الاستدلال «توسط»؛ فهو يسير بناء على ما كان أرسطو يسميه «بالحد الأوسط» والاستدلال يتقدم ويبرر دائما عن طريق روابط مثل «لأن» أو «ما دام». أما الحدس فيكون عندئذ «مباشرا»، أي ينطوي في ذاته على ما يبرره، بحيث «يرى» المرء (في اللاتينية
intueri ) مباشرة علة الشيء نفسه، ويكفيه أن يرى الشيء ليفهمه ويؤكد وجوده. (2)
وإذا كنا قد ذكرنا من قبل أن الاستنباط الرياضي ليس «صوريا»، بمعنى أنه لا يمكن فصل العملية التي يتكون بها عن مضمونه، فإن الاستدلال صوري دائما، بدرجات متفاوتة، بمعنى أنه ينطوي على عملية آلية، وبالتالي له درجة معينة من «الشمول». أما الحدس فأساسه «النوعية» و«الفردية»، أي أنه ينطبق تماما على موضوعه، ويعبر، تبعا لاختلاف طبيعته، عن اختلاف الأشياء (وهو في هذا أيضا يشابه النظرة التي تضفي على الأشياء صبغة فردية). (3)
والاستدلال مقالي متدرج، كما قلنا. فهو محدد الأجزاء، يقبل التفكيك، ويمكن التعبير عنه بالكلام. أما الحدس فلا يمكن التعبير عنه بل لا يمكن ترجمته بالألفاظ إلا على نحو غير مباشر، وبالمجاز أو الرموز، مثله في ذلك مثل الموضوع الخاص بالإبصار، وهو اللون الذي لا يمكن تعريفه أو تفسيره، بالنسبة إلى من ولد أعمى على سبيل المثال، إلا عن طريق المجاز.
والمشكلة التي تعرض لنا الآن هي أن نعرف إن كان الحدس، بالمعنى الذي عرفناه، هو حقا إحدى عمليات التفكير. ولهذا السؤال وجهان: فهل يوجد حدس؟ وهل للحدس طبيعة عقلية؟ (1) حقيقة الحدس
السؤال الأول يستدعي جوابا سريعا بالإيجاب. فإذا كنا قد استطعنا تحديد خصائص الحدس بمثل هذه الدقة، فهناك احتمال كبير في أن يكون نوعا من أنواع المعرفة الفعلية. ولا بد أن يكون الاستدلال في حاجة إلى أن تتضافر معه وظيفة مضادة له، تعوض نواحي النقص فيه.
أما السؤال الثاني فهو الشائك حقيقة. وإجابتنا عنه تتوقف على تحديدنا لكنه العقل، ولما يعرف بأنه «معقول». فمن أيسر الأمور أن نعرف العقل بأنه الاستدلال، وعندئذ يكون الجواب بالنفي ضرورة، والأفضل أن يعرف العقل بأنه ملكة المعرفة التي تجد في العلم أنقى وأكمل تعبير عنها.
ولنذكر، بوجه خاص من الفلاسفة الذين أجابوا عن السؤال الثاني بالإيجاب، اسبينوزا: ولقد كان اسبينوزا في هذه المسألة مخلصا لتعاليم ديكارت، فديكارت لم يكن ينظر إلى الاستدلال (الذي كان يسميه بالاستنباط، وأحيانا بالاستقراء) إلا على أنه تنمية أو اكتساب للحدس، وبالعكس كان الحدس عنده تركيزا للاستدلال.
على أن سبينوزا يميز بين أنواع ثلاثة للمعرفة، وقد ضرب لشرحها مثلا، فلنفترض أننا نبحث عن حد رابع في تناسب، أعني عن الطرف الأخير في نسبة نعرف حدودها الثلاثة الأولى: أ، ب ، ج ونريد العثور على الحد الرابع س، (1)
فالمعرفة من النوع الأول التي يبدأ اسبينوزا بوصفها، ويسميها بالظن (مثل أفلاطون) أو بالخيال (مثل ديكارت) تنحصر في أن نستقرئ بناء على أمثلة سبق أن مرت بنا (وتسمى بالتجربة التائهة
نامعلوم صفحہ