لا شك في أن هذا النقد ينطوي على شيء جدير بالتوقف لدراسته: فمن الحق، أولا، أن الإنسان لم ينتظر ظهور العلوم الإنسانية رسميا لكي يسعى إلى معرفة الإنسان، والأدب بأسره خير شاهد على ذلك.
ثم إن علم الإنسان، متى تكون، فإنه يبدو مهددا في موضوعيته من جانبين؛ فهو يرتكز من جهة على المعرفة الذاتية والعملية المحضة التي تنطوي عليها العلاقات البشرية، والتي تنمو بنمو ما يسمى بالخبرة
expérience
وإن كانت تتفاوت أيضا تبعا لفطنة كل فرد. ومن جهة أخرى، فهذا العلم تشيع فيه فكرة معيارية تستلهم من أخلاق معينة، ولو ضمنية على الأقل. فالإنسان يوصف من خلال ما ينتظر منه، أو ما يطلب إليه؛ لأن من شأن الإنسان أننا لا نستطيع تعريفه إلا إذا حكمنا عليه. وإذا حددنا موقفنا منه وطبقنا قيما معينة في حكمنا عليه، فمعرفة الإنسان لا يمكن أبدا أن توصف بالحيدة المطلقة.
وأخيرا، فمعرفة الإنسان تقتضي وسائل ليست كلها مماثلة للوسائل التي تستخدمها علوم الطبيعة. فليس من الممكن إجراء التجارب على الإنسان كما لو كان شيئا من الأشياء، إذ إن في هذا قضاء على حياته؛ بل إن فيه انتهاكا لحرمته واغتصابا لحريته. ويبدو أنه يجب ألا يمس أعمق ما في الإنسان، وأبعد دخائله غورا، إلا بطريق تجهلها العلوم التجريبية، فضلا عن أن هذه المجالات إذا ما اقتحمت، كانت مهددة إما بأن تختفي عن أعيننا، وإما بأن تنحط قيمتها. وتذهب بعض الآراء الحديثة إلى حد القول بأن تطبيق علم خاص بالأشياء على الإنسان، هو انتهاك روحي مماثل للتعدي الجسمي الذي يتمثل في الاسترقاق أو الإرهاب.
ولكن هل يقضي هذا على كل علم إنساني؟ (4) حقيقة العلوم الإنسانية
علينا أولا أن نقرر بوضوح أن معرفة الإنسان قد أحرزت قدرا من التقدم ينبغي أن يعزى إلى العلم. فعلى حين أنه قد يكون من الضروري، في كل تفكير جديد، أن يستعاد البحث في المشكلات الميتافيزيقية المتعلقة بالموقف الإنساني والمشاكل الخاصة بالواجبات الأخلاقية مرة أخرى، فإن معرفتنا بالأصول النفسية للسلوك، بل بشروطه العضوية، قد ازدادت وضوحا. فمعرفتنا بالطفل قد تقدمت منذ رابليه
Rabelaie
ومونتني، ومعرفتنا بالمجانين قد تقدمت منذ الوقت الذي كان المجانين يحرقون فيه. كذلك أحرز التاريخ تقدما، فنحن نعرف أصول روما خيرا مما عرفها فرجيل، والحروب الصليبية على نحو أفضل مما عرفها جوانفيل
Joiniville
نامعلوم صفحہ