تصدير
مقدمة المؤلف
1 - السهروردي ... حياته وآثاره
2 - المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي
3 - المنطق عند السهروردي وعلاقته بالمنطق الأرسطي القديم
4 - نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السهروردي والمناطقة المحدثين
5 - النزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث
6 - منطق السهروردي ومحاولة قراءة أفكاره في المنطق الأوربي الحديث
نتائج الدراسة
قائمة المصادر والمراجع
تصدير
مقدمة المؤلف
1 - السهروردي ... حياته وآثاره
2 - المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي
3 - المنطق عند السهروردي وعلاقته بالمنطق الأرسطي القديم
4 - نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السهروردي والمناطقة المحدثين
5 - النزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث
6 - منطق السهروردي ومحاولة قراءة أفكاره في المنطق الأوربي الحديث
نتائج الدراسة
قائمة المصادر والمراجع
المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول
المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول
تأليف
محمود محمد علي
إهداء
إلى أستاذي الدكتور أحمد الجزار أستاذ الفلسفة بجامعة المنيا ... القيمة العليا في حياتنا الأكاديمية وحياتنا الثقافية ... على حد سواء ... قيمة تعلو على المكان ... وعلى الزمان.
محمود محمد علي
بسم الله الرحمن الرحيم
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا * وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا
سورة النساء، الآيتان: 82 و83
تصدير
بقلم أ.د. عاطف العراقي
العلاقة بين المنطق والتصوف في تراثنا الفكري «السهروردي المقتول (549-587ه) نموذجا»، كان في الحقيقة عنوانا لبحث أجراه لوقت طويل تلميذي الدكتور محمود محمد علي، وهذا البحث كان بعنوان «المنطق الإشراقي عند شهاب الدين السهروردي في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، وكان هذا البحث مجالا لدراسته لدرجة الماجستير من كلية الآداب بسوهاج - جامعة أسيوط (سابقا).
و«المنطق الإشراقي عند شهاب الدين السهروردي في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، موضوع لا أتردد في القول بأنه من الموضوعات الحيوية المهمة في مجال التراث الفلسفي العربي.
وتتمثل أهمية هذا الموضوع في أنه يركز على دراسة تراثنا، ولا خير فينا إذا أهملنا تراثنا. إن التراث يشكل جزءا من شخصية الإنسان، ومن يهمل دراسة ماضيه؛ فلا حاضر له ولا مستقبل.
صحيح أننا نختلف مع السهروردي في بعض الآراء، في مجال التصوف بصفة عامة والمنطق الإشراقي بصفة خاصة، كما نختلف مع المؤلف حول بعض الآراء التي ذهب إليها، ولكن هذا لا ينفي أهمية دراسة فكر السهروردي في مجال المنطق.
قسم الباحث دراسته إلى مجموعة من الفصول، تحدث في الفصل الأول عن حياة وآثار السهروردي، مقسما هذا الفصل إلى الحديث عن مولده ورحلاته ومأساته وآثاره وحياته الفكرية بشكل عام. وحلل المؤلف الدكتور محمود محمد علي، في الفصل الثاني، موضوع المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي؛ وذلك حين درس مفهوم المنطق عنده، وتقسيم السهروردي للمنطق، وتقييم المنطق الإشراقي. كانت هذه العناصر موضوع الفصل الثاني من فصول كتاب المنطق الإشراقي، والذي يقدمه مؤلفنا الدكتور محمود علي للطبع والنشر؛ وذلك بعد أن كان كما قلنا رسالة جامعية.
أما الفصل الثالث فكان عن المنطق عند السهروردي وعلاقته بالمنطق الأرسطي القديم. وعناصر هذا الفصل تعد عناصر مهمة، ومن بينها الحديث عن المصادر التي استفاد منها السهروردي منطقه الإشراقي، وأوجه الاختلاف والاتفاق بين منطق السهروردي ومنطق كل من ابن سينا وابن تيمية، هذا بالإضافة إلى الإشارة إلى الإضافات التي أضافها السهروردي للمنطق الأرسطي.
هذا عن الفصل الثالث، أما الفصل الرابع فكان موضوعه نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السهروردي والمناطقة المحدثين. وقد أدار المؤلف حديثه حول نقد السهروردي والمحدثين للمنطق الأرسطي والإصلاحات المنهجية التي أضافها السهروردي والمناطقة المحدثون للمنطق الأرسطي.
وأما الفصل الخامس، والذي عنوانه النزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث؛ ففيه ناقش باحثنا ملامح تلك النزعة عند عدد كبير من مناطقة العصر الحديث مناقشة جيدة.
أما الفصل السادس والأخير من فصول كتاب الدكتور محمود علي عن المنطق الإشراقي، فكان موضوعه «منطق السهروردي ومحاولة قراءة أفكاره في ضوء المنطق الحديث»، وقد جاء هذا الفصل مقسما إلى مجموعة من العناصر التي تدخل بوجه عام في إطار الحديث عن منطق السهروردي، وهذا يدلنا على التزام الباحث بالدقة وعدم حشر موضوعات قد تبدو بعيدة عن المحور أو الفصل الرئيسي الذي قام بتحليله ودراسته.
موضوع هذا الكتاب إذن يعد موضوعا حيويا، كما سبق أن أشرنا، وهو موضوع لا يعد من الموضوعات السهلة، خاصة أنه يبحث في مجال به مصطلحات عديدة، وباحثنا قد بذل جهده في تحليل وصياغة العديد من الآراء التي قام بها السهروردي، كما أن من مزايا هذه الدراسة أن الباحث لم يكن مقتصرا على مجرد العرض الموضوعي لفصول دراسته، بل إنه حاول جهده نقد هذا الرأي أو ذاك من الآراء التي قال بها السهروردي. ومعنى هذا أن البحث يتضمن الرؤية الموضوعية، والرؤية الذاتية النقدية، وإن كنا نجد عند المؤلف نوعا من المبالغة في إثبات فكرة التأثر والتأثير - تأثر السهروردي بمن سبقوه ومدى تأثيره في الذين عاشوا بعده - وهذه المسألة كان ينبغي معالجتها بحذر حتى نبتعد عن الأساليب الخطابية الإنشائية، والتي تعتمد على المبالغة بوجه عام.
الموضوع إذن الذي اختاره الباحث يعد - كما قلنا - موضوعا مهما، والكتاب به معلومات كثيرة يمكن أن تفتح المجال لكثير من طلاب البحث والدراسة؛ أي إن الهدف الذي سعى إليه المؤلف يعد هدفا نبيلا؛ إذ يسعى إلى التعرف على حقيقة الأشياء، ونرجو للمؤلف استكمال دراساته في مجال المنطق عند فلاسفة العرب بوجه عام؛ إذ إن العرب قد بذلوا جهدا كبيرا في سبر أغوار العديد من المشكلات المنطقية وعلاقتها بالمشكلات الفلسفية.
وحين نجد دراسة أكاديمية؛ دراسة تكشف عن ثراء واطلاع صاحبها، دراسة أمينة وموضوعية، فإن هذه كلها أمور تؤدي بنا إلى تقدير صاحب هذه الدراسة الدكتور محمود علي، ونرجو له كل التوفيق في دراساته المقبلة؛ خاصة أن المشكلات المنطقية والفلسفية تعد ثرية ومتنوعة. نرجو له التمسك بالبحث والدراسة طوال سنوات حياته العلمية.
والله هو الموفق للسداد.
أ.د. عاطف العراقي
أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة
مدينة نصر في 16 / 2 / 1998م
مقدمة المؤلف
يحتل «شهاب الدين أبو الفتوح يحيى السهروردي»، الملقب ب «السهروردي المقتول»، في تاريخ التصوف الإسلامي مكانة كبيرة؛ إذ يمثل كونه مؤسسا للفكر الفلسفي الإشراقي، الذي يدعو إلى الوصول للمعرفة ، عن طريق الذوق والكشف الروحاني، بخلاف التوجه الفلسفي العام والمستدل بالتقصي والتحليل البرهاني. جمع بين عدة توجهات فلسفية من الفكر اليوناني والفكر الشرقي وغيرهما كنماذج فلسفية لتوضيح الفلسفة الإشراقية، وهو يمثل أكبر من دعا إلى التأمل الروحاني من بين الفلاسفة المسلمين، كما عرف عنه عدم الاقتناع بالمصادر، بل بأسلوب التفكير الذاتي والنفسي.
ويحكي «ابن أبي أصيبعة» عنه فيقول ما مختصره عن السهروردي: «كان أوحد في العلوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية، بارعا في الأصول الفلكية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، لم يناظر أحدا إلا بزه، ولم يباحث محصلا إلا أربى عليه، وكان علمه أكثر من عقله. فلما أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء كثر تشنيعهم عليه، وعملوا محاضر بكفره وسيروها إلى دمشق؛ إلى الملك الناصر صلاح الدين؛ فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل، يقول فيه إن هذا الشاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أن يطلق ولا يبقى بوجه من الوجوه. ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك، وأيقن أنه يقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أنه يترك في مكان مفرد ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله ففعل به ذلك. وكان ذلك في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب 586ه/1190م.»
1
كما يعتبر السهروردي المقتول أيضا، بشهادة بعض الباحثين، صاحب مدرسة إشراقية صوفية، احتلت مكانة الصدارة بين جماعة التصوف والعشق الإلهي، لما قامت به هذه المدرسة من مغامرات عرفانية سحرت بأفكارها العقلانية قلوب معاصريها وعارفيها، وصورت لهم عالم العقول، وعالم النفوس، وعالم المعاد بأسلوب حقاني عميق، أنار النفوس التواقة إلى الخلود والمشاهدة، بواسطة الانفعالات المتوترة الحية، وبالآراء الروحية المكاشفة، والقدرة الخارقة المؤثرة في مشاعر الناس وأحاسيسهم.
2
وفي هذا يذكر الشهرزوري أنه كان من السابقين في الحكمة العملية، وأنه كان قلندري
3 ⋆
الصفة، وكان له رياضات عجز أهل الزمان عنها ... وكان أكثر عباداته الجزع والسهر والفكر في العوالم الإلهية، وكان قليل الالتفات إلى مراعاة الخلق، ملازما للصمت والاشتغال بنفسه.
4
ويقول الدكتور محمد مصطفى حلمي رحمه الله: «... ليس أدل على سعة ثقافته الفلسفية من مؤلفاته العديدة الحافلة بالآراء القيمة، والتي جمع فيها إلى براعة الأنظار العقلية، روعة التعاليم الصوفية، ولطافة الأذواق الروحية ... وترجع أهمية السهروردي في تاريخ الحياة الروحية الإسلامية، لا إلى أنه كان صوفيا من طراز الصوفية الأولين، ولا إلى أنه كان فيلسوفا روحيا يصطنع النظر العقلي الخالص على نحو ما يصطنعه الفلاسفة الخلص، بل هي ترجع إلى مذهبه في حكمة الإشراق، وهو ذلك المذهب الذي نزع فيه منزعا وسطا بين التصوف المعتمد على الذوق، والفلسفة المستندة إلى النظر.»
5
كما يدل على ذلك قوله في بيان الطريق الذي حصل به ما حصل من حكمة الإشراق: «... ولم يحصل لي أولا بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر، ثم طلبت الحجة عليه حتى لو قطعت النظر عن الحجة مثلا، ما كان يشككني فيه مشكك ...»
6
ومن هنا كانت حكمة الإشراق فلسفة روحانية في كثير من جوانبها؛ حيث تذهب في المعرفة مذهبا ذوقيا قوامه أن المعرفة الإنسانية إلهام من العالم العلوي، كما يدل على ذلك ما يحدثنا به السهروردي نفسه من أنه كتب كتابه «حكمة الإشراق» إجابة لملتمس فريق من أصدقائه طلب إليه أن يكتب كتابا يذكر فيه ما حصل له بالذوق في خلواته ومنازلاته،
7
وأن المنهج الذي اصطنعه هو ذوق إمام الحكمة أفلاطون الذي يلقبه السهروردي بصاحب الأيد والنور.
8
ويقول الشهرزوري شارح كتب السهروردي في مقدمته لحكمة الإشراق: «وهذه الحكمة الذوقية قل من يصل إليها من الحكماء، ولا يحصل إلا للأفراد من الحكماء المتألهين الفاضلين، وهؤلاء منهم قدماء سبقوا أرسطو زمانا، كأغاثاذيمون، وهرمس، وأنباذوقليس، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، وغيرهم من الأفاضل الأقدمين، الذين شهدت الأمم المختلفة بفضلهم وتقدمهم، وهؤلاء وإن كان أكثر وكدهم الأمور الذوقية، فلم يكونوا خالين عن البحث، بل لهم بحوث وتحريرات وإشارات منها تقوى إمام البحث أرسطاطاليس على التهذيب والتفصيل ... ومنهم متأخرون تأخروا عنه، لكن هؤلاء كانت حكمتهم الذوقية ضعيفة جدا؛ لأن أرسطاطاليس شغلهم بالبحث ... ولم يزل البحث بعد ذلك ينمو والذوق يضعف ويقل ... وضاعت طرق سلوكهم وكيفية معاينة الأنوار المجردة ولطافة مأخذهم في مفارقة الأنفس بعد خراب البدن ... ولم يزل طريق الحكمة مسدودا حتى طلع كوكب السعادة وظهر صبح الحكمة ... بظهور سلطان الحقيقة ... شهاب الملة والحق والدين أبو الفتوح السهروردي، فشرع في إصلاح ما أفسدوا ... وشمر عن ساق الجد في التعصب للحكماء الأول، والذب عنهم ومناقضة من رد عليهم، وبالغ في نصرتهم أشد مبالغة ...»
