لو رممت العلاقات مع بريطانيا، وظلت هي السلطة الحاكمة المهيمنة على أمريكا (وهو ما يعني التخلي عن تلك النقطة تماما، حسبما تشير الأحوال الراهنة)، فسوف نحرم أنفسنا من ذات الوسيلة التي يمكننا بها تسديد ديوننا، أو ما قد نلجأ إلى استدانته. إن قيمة الأراضي الداخلية غير المأهولة بالسكان التي حرمت منها بعض الأقاليم سرا، نتيجة للتوسع الجائر لحدود كندا - مقدرة بسعر خمسة جنيهات استرلينية فقط لكل مائة فدان - تساوي مبلغا يتجاوز خمسة وعشرين مليونا من عملة بنسلفانيا؛ وتصل قيمتها الإيجارية بسعر بنس واحد للفدان إلى مليونين سنويا.
وعن طريق بيع تلك الأراضي يمكن تسديد الديون، دون تحميل أي جهة بالأعباء، وسوف تسهم القيمة الإيجارية المحتفظ بها لتلك الأراضي دوما في دعم النفقات الحكومية السنوية، والوفاء بها بالكامل مع مرور الوقت. ولا يهم طول المدة الزمنية التي سنظل فيها نسدد الديون، طالما أننا سنسددها عند بيع الأراضي، ولتنفيذ ذلك سيكون الكونجرس خلال تلك المدة هو الوصي على القارة.
وأنتقل الآن إلى النقطة الثانية، وهي: أي الخطتين هي الأسهل والأكثر عملية، «المصالحة أم الاستقلال»؟ مع بعض التعليقات المتفرقة.
إن من يتخذ الطبيعة دليلا هاديا لا يسهل دحض حجته، وعلى هذا الأساس، أجيب بوجه عام: «أنه لكون الاستقلال خطا واحدا بسيطا موجودا بالفعل داخل أنفسنا؛ وكون المصالحة أمرا مربكا ومعقدا على نحو مبالغ فيه، وسوف يتدخل فيه ملك غادر متقلب الأهواء، فإن الإجابة واضحة بلا شك».
إن الحالة الراهنة لأمريكا مفزعة بحق لكل إنسان قادر على التفكر والتدبر؛ فأمريكا دون قانون، ودون حكومة، ودون أي شكل للسلطة سوى ما هو قائم على الإذعان أو ممنوح بالتفضل. إنها متماسكة بواسطة شعور متماثل لدى الجميع على نحو لا مثيل له، لكنه مع ذلك عرضة للتغير، ويسعى كل عدو خفي لتبديده. إن وضعنا الراهن يتلخص في تشريع بلا قانون؛ وحكمة بلا خطة؛ ودستور بلا اسم؛ وعلى نحو مدهش وعجيب، استقلال تام يناضل من أجل التبعية. إنه نموذج غير مسبوق؛ فهي حالة لم يسبق لها مثيل في التاريخ؛ ومن ذا الذي يمكنه أن يعرف ما قد يحدث؟ ليس هناك أمان لممتلكات أحد في ظل النظام المتداعي الحالي. وعقول عامة الجماهير هائمة على غير هدى، لا ترى أمامها هدفا ثابتا تسعى نحوه، فهي تطارد سرابا. لا شيء مجرم؛ ولا يوجد شيء يسمى خيانة؛ لذا فإن كل إنسان يعتقد أنه حر في التصرف كما يحلو له. فما كان مؤيدو الملك ليجرءوا على الاجتماع معا بصورة استفزازية، لو كانوا يعلمون أن قوانين الدولة ستعاقبهم بالموت نتيجة تصرف كهذا. ولا بد من التمييز بين جنود إنجليز يؤخذون أسرى في معركة، وبين سكان في أمريكا يلقى القبض عليهم. فالفئة الأولى أسرى حرب، أما الثانية فخونة. ويجب أن تخسر الأولى حريتها، وتفقد الأخرى حياتها.
بالرغم من حكمتنا يوجد وهن واضح في بعض إجراءاتنا على نحو يغري مثيري الفتن. فالحزام القاري في حالة ارتخاء شديد. وإذا لم نفعل شيئا في الوقت المناسب، فسوف يفوت أوان القيام بأي شيء، وسوف نسقط في حالة لن تصلح معها لا «المصالحة» ولا «الاستقلال». إن الملك وحاشيته التافهة يمارسون لعبتهم القديمة في تقسيم القارة، وهم لا يعدمون متعاونين من بيننا منهمكين في نشر أكاذيب مضللة. والخطاب المتزلف الخادع الذي ظهر منذ بضعة أشهر على صفحات اثنتين من صحف نيويورك، وصحيفتين أخريين، لهو برهان على أن هناك رجالا يفتقرون إما إلى حسن التقدير وإما إلى النزاهة.
من السهل الاختباء في الجحور والأركان والتحدث عن المصالحة، ولكن هل يفكر مثل هؤلاء الناس بجدية في مدى صعوبة المهمة، ومدى الخطورة التي تنطوي عليها، لو أن القارة انقسمت؟ هل ينظرون إلى جميع الأحوال المختلفة لرجال يجب النظر إلى مواقفهم وظروفهم بعين الاعتبار؟ هل يضعون أنفسهم مكان أصحاب المعاناة الذين فقدوا «بالفعل كل ما يملكون»، ومكان الجندي الذي ترك وراء ظهره «كل شيء» من أجل الدفاع عن بلده؟ فإذا كان اعتدالهم غير المناسب أو الحصيف يلائم أوضاعهم الخاصة وحدهم، بصرف النظر عن الآخرين، فإن واقع الحال سوف يقنعهم بأنهم «يحسبون حسابات جزافية وهم لا يعلمون».
