أخذت تتساءل: من أي منطقة من البلاد، بل من العالم، يمكن أن يكون قد جاء هذا الرجل؟ ثم أدركت أنها كانت تتحدث لأول مرة في حياتها مع شخص غريب. ولولا ما كانت تجده من صعوبة في فهم ما كان يقوله، لتمكنت من الحديث إليه بسهولة أكبر مما لو كانت تتحدث إلى جار لها في إتريك أو حتى إلى والدها.
سمعت صياح بقرة قبل أن يكون بإمكانها رؤيتها. أخذ احتشاد الناس من حولها ومن حول جيمس يزداد ويشكل سورا من أمامها ويحشرها من خلفها. ثم سمعت صوت صياح بقرة في السماء، وعندما نظرت إلى أعلى، رأت بقرة بنية اللون معلقة في الهواء موضوعة في قفص من الحبال، وهي ترفس وتزمجر على نحو جامح. البقرة مربوطة في خطاف على ونش كان يسحبها الآن بعيدا عن الأنظار. والناس من حولها كانوا يصيحون ويصفقون. تحدث طفل بصوت عال باللغة التي كانت تفهمها، وكان يريد أن يعرف إن كانوا سيلقون بالبقرة في البحر أم لا. رد عليه رجل بالنفي، وقال له إنها سوف تسافر معهم على سطح السفينة. «هل سيحلبونها إذن؟»
رد الرجل زاجرا: «نعم، الزم الصمت! نعم، سيحلبونها.»
وجاء صوت رجل آخر ليهيمن بصخب على صوت هذا الرجل ، وقال : «سوف يحلبونها بعنف لدرجة أنهم سيضربونها بالمطرقة حتى تنتج المزيد من اللبن، ومن ثم، ستحصلون على بودنج الدم كطعام على العشاء.»
والآن نتابع الدجاج وهو يتأرجح في الهواء داخل الأقفصة، وهو يصيح ويرفرف بجناحيه في محبسه وينقر بعضه بعضا متى استطاع حتى خرج بعض الريش وتهاوى في الهواء إلى أسفل. وبعد ذلك، رفع خنزير مربوط كما رفعت البقرة، وكان يصيح بصوت بشري معبرا عن وجعه وحزنه، ويتغوط بقوة في الهواء حتى ارتفع صياح الناس من أسفله غضبا وفرحا، حسب مكانهم بين هؤلاء الذين وقع عليهم غائط الخنزير أو بين هؤلاء الذين رأوا آخرين وقد وقع عليهم هذا الغائط.
ضحك جيمس أيضا وقد تعرف على غائط الخنزير وصاح معبرا عن ذلك بكلمته الخاصة، ألا وهي «كخ».
ربما تذكر كل هذا في يوم ما، وقال في نفسه: «لقد رأيت بقرة وخنزيرا يطيران في الهواء.» وربما تساءل إن كان هذا حلما. ولن يكون معه أحد في ذلك الوقت - هي لن تكون معه بالتأكيد - لإخباره بأن ذلك لم يكن حلما، وأنه حدث بالفعل على سطح السفينة. سوف يعرف أنه كان على متن سفينة في يوم من الأيام لأنه سيقال له هذا، لكن ربما لن يرى سفينة مثل هذه السفينة مرة أخرى في حياة اليقظة. لم تكن تعرف إلى أين سيذهبون عندما يصلون إلى الجانب الآخر من البحر، لكنها تتخيل أنه سيكون مكانا داخليا وسط التلال، مكانا يشبه إتريك.
لم تكن تظن أنها سوف تعيش طويلا، أيا كان المكان الذي كانت ستذهب إليه؛ فقد كان يصيبها السعال في الصيف والشتاء، وعندما كانت تسعل كان صدرها يؤلمها بشدة. وكانت تعاني كذلك من شحاذ في العينين، وتقلصات في البطن، وقلما كانت تأتيها الدورة الشهرية، ولكنها إن جاءت قد تستمر شهرا كاملا. ومع ذلك، كانت تتمنى ألا تموت وجيمس لا يزال صغيرا يجلس على خصرها أو في حاجة إليها، وهذا ما سيكون عليه الوضع لبعض الوقت. وكانت تعرف أنه سيحين الوقت الذي سيعرض عنها فيه، كما أعرض عنها إخوتها، وذلك عندما يعتريه الخجل من علاقته بها. هذا ما كانت تقوله لنفسها أنه سيحدث، ولكن لم يكن باستطاعتها أن تصدقه، شأنها في ذلك شأن كل محب. •••
في رحلة قصيرة إلى بيبلز قبل أن يغادروا منزلهم، اشترى والتر لنفسه دفترا حتى يكتب فيه، ولكنه - على مدار عدة أيام - انشغل بعدة أمور مهمة، ولم تكن ثمة مساحة أو هدوء كافيين على سطح السفينة ليتمكن حتى من فتح دفتره. وكان لديه أيضا قارورة من الحبر ملفوفة في جراب من الجلد ومربوطة بحزام في صدره تحت قميصه. وقد كانت هذه هي الحيلة التي كان يستخدمها ابن عمه، جايمي هوج الشاعر، عندما كان يخرج إلى براري نيثسدال يرعى الأغنام. وما إن تخطر ببال جايمي قصيدة شعرية، حتى يسحب قطعة ورق من بنطاله، ثم ينزع سدادة الحبر، الذي حالت حرارة جسمه دون تجمده، ويدونها بالكامل، بغض النظر عن المكان الذي هو فيه أو حتى حاله وقتها.
أو هكذا قال. فكر والتر في تجربة هذه الطريقة، ولكن تبين له أن الأمر قد يكون أسهل بين الأغنام منه بين الناس. كذلك، فإن قوة الريح في عرض البحر يمكن بالتأكيد أن تكون أكبر من قوتها في نيثسدال. وكان من المهم له بالطبع أن يكون ذلك على غير مرأى من عائلته؛ إذ قد يسخر منه أندرو بلطف، لكن أجنيس كانت ستسخر منه بوقاحة؛ إذ تغضبها مجرد فكرة قيام أي شخص بعمل لا تريد هي القيام به. أما ماري، فبالطبع ما كانت لتتفوه بكلمة كعهدها، لكن الطفل الذي يجلس على خصرها، والذي تحبه بشدة وتدلله، كان كل همه إمساك القلم والورق والعبث بهما وإتلافهما. ناهيك أنه لا يمكن أن يعرف أي نوع من التدخل كان سيأتي من جانب والده.
نامعلوم صفحہ