9
وقد تميز السهروردي بتعدد وتنوع المصادر التي استقى منها فكره؛ فتيارات متعددة، وأفكار مختلفة دينية فلسفية وصوفية ومذاهب اليونان والفرس القديمة، قد أسهمت في تكوين مذهبه، وتجلت مهارته في حبك مختلف الاتجاهات والتيارات في نسق متكامل من خلال محاولته التوفيق بين الاتجاه البحثي العقلي والاتجاه الكشفي الصوفي في منهج واحد يبدأ من العقل ويترقى صاعدا، حتى يصل لمرحلة الكشف والإشراق
10
ولذا يصرح السهروردي في مقدمة حكمة الإشراق قائلا: «وما ذكرته من علم الأنوار وجميع ما يبتنى عليه وغيره يساعدني عليه كل من سلك سبيل الله عز وجل، وهو ذوق إمام الحكمة ورئيسها أفلاطون، صاحب الأيد والنور، وكذا من قبله من زمان والد الحكماء هرمس إلى زمانه من عظماء الحكماء وأساطين الحكمة مثل أنباذوقليس، وفيثاغورس، وغيرهما، وكلمات الأولين مرموزة وما رد عليهم، وإن كان متوجها على ظاهر أقاويلهم لم يتوجه على مقاصدهم، فلا رد على الرمز، وعلى هذا يبتني قاعدة الشرق في النور والظلمة التي كانت طريقة حكماء الفرس مثل جاماسف وفرشاوشتر وبوزرجمهر، ومن قبلهم، وهي ليست قاعدة كفرة المجوس وإلحاد ماني، وما يفضي إلى الشرك بالله تعالى.»
11
وعلى الرغم من هذه الأهمية التي مثلها السهروردي في تاريخ التصوف الإسلامي، وعلى الرغم من عمق فلسفته في كافة المجالات التي بحث فيها، إلا أن هناك جوانب عديدة في فلسفته لم تبحث بحثا منهجيا دقيقا شاملا؛ بحيث يتبين لنا أثر فلسفة هذا الفيلسوف.
ومن الموضوعات التي لم تبحث بحثا منهجيا دقيقا شاملا نقده للمنطق الصوري الأرسطي نقدا أضفى عليه بعدا إشراقيا؛ حيث يرى بعض الباحثين أن أفكار السهروردي الفلسفية الخاصة لم تتناول أية فكرة رئيسية منها بالقدر الكافي من البحث والتحليل، وفي مقدمتها جميعا نقده للمنطق الصوري الأرسطي؛ فلقد أجريت بعض الانتقادات من جانب المتكلمين والفقهاء، ولكن نقد السهروردي قد جاء في اتجاه مقابل تماما؛ فقد أنزل المقولات العشر إلى خمس،
12 ⋆
ثم جعل من المنطق سلما صاعدا إلى عالم الإشراق، فإذا ما تأمل القارئ تاريخ المنطق بعد ذلك في الغرب، يدرك ما لنقد السهروردي على المنطق الأرسطي من قيمة بالغة.
إلا أن بعض المستشرقين، من أمثال «هنري كوربان»
Henry Corbin
13
و«ماكس هورتن»
Max Horten
14
وغيرهما، يقللون من أهمية الجانب المنطقي في «حكمة الإشراق»، ويركزون على الجانب الكوني الميتافيزيقي، وما الجانب الكوني الميتافيزيقي عن النور، إلا تطبيق للمنهج الإشراقي في تصور الفلاسفة المشائين للكون؛ بل يجعل بعض المستشرقين من أمثال «لويس ماسينون»
Louis Massignon
من السهروردي إشراقيا كونيا ميتافيزيقيا خالصا، ويتركون جانب الحكمة ويميلون به إلى التصوف، ويخرجونه من نطاق الفلسفة والمنطق.
15
والحقيقة أن القسم الأول من «حكمة الإشراق» عن «ضوابط الفكر» لا يقل أهمية عن القسم الثاني عن «الأنوار الإلهية»، بل هما واجهتان لحقيقة واحدة؛ فالسهروردي يبدأ في القسم الأول من «حكمة الإشراق» بالبحث في أسس الفكر من حيث المعايير المنطقية، ليرى إمكانية التوصل إلى الحقيقة من خلال هذه المعايير العقلية، وعندما يجد أنها لا تفيد في الوصول إلى الحقائق الثابتة والدائمة التي ينشدها، يعمد لنقدها ومحاولة إصلاحها، لتصبح صالحة كمرحلة نحو عالم الموجودات الحقيقية؛ عالم الأنوار والمجردات، وهو ما يعرض له في القسم الثاني من الكتاب؛ حيث يتناول نظرية النور ومراتب الأنوار وما يتعلق بذلك من مباحث كونية وطبيعية.
ولذلك ف «السهروردي» قد حاول في القسم الأول من «حكمة الإشراق»، أن ينقد بعض مباحث المنطق الصوري الأرسطي الذي عرض له في رسائله؛ وبخاصة رسالة «اللمحات في الحقائق» أولا، ثم يضع مذهبا منطقيا جديدا ثانيا، أو بمعنى أدق أن يختصر المنطق الأرسطي اختصارا مبتكرا ثانيا، ويسمي كثيرا من آرائه المبتكرة مباحث أو ضوابط إشراقية، بحيث يتسنى لنا بأن نطلق على مجموع تلك الآراء «المنطق الإشراقي».
16
وعلى ذلك فالمنطق الإشراقي عند السهروردي هو محاولة لإصلاح المنطق الأرسطي وتخليصه من آثار المشائية التي تعني لديه الصورية الفارغة، وللتحرر من الطريق الصوري عند المشائين المتأخرين، وذلك عن طريق الحصول على تجربة روحية تعطي هذا المنطق مضمونه وتعدل في شكله، وتخليص الفلسفة أيضا من المناقشات العقيمة بين الفلاسفة المشائين من أجل إحياء الفلسفة، والعودة إلى النبع الإشراقي الصوفي.
17
ومن هذا المنطق فإن هذه الدراسة تسعى جاهدة إلى عرض نقد السهروردي لنواح من المنطق الأرسطي الذي وجد فيه ما يعوق طريقه نحو الإشراق، لنكشف من خلال هذا النقد عن رأيه في المنطق العقلي، وهو الصوفي الإشراقي الذي يرى أن المعرفة أساسها: «معاينة المعاني والمجردات مكافحة لا بفكر ونظم دليل قياسي أو نصب تعريف حدي أو رسمي، بل بأنوار إشراقية متتالية متفاوتة لسلب النفس عن البدن.»
18
فما الغاية من عرضه للمنطق ونقده له؟ وما الذي يمكن أن يقدمه في حقل نقد المنطق؟ وهل كان في نقده للمنطق يستند إلى أسس عقلية ينقد من خلالها، فيكون بذلك قد عاد إلى إطار العقل - إن كان ذلك ممكنا -؟ وما قيمة هذا النقد مقارنة بما تعرض له المنطق الأرسطي من نقد في مختلف العصور؟
والإجابة عن هذه الأسئلة متضمنة في تقسيم السهروردي لقضايا المنطق الإشراقي إلى ثلاثة مباحث، وهذه المباحث تكون كالآتي: (1)
مبحث المعارف والتعاريف، ويضم مباحث اللغة وصلة اللفظ بالمعنى والتصريف. (2)
مبحث الحجج، ويضم مباحث القياس وأشكال القضايا. (3)
مبحث المغالطات، وفيه ينقد السهروردي مباحث المشائين في الطبيعيات والإلهيات؛ أي أنه ينقد بعض نتائجهم على أساس من تجربته الإشراقية.
ففي مبحث المعارف والتعاريف، يغير السهروردي بعض أسماء الألفاظ المنطقية المعروفة، ويضع مكانها أسماء أخرى، فيسمي مثلا القسمة الثلاثية المشهورة لدلالة اللفظ على المعنى: التطابق والتضمين والالتزام - يسميها القصد والحيطة والتطفل، وهي ألفاظ تدل على جانب شعوري قصدي لا على جانب صوري موضوعي محايد. وفي قسمة الألفاظ إلى عام وخاص، يسمي اللفظ الخاص اللفظ الشاخص، والمعنى الخاص المعنى الشاخص أو المنحط. وواضح في هذه التسمية الجديدة ظهور بعد الشخص كبعد التعين أو تعيين درجته من حيث العلو والانحطاط، والعلو والانحطاط كلاهما يمثلان بعدا صوفيا تترتب فيه الموجودات حسب الشرف والكمال.
19
وفي هذا المبحث أيضا ينتقد السهروردي قاعدة المشائين في التعريفات، موضحا أن المشائين يأخذون الذاتي العام؛ أي الجنس، والذاتي الخاص؛ أي الفصل في تعريف الشيء. ولما كان الذاتي الخاص هذا غير معلوم عند من يجهله، فإقحامه في التعريف يناقض القاعدة المشائية القائلة بأن المجهول لا يتوصل إليه إلا بالمعلوم. ثم لو افترضنا أنه اتفق للمعروف الإلمام بهذا الذاتي أو الخاص أو الفصل، فكيف يأمن ألا يكون قد غفل عن ذاتي آخر لا يعرف الشيء إلا به؟! فتكون المعرفة بالشيء آنذاك ممتنعة وكذلك تعريف الشيء ...!
20
وهذا النقد الذي يوجهه السهروردي للتعريف الأرسطي يوجهه باسم العلم الكشفي أو المعرفة الحسية؛ أي باسم المشاهدة الباطنية أو الخارجية؛ فالمشاهدة وحدها هي التي تعطي الخاص، وهي أساس المعرفة البعدية وسابقة عليها، وهي تعطي معرفة جديدة لا يمكن للتعريف الأرسطي أن يصل إليها، وهي الضامن لصدق المعرفة الإنسانية ومقياس صدقها؛ فالواقع منه المجهول ومنه المعلوم، والمعرفة الإنسانية جزئية؛ لأنها لا تستطيع إلا أن تحصل على المعلوم دون المجهول؛ في حين أن المعرفة الكشفية-الإشراقية تعطينا المجهول والمعلوم على حد سواء. تحتاج المعرفة الإنسانية إذن إلى معرفة أخرى صوفية إشراقية تكون لها بمثابة الأوليات، حتى نضمن ألا تتسلسل المعارف الإنسانية في أولها إلى ما لا نهاية، المعرفة الصوفية-الكشفية هي النقطة اليقينية الضرورية لكل معرفة إنسانية، وهي التي تعطينا معرفة بالواقع، في حين أن التصورات عاجزة عن الخروج من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان.
21
وهكذا ينتهي السهروردي من نقده لمبحث التعريف الأرسطي إلى نتيجة عامة واحدة، وهي أن الإنسان لا يحتاج، لكي يعلم شيئا، إلى التعريف الأرسطي من الجنس والفصل، من أجل إفساح المجال للمعرفة الإشراقية القائمة على الكشف والإلهام الصوفيين.
22
وفي المبحث الثاني، وهو مبحث الحجج، يختصر السهروردي كثيرا من أشكال القضايا؛ لأنها لا يستفاد بها، أو لأنها متشعبة يستغنى عنها بأقل منها، ويستبدل بها ضوابط للفكر قليلة العدد، مختصرة، كثيرة الفوائد، وهذا يعني أن السهروردي يرفض كل ما هو زائد على نظرية متسقة للعقل، وكل ما هو زائد عليه أو متشعبة منه لا دلالة له؛ فمبادئ العقل هي المبادئ الضرورية اللازمة والنافعة؛ أي إنها هي المبادئ الكافية، وقد يكون هذا التشعب والتفريغ أحد معاني الصورية؛ أي الصورية الفارغة.
23
ففي القضايا، يقسم السهروردي القضايا إلى كلية وجزئية أو موجبة وسالبة، ويحذف القضايا الشخصية؛ لأن الشواخص لا يطلب حالها في العلوم، وحتى تكون أحكام القضايا أضبط وأسهل. ويقسم السهروردي القضايا أيضا من حيث الجهة إلى ضرورية وممتنعة وممكنة، ولكنه يحذف المجهولة وكمية الموضوع؛ لأن المجهول لا يفيد العلم؛ لأن الكيف هو الذي يميز شيئا عن آخر. وفي التناقض يحذف السهروردي عديدا من الأبحاث؛ لأنه لا يحتاج إليها في نقد المشائين وتفريعاتهم.
24
وفيما يتعلق بالقياس الاستثنائي والاقتراني؛ فيقول عن السلبي إنه لا يحتاج إلى تطويل، والضابط الإشراقي فيه مقنع دون كثير من المختلطات. ويقول عن الشكل الثاني إنه ترك التطويل على أصحابه في الضروب والبيان والخلط. ويقول عن الشكل الثالث إنه قد حذف عنه التطويلات. أما الشكل الرابع فإنه يسقطه من حسابه؛ لأنه شكل تابع للأشكال الثلاثة الأولى الأصلية؛ فالسهروردي يستبدل بهذه التعريفات القديمة الفطرة أو الضابط الإشراقي.
25
وبالإضافة إلى الحذف والاختصار، فإن السهروردي قام أيضا بتبسيط أشكال القضايا في أربعة مواضع، يسمي كلا منها حكمة إشراقية: (1)
فمن حيث الكيف، يرد السهروردي القضايا السالبة كلها إلى قضايا موجبة،
26
وهذا يعني رد الفرع إلى الأصل؛ فالسلب فرع والإيجاب أصل، والسهروردي يبحث عن الأصول لا عن الفروع، والمعرفة الإشراقية أصل المعرفة الإنسانية، وإذا كان السلب جزءا للموضوع أو للمحمول، لم يكن قاطعا للنسبة؛ فالإيجاب قطع والسلب ظن. (2)
ومن حيث الكم، يرد السهروردي القضايا الجزئية كلها إلى قضايا كلية؛
27
فالكل هو الأصل والجزء فرع عليه، والمعرفة الإشراقية كلية لا جزئية، وفي العلوم لا تطلب البرهنة على القضايا الجزئية، بل على الكلية، والجزئية لا تكون شرطا في التناقض، وبالتالي فهي لا تدخل في أصول القضايا، والكلية لا بد أن تكون محيطة أو حاصرة. (3)
ومن حيث الجهة، يرد السهروردي القضايا الممكنة كلها إلى قضايا ضرورية أو بتاتة؛
28
وذلك لأن الممكن سلب للضروري، والمعرفة الإشراقية معرفة ضرورية وليست ممكنة. ويجعل السهروردي الإمكان والإقناع جزءا من المحمول، ولم يجعله شرطا للتناقض، والقضية البتاتة هي الوحيدة التي تستخدم في العلوم، أما الممكنة أو الممتنعة فلا تستخدم على الإطلاق. (4)
ومن حيث إطلاق الحكم، يرد السهروردي القضايا المنفصلة كلها إلى قضايا متصلة،
29
وذلك لأن الاتصال أصل الانفصال، ولأن المعرفة الإشراقية متصلة لا انفصال فيها، والحقائق ليس فيها اختيار بين احتمالين: «إما ... أو»، بل هي حقيقة واحدة متصلة صادقة.
