ونحن نؤكد هذه العبارة الأخيرة بوجه خاص، لكي نلح في بيان الطابع «الفني» للحدس الرياضي، الذي يظل مرتبطا ارتباطا وثيقا بتمكن الرياضي من المناهج، وإلمامه الواسع بالتفكير المقالي. (14) حدس البديهيات
حاولنا أن نبين مدى الارتباط والتكامل بين جوانب الحدس والإجراءات المنضبطة في الرياضة، ولكن قد يخطر اعتراض بالذهن، هو: هل يؤدي ظهور التفكير المرتكز على مبدأ «البديهيات» إلى رفض الحدس رفضا تاما؟ إنه ليبدو أن وجود مجموعة من البديهيات معناه أن المرء قد بلغ مرحلة من التجريد لم يعد فيها أي مجال للحدس. والحق أن الرياضيين قد تصدر عنهم تصريحات توحي إلى الأذهان الساذجة بمثل هذا الاعتقاد، وذلك كقولهم: «إنا لا ننكر أن معظم الصور الرياضية كانت تحتوي في أصلها على عناصر حدسية محددة، ولكن من المحقق أنها لما جردت من كل محتوى فقد أمكنها أن تكتسب هذا التأثير العظيم الذي كانت تنطوي عليه في ذاتها بالقوة، وهكذا أصبحت قابلة للتعبير عن تفسيرات جديدة، ولأداء وظيفتها في إعداد النظريات الرياضية.»
13
فلنرجع لحظة إلى هذا التفكير الذي يعتمد على البديهيات، والذي سبق أن أشرنا إليه؛ أن مهمة البديهيات لا تنحصر في مجرد تقنين الفروض والقواعد في نظرية رياضية خاصة؛ بل إن نسق البديهيات لا يقتصر في الواقع على عرض البديهيات والمعاني الأولية الخاصة بنظرية ما، وعلى دراسة مدى اتساق هذه البديهيات فيما بينها، واستقلال كل منها عن الأخرى، وإنما يسعى إلى فهم «السبب العميق» للاستدلالات المتسلسلة، والكشف عن هيكل الاستدلال، بغض النظر عن «طبيعة» الموضوعات التي تتدخل في النظريات الرياضية. وهو يجمع النظريات لا لأنها تعالج موضوعات رياضية لها طبيعة واحدة، وإنما لأنها تكشف عن بناءات واحدة.
وكما يقول هنري كارتان:
14 «لنفرض أن بديهيات نظرية رياضية ما قد اختبرت بصفة نهائية، وعندئذ ينبغي ألا تقتصر نظريتنا الرياضية على أن تكون تجميعا جامدا للحقائق، أعني لنتائج البديهيات ... فلكي تكون الرياضة أداة فعالة، ولكي نستطيع نحن علماء الرياضة، الاهتمام بها من أعماق نفوسنا، فلا بد أن تكون تركيبا حيا، ولا بد أن نرى فيها بوضوح تسلسل النظريات، وأن نجمع فيها النظريات الجزئية، وفي هذه المحاولة بدورها نستعين بمنهج البديهيات الذي يزودنا بمبدأ للتصنيف.»
وفي هذا المجهود الذي يبذله الرياضي لاستخلاص بناءات النظريات، حتى يقارن هذه النظريات فيما بينها، ويكون منها مجموعات، نجده يقوم بعمل «تجريدي» تماما، فعليه أن يتجرد من الحدوس العينية، التي تجعل تفكيره خاضعا للمجالات الفردية الخاصة، وعليه ألا يقتصر على ثقافة محدودة تكتفي بأمثلة جزئية، أو حتى بنظريات خاصة؛ بل يجب أن يصل إلى فهم «التركيب الهندي» للرياضيات ذاتها، ولكن دراسة الصور المجردة تدفعنا عندئذ إلى استخلاص أفكار عامة «موجهة». وإذا كان في منهج البديهيات خروج على الحدوس العينية فمن المحقق، مع ذلك، أنه يكشف عن طبيعة الأشياء، ويجعلنا نجيد فهم ماهية النظريات الرياضية ونحسن «رؤيتها» بوضوح كامل. فالآن لم تعد الرياضة على الإطلاق، كما كانت فيما مضى، تأليفا آليا محضا بين صيغ منعزلة، وقد أصبح الحدس الآن - أكثر من أي وقت مضى - يسيطر تماما على نشأة الكشوف الرياضية، غير أنه أصبح منذ الآن يمتلك الوسائل القوية التي تمده بها نظرية الأنواع البنائية الكبرى، وهو يسيطر بلمحة واحدة على مجالات هائلة وحد بينها منهج البديهيات
l’axiomatique ، وهي المجالات التي يبدو أنه لم يكن يسودها من قبل سوى الاضطراب الشامل. فمنهج البديهيات المبني على المنطق البحت، لم يكتف بأن جعل لعلمنا أساسا راسخا؛ بل إنه يتيح لنا إجادة تنظيمه وإجادة فهمه، ويجعله أكثر فاعلية، ويستبدل بالحسابات أفكارا عامة،
15
ولكن أليست هذه علامة حدس أصيل يمكننا أن نسميه حدس التنظيم المجرد؟
نامعلوم صفحہ