86

مقالات موقع الدرر السنية

مقالات موقع الدرر السنية

اصناف

ففي رأي صاحب تلك النظرية، أن حكم الشريعة في بلاد المسلمين إذا لم يأت عبر صناديق الاقتراع، فالنتيجة شلالات منسكبة من الدماء، وركام من الجماجم والأشلاء، وليس هناك أي فرصة لخيار ثالث. مع أن صاحب هذه المقولة هو نفسه الذي كان يقول: إن الشعوب إذا خيرت، فهي قطعا لن تختار إلا الإسلام!

هل هناك في التناقضات أوضح من هذا؟!

أين يمكن أن توجد هذا الصورة: شعب نقطع ونوقن ونجزم أنه متى خير، فلن يختار مرجعية غير شريعة الإسلام، ولا يمكن أبدا أن يبتغي عنها بديلا. لكن هذا الشعب نفسه سوف يشعل الأرض، ويزلزل الأرجاء، ويحول البلاد إلى أنهار وبحار ومحيطات من الدماء، فيما لو أعلن حاكمه التزامه شريعة الإسلام دون استفتاء وتصويت!

ألا يمكن أن يتصور هؤلاء شعبا مسلما يفرح ويستبشر لو سمع قرارا بالتزام حكومته المتغلبة بدين الله وشرعه؟!

هل الشريعة كائن حي؟

أن يتبنى أحد وجهة نظر خاطئة، فليس ثمة ما يستغرب؛ إذ الجميع يخطئ. لكن البلية حين يكون الخطأ مبنيا على تصور بالغ السذاجة لمسألة اقتحمها الكاتب بجرأة دون أن يفهم أبعادها وحدودها.

وتزداد الصورة قبحا حين يصاغ ذاك التصور الساذج ثم يطرح بلغة الأستاذ الخبير، الذي سوف "يحرك المياه الراكدة"، ويعلم الآخرين كيفية "إعادة تنظيم وترتيب النظرية السياسية في التصور الإسلامي".

يقول صاحب مقالة (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة) معترضا على من حاول أن يشرح له سوء فهمه: "تستغرب أن يأتي بعض المعترضين ويقول: (السيادة لا تكون لأحد من الخلق. السيادة للشريعة فقط). حسنا: أتعلمون ما معنى هذا الكلام؟ وأرجو أن يتحملني البعض، لأني سأبدأ بشرح البدهيات العقلية ومآلات إنكارها. وشرح البدهيات ثقيل على نفوس العقلاء. ولكن ما الحل مكره أخاك لا بطل!! ".

هو هنا وضع نفسه في صورة الأستاذ المحنك، والقانوني الخبير الذي وجد نفسه مكرها على ممارسة مهمة ثقيلة على نفسه؛ مهمة شرح البدهيات العقلية لمن لا يفهمها.

وحين شرع الخبير في الشرح قال:

"إذا قلنا (السيادة للشريعة) فهذا يعني أن الشريعة كائن حي يملك القدرة والإرادة. يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويجلس على عرشه، ويأمر وينهى! وبالتالي: الشريعة هي التي تطبق نفسها في الواقع! وهي التي تنقل نفسها من كونها منظومة من القيم والأحكام والمبادئ إلى كونها دستورا .. وليست بحاجة إلى تصويت واستفتاء الأمة كما يقول التنويريون (هداهم الله).

ثم يضيف شارحا غباء المعترضين عليه:

"بناء على هذا المنطق، إذا أردنا أن نطبق الشريعة في ولاية (لاس فيغاس) بأمريكا مثلا. فيكفي أن نرسل القرآن وصحيح البخاري -زادهما الله تشريفا- إلى (لاس فيغاس)، ونضعهما في أحد البيوت الفخمة، وعلى أحد الرفوف المذهبة. وبإذن الله لن تمر سنة إلى ولاس فيغاس بدون ملاهي وفنادق للدعارة والقمار".

هذا ما قاله صاحب النظرية. وسوف أعترف أن الرجل بحق كان يشرح بدهية ومسلمة عقلية. وقد كان بإمكانه أن يريح نفسه من هذه المهمة الثقيلة عليه، لو أنه أعطى نفسه فرصة لفهم معنى (السيادة) التي يتحدث عنها الجميع.

واختصارا للوقت سوف أشرح له المسألة بنفس طريقته، وأقول له:

صفحہ 86