أما من حيث مادة البراهين؛ فالسهروردي لا يستعمل إلا مادة يقينية، سواء أكانت فطرية أو ما يبنى على فطري في قياس صحيح، والحدسيات عند السهروردي تشمل المجريات، وهي مشاهدات مفيدة يقينية تحدث بالتكرار والمتواترات، وهي شهادات يقينية لكثرتها بعيدة عن التواطؤ ومؤيدة بالقرائن أو المشهورات والمخيلات والتمثيلات؛ فكلها لا تفيد اليقين؛ فواضح أن اليقين عند السهروردي هو الحدس، والحدس يشمل المتواترات والمشاهدات أو الوحي والمعرفة الإنسانية على حد سواء.
30
ولما كانت مباحث المنطق الإشراقي عند السهروردي على هذا النحو من الجدة والطرافة، فقد اجتهدنا بين الفينة والفينة في أن نقارنه ببعض الأفكار المتضمنة في المنطق الحديث، على ألا تعني تلك المقارنة أن الأفكار التي طرحها السهروردي قد وصلت إلى آخر ما وصلت إليه أفكار المناطقة المحدثين، وإنما يعني وجود نفس الحلول لنفس المشكلات؛ فهناك حقائق منطقية عامة يمكن للمفكرين من شعوب مختلفة الانتساب إليها والاتفاق عليها، دون أن تكون مجرد وجهات نظر خاصة مرتبطة بعصر معين، أو بمزاج خاص، كما لا تعني المقارنة وجود أوجه تشابه مستمرة بين الأفكار المتضمنة في المنطق الإشراقي والأفكار المتضمنة في المنطق الحديث.
كما لا تعني المقارنة بالضرورة أوجه التشابه والاختلاف؛ بل تعني إلى حد ما إيجاد أوجه التشابه والاختلاف عن طريق المقابلة غير المستمرة بين أفكار السهروردي وأفكار المناطقة المحدثين.
وعلى هذا تشمل المقارنة جانبين:
الجانب الأول:
موضوعات قائمة في المنطق الإشراقي والمنطق الحديث معا؛ مثل نقد المنطق الصوري الأرسطي، ومحاولة إصلاحه، ثم ربط المنطق بنظرية المعرفة.
الجانب الثاني:
موضوعات قائمة في المنطق الإشراقي يمكن تلمسها في المنطق الحديث، مثل:
أولا:
اختصار المنطق الأرسطي، ثم محاولة وضع نسق له.
ثانيا:
نقد التعريف الأرسطي، ومحاولة وضع تعريف جديد له.
ثالثا:
اختصار المقولات الأرسطية.
رابعا:
الاهتمام بالقضايا الشرطية بجانب القضايا الحملية.
خامسا:
رد القضايا السالبة إلى قضايا موجبة.
سادسا:
رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية.
سابعا:
عدم اعتبار القضايا الشخصية قضايا كلية.
ثامنا:
التحلل من عدد أضرب أشكال القياسات الأرسطية.
تاسعا:
إنكار الشكل الرابع.
وتقتضينا الأمانة العلمية أن نشير إلى أن هناك دراسات وبحوثا، قد سبقتنا إلى تناول جانب أو أكثر من جوانب المنطق الإشراقي عند السهروردي؛
31 ⋆
لكننا عندما اطلعنا عليها جميعا لم نجد في أي منها معالجة منهجية ودراسة مستوعبة لكل جوانب المنطق الإشراقي. وعلى أية حال فحسب هذه الدراسات السابقة أنها تمثل جهدا لا ينكر لأصحابها من الأساتذة، وأشهد أنني أصبت من بعضها شيئا من الفائدة، ولكن أعظم فائدة من تلك الدراسات هي أنها أكدت عندي العزم على القيام ببحث خاص شامل مستوعب لقضية «المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول».
وقد حاولنا في بحثنا هذا أن نعرض لموضوع المنطق الإشراقي عند السهروردي بمنهج يعالج ما أعرضت عنه أو أغفلته الدراسات السابقة، أو عرضت لجوانب تتصل به في عجالة لا تكشف بدرجة كافية عن فكر السهروردي وفلسفته في هذا الموضوع. ووفقا لفهمنا لنصوص الفيلسوف، وتأويلاتنا لبعضها أحيانا، ومقارنتها بعضها ببعض وبغيرها من الآراء التي سبقته، فقد أدى ذلك إلى أن نقول بآراء تخالف كثيرا من الآراء التي تضمنتها بعض الدراسات السابقة. على أننا لم نكتف بمجرد عرض آراء الفيلسوف في كل مسألة تتصل بالموضوع، وإلا وقعنا فيما نحذر من الوقوع فيه، وهو أن تكون الدراسة أفقية مسطحة خالية من العمق.
ومن ثم حاولنا دائما، وبقدر ما وسعنا الجهد، أن نبرز آراءه التقريرية والنقدية في كل مسألة، ونقارنها بما سبقها من آراء، ثم نكشف عن انعكاساتها وآثارها فيمن جاء بعده، سواء من مفكري الإسلام أو مفكري العصر الحديث.
على أننا في معالجتنا لموضوع بحثنا آثرنا انتهاج المنهج التحليلي المقارن، من حيث يعتبر في نظرنا - على أقل تقدير - أنسب المناهج وأشدها ملاءمة لطبيعة الموضوع وغاياته؛ فبالتحليل نستنطق النص فتنبعث فيه الحياة من جديد، فيحدثنا بعد صمت، ويتحول من حالة كونه شيئا جامدا إلى صيرورته كائنا حيا ينبض بالمعنى والدلالات التي تظهر بعد كمون، وتنشأ علاقة حميمة مثمرة بينه وبين الباحث، يفيد منها هذا في فهم ما ظهر من النص وما بطن، ويعرف مناسبة ولادته، والدافع إليه، وزمانه ومكانه وقيمته، كما يعرف فحواه ومرماه ومصدره، ويتعرف مكونات البنية العضوية للرأي أو النص أو الدعوى، وما قد يكون قد طرأ عليها من تغيير أو تطوير على يد الرفقاء.
وبالمقارنة ندرك الفروق الفردية والجماعية بين طائفة وطائفة، وفريق وفريق، كما ندرك أوجه الاتفاق والاختلاف وأسبابها، ونتلمس الأبعاد الحقيقية وراء ذلك، ونحكم قبضتنا المعرفية على مختلف التوجهات والدعاوى والمسالك ومضامينها وتأدياتها.
ولسنا ندعي أننا بهذا البحث قد نبلغ الغاية التي تسد الطريق أمام كل بحث بعده، وإنما فقط يمكننا أن نزعم أننا سنحاول هنا تقديم رؤية جديدة تلمسنا أهم أبعادها من خلال دراستنا الاستطلاعية في مؤلفات شهاب الدين السهروردي المقتول، وخاصة كتابه «حكمة الإشراق»، ولكل باحث جهده ورؤاه، وفي اعتقادنا أن الدراسات والبحوث العلمية تتكامل فيما بينها بما يحقق التواصل الفكري ويدعم مشروعيته، وفي هذا ما يضمن لنا استمرارية البحث والدراسة في المنطق العربي - الإسلامي، إحياء وتجديدا وتأصيلا، وإبراز الجوانب المضيئة فيه، وتنقيحا له مما علق به من الشوائب بفعل الزمن وتقادم التاريخ، أو بفعل بعض المستشرقين المتزمتين الذين يحاولون إنكار هذا المنطق بحجة أنه نسخة مكررة من المنطق الأرسطي.
وقد قسمت هذه الدراسة إلى ستة فصول؛ لأصور بها ملامح وأبعاد المنطق والتصوف عند السهروردي المقتول من شتى نواحيه، تصويرا تعتمد فيه الأجزاء بعضها على بعض؛ فحاولت في الفصل الأول أن أعرف شيئا من شخصيته؛ متى عاش؟ وبمن تأثر؟ ولماذا قتل؟ وأي كتب ألف؟
كذلك في هذا الفصل حاولنا أن نجيب عن كثير من التساؤلات التي واجهتنا من خلاله، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هل استطاع السهروردي أن يحقق وحدة النظر والذوق، وأن يجمع بين المنطق والتصوف في منهج واحد؟ هل استطاع أن يحقق وحدة المنهج أم بقي ثنائيا؟ فهو منطقي فيلسوف يعتمد على العقل من ناحية، وصوفي إشراقي يعتمد على الذوق من ناحية أخرى. هل يمكننا اعتبار نقد السهروردي للمنطق الأرسطي وتعديلاته المقترحة تمثل الصوفية في شيء أم أنه نقد عقلي منطقي بحت؟
وفي الفصل الثاني ألقيت الضوء على المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي. أما الفصل الثالث فقد خصصته للمنطق عند السهروردي وعلاقته بالمنطق الأرسطي. أما الفصل الرابع فقد تناول إشكالية نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السهروردي والمناطقة المحدثين. ثم يأتي الفصل الخامس، وفيه عرضت للنزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث. أما الفصل السادس والأخير فقد حاولت فيه أن أتلمس أفكار وقضايا المنطق والتصوف عند السهروردي في المنطق الأوروبي الحديث، من خلال هذا العنوان «منطق السهروردي ومحاولة قراءة أفكاره في المنطق الحديث.»
وعلى ذلك فإن تناولنا لنقد المنطق الأرسطي من قبل السهروردي، وما طرحناه من بديل، قام على أساس أن ما طرحناه من آراء منطقية إنما يمثل جانبا من رؤية كلية أشمل تنعكس في مجمل آرائه ومباحثه، وما المنطق إلا جزء من هذا السياق الفكري العام؛ فغاية البحث بيان أثر المنطلقات الفكرية والعقدية والأيديولوجية في رؤية المفكر أو الفيلسوف لعملية المعرفة ووسائلها وغاياتها ودور العقل فيها.
وفي النهاية أتمنى أن تكون هذه الدراسة قد حققت ما كانت تهدف إلى تحقيقه؛ حتى تكون ثمرة من ثمار الفكر المفيد في الدراسات التي تهتم بتفاصيل جذور المنطق العربي في المنطق الحديث.
الفصل الأول
السهروردي ... حياته وآثاره
تمهيد
إن شهاب الدين السهروردي؛ هذه الشعلة الإشراقية العرفانية التي أخمدت بسرعة، بفعل الدس والتآمر والتعصب البغيض ، لم ينضب زيتها ويجف بجفاف جسده، بل لا يزال وميضه الروحي، وذوقه العرفاني، يتردد صداه في قلوب عارفيه حتى هذا اليوم، وسيدوم خالدا أبديا يجمع بين النظر والشعور إلى ما لا نهاية، كظل نوراني يمتد بفيئه ليرسم صورة حقيقية رائعة لأسمى معاني العرفان في ثوب الفلسفة والتأمل الفلسفي.
علاوة على ذلك، فإنه لا يمكن أن يتجاهل الكثير من الباحثين والمفكرين أن السهروردي قد قدم لنا مذهبا فلسفيا إنسانيا كاملا؛ حيث ناقش فيه قضايا الفلسفة من خلال المنظومة الرئيسية لها: الله-الكون-الإنسان، فيقدم مفهومه لكل منها، ومفهومه لعلاقة كل منها بالآخر، شأنه في ذلك شأن أي فليسوف. وهو في ذلك يقف على قدم المساواة مع أمثال أرسطو وأفلاطون.
ومذهب السهروردي الفلسفي - شأن أي مذهب فلسفي آخر - فيه جانب التأثر بما سبقه، وفيه جانب النقد ومحاولة تقديم الجديد.
ومن هذا المنطلق نحاول في هذا الفصل أن نكشف النقاب عن حياة السهروردي وآثاره، وذلك على النحو التالي:
أولا: اسمه ولقبه
يرى معظم المؤرخين والمترجمين أن شهاب الدين السهروردي هو «أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك»، غير أن «ابن أبي أصيبعة» ذكر أن اسم السهروردي هو «عمر» دون أن يذكر اسم أبيه.
1
وقد لاحظ «نللينو»
Nallino
هذا الخطأ الذي وقع فيه «ابن أبي أصيبعة»، ووصفه بالسهو الشنيع والغلط الفظيع.
2
أما ياقوت الحموي فيقول إن «اسم السهروردي هو أحمد»، وإن كنيته هي «أبو الفتوح».
3
ولكن ابن خلكان يشير إلى أن الاسم الصحيح هو «أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك»، ثم يضبط هذا الاسم ضبطا لغويا لما عسى أن يلتبس في هذا الاسم من ألفاظ غريبة أو عجيبة قد يصعب نطقها أو فهمها؛ فيذكر أن لفظ «حبش» بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة والشين المعجمة. وقال عن لفظ «أميرك» إنه بفتح الهمزة وبعدها ميم مكسورة، ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها راء مفتوحة، ثم كاف، وهو اسم أعجمي معناه «أمير» وهو تصغير «أمير»؛ لأن الكاف التي تلحق بآخر الاسم هي للتصغير.
4
ويلقب السهروردي بالمؤيد بالملكوت؛ وذلك لما عرف عنه من العلوم الإلهية والأسرار الربانية التي رمز الحكماء إليها، وأشار الأنبياء إليها، ولما أيد به من قوة التعبير عن هذه الأسرار وتلك العلوم في كتابه العظيم «حكمة الإشراق».
