والكاتب الحسن هو الذي تكثر توتراته إزاء حي بولاق، وإزاء الإمبراطورية البريطانية، وإزاء عشرات بل مئات المظالم والمذابح التي تملأ عصرنا في وطننا وفي غير وطننا.
والكاتب الحسن لا يختار أسلوبه، بل هو لا يختار موضوعه، ثم إن الموضوع يعين الأسلوب؛ لآن الكاتب إذا كان مشغولا بهموم عصره، فإنه لا يكتب عنها فقط بل يكتب الأسلوب الذي تمليه عليه التوترات التي أحسها منها، ولذلك نحن نعرف أسلوب الكاتب من الحال النفسية التي نحسها حين نقرأ الكتاب أو عقب قراءته.
والكاتب العظيم لا يبالي بأي أسلوب يكتب؛ لأنه قانع بتوتراته التي تملي عليه الكلمات والعبارات، وهذا بالطبع بعد تدريب طويل وتربية ذاتية، قد تأصل كلاهما في نفسه وذهنه، فتعين له منهما مزاج ومنطق، وبعد اختبارات حدت من ذهنه، وفتحت بصيرته وأكسبته فلسفة ورسمت له أهدافا.
وبعد هذا الذي ذكرنا عن الأسلوب يجب أن نصل بالقارئ إلى شيء أصيل في بحثنا هذا، وهو أننا كي نتعمق الأسلوب، يجب أن نعرف الكاتب، وأن نتعمق حياته وأخلاقه.
لقد قلنا: إن الكاتب العظيم يحتاج إلى توترات تحمله على الغلو، وأن الأسلوب العظيم، مثل الشخصية العظيمة، يحتاج إلى الغلو، وهذا الغلو هو ثمرة التوترات، غلو في الحزن أو الفرح، طرب الحزن وطرب الفرح. وغلو في الحب أو الغضب، وغلو في الإحساس بالجمال أو القبح وغلو في نشدان الحق أو مكافحة الباطل.
وأكثر الناس توترات هم مرضاهم، وليسوا أصحاءهم ؛ لأن السليم يستطيع أن يتحمل من المكاره والمقابح أكثر مما يتحمل المريض، وخاصة إذا كان مرضه نفسيا؛ إذ هو يشمئز أكثر، وينفر مما ينفر منه السليم، وهو لذلك مرهف الإحساس، كأن أطراف أعصابه مكشوفة جريحة، ولذلك كثيرا ما تجد المؤلف المفكر يشكو لونا من النيوروز، ولكن هذا النيوروز هو في الأغلب نتيجة ذكائه وليس سببه، أي: إنه لذكائه استطاع أن يرى أكثر مما رأى غيره، فأحس وتألم أكثر، وفاض الألم حتى صار نيوروزا أو كاد، فكثرت توتراته ودفعته إلى إدمان التفكير ثم الاختراع، ولا أكاد أعرف مؤلفا عظيما قد خلا من توترات المرض النفسي الذي كان يعانيه، حتى جيته أديب ألمانيا العظيم، الذي يبدو سليما من كل نواحيه، لم يخل منه، وكذلك جون روسكين، أما دستوفسكي، ونيتشه، وتولستوي، وأندريه جيد، وبرناردشو، وولز، فأمراضهم واضحة، وهي ترتفع أحيانا إلى درجة الجنون المطلق، وتنخفض أحيانا إلى درجة الشذوذ، ولكنها تكسبهم في كل حال توترا وغلواء.
ونعود إلى موضوعنا، وهو أننا كي نتعمق الأسلوب، يجب أن نعرف الكاتب، نتعمق حياته، نوقف على تفاصيلها التي كونت أخلاقه، وعينت أهدافه، وخصته بتوتراته، والمؤلف كما يؤلف الكتب التي تباع للجمهور، يؤلف أيضا حياته، وربما تكون حياته هي خير مؤلفاته.
ومن حق الجمهور القارئ لهذا السبب أن يعرف الحياة التي عاشها المؤلف، كما أن دراسة الأسلوب تحتاج إلى دراسة هذه الحياة، وصحيح أن المؤلف الفنان يعود إلى اختباراته الخاصة ويكتب عفو إحساسه العاطفي أو وجدانه التعقلي منها، وهذا حين يخلص وحين يحس أن له رسالة، ولكنه قد يخون أحيانا، فيكذب اختباراته وينكر إحساسه ووجدانه معا، ولذلك يجب أن يعرف الجمهور حياته بتفاصيلها، وإذا كان من حق الجمهور أن يعرف مصدر المال الذي يحصل عليه موظف كبير في الدولة، خشية الاختلاس أو الارتشاء، فكذلك من حق هذا الجمهور أيضا أن يعرف مصدر الآراء والعقائد والميول التي يتجه نحوها المؤلف خشية الارتشاء أيضا؛ لأن المؤلف الذي يرتشي كي يترك مبادئه هو كالموظف الذي يرتشي كي يترك واجباته، وكثيرا ما رأينا في حياتنا القصيرة كتابا ارتشوا، وتركوا مبادئهم، وكفروا بالحق، وبصقوا على الإنسانية. •••
للكاتب أسلوب وموضوع، وكلاهما يعودان إلى شخصيته، فمن حقنا أن نعرف المعدن الذي صهرت منه هذه الشخصية، كما نعرف العوامل التي كونتها وعدلتها وغيرتها، وعندئذ فقط نستطيع أن نعلل الأسلوب ونقف على ميزاته ونربطها بأصولها، ومما يتصل بهذا الموضوع أن المؤلفين القصصيين اليابانيين قد نشأوا على عادة قد صارت تقليدا، هي أن المؤلف يروي قصة حياته أو قصص حياته، فهو بطل القصة، يدون اختباراته وينقحها، ويتسامى بها، ويستخرج منها العبرة، ولكنه في كل ذلك يجعل من نفسه البؤرة أو المركز. •••
حياة المؤلف أكبر من فنه، هي الكل وهو الجزء، هي الشجرة وهو الثمرة، ولذلك فقصة هذه الحياة هي أعظم ما يستطيع أن يكتبه المؤلف؛ لأنها بجلالها وتفاهتها، وبمشكلاتها وانتصاراتها، وبواقعها وخيالاتها، وبكفاحها وضعفها، تبسط للقارئ جيلا، بل ربما أجيالا، وتشرح له تقلبات العصر الذي عاش فيه المؤلف.
نامعلوم صفحہ