يقول البعض فلنرجع إلى الوضع الذي كنا عليه عام ثلاثة وستين: وأرد على هذا بأنه لم يعد بمقدور بريطانيا الآن الإذعان لهذا الطلب، كما أنها لن تعرضه بالطبع؛ ولكن لو عرضناه، بل ولو نال القبول أيضا، فإني في هذه الحالة أطرح سؤالا منطقيا: ما الوسيلة التي سترغم هذا البلاط الفاسد الغادر على الالتزام بتعهداته؟ إن برلمانا قادما، بل حتى البرلمان الحالي، يمكن أن يلغي هذا الالتزام ويبطله فيما بعد بحجة أنه أبرم بواسطة العنف، أو أنه هبة طائشة؛ وفي هذه الحالة، كيف سنعالج الأمر؟ إن الأمم لا تلجأ إلى القوانين؛ فالمدافع وحدها هي محاميو الملوك؛ وسيف الحرب - لا سيف العدالة - هو الذي يحسم مثل تلك القضايا. ولكي نعود إلى الوضع الذي كان قائما عام ثلاثة وستين، لا يكفي أن تعود القوانين وحدها إلى ما كانت عليه؛ وإنما يجب أن تعود ظروفنا وأحوالنا أيضا إلى ما كانت عليه؛ أي أن ترمم بلداتنا المحترقة والمدمرة أو يعاد بناؤها، وأن نعوض عن خسائرنا الشخصية، وأن تلغى ديوننا العامة (التي استدناها من أجل الدفاع عن أنفسنا)؛ وإلا فإن حالنا سيصبح أسوأ ملايين المرات مما كنا عليه في تلك الفترة المرغوبة. إن طلبا كهذا، لو استجيب له منذ عام مضى، لفاز بقلب وروح هذه القارة؛ لكن أوانه قد فات الآن؛ «لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة».
إضافة إلى هذا فإن حمل السلاح لا لشيء سوى إلغاء قانون مالي لهو أمر يبدو محظورا في الشريعة الإلهية، ومنفرا للمشاعر الإنسانية، تماما كحمل السلاح لفرض الإذعان لتلك الشريعة ذاتها. فالغاية في أي من الحالتين لا تبرر الوسيلة؛ لأن حياة البشر أغلى من أن نهدرها من أجل ذلك. إن العنف الذي تعرضنا له وهدد حياتنا، وتدمير ممتلكاتنا على يد قوة مسلحة، وغزو بلادنا بالحديد والنار هو ما يمكن أن يبرر لضمائرنا حمل السلاح؛ وفي اللحظة التي أصبح فيها هذا الوضع الدفاعي ضرورة حتمية، كان لا بد أن تتوقف جميع مظاهر الخضوع لبريطانيا؛ وكان لا بد من التفكير في إعلان استقلال أمريكا واستهلال عصر استقلالها وإعلان بدايته «مع أول رصاصة أطلقت ضدها». هذا هو الخط المستقيم الذي لم يرسمه الهوى، ولم يمده الطموح؛ وإنما رسمته سلسلة من الأحداث التي لم تكن المستعمرات هي من صنعتها.
وأختتم تلك الملاحظات بالتلميحات التالية التي أظنها تأتي بنية طيبة وفي الوقت المناسب. علينا أن نفكر في أن هناك ثلاثة سبل مختلفة يمكن بواسطتها تحقيق الاستقلال؛ وأن «واحدا» من تلك «الثلاثة» سيكون في يوم من الأيام مصير أمريكا، وتلك السبل هي: من خلال الصوت الشرعي للشعب في الكونجرس؛ أو عن طريق قوة عسكرية؛ أو عن طريق تمرد الغوغاء. وقد لا يحدث دائما أن يكون جنودنا مواطنين، أو تكون عامة الشعب مجموعة من العقلاء؛ فالفضيلة - كما ذكرت من قبل - ليست وراثية ولا أبدية. ولو تحقق الاستقلال من خلال السبيل الأول من السبل المذكورة، فستتاح لنا كل الفرص وكل التشجيع لصياغة أنبل وأنقى دستور على وجه الأرض. إن بمقدورنا الآن أن نعيد كتابة تاريخ العالم من جديد. فلم تكن البشرية في وضع مشابه للوضع الحالي منذ زمن النبي نوح. لقد حان الوقت لميلاد عالم جديد، ولتنال سلالة من البشر - ربما يماثل عددها عدد جميع سكان أوروبا - حظها من الحرية في غضون بضعة أشهر. سيكون الانتكاس أمرا مريعا؛ ومن وجهة النظر هذه، كم تبدو الاعتراضات الواهية السخيفة التي يرفعها بعض الضعفاء أو أصحاب المصالح تافهة وبائسة عند مقارنتها بقضية ستحدد مصير العالم.
نامعلوم صفحہ