5
ويلقب أيضا ب «خالق البرايا»؛ وذلك لما كان يظهره في الحال من العجائب. ويرى الشهرزوري أن واحدا رأى السهروردي في المنام، فقال له الأخير: «لا تسموني بخالق البرايا.»
6
ولما كان السهروردي قد قتل بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 586ه/ 1193م، فلهذا السبب أطلق عليه المؤرخون لقب «الشيخ المقتول»؛ وذلك تمييزا له عن غيره ممن يشتركون معه في النسبة إلى سهرورد؛ فثمة علماء ثلاثة يعرفون باسم السهروردي وهم: (1)
ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر السهروردي، المتوفى سنة 630ه الموافق 1167م أو سنة 1168م. (2)
شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عمويه، مؤلف عوارف المعارف، سنة 632ه، الموافق سنة 1234 أو 1235م. (3)
محمد بن عمر، ابن الشيخ شهاب الدين - المتقدم مباشرة - صاحب زاد المسافر في التصوف.
7
غير أن «أحمد أمين» يرى أنه ربما لقب ب «الشيخ المقتول»؛ إيماء بأنه قتل استحقاقا لهذا القتل، وإلا كان لقب بالشهيد، وأنه أشاع في «حلب» تعاليمه الفلسفية ورأيه في الحلول، وأن الله والعالم شيء واحد، وتصريحه بذلك ألب الفقهاء والشعب عليه، فاضطر الملك الظاهر بن صلاح الدين حاكم حلب أن يتخلى عن حمايته، فقتل عام «586ه»، وهو في السادسة والثلاثين من عمره.
8
ويرجع «الأب جومس نولجانس» أن علة لقب السهروردي بالشيخ المقتول يرجع إلى أنه الاسم الذي تعود عليه الناس فسموه به، ولأنه لم يمت موتا عاديا، وإنما مات مقتولا، ولهذا يكون اللقب الذي تعود الناس تسميته به (المقتول) يشير إلى أن موته لم يعتبر دليلا على الإيمان الحقيقي الذي يتسم به الشهداء، وإنما مات كافرا، مدانا من السلطات الدينية.
9
وهنا يتضح أن السهروردي إذا كان قد لقب بالشيخ المقتول، فذلك لما تواتر عليه جمهور المؤرخين، أما تلاميذه وأتباعه فإنهم يطلقون عليه لقب «الشهيد»؛ حيث اعتبروه شهيد الفكر والعقيدة الإشراقية.
10
ثانيا: المولد والنشأة
في منتصف القرن السادس الهجري ولد شهاب الدين السهروردي المقتول عام 549ه الموافق 1153م في «سهرورد»، وهي بضم أوله وسكون ثانيه وفتح الراء والواو وسكون الراء، ودال مهملة، وهي بلدة قريبة من زنجان بالجبال.
11
على أنه ليس من الممكن الآن تحديد موقعها بدقة، لكن إذا أردنا تحديد موقعها في العهد القديم، فيمكن القول بأنها كانت تقع في الشمال الغربي من إيران في ميديا القديمة، وهي مدينة كانت مزدهرة إبان الاضطرابات المغولية.
12
وبخصوص المولد والنشأة، يعطينا المؤرخون والمترجمون طائفة قليلة من المعلومات التي لا خطر لها ولا غناء فيها، والتي لا تكفي لإظهارنا على صورة واضحة لحياة السهروردي في طفولته وصباه، ولعل كل ما نعرفه عنه أنه ولد في سهرورد، وأن تاريخ مولده يقع بين سنة 545ه (الموافق 1150م)، وسنة 550ه (الموافق 1155م)، وأنه قضى حياته الأولى بتلك البلدة القريبة من زنجان، وهي «سهرورد»، وهنالك تلقى أول ما تلقى من ثقافات دينية وفلسفية أو تصوفية. أما على من تلقى هذه الثقافات؟ وما مبلغ وقوفه عليها وتحصيله لها؟ وما الخصائص العلمية وغير العلمية التي امتازت بها بيئته المنزلية من ناحية، وبيئته الاجتماعية من ناحية أخرى؟ ومن أبوه؟ وما مكانة هذا الأب؟ وما أثره في تنشئة ابنه، وتثقيفه وتوجيهه؟
13
فكل ذلك أمور لا يكاد الباحث يظفر بها أو يقف على بعضها فيما بين يديه من المراجع، حتى الشهرزوري، تلميذ السهروردي المباشر وشارح مؤلفاته، لا يخبرنا في ترجمته المطولة بإجابات شافية عن هذه الاستفسارات.
ولعل صغر سن هذا الفيلسوف الصوفي وكثرة أسفاره كانا من العوامل التي قيضت نطاق انتشار علمه، أو ذيوع صيته، فلم يحفل بتتبع نشأته الأولى.
14
ثالثا: رحلاته
كان السهروردي كثير السفر والترحال والتنقل في مختلف الأقطار، فلقد كان السفر من بعض هواياته؛
15
فلا يكاد ينزل ببلدة جديدة حتى يبحث عن العلماء والحكماء، ويأخذ عنهم علمهم، وعن الحكماء حكمتهم، ويصاحب الصوفية، ويجالسهم، ويأخذ نفسه بالتجريد وسلوك طريقتهم من رياضات ومجاهدات كانت سبيله إلى ما أشرقت به نفسه من أنوار المكاشفات.
16
فقد حدثنا الشهرزوري ما نصه: «كان قدس الله روحه كثير الجولان والطوفان في البلدان، شديد الشوق إلى تحصيل مشارك له في علومه، ولم يحصل له. قال في آخر «المطارحات»: ها هو ذا قد بلغت سني تقريبا ثلاثين سنة، وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مشارك مطلع على العلوم، ولم أجد من عنده خبر عن العلوم الشريفة، ولا من يؤمن بها، وأكثر العجب من ذلك.»
17
والبلاد التي سافر إليها السهروردي لا تتجاوز كما أخبرنا المؤرخون والمترجمون بلاد الشام، وبلاد الروم. وقد حدثنا الشهرزوري أيضا عن السهروردي في موضع آخر، فقال ما نصه: «... وسافر في صغره في طلب العلم والحكمة إلى مراغة، واشتغاله بها على يد «مجد الدين الجيلي»، في أصفهان، وبلغني أنه قرأ هناك بصائر ابن سهلان الساوي على الظهير الفارسي، والله أعلم بذلك، إلا أن كتبه تدل على أنه فكر في البصائر كثيرا، وسافر إلى نواح متعددة، وصحب الصوفية، واستفاد منهم، وحصل لنفسه ملكة الاستقلال بالفكر والانفراد، ثم اشتغل بنفسه بالرياضات والخلوات والأفكار، حتى وصل إلى غايات مقامات الحكماء ونهايات مكاشفات الأولياء.»
18
من هذا النص يتضح لنا أن السهروردي قد أخذ العلم في بداية حياته على يد «مجد الدين الجيلي»، أستاذ فخر الدين الرازي، ثم سافر بعد ذلك إلى أصفهان، وأصفهان إحدى المدن الكبرى التي استقر فيها «ابن سينا» وقتا غير قصير، واتخذ فيها قسطا كبيرا من موسوعته الفلسفية الكبرى «الشفاء»، وكان له فيها تلاميذ وأتباع تعاقبوا إلى أن رآهم السهروردي، واطمأن إلى صحبتهم، واتخذ منهم أصدقاء أولع بهم. وفي أصفهان قرأ السهروردي «بصائر ابن سهلان الساوي» المتوفى سنة 450ه الموافق سنة 1060م.
وكتاب البصائر النصيرية من أجواد أنواع التلخيصات لمنطق الشفاء لابن سينا، كما أن السهروردي، وهو بأصفهان، خاطب الفكر السينوي؛ فكتب له رسالة «بستان القلوب»، كما ترجم «رسالة الطير» لابن سينا إلى اللغة الفارسية.
19
كما اتصل السهروردي بالشيخ «فخر الدين المارديني»، وكانت بينهما صداقات واجتماعات، كما أخبرنا بذلك ابن أبي أصيبعة
20
حيث استفاد السهروردي من اتصاله به في تكوين مذهبه المشائي الذي عرض له في «التلويحات واللمحات والمقامات والمطارحات وهياكل النور ...» إلخ.
ثم يذكر الشهرزوري أن السهروردي سافر إلى مناطق متعددة لطلب العلم دون أن يذكر اسمها بالتفصيل، غير أنه أشار إلى أن السهروردي كان يفضل الإقامة ب «ديار بكر»، وقد اتصل بأمير خربوط «عماد الدين قرة أرسلان» حاكم ديار بكر، وأهدى إليه كتابه «الألواح العمادية».
21
ويذهب «ماسينون»
Massignon
إلى أن السهروردي أسس مدرسة إشراقية في بلاط هذا الأمير.
22
غير أن كتابات المؤرخين والمترجمين لم تؤيد هذا الرأي؛ حيث إن صغر سنه وكثرة أسفاره لا تجعلنا نعتقد أنه كان لديه من الوقت ما يسمح له بتكوين مدرسة فلسفية، ولا سيما وأن إقامته في الأناضول عند الأمير أرسلان لم تطل؛ لأن الشيخ كان كثير السفر، ميالا إلى التجوال.
23
على أن حياة التجوال التي كان يحياها السهروردي لم تقف به عند البلاد التي أشار المؤرخون والمترجمون إلى أنه قد دخلها، وأفاد منها ما أفاد من ثقافات، واتصل فيها بمن اتصل من شخصيات، وإنما هي قد امتدت به إلى الشام؛ حيث قدم مدينة حلب سنة 579ه، كما يقول «ابن أبي أصيبعة»،
24
وهي آخر البلاد التي سافر إليها، وفيها قتل بسبب معتقداته الفلسفية.
رابعا: مأساته
يحدثنا الشهرزوري بما قاله «فخر الدين المارديني» ما نصه: «ولما فارقنا السهروردي من الشرق، وتوجه إلى حلب، وناظر فيها الفقهاء، ولم يجاره أحد؛ فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره الملك الظاهر، واستحضر الأكابر والفضلاء المتفننة لسماع ما يجري بينهم من المباحث، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحسن موقعه عند الملك الظاهر، وقربه وصار مكينا عنده مختصا به؛ فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيروها إلى دمشق إلى صلاح الدين، وقالوا له: إن بقي أفسد اعتقاد الملك، وإن أطلق أفسد أي ناحية سلك، وزادوا عليه أشياء كثيرة؛ فبعث إلى الملك الظاهر يقول بخط القاضي: «إن هذا الشهاب لا بد من قتله، ولا سبيل إلى إطلاقه بوجه».»
25
من هذا النص يتضح لنا أن السهروردي عندما جاء إلى حلب، نزل المدرسة الحلاوية، وحضر درس شيخها الشريف «افتخار الدين»، كما أخبرنا بذلك ابن أبي أصيبعة،
26
فأدناه إليه وقرب مجلسه منه ، وأظهر فضله للناس، وعرف مكانه فيهم، على أن ما ظهر من فضل السهروردي وعلمه، وما أظهره من براعة في المناظرة، وإفحام في الحجاج، وما كان له من منزلة كبرى عند الشيخ افتخار الدين، كل أولئك قد أحنق عليه الفقهاء، وأوغر صدورهم، فجعلهم يرجفون به ويشنعون عليه، الأمر الذي ترتب عليه أن استحضره الملك الظاهر بن صلاح الدين، وصاحب حلب في ذلك الحين، وعقد له مجلسا من الفقهاء والمتكلمين يباحثونه ويناظرونه، فيظهر عليهم بحججه، وإذا بالملك يقربه، ويقبل عليه ويتخصص به، وإذا بالحانقين عليه والضائقين به من الفقهاء يزداد حنقهم وغيظهم، وإذ هم يرمونه بالإلحاد والزندقة، ويكتبون إلى الملك الناصر صلاح الدين يحذرونه من فساد عقيدة ابنه الظاهر بصحبته للشهاب السهروردي، ومن فساد عقائد الناس إن هو أبقى عليه، فلم يكن من صلاح الدين إلا أن كتب إلى ابنه الظاهر يأمره بقتل السهروردي، ويشدد عليه في ذلك ويؤكده، وما هي إلا أن استفتى فقهاء حلب في أمره فأفتوا بقتله.
والواقع أن هذه الحملة على السهروردي تدعو إلى التساؤل: هل هي وليدة خصومة شخصية وتباين في الميول والطباع، أم ثمرة خلاف مذهبي؟
في الحقيقة ذهب بعض المستشرقين، من أمثال ماكس هورتن
M. Horten
وغيره، إلى أن مقتل السهروردي يرجع إلى أسباب سياسية. يقول «هورتن» ما نصه: «إن مذهب السهروردي ينطوي على إحياء المذهب الإسماعيلي القائل بأن أبناء علي هم صور للتجلي الإلهي، ولهذا أعتبر ثائرا سياسيا يعمل على قلب النظام، وكان مصيره كمصير الحلاج من قبل.»
27
ويوافق بعض الباحثين على هذا الرأي؛ فنجد الدكتور عبد الرحمن بدوي يقول إنه «لولا اتصال السهروردي بالملك الظاهر، وما خشيه السلطان من تأثير هذه الصلة على المذهب السني الذي كان يمثله صلاح الدين، لظل السهروردي طليقا حرا يفكر كما يشاء. ونفس ما حدث ل «السهروردي» حدث للحلاج من قبل، فلولا أن الحلاج قد زج بنفسه في التيارات السياسية المضطربة في عصره ومصره بين الشيعة والحنابلة، واتصاله برجال السياسة، لما حدث له شيء مما حدث من تعذيب أو صلب . أما أن تكون أسباب اتهامه هي مسائل ترجع إلى آرائه، فلم يكن إلا تكأة استند إليها السلطان فحسب، وإن في وسعه أن يجد غيرها لينكل به كما فعل لو لم توجد هذه الآراء.»
28
وإذا كان بعض المستشرقين والباحثين يرجع حادث مقتل السهروردي إلى أسباب سياسية، فإن هناك أسبابا أخرى يجب ألا نغفل عنها، وهي أن جرأة السهروردي وقسوته على معارضيه هي التي جنت عليه، وهذا الشهرزوري تلميذ السهروردي أقوى شاهد إثبات؛ حيث فصل القول في هذا تفصيلا تاما، وأظهرنا على أن السهروردي كان يصرح في البحوث بعقائد الحكماء، لأنه كان صارما في جدله، مفحما في حجته، لا يأخذ خصومه في هوادة، ولا يخاطبهم في لين.
29
هذا بالإضافة إلى ما كان يظهره بقوة روح القدس، وما نسب إليه من العظائم، وأنه ادعى النبوة، فكل ذلك كان سببا في أن يجمع الفقهاء أمرهم على تكفيره وإباحة دمه، والحكم عليه بالقتل. ولكن الشهرزوري يرى أن السهروردي بريء من ذلك.
30
من هذا يتبين لنا أن جرأة السهروردي وتهوره وقلة تحفظه من الأسباب التي جنت عليه؛ فمن يدري فلعل السهروردي لو أنه اصطنع كثيرا أو قليلا من التحفظ والاعتدال، وأمسك عن كثير أو قليل من تصريحاته وعباراته، لكان للفقهاء معه شأن آخر؟ ولكنه وقد أطلق نفسه على سجيتها، وأطلق لأذواقه وأفكاره ومذاهبه كل حريتها، لم يستطع أن يكون غير ما كان، ولا أن يقول غير ما قال، ولم يستطع الفقهاء إلا أن يحرجوه ويدحضوا مزاعمه وينسبوه إلى الكفر والضلال ويفتوا بقتله.
31
وينفرد العماد الأصفهاني، الذي كان معاصرا ل «السهروردي»، بإيراد القصة الكاملة لمقتله فيقول ما نصه: «في سنة 588ه، قتل شهاب الدين السهروردي وتلميذه شمس الدين بقلعة حلب. أخذ بعد أيام، وكان فقهاء حلب قد تعصبوا عليه، ما خلا الفقيهين «ابني جهيل» فإنهما قالا: هذا رجل فقيه، ومناظراته في القلعة ليس بحسن، ينزل إلى الجامع ويجتمع لهم، ويعقد له مجلس في الخلاف معه، وقالوا له: أنت قلت في تصانيفك «إن الله قادر على أن يخلق نبيا »، وهذا مستحيل، فقال لهم: ما حد لقدرته، أليس القادر إذا أراد شيئا لا يمتنع عليه؟ قالوا: بلى، قال: فالله قادر على كل شيء، قالوا: إلا على خلق نبي فإنه مستحيل، قال: فهل يستحيل مطلقا أم لا؟ قالوا: كفرت، وعملوا له أسبابا لأنه بالجملة كان عنده نقص عقل لا علم، ومن جملته أنه سمى نفسه المؤيد بالملكوت.»
32
وإذا كان السهروردي قد قتل بالفعل، فكيف نفذ فيه حكم القتل؟ وعلى أي وجه قتل؟
اختلفت الروايات وتضاربت الأقوال في هذا الموضوع، فنجد أن الشهرزوري يقول: «... ورانت الناس مختلفين في قتله، فزعم بعضهم أنه سجن ومنع الطعام.» وبعضهم يقول: «منع نفسه حتى مات.» وبعضهم يقول: «خنق بوتر.» وبعضهم يقول بسيف، وقيل إنه «حط في القلعة وأحرق.»
33
كما يخبرنا ابن أبي أصيبعة؛ حيث يقول: «ولما بلغ الشهاب السهروردي ذلك (نبأ قتله)، وأيقن أنه مقتول وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يترك في مكان منفرد، ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى؛ ففعل به ذلك.»
34
من هذين النصين يتضح أنه لا يمكن أن نرجح كيف قتل السهروردي، غير أنه يمكن القول مع «هنري كوربان»، بأنه قتل بطريقة سرية.
35
أما عن معرفة التاريخ الذي وقع فيه حادثة القتل، فنجد أن المؤرخين والمترجمين يختلفون في إيراد وفاته، إلا أن الاختلاف ليس كبيرا؛ فهو لا يتعدى سنتي 586ه و588ه؛ فنجد أن الشهرزوري يذكر 586ه على أنها السنة التي قتل فيها أستاذه،
36
وكذلك العماد الأصفهاني يذكر حادث مقتله 588ه.
37
إلا أن معظم الباحثين والمؤرخين والمترجمين يرجحون من بين هذه التواريخ جميعا 587ه
38
وهو يوافق 29 يوليو سنة 1191م
39
يعني أن عمره كان حينئذ 36 عاما بالتقويم العربي القمري، ويلاحظ أن تاريخ وفاته سابق على التاريخ الذي مات فيه ابن رشد، وذلك بسبع سنين.
خامسا: حياته الفكرية
يعتبر السهروردي أول من تصدى للفلسفة المشائية في القرن السادس الهجري، فقد أعرب في مصنفاته عن تبرمه بالفلسفة المشائية وحرصه على تخطيها بالاتجاه نحو فلسفة إشراقية تنم عن أعماق شجونه الفكرية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن السهروردي متصوف قبل أن يكون فيلسوفا، وقد انتهى من فلسفته إلى حكمة الإشراق التي تدل على مذهبه الحقيقي، وقد تفلسف غيره من متصوفي الإسلام، ولكن أحدا منهم لم يربط الفلسفة بالتصوف مثلما فعل، فهو يضع الفلسفة والتصوف في علاقة خاصة لا نجدها إلا عنده، وهو يميز بين نوعين من الحكمة متقابلين: «الحكمة البحثية» المعتمدة على التحليل والتركيب والاستدلال البرهاني، وتهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، وهي حكمة الفلاسفة، حكمة الإشراقيين، وليس ثمة تعارض حقيقي بين الحكمتين، وإنما هو تعارض ظاهري؛ لأن الإشراقي الحقيقي هو الذي يتقن الحكمة البحثية، وينفذ في الوقت نفسه إلى أسرار الحكمة الذوقية.
40
وفي هذا يحدثنا الشهرزوري ما نصه: «جمع (يعني السهروردي) بين الحكمتين، أعني الذوقية والبحثية. أما الذوقية فشهد له بالتبريز فيها كل من سلك سبيل الله عز وجل، وراض نفسه بالأذكار المتوالية، والمجاهدات المتتالية، رافضا عن نفسه التشاغل بالعالم. طالبا بهمته العالمية مشاهدة العالم الروحاني، فإذا استقر قراره وتهتك بالسير الحثيث إلى معاينة المجردات أستاره، حتى ظفر لمعرفة نفسه، ونظر بعقله إلى ربه، ثم وقف بعد هذا على كلامه، فلتعلم جيدا أنه كان في المكاشفات الربانية آية، والمشاهدات الروحانية نهاية، لا يعرف غوره إلا الأقلون، ولا ينال شأوه إلا الراسخون. وأما الحكمة البحثية فإنه أحكم شأنها وشيد أركانها وتميز عن المعاني الصحيحة البارزة اللطيفة بالعبارات الرشيقة الوجيزة، وأتقنها ورآها، لا سيما في الكتاب المعروف ب «المشارع والمطارحات»، فإنه استوفى فيه بحوث المتقدمين والمتأخرين، وتفحص فيه معتقد الحكماء الأقدمين، وأكثر تلك البحوث والمتناقضات، والأسئلة والإيرادات، من تصرفات ذهنه ومكنون علمه، وذلك يدلل على قوته في الفن البحثي والعلم الرسمي، واعلم أن قيم كلامه ومعرفة أسراره مشكل جدا على من لا يسلك طريقته.»
41
وهذا الجمع المحكم بين الحكمتين «الذوقية والبحثية»، يدل دلالة واضحة على مظاهر الأصالة في التفكير عند السهروردي ؛ فبحسب النظرية السهروردية أن المجهود الفكري للنفس الإنسانية، لا يحقق لها الغاية المرجوة، التي هي المعرفة التامة، إلا بالتجربة الداخلية والذوق الباطني، كما أن الاختبار الروحي بدوره، لا يزدهر ويرسخ وينتج ثمراته المطلوبة، إلا إذا قام على أساس ثابت من العلم والفلسفة.
42
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن النظرية السهروردية تدعو إلى «حشد» كل ضروب العهد - بما فيها الإسلام - لشرح «روحية الإشراق» بنقل اعتبار التوجيه للإسلام في المجتمع الإسلامي إلى روحيته الإشراقية.
43
وهذه المحاولة تبين لنا أن السهروردي كان موسوعي النزعة، لا يقنع بكتاب، ولا يقف عند شيخ، ويأبى إلا أن يضم الحكماء بعضهم إلى بعض، سواء أكانوا شرقيين أو غربيين، وكأنما كان يطبق الحديث القائل: «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها»، فجمع بين حكماء الفرس واليونان، وبين كهنة مصر وبراهمة الهند، وآخى بين أفلاطون وزرادشت، وبين فيثاغورس وهرمس، وشاء أن يضم الروحانيين بعضهم إلى بعض دون تفرقة بين جنس ووطن.
44
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى استطاع أن ينبهنا إلى دراسة المنطق والفلسفة، وما لهما من قيمة كبرى وخطر عظيم وأثر كبير في إعداد طلاب الحكمة وتثقيفهم؛ فهو يرى أنه لا بد لطالب العلم والمعرفة من أن يلم إلماما تاما بالفلسفة الأرسطية والمنطق والرياضيات والتصوف، وأن يخلص نفسه من شوائب الهوى والشهوة؛ بحيث يستطيع أن ينمي تدريجيا هذه الحاسة التي تحقق وتصحح ما يأخذه العقل على أنه نظري خالص، والتي تعرف عند الصوفية باسم الذوق. فإن العقل الذي يعمل وحده دون أن يكون له عون أو مؤيد من الذوق لا يصح أن يوثق فيه ثقة مطلقة أو يطمأن إليه اطمئنانا لا شبهة فيه ولا غبار عليه؛ ومن ثم كان السهروردي حريصا على أن يؤيد العقل بالذوق.
45
سادسا: آثاره
لقد كان لمصير السهروردي أثره في أن يظل إنتاجه الفلسفي مختفيا لبعض الوقت، نظرا لما شاع عنه من مروق في الدين، إلا أن تلامذته قد اهتموا بتتبع أخباره، وعلى الأخص الشهرزوري
46
الذي ذكر في ترجمته لمصنفات السهروردي تسعة وأربعين كتابا ورسالة، فضلا عما ذكره من مصنفات منثورة ومنظومة تصور عبقرية السهروردي في النثر والنظم. ولم تصل إلينا معظم تلك الآثار والمصنفات التي يعددها الشهرزوري ل «السهروردي»، اللهم إلا كتب ورسائل نشر أقلها وما يزال أكثرها مخطوطا حتى الآن، وتوجد منه نسخ خطية تختلف كثرة وقلة في مكتبات الشرق والغرب، يضاف إلى هذا أن صحة نسبة بعض ما يذكره الشهرزوري إلى السهروردي ما يزال في حاجة ماسة إلى تحقيق وموازنة تكشف عن وجه الحق فيها.
ومهما يكن من شيء، فإن إثبات الشهرزوري لمصنفات السهروردي يمكن أن يعد إثباتا كليا، إذا قيس إلى ثبوت غيره من المؤرخين والمترجمين، من أمثال ابن أبي أصيبعة، وابن خلكان، وياقوت الحموي، وحاجي خليفة، والتي من أخص خصائصها أنها جزئية ذكرت شيئا وأغفلت أشياء، وما أغفلته كان أكثر بكثير مما ذكرته. غير أننا نجد أن محاولة الشهرزوري ليست بحثا في العلاقة بين ترتيب كتب السهروردي وتطور فلسفته، بل إنها تعداد لكتبه ورسائله دون مراعاة لأي اعتبار تصنيفي.
أما أول من قام بمحاولة التصنيف هذه من الكتاب المحدثين فهو ماسينون،
47
الذي يقسم كتب السهروردي إلى ثلاثة أقسام بحسب مراحل ثلاث من حياته الفلسفية وسمت كل منها تفكيره بطابع معين. وهذه المراحل هي: (1)
مرحلة الشباب أو «العهد الإشراقي»: وتشمل الألواح العمادية، وهياكل النور أو الرسائل الصوفية، وكان ذلك بالاستناد إلى ما أورده الشهرزوري. (2)
مرحلة العهد المشائي: وتشمل التلويحات واللمحات والمقاومات والمطارحات. (3)
المرحلة الثالثة: وهي العهد الأخير الذي تأثر فيه بالأفلاطونية المحدثة وابن سينا، وتشمل حكمة الإشراق واعتقاد الحكماء.
ولقد فتحت محاولة المستشرق الفرنسي «ماسينون» باب الخوض في تصنيف كتب «السهروردي» أمام المستشرقين، فذهب سبيز وختك
Spies and Khattak
48
ليقررا أن رسائل السهروردي الصوفية والفلسفية، مثل «مؤنس العشاق» و«لغة موران» و«صفير سميرغ»، هي من أعمال السهروردي المبكرة.
إلا أن المحاولة الرصينة التي قام بها المستشرق الفرنسي الأستاذ «هنري كوربان
Henry Corbin »
49
بعد ذلك، نقلت هذه المسألة من بحث تاريخي لتصنيف السهروردي إلى بحث في فلسفته والإبانة عن تطور فكره، منذ تحصيله الأول في «مراغة» إلى امتلاك أساليب الجدل في «حلب». كما يذهب أيضا «هنري كوربان» إلى أن كتب السهروردي لا يمكن أن تصنف تبعا لمراحل سيرته، بل إن هذه المؤلفات ، المتجانسة في الغاية، يشير الواحد منها إلى الآخر بشكل ظاهر أو خفي. ولذلك اعتمد تصنيفه على الوحدة الجوهرية لآثار الشيخ، وعلى النهج المعنوي الذي ينظم ويؤلف بين هذه الآثار في دلالتها على مثال واحد؛ فأهمل تصنيفه، وبالتالي التسلسل التاريخي، واعتمد الأواصر المعنوية والنفسية في تقدير المشاكلة. وهو يقسم كتب السهروردي إلى أربعة أصناف: (1)
صنف يشتمل على رسائل يمكن أن يطلق عليها اسم «الرسائل الاعتقادية الكبرى»، وهي مكتوبة بالعربية، وقد وضعت الرسائل الثلاث الأولى، وهي «التلويحات والمقاومات والمشارع والمطارحات» على أن تكون إعدادا وتمهيدا لدراسة الرابعة، وهي حكمة الإشراق التي يعدها السهروردي أهم مصنفاته جميعا. (2)
صنف يشتمل على طائفة من الرسائل الاعتقادية الصغرى، بعضها كتب بالعربية وكتب بعضها الآخر بالفارسية، كما هو الشأن في هياكل النور. ويدخل تحت هذا الصنف «الألواح العمادية» و«بستان القلوب» و«اعتقاد الحكماء» و«كلمة التصوف» و«كشف الغطاء» و«اللمحات في الحقائق». (3)
صنف يشتمل على طائفة أخرى من الرسائل وضعت في صورة أمثال وحكايات توجيهية وقصص رمزية، وقصد بها الإرشاد والتوجيه، ويكاد كلها يكون مكتوبا بالفارسية، إلا القليل منها فقد كتب بالعربية، أو كتب بالعربية والفارسية، كما هو الشأن في رسالة «الغربة الغربية»، ويدخل تحت هذا الصنف: رسالة عقل، ورسالة «آواز بر جبرائيل»، وكلمات ذوقية (= الأبراج)، ولغة موران، و«مؤنس العشاق» (= العشق)، ورسالة «درخالة طفولية»، ورسالة «روزي باجماعت صوفيان»، و«رسالة الطير»، ورسالة «صفير سميرغ». (4)
صنف يشتمل على مجموعة من الواردات والتقديسات التي هي أشبه ما تكون بالمزامير، وتدور حول طقوس يومية تقديسا للملائكة القائمين على أمر الكون. والمخطوطات التي عثر عليها من هذا الصنف ما تزال نادرة حتى الآن. ويقول الأستاذ كوربان إنه «لم يقف منها إلا على مخطوطات إستانبول».
50
ويساير الدكتور سيد حسين نصر
51
هذا الترتيب، وذلك في خمسة أقسام:
القسم الأول:
مؤلفات كلها باللغة العربية، وأهمها أربعة، منها ثلاثة عن الفلسفة المشائية تلويحات ومقاومات ومطارحات، أما الأخير فيدور حول حكمة الإشراق.
القسم الثاني:
مؤلفات مكتوب بعضها باللغة العربية وبعضها الآخر باللغة الفارسية ، تتناول بالتفصيل الموضوعي الدقيق بعض الجوانب المتصلة بالمؤلفات الأولى. وهي عموما موجزات، وتشمل العناوين التالية الرئيسية: «هياكل النور، الألواح العمادية، بارتا نامة، اعتقاد الحكماء، اللمحات، يزدان شناخت» التي تنسب أحيانا إلى «عين القضاة» الهمذاني، و«بستان القلوب» الذي ينسب بدوره إلى السيد الشريف الجرجاني أحيانا بعنوان «روضة القلوب».
القسم الثالث:
مؤلفات كلها باللغة الفارسية، وهي أقاصيص وحكايات كتبت بلغة رمزية، تصف الطريق التي يجب على مبتدئي السالكين، واتخاذها كي يصلوا إلى المعرفة الباطنية والإشراقية، وأهمها عقلي سرخ، وأواز بر جبرائيل والغربة الغربية (وهو نفسه مكتوب بالعربية)، لغة موران، رسالة في حالة الطفولية، روزي باجماعت صوفيان، ي صوفيات، رسالة في المعراج، صفير سميرغ.
القسم الرابع:
مؤلفات تشتمل على شروح وترجمات لنصوص فلسفية قديمة ضمنها كتب في المدخل للمذاهب الباطنية، وينبغي أن نعد بينها ترجمته الفارسية لرسالة الطير لابن سينا، والشرح الفارسي لكتاب «الإشارات والتنبيهات» لنفس المؤلف، ورسالته في حقيقة العشق التي تعتمد على رسالة أخرى لابن سينا بعنوان «رسالة العشق»، وشرحه لبعض آيات القرآن ولمجموعة من الأحاديث.
القسم الخامس:
مؤلفات تشتمل على صلوات وأدعية وأوراد وأذكار يسميها السهروردي الواردات والتقديسات.
ولا يشير الدكتور سيد حسين نصر إلى تصنيف تاريخي لكتب السهروردي؛ فهو، على غرار الأستاذ «هنري كوربان»، يقيم علاقة معنوية بين كتب السهروردي، ويصنفها بحسب تقارب المضمون.
أما الدكتور محمد علي أبو ريان، فيرى - هو أيضا - أن كل محاولة تاريخية لتصنيف كتب السهروردي تعد بعيدة كل البعد عن الروح العلمية؛ لأن التداخل بين أفكار هذه الكتب وظروف تأليفها يحول دون التصنيف المنهجي السليم.
52
ويذهب إلى أن مؤلفات الشيخ يجب أن تصنف تصنيفا تعليميا.
53
ثم ينصح القارئ أن يبدأ بقراءة «التلويحات» ثم «المقاومات» ثم «المطارحات»، وذلك قبل الشروع بقراءة «حكمة الإشراق»، وهو يرى أن تكون قراءة هذا الأخير تحت إشراف موجه مرشد هو «القائم بالكتاب»، حتى يقف المريد على بعض مبادئ «الإشراق».
والجدير بالذكر أن السهروردي ينصح باتباع هذا الترتيب في قراءة بعض كتبه، وخاصة المطارحات؛ فهو يقول: «وهذا الكتاب، أي المطارحات ، ينبغي أن يقرأ قبل حكمة الإشراق، وبعد التحقيق المختصر الموسوم بالتلويحات، فإذا استحكم الباحث هذا النمط، فليشرع في الرياضات المبرقة بحكم القيم على الإشراق، حتى يعاين بعض مبادئ الإشراق، ثم يتم له مباني الأمور ... وأول الشروع في الحكمة هو الانسلاخ عن الدنيا، وأوسطه مشاهدة الأنوار الإلهية، وآخره لا نهاية له.»
54
ومن هذا النص نجد أن الدكتور محمد علي أبو ريان أراد أن يكمل افتراض ما أوصى به السهروردي، وهو لذلك يستحسن أن يقرأ المريد الرسائل أثناء قراءته من حكمة الإشراق؛ لأنها تساعده على مشاهدة الأنوار القاهرة. ويفطن الباحث أخيرا إلى أن السهروردي لم يجعل ل «هياكل النور» مكانا خاصا في ترتيب قراءة الكتاب، فيعود إلى الأخذ بطريقة الأستاذ «هنري كوربان» في اختيار مكان له «بحسب محتوياته». ولما كان محتوى هذا الكتاب وثيق الصلة بما ورد في «حكمة الإشراق»؛ فقد وجد الدكتور محمد علي أبو ريان أنه من المستحسن قراءته قبلها مباشرة.
55
وهكذا بدأ الدكتور محمد علي أبو ريان تصنيفه معتمدا على نصح السهروردي في قراءة بعض كتبه، ثم انتهى إلى طريقة الأستاذ «هنري كوربان» في البحث عن محتويات للكتب الموضوعية التي تؤلف بينها، ثم تحديد مكانها من «حكمة الإشراق».
56
من كل ما سبق يتبين لنا أن كل المحاولات التي بذلت لتصنيف كتابات السهروردي، حسب تسلسلها التاريخي، قد وجدت صعوبات كثيرة، وأهم هذه الصعوبات أن السهروردي قليلا ما يذكر سنة تأليفه كتبه، إضافة إلى أنه لم يكن ل «السهروردي» منحى واضح في سيره الفكري، كما هو الحال عند الغزالي، لذلك كانت محاولة تصنيف كتبه حسب التسلسل التاريخي في غاية الصعوبة. وقد عرض الدكتور «إميل المعلوف»، في مقدمته لكتاب اللمحات، إلى المحاولات التي تمت لتصنيف كتبه حسب تسلسلها التاريخي، أو حسب تطوره الفكري، أو اعتمادا على الوحدة الجوهرية للمؤلفات، لينتهي من مناقشة هذه التصنيفات المختلفة إلى أن «كتب السهروردي جميعا تشير إلى ثنائية في التفكير عرفها الرجل في شبابه، وهي عبارة عن ثقافة صوفية فلسفية، توضحت معالمها في كتابه «حكمة الإشراق»؛ ف «السهروردي» لم يبدأ مشائيا ثم انتهى إشراقيا، أو العكس بالعكس، بل إنه سار في الاتجاهين معا منذ ريعان الصبا، ثم راح أحد الاتجاهين يغلب على الآخر في سياق التأليف، وهو دون الثلاثين، فبرز الاتجاه الإشراقي في الرسائل على حساب الاتجاه المشائي، بخلاف ما حصل في الكتب الأرسطوطاليسية، حتى توحد الاتجاهان في حكمة الإشراق الذي لا يخلو من منهجية الفلاسفة وطرقهم في معالجة أبواب المنطق وما بعد الطبيعة، على كون الشيخ لا يباحث فيه إلا أصحابه الإشراقيين».
57
ولا شك في أن كل المحاولات التي بذلت من قبل الباحثين لتصنيف كتب السهروردي، برغم الصعوبات التي واجهتها، تنطوي على دقة وإبداع. ومن ثم يمكن حصر مؤلفات السهروردي في مجال المنطق الإشراقي على النحو التالي: (1)
التلويحات اللوحية والعرشية. (2)
المقاومات. (3)
المشارع والمطارحات. (4)
اللمحات في الحقائق. (5)
هياكل النور. (6)
حكمة الإشراق، وهذا الكتاب يمثل خلاصة فكر السهروردي، وهو الأساس الذي نعتمد عليه في عرض آراء السهروردي في المنطق الإشراقي، إلا أنه بحسب تلميذه الشهرزوري: «كنز مخفي وسر مطوي، وله طرق مخصوصة تصل إليه منها، وقل من يسلكها ويعرفها، ولم يتيسر لأكثر من جاء بعده من الأفاضل أن يصل إليه أو يحل رموزه؛ لاشتغالهم بأمور الدنيا، ولإلفهم وعاداتهم بكلمات المشائين.»
58
الفصل الثاني
المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي
تمهيد
ذهبت الصوفية إلى أن مصدر المعرفة أمر آخر غير الحس والعقل. قد يكون الحدس، وقد يكون الذوق، وقد يكون البصيرة، وقد يكون الإلهام؛ ذلك أن الصوفية لم يهتدوا بعد إلى معرفة كنه هذه الحاسة الغريبة، ولا إلى موضعها من الحياة الروحية، وإن وصفها الجميع، أو بالأحرى وصفوا مظاهرها ووظائفها، بصفات متقاربة؛ فهي نوع ما من التعقل تدرك وتعرف، ومع ذلك ليست هي العقل الذي نعرفه وهي تنزع نحو موضوعها وتتعشقه إلى درجة الفناء فيه؛ أي إن فيها عنصري الإرادة والوجدان، ولكنها مع ذلك ليست الإرادة التي نعرفها، ولا هي واحدة من العواطف التي لنا عهد بها؛ فهي حاسة عاملة مريدة وجدانية مختلفة تمام الاختلاف عن الحواس والقوى العقلية الأخرى التي تدرك عملها في حياتنا الشاغرة.
وقد أطلق الصوفية على هذه الحاسة المتعالية اسم القلب والسر وعين البصيرة، وما إلى ذلك من الأسماء التي تعدو أن تكون رموزا لحقيقة واحدة تفترض وجودها ولا ندرى من كنهها شيئا.
1
المهم أن الصوفية لا يعترفون بالحس والعقل مصدرا للمعرفة البشرية الحقة؛ لأنهم يميزون بين ظاهر الشيء وحقيقته، وبين الشكل والمضمون، وهم في تميزهم هذا قد ذهبوا إلى أن المعرفة خاصة بالمحسوسات، وأن العقلية خاصة بالمعقولات الحاصلة عن المحسوسات. ولكن ثمة معقولات أخرى ليس مصدرها الحس أو العقل، وهذه المعقولات الموجودة والموجودات المعقولة لا يمكن إدراكها أو بلوغها لا بالحس ولا بالعقل الذي يعتمد أساسا على الحس، وهذه المعقولات تدرك بالحس الصوفي.
2
وهذا يعني أن المعرفة الصوفية وجدانية، أداتها القلب الذي ينشد الصفاء؛ لأن القلب الطاهر هو ينبوع المعرفة الحقة التي يبحث عنها الصوفية ولسان حالهم يقول: «راقب قلبك لأن ملكوت السماء موجود في نفسك.» ويستشهدون بالحديث القائل: «من عرف نفسه فقد عرف ربه.»
3
ويعتقد الصوفي أن قلب الإنسان مرآة يجب أن تتجلى فيها الصفات الإلهية كلها، وإذا انعدم ذلك فمرجعه وجود الصدأ في هذه المرآة، وواجبنا هو الجد والاجتهاد في سبيل إزالة الصدأ والغبار عنها. ونقاء مرآة القلب هو في عرف الصوفية منوط بمجاهدة الفرد أولا، ثم بالفضل الإلهي خاصة؛ أي نتيجة للفيض الرباني الذي يسمى في اصطلاحهم بالتوفيق. ولكن على الإنسان أن يبذل الجهد حتى يجعل نفسه مستعدة وقابلة للفيض، ويصبح مصداقا للآية الكريمة:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين .
