوا كبح جماح أنفسهم عن اقتراف الخطايا، وتضليل بعضهم بعضا، كما أنهم لم يرغبوا في خدمة الآلهة الخالدين، أو تقديم المحرقات فوق مذابح الآلهة المباركين، كما هو الواجب في كل مكان يقيم فيه البشر، فقام زوس في سورة غضبه، فمحا آثارهم عن بكرة أبيهم، لأنهم لم يوفوا الآلهة المباركين الساكنين فوق جبل أوليمبوس حقهم من الاحترام والتعظيم والتبجيل.
عندما لحق هذا الجيل سابقيه من الأجيال المندثرة - وكان يسمى «جيل أرواح العالم السفلي المباركين» ورغم كون أناسه في المرتبة الثانية، فقد لازمهم الشرف أيضا - صنع الأب زوس جيلا بشريا ثالثا من أشجار الدردار، جيلا نحاسيا لا يمت إلى الجيل الفضي بأية صلة، بل كان جيلا ضخما قويا، أعظم وحشية في الطباع، وأكثر استعدادا للنزاع بالعدة والعتاد، فما كانوا يرضون إلا بأعمال الحرب والقتال، وأعمال العنف والنزاع، وكانوا لا يستسيغون الخبز، وكانت لقلوبهم صلابة الصخر، ولذا كانوا مهيبين مرهوبين.
نامعلوم صفحہ