لم أتحدث عن أي من هذا لأهلي عندما عدت إلى المنزل، على الرغم من أن الطعام والزينات والنيران كانت غاية في الإثارة والتشويق. كانت هناك الأشياء الأخرى التي لم يكن بوسعي وصفها مما جعلني أشعر باختلال التوازن، والغثيان قليلا؛ ومن ثم لم أشأ على نحو ما أن أذكر أيا منها؛ الطريقة الرائعة التي يعامل بها الوالدان الطفلتين. لعبة النادل التي مارسها السيد وينرايت، ويداه السميكتان البيضاوان كقطعة صابون، ووجهه الشاحب، وشعره الناعم اللامع ذو اللون البني الفاتح. الثبات - القرب المبالغ فيه - في خطواته الناعمة وهو يرتدي شبشبا منتفخا ذا نقوش مربعة، ثم تأتي تلك الضحكات التي لا تليق تماما بالكبار، عقب كارثة كانت وشيكة، والأيدي الوقحة والقبلة المدوية. كان ثمة تهديد زاحف بشأن كل هذا، بداية من أكذوبة دفعي إلى لعب دور الصديقة الصغيرة - كانت كلتاهما تصفانني بهذا - في حين لم أكن أي شيء من هذا القبيل، ومعاملتي كفتاة طيبة وبريئة، في حين لم أكن كذلك أيضا.
ماذا كان هذا التهديد؟ هل كان مجرد تهديد الحب أو المودة؟ لو كان الأمر كذلك، لكان عليك أن تقول إنني قد أدركته بعد فوات الأوان. وقد جعلني هذا الشرود الذهني أشعر بالحرج والمهانة، كما لو كان أحدهم قد نظر داخل سروالي، حتى الطعام الرائع غير التقليدي شابته الشكوك في ذاكرتي. وحدها المجلات السينمائية هي ما أفلتت من وصمة الشك.
بنهاية إجازات الكريسماس، كان منزل آل وينرايت قد خوى من سكانه. كان الثلج شديدا للغاية في ذلك العام حتى إن سقف المطبخ قد انهار. وحتى بعد حدوث ذلك لم يشغل أحد نفسه بهدم المنزل أو وضع لافتة «ملكية خاصة، ممنوع التعدي». ولسنوات كان الأطفال - وكنت أنا من بينهم - يتسكعون حول الأنقاض المحفوفة بالخطر لمجرد أن يروا ما يمكنهم أن يجدوه هناك. كان يبدو أن لا أحد يخشى بشأن الإصابات أو المساءلة.
ولم تظهر أي مجلات سينمائية. •••
حكيت لأسرتي عن داليا. في ذلك الوقت كنت قد أصبحت شخصا مختلفا تماما، من وجهة نظري، عن تلك الفتاة التي كانت في منزل آل وينرايت. ففي بداية سنوات المراهقة كنت قد أصبحت مصدر التسلية في المنزل، لا أقصد بذلك أنني كنت دائما ما أحاول إضحاك أفراد عائلتي - رغم أنني كنت أفعل ذلك أيضا - بل أقصد أنني كنت أنقل الأخبار والنمائم، كنت أخبرهم بأشياء حدثت في المدرسة، ولكن أيضا بأشياء حدثت في البلدة ، أو كنت أكتفي فقط بوصف شكل الأشخاص الذين رأيتهم في الشارع أو حديثهم. وقد تعلمت القيام بذلك بأسلوب تهكمي أو ساخر، لم يكن ليعرضني للتوبيخ، أو لأن يقال لي إنني شديدة الذكاء لدرجة تضر بي. فقد أتقنت تصنع الوجه الجامد، بل والأسلوب الوقور الرزين الذي كان يمكن أن يضحك الآخرين حتى عندما يظنون أنهم ينبغي ألا يضحكوا والذي يجعل من الصعب تحديد ما إذا كانت نياتي بريئة أم خبيثة.
تلك كانت الطريقة التي تحدثت بها عن زحف داليا بين أشجار السماق للتلصص على والدها، وعن كراهيتها له، وحديثها عن قتله. وكانت هي الطريقة التي كان يجب أن تروى بها أي قصة عن عائلة نيوكام، وليس فقط الطريقة التي كان يجب أن أرويها بها؛ فأي قصة عنهم كان ينبغي أن تؤكد، بما يرضي الجميع، كيف كانوا يؤدون أدوارهم بإتقان وصدق، وها هي داليا الآن هي الأخرى صار ينظر إليها على أنها تنتمي إلى هذه الصورة. التلصص، التهديدات، الميلودراما، مطاردته لها بالمجرفة، أفكارها عن كونه سيعدم حال قتلها، وعدم إمكانية إعدامها، لو قتلته بينما كانت لا تزال حدثا.
واتفق والدي مع هذا. «من الصعب أن تجعلي أي محكمة هنا تصدر حكما بإدانتها.»
وقالت أمي إن ما فعله مثل هذا الرجل بابنته لهو عار.
يبدو لي غريبا الآن أننا قد استطعنا خوض هذا الحديث بتلك السهولة، دون أن يخطر لنا أن أبي كان يضربني، في بعض الأحيان، وأنني كنت أصرخ معلنة رغبتي لا في قتله، ولكن في الموت، وأن هذا لم يحدث منذ فترة بعيدة - فقد حدث ثلاث أو أربع مرات، حسبما أعتقد، حين كنت تقريبا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة. وقد حدث ذلك في الفترة ما بين معرفتي بفرانسيس ومعرفتي بداليا. كنت أعاقب في تلك المرات لخلاف نشب بيني وبين أمي، أو لرد وقح، أو للغو كي أبدو ذكية، أو لعناد مني. فكانت أمي تأتي بأبي من عمله للتعامل معي، وكنت أنا أنتظر وصوله، بغضب مثبط في البداية ، ثم بيأس مثير للاشمئزاز، كنت أشعر وكأن نفسي ذاتها هي التي كانا يسعيان وراءها، وأعتقد أن الأمر كان كذلك على نحو ما. لقد كان الجزء المعتد بذاته المولع بالجدل من نفسي هو ما كان يجب أن يضرب ضربا مبرحا، حين كان أبي يشرع في نزع حزامه - كانت تلك هي وسيلته في ضربي - كنت أبدأ في الصراخ: «لا، لا»، وأدافع عن نفسي بأسلوب يفتقر إلى التماسك، بطريقة بدت تدفعه لازدرائي. والحق أن سلوكي حينها كان مثيرا للازدراء؛ إذ كان لا يظهر طبيعة من الإباء أو حتى احترام النفس، ولم أكن أعبأ بذلك. وحين كان الحزام يرفع - في اللحظة السابقة لنزوله علي - كانت هناك لحظة من المكاشفة العصيبة، وكان الظلم هو ما يسود. لم يكن بإمكاني مطلقا أن أروي الجانب الخاص بي من الأمور؛ إذ كان لاشمئزاز أبي مني اليد العليا. كيف كان يمكن ألا أجد نفسي أنوح في وجه مثل هذا الانحراف في الطباع؟
أنا على يقين من أن أبي لو كان حيا الآن، لقال إنني أبالغ، وإن الإهانة التي كان يقصد إنزالها بي لم تكن شديدة لتلك الدرجة، وإن أخطائي كانت مربكة، وإنه لا توجد طريقة أخرى غير ذلك للتعامل مع الأطفال. لقد كنت أسبب له متاعب وأسبب حزنا لأمي، وكان يجب أن أقتنع بضرورة تغيير طريقتي.
نامعلوم صفحہ