4
وقد كتب سعد الدين الحموي في رسالة «علوم الحقائق وحكم الدقائق» فصلا خاصا بعنوان «فصل في المعرفة»، أكد فيه أن المعرفة نوعان؛ أحدهما معرفة بالعقل؛ أي بالاستدلال العقلي، والآخر معرفة الحق بالحق؛ أي لا يمكن تحقيقها إلا بشهود محض وتجل خالص. الأولى كسبية تعليمية، والمشتغل بها عادل عاقل مستدل، والثانية بديهية، وهي من شأن العارف الكامل؛ أي هي المعرفة الصوفية القائمة على خصوصيات محددة، مثل كونها ذوقية تتم عن طريق الكشف والإشراق؛ ذلك أن الصوفي لا يعد طريقة الحكماء الإلهيين والمتكلمين والفلاسفة أيضا كافية للكمال الإنساني ولإيصال الفرد إلى معرفة ربه التي هي هدف كل صوفي. وخلاصة أقوال الصوفية أنه بالإضافة إلى أن التسلح بسلاح العلم والحكمة والمنطق ليس مما يقدر عليه كل إنسان، ولا هو في متناول كل فرد، فإنه أيضا لا يؤدي لنتيجة إيجابية في هذا الاتجاه. وعلاوة على ذلك فالإنسانية تأخذ عن بعضها هذه العلوم وتتوارثها جيلا عن جيل كما قال بها الأسبقون، وفي ذلك تقيد بما قال به القدماء وما رسموه من مقدمات تؤخذ بصفة مسلمة، وهو ما عابه عنهم أبو اليزيد البسطامي في قوله: «أخذ الناس العلم من الأموات ونحن أخذنا العلم من حي لا يموت أبدا. كلهم يقولون بالحق، وإني أقول عن الحق، فلا جرم أن ليس هناك شيء أصعب من متابعة العلم، أي علم تعليم الظاهر.»
5
ومن هذا المنطلق فإننا نناقش في هذا الفصل المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة عند السهروردي؛ وذلك على النحو التالي:
أولا: مفهوم المنطق عند السهروردي
ذهب السهروردي في كثير من كتاباته إلى نوع من العلم لا يأتي عن طريق التجريد الذهني، أو تمثل صورة الموضوع في الذهن، كما هو عليه الفلسفة الأرسطية، بل إنه يرى أن هذا علم لا يزيد شيئا على الذات العارفة؛ بل العلم عند السهروردي تكشف يتحد فيه الموضوع بالعارف؛ لأن الذات العارفة نفسها من نوع الموضوع، فهي نور وشعور بهذا النور، ثم إن موضوع المعرفة هو الأنوار العقلية.
فالمعرفة عند السهروردي لا تقوم على تجريد الصور كما يقرر المشاءون، بل تقوم على الحدس الذي يربط الذات العارفة بالجواهر النورانية ... فعندما يكون الموضوع معروضا للنظر، وترفع الحجب، يحصل للنفس إشراق حضوري على المبصر؛ فتراه النفس بحضوره عندها، وليس عن طريق صورة صادرة عن الموضوع، ومرتسمة في النفس؛ فالنفس عندما تضاء جوانبها بالإشراق تدرك الموضوع الحاضر، وهذه القدرة للنفس على استحضار الموضوع تختص بالنفس وحدها في حالة مفارقتها للبدن وتجردها عن علائقه ... ويتدرج هذا الإدراك حسب درجة النفس في التسلط على قوى الجسد، أو تسلط الجسد على قوى النفس؛ فمن أنوار مشرقة إلى ظلمات غاسقة، وليست هناك شروط خاصة للمعرفة المباشرة عند السهروردي إلا في خلاص النفس من البدن.
6
وبناء على هذه النظرية في المعرفة، وبناء على أن العالم الحسي وهم، والوجود الحقيقي هو وجود النفس والروح؛ ومن ثم يرى السهروردي أن الإدراك الحسي أقرب إلى إدراك المعقول منه إلى المحسوس؛ إذ إن موضوعاته ليست المحسوسات فحسب، بل أيضا الإشراقات، وهو أبسط وأول مراحل اتصال النفس بالعالم الخارجي.
7
أما الإدراك العقلي؛ فقد قبل السهروردي آراء المشائية فيما يختص بمشكلة العقل التي تقسم العقل إلى عقل هيولاني، وعقل ممكن، وعقل بالملكة، وعقل مستفاد، والروح القدس، إلا أن السهروردي يزيد على هذا الموقف اتجاهه الإشراقي؛ فموضوعات المعرفة ليست المحسوس الذي يجرد العقل منه الصورة المعقولة، بل الموضوع يستثير الذهن العارف فيحل للذهن إشراق حضوري هو فعل المعرفة، وعملية الإشراق تربط بين المحسوس ومثاله حسب نظرية المثل.
8
إذن السهروردي يرى، شأنه شأن كثير من المتصوفة، أن وراء طور الحس والعقل طورا آخر ينبغي اللجوء إليه، والاعتماد عليه، وهو الكشف أو الذوق.
من هذا المنطلق قام السهروردي بمحاولة جادة وصريحة لجذب أرسطو العقلي صاحب البحث والبرهان إلى ميدان الكشف والذوق، ومحاولة استنطاق أرسطو بالمبادئ الإشراقية، ثم الوقوف ضد ابن سينا كثيرا، مستخدما كل أنواع المذهب الإشراقي، سواء عند الفرس أو الصابئة وغيرهم.
9
ومبدأ هذا المذهب وأساسه الأول أن: «الله نور الأنوار، ومصدر جميع الكائنات، فمن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالم المادي والروحي. والعقول المفارقة ليست إلا وحدات من هذه الأنوار تحرك الأفلاك، وتشرف على نظامها»؛ فالمذهب الإشراقي، على ما يذكر الدكتور إبراهيم مدكور، يعتمد إذن على نظرية العقول العشرة الفارابية مختلطة بعناصر مزدكية ومانوية.
10
وإذا كان العالم في جملته قد برز من إشراق الله وفيضه، فالنفس تصل كذلك إلى بهجتها بواسطة الفيض والإشراق. فإذا ما تجردنا عن الملذات الجسمية، تجلى علينا نور إلهي لا ينقطع مدده عنا . وهذا النور صادر عن كائن منزلته منا كمنزلة الأب والسيد الأعظم للنوع الإنساني، وهو الواهب لجميع الصور ومصدر النفوس على اختلافها، ويسمى الروح المقدسة أو بلغة الفلاسفة العقل الفعال، كما يذكر السهروردي في هياكل النور،
11
ومتى ارتبطنا به أدركنا المعلومات المختلفة، واتصلت أرواحنا بالنفوس السماوية التي تعيننا على كشف الغيب في حال اليقظة والنوم. وليس للتصوف من غاية إلا هذا الارتباط، والإشراقيون يسعون إليه ما استطاعوا، وكثيرا ما ينعمون به. أما الأنبياء فهم في اتصال دائم وسعادة مستمرة. يقول السهروردي: «إن النفوس الناطقة من جوهر الملكوت، وإنما يشغلها عن عالمها هذا القوى البدنية ومشاغلها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية، وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر، تتخلص أحيانا إلى عالم القدس، وتتصل بأبيها المقدس، وتتلقى منه المعارف، وتتصل بالنفوس الفلكية العالمة بحركاتها وبلوازم حركاتها، وتتلقى منها المغيبات في نومها ويقظتها، كمرآة تنتقش بمقابلة ذي نقش.»
12
هذا بالنسبة للفلسفة عند السهروردي، أما بالنسبة للمنطق، فقد وقف السهروردي، وما يعرضه من مذاهب المشائين في العلوم الفلسفية البحتة؛ فيقول: «ومن لم يتمهر في العلوم البحثية، فلا سبيل له إلى كتابي الموسوم ب «حكمة الإشراق»، وهذا الكتاب (يعني المشارع والمطارحات) ينبغي أن يقرأ قبله، وبعد تحقيق المختصر الموسوم بالتلويحات وأنا لا نراعي الترتيب ها هنا، ولا نلتزم في بعض المواضع بموضوع علم، بل عرضنا فيه البحث، وإن تأدى إلى قواعد من علوم متقدمة، فإذا استحكم الباحث هذا النمط فليشرع في الرياضات المبرقة بحكم القيم السهروردي أن يختصر المنطق الأرسطي اختصارا مبتكرا، ويسمي كثيرا من آرائه المبتكرة مباحث أو ضوابط إشراقية؛ بحيث يمكننا نحن أن نطلق على مجموع تلك الآراء «المنطق الإشراقي».»
13
ويرجع السهروردي مصدر هذا المنطق إلى نظريته في المعرفة القائمة على الذوق، فيصرح بأنه توصل إلى ابتكار هذا المنطق بواسطة الذوق؛ حيث يرى أنه في حكمة الإشراق يبدأ على سياق المشائين الذي يبتني على البحث الصوفي. ويصف هذا السياق الصوفي بأنه: «سياق آخر وطريق أقرب من تلك الطريقة وأنظم وأضبط وأقل إتعابا في التحصيل.»
14
وفي ذلك يقول قطب الدين الشيرازي في شرحه لحكمة الإشراق ل «السهروردي» إن المنطق المذكور في حكمة الإشراق موجز محذوف عنه الفروع الكثيرة القليلة الاستعمال بين فيه أشياء كانت في طريقهم غير محصلة ولا مهذبة، ولهذا قال: «وأنظم وأضبط وأقل إتعابا في التحصيل لانضباط هذه الطريقة لتحديد قواعدها، وتهذيب مطالبها، وتلخيص زبدها عن زبدها.»
15
ويصف تارة أخرى: «بأنه الآلة الواقية للفكر، جعلناها مختصرة مضبوطة بضوابط قليلة العدد كثيرة الفوائد.»
16
وفي ذلك يقول قطب الدين الشيرازي: «الآلة المشهورة الواقية للفكر يعني المنطق يصون الفكر من الخطأ في انتقالاته من المعلوم إلى المجهول، جعلناها مختصرة مضبوطة بضوابط قليلة العدد لتقوي الذهن من التبديد والخاطر عن التبلد، كثيرة الفوائد لكونها لباب ما يحتاج إليه في هذا الفن، مع تصرفات لطيفة وتنفيحات شريفة منها أنه رد الأشكال (القياسية)، بل الضروب المنتجة من كل شكل، إلى ضرب واحد، والمركب من موجبتين كليتين والسالبة موجبة بالعدول، وإما أن السالبة إنما يمكن جعلها موجبة معدولة إذا كانت مركبة لا بسيطة، وجعل غير الضرورية ضرورية بجعل الجهة جزء المحمول، وهي أن هذه الضوابط يكفيها أقل إشارة، وأدنى إيماء، بخلاف البليد؛ فإنه لا يفهم القليل ولا ينفعه الكثير لطالب الإشراق كافية له أيضا؛ لأنه إذا تفطن لما هو سبيله من شروق الأنوار ولمعان البوارق، فيصير القليل لذلك أكثر المطالب ومهمات المسائل؛ لأن النور السائح هو إكسير المعرفة والحكمة، وما لم يتهيأ الجزم به لتوقفه على الفكر فيكفيه من المنطق الضوابط النورانية لاشتمالها على ما لا بد منه في هذا الفن، وإن كان على سبيل الإجمال.»
17
ويرجع السهروردي مصدر المنطق إلى طريق آخر غير العقل فيقول: «ولم يحصل لي أولا بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر، ثم طلبت الحجة عليه مثلا ما كان يشككني فيه مشكك.»
18
ويعلق قطب الدين الشيرازي على هذا النص، فيقول: «ولم يحصل بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر؛ أي بالذوق والكشف لما ارتكبته من الرياضات والمجاهدات، ثم أي بعد حصوله لي بالذوق والكشف، ثم طلبت الحجة عليه، أي البرهان بالفكر حتى لو قطعت النظر عن الحجة مثلا ما كان يشككني فيه مشكك؛ لأن حصوله اليقين كان بالعيان لا بالبرهان ليمكن أن يشكك فيه بما يورده الخصم.»
19
وما يؤيد ذلك أن السهروردي في مبحث المعارف والتعاريف يغير بعض أسماء الألفاظ المنطقية المعروفة في المنطق الأرسطي، ويضع مكانها أسماء أخرى تحمل بعدا إشراقيا، فيسمي مثلا دلالة اللفظ على المعنى: التطابق والتضمن والالتزام - يسميها القصد والحيطة والتطفل.
20
ويسمي اللفظ الخاص اللفظ الشاخص والمعنى الخاص المعنى الشاخص أو المنحط.
21
كما انتقد السهروردي التعريف الأرسطي، وبين استحالة حصول العلم عن طريقه، فقد رأى أن المشائين يأخذون الذاتي العام؛ أي الجنس، والذاتي الخاص؛ أي الفصل، في تعريف الشيء. ولما كان الذاتي الخاص هذا غير معلوم عند من يجهله، فإقحامه في التعريف يناقض القاعدة المشائية بأن المجهول لا يتوصل إليه إلا بالمعلوم، ثم لو افترضنا أنه اتفق الإلمام بهذا الذاتي أو الخاص أو الفصل فكيف يأمن ألا يكون قد غفل عن ذاتي آخر لا يعرف الشيء إلا به، فتكون المعرفة بالشيء آنذاك ممتنعة، وكذلك تعريف الشيء.
22
وهذا النقد للتعريف الأرسطي حاول السهروردي توضيحه؛ وذلك بمحاولة إيجاد طريقين للتعريف:
23
أولا:
طريق الإحساس؛ فالأمور المحسوسة تدرك تمام الإدراك.
ثانيا:
طريق الكشف والعيان، وهو أدق الطرق وأوثقها.
ومن هذين الطريقين يضع السهروردي التعريف الكامل لديه، ويسميه بالمفهوم والعناية، ويحدده: «بأنه التعريف بأمور لا تختص آحادها الشيء ولا بعضها، بل تخصه للاجتماع.»
24
وهذا التعريف عند السهروردي، وإن أخذ صورة الرسم الناقص، إلا أنه يحمل بعدا إشراقيا، وهذا يدل على إيمان السهروردي بحقيقة الجمع بين الحكمة البحثية والحكمة الذوقية.
أما في مبحث القضايا والقياس؛ فنجد السهروردي يختصر كثيرا من أشكال القضايا والقياس؛ لأنها متشعبة يستغنى عنها بأقل منها، ويستبدل بها ضوابط للفكر قليلة العدد، مختصرة كثيرة الفوائد تكفي للذكي، وهو ما قاله ابن تيمية بعد ذلك من أن «المنطق الأرسطي لا يفيد الذكي ولا ينتفع به البليد.»
25
وهذا يعني أن السهروردي يرفض كل ما هو زائد عليه أو متشعب منه لا دلالة له؛ فمبادئ العقل هي المبادئ الكافية، وقد يكون هذا التشعب والتفريع أحد معاني الصورية؛ أي الصورية الفارعة.
ففي القضايا، يقسم القضايا من حيث الكم إلى كلية وجزئية، ثم يحذف القضايا الشخصية؛ لأن الشواخص لا يطلب حالها في العلوم، وحتى تكون أحكام القضايا أضبط وأسهل، ثم يرد القضايا الجزئية كلها إلى قضايا كلية؛ فالكل هو الأصل، والجزء فرع عليه، والمعرفة الإشراقية كلية لا جزئية، وفي العلوم لا تطلب البرهنة على القضايا الجزئية، بل على الكلية، والجزئية لا تكون شرطا في التناقض؛ وبالتالي فهي لا تدخل في أصول القضايا، والكلية لا بد أن تكون محيطة أو حاصرة.
26
ثم يقسم القضايا من حيث الكيف إلى موجبة وسالبة، ثم يرد القضايا كلها إلى قضايا موجبة، وهذا يعني رد الفرع إلى الأصل؛ فالسلب فرع والإيجاب أصل، والسهروردي يبحث عن الأصول لا عن الفروع، والمعرفة الإشراقية أصل المعرفة الإنسانية.
وإذا كان السلب جزءا للموضوع أو للمحمول لم يكن قاطعا للنسبة؛ فالإيجاب قطع والسلب ظن، والإيجاب ثابت عيني. أما السلب في الذهن فقط وليس في الخارج. يقول السهروردي: «والحكم الموجب الذهني لا يثبت إلا على ثابت ذهني، والموجب على أنه في العين لا يكون إلا ثابت عيني.»
27
فالمعرفة الإشراقية إذن لا سلب فيها، بل كلها إيجاب، وهي لا تسلب صفة عن الوجود، بل تعطيه صفات الإشراق إيجابا لا سلبا. ثم يقسم السهروردي القضايا من حيث الجهة إلى ضرورية وممتنعة وممكنة، ثم يحذف المجهولة وكمية الموضوع؛ لأن المجهول لا يفيد العلم، ولأن الكيف هو الذي يميز شيئا عن آخر.
28
ثم يرد السهروردي القضايا الممكنة كلها إلى قضايا ضرورية أو بتاتة؛ وذلك لأن الممكن سلب للضروري، والمعرفة الإشراقية معرفة ضرورية وليست ممكنة. ويجعل السهروردي الإمكان والاقتناع جزءا من المحمول، ولم يجعله شرطا للتناقض. والقضية البتاتة هي الوحيدة التي تستخدم في العلوم. أما الممكنة أو الممتنعة فلا تستخدم على الإطلاق. ثم يرد السهروردي كل أشكال القضايا إلى القضية الكلية الموجبة الضرورية، وهي القضية البتاتة كما يسميها.
29
ولم يعرف بفائدة ما للقضية الجزئية إلا في بعض نواحي العكس المستوي والتناقض وبعض ضروب الأقيسة.
30
هذا بالإضافة إلى أنه خرج بآراء مبتكرة أيضا؛ ففي التناقض يحذف السهروردي عديدا من الأبحاث؛ لأنه لا يحتاج إليها في نقد المناطقة المشائين وتفريعاتهم.
31
وفيما يتعلق بالقياس الاستثنائي والاقتراني، يقول عن السلبي: «إنه لا يحتاج إلى تطويل، والضابط الإشراقي فيه مقنع، ومنه كثير من المختلطات.»
32
ويقول عن الشكل الثاني «إنه ترك التطويل على أصحابه في الضروب والبيان والخلط.»
33
ويقول عن الشكل الثالث: «إنه قد حذف عنه التطويلات»،
34
أما الشكل الرابع «فإنه يسقطه من حسابه؛ لأنه شكل تابع للأشكال الثلاثة الأولى الأصلية.»
35
فالسهروردي يستبدل بهذه التعريفات القريحة أو الفطرة أو الضابط الإشراقي، وفي هذا يقول: «ومن كان له قريحة لا يصعب عليه مثل هذه التركيبات بعد معرفة القانون.»
36
ويقول أيضا: «إن كفته سلامة القريحة في معرفة حجة قياسية فليقنع بذلك في جميع المطالب العلمية، فلا يحتاج إلى تطويل في قياس الخلف. ولكن عن التطويل في مثل هذه الأشياء استغناء.»
37
تلك هي الإضافات التي أضافها السهروردي للمنطق الأرسطي، وهي تعتبر من أعمق المحاولات في تاريخ المنطق العربي، والتي بدأت تنضج ثمارها اليانعة لدى «عبد الحق بن سبعين»؛
38 ⋆
حيث حاول وضع منطق إشراقي، شأنه شأن السهروردي. هذا المنطق يحل محل المنطق الأرسطي الذي يقوم على تصور الكثرة، كما أن هذا المنطق، على حد تعبير أستاذنا الدكتور «أبو الوفا التفتازاني» رحمه الله، يمكن أن يسمى بمنطق المحقق عند «ابن سبعين»، وهو منطق ليس من جنس ما يكتب بالنظر العقلي، وإنما من قبيل النفحات الإلهية التي يبصر بها الإنسان ما لم يبصر، ويعلم ما لم يعلم، فهو إذن منطق ذوقي أو إشراقي لا يقوم على التجربة والاستقراء، وإنما يقوم على أساس الفطرة والمشاهدة.
39
ويخصص «ابن سبعين» لهذا الغرض قسما طويلا من كتابه «بد العارف» على نحو ما صنع السهروردي في «حكمة الإشراق»، وأغلب الظن أنه متأثر به في هذا الصدد. ومباحث هذا المنطق الجديد على حد قول ابن سبعين: «لا يمكن تصورها إلا بالمرشد، ولا تنالها النفوس بالجهد ولا بالتجلد، بل بالنفحات الإلهية، حتى يبصر (الإنسان) ما لم يبصر، ويعلم ما لم يعلم، وتظهر أشياء لا من جنس ما يكتسب.»
40
وهذا يذكرنا بما قاله السهروردي: بأنه «لم يحصل لي أولا بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر، ثم طلبت الحجة عليه حتى لو قطعت النظر عن الحجة ما كان يشككني فيه مشكك.»
41
تلك أوجه الشبه البارزة التي نجدها بين «منطق ابن سبعين»، و«منطق السهروردي». وعلى الرغم من اعتداد «ابن سبعين» الشديد بنفسه، وعدم اعترافه لأحد من السابقين عليه من الفلاسفة والصوفية بأي فضل، إلا أنه فيما يبدو لبعض الباحثين المحدثين، إذا صرفنا النظر عن الاختلافات بينه وبين السهروردي في تفاصيل مذهبيهما، نجد أنه متأثر بهذا الأخير؛ وذلك على الأقل في محاولته التحرر من المنطق الأرسطي، ووضع منطق جديد يبنى على الذوق والمشاهدة، وتوجد مباحثه في الخلد (يعني العقل) قبل التصور والتصديق لا بعدهما، ومطالبه الأصلية خارجة عما يذكره الحكماء المشاءون؛ إذ لا نعلم أحدا قبل السهروردي حاول التحرر من سيطرة منطق أرسطو ووضع منطقا جديدا على أساس علمي منظم.
42
وأهم النتائج التي توصل إليها «ابن سبعين» في منطقه، أن حقائق المنطق فطرية في النفس الإنسانية، وأن الألفاظ المنطقية الستة، وهي الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض، والجوهر، والشخص، ونشعر بالكثرة الوجودية، فهي محض وهم، والمقولات العشر كذلك، وإن اختلفت وتباينت، فإنما تشير إلى الوجود المطلق؛ فهو إذن يحمل المقولات على الوجود المطلق، وبذلك يجعل المقولات جنسا واحدا أو تحت جنس واحد.
43
وهكذا يطبق «ابن سبعين مذهبه في الوحدة في مجال المنطق الأرسطي ليثبت دائما أن كل مباحث هذا المنطق التي تشعر بالكثرة في الوجود وهم على التحقيق أو يتبادل بعض هذه المباحث لتبدو متمشية مع مذهبه العام.»
44
ثانيا: خصائص المنطق الإشراقي عند السهروردي
إذا كان السهروردي قد أرجع مصدر منطقه إلى الذوق، فهو بهذا يدعو إلى ضرورة توافق الذوق مع العقل أو المنطق؛ فالعقل الذي يرى ويفكر وحده دون أن يكون له مؤيد له من الذوق، ليس من الثقة فيه والاطمئنان إليه؛ بحيث ينتفي كل شك فيه، وتزول كل شبهة، ولا بد من ازدواجية أداة المعرفة التي تعتمد على الحكمة البحثية المعتمدة على التحليل والتركيب والاستدلال البرهاني، وهي حكمة الفلاسفة المشائية، والحكمة الذوقية التي هي ثمرة مذاق روحي، وهي حكمة يحياها الإنسان، ولا يستطيع التعبير عنها، وهي حكمة الفلاسفة الإشراقيين، وليس ثمة تعارض حقيقي بين الحكمتين، وإنما هو تعارض ظاهري؛ لأن الفيلسوف الإشراقي الحقيقي هو الذي يتقن الحكمة البحثية، وينفذ في نفس الوقت إلى أسرار الحكمة الذوقية.
45
ويعطينا الشهرزوري، تلميذ السهروردي، صورة واضحة لهاتين الحكمتين، فيقول: «جمع السهروردي بين الحكمتين، أعني الذوقية والبحثية. أما الذوقية فشهد له بالتبريز فيها كل من سلك سبيل الله عز وجل، وراض نفسه بالأذكار المتوالية، والمجاهدات المتتالية، رافضا عن نفسه التشاغل بالعالم. بالعالم الظلماني، طالبا بهمته العالمية مشاهدة العالم الروحاني. فإذا استقر قراره وتهتك بالسير الحثيث إلى معاينة المجردات أستاره، حتى ظفر بمعرفة ونظر بعقله إلى ربه، ثم وقف بعد هذا على كلامه؛ فلنعلم حينئذ أنه كان في المكاشفات الربانية آية، والمشاهدات الروحانية نهاية، لا يعرف غوره إلا الأقلون، ولا ينال شأوه إلا الراسخون. وأما الحكمة البحثية فإنه أحكم شأنها وشيد أركانها، وعبر عن المعاني الصحيحة اللطيفة بالعبارات الرشيقة الوجيزة، وأتقنها إتقانا لا غاية وراءه، لا سيما في كتابه المعروف ب «المشارع والمطارحات» فإنه استوفى فيه بحوث المتقدمين والمتأخرين، ونقض فيه أصول مذاهب المشائين، وشيد فيه معتقد الحكماء الأقدمين، وأكثر تلك البحوث والمتناقضات، وذلك على قوته في الفن البحثي والعلم الرسمي.»
46
ويستطرد الشهرزوري فيقول: «واعلم أنه لم يتيسر لأحد من الحكماء والعلماء والأولياء ما تيسر لهذا الشيخ من إتقان الحكمتين المذكورتين، بل بعضهم يسر له الكشف، ولم ينظر في البحث كأبي يزيد البسطامي و «الحلاج» ونظرائهما، وأما إتقان البحث الصحيح بحيث يكون مطابقا للوجود من غير سلوك وذوق فلا يمكن، وجميع الحكماء المقتصرين على مجرد البحث الصرف مخطئون في عقائدهم. فإن أردت حقيقة الحكمة وكنت مستعدا لها، فأخلص لله تعالى وانسلخ عن الدنيا انسلاخ الحية من جلدها عساك تظفر بها.»
47
وذلك لأن الحكمة الإشراقية، كما يرى السهروردي، لا يمكن تعلمها لا بفكر ولا بنظم دليل قياسي أو نصب تعريف حدي أو رسمي؛ بل بأنوار إشراقية متناوبة، وتشاهدها فوقها على العناية الإلهية، وهذه الحكمة الذوقية قل من يصل إليها من الحكماء ولا يحصل إلا للأفراد أو الحكماء المتألهين كأنباذوقليس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وغيرهم من الأفاضل الأقدمين الذين شهدت الأمم المختلفة بفضلهم وتقدمهم.
48
وإذا كان السهروردي قد جمع بين الحكمتين الذوقية والبحثية؛ فيمكن تلمس هاتين الحكمتين عند الفيلسوف الإنجليزي «برتراند راسل»
Bertrand Russell ؛ حيث كتب رسالة في غاية الروعة عن العلاقة بين المنطق والتصوف؛ حيث عقد فصلا هو من أجود ما كتب في حياته الفلسفية، أراد أن يميز بين قطبي الرحى في حياة الإنسان الثقافية اللذين هما بصورة مجملة التصوف في ناحية، ومنطق العقل في ناحية أخرى؛ ففي الحالة الأولى يكون الإدراك مباشرا وبغير مقومات، وفي الحالة الثانية على «التحليل»، بينما يرفض أصحاب الحالة الأولى كل ضروب «التحليل»، وأطلق «راسل» على بحثه ذاك عنوان «المنطق والتصوف»
Mysticism and Logic ، ثم جعل العنوان نفسه عنوانا لكتاب يضم ذلك الفصل من فصول أخرى، وإنه مما يفيدنا في هذا الموضوع أن نوجز ما قاله «راسل» في العلاقة بين المنطق والتصوف؛ يقول «راسل»: «لقد سار الإنسان في محاولته أن يتصور العالم من حيث هو كل واحد مدفوعا بدافعين مختلفين كل الاختلاف، وقد يتلاقى هذان الدافعان معا في إنسان واحد، وقد لا يتلاقيان؛ فأولهما هو الذي يحفز الإنسان إلى النظر إلى الوجود نظرة المتصوف، وأما الثاني فيحفزه إلى النظر بوسيلة العقل نظرة العلماء، ولقد استطاع أعظم الرجال أن يبلغوا قمة العبقرية بالدافع الأول وحده، كما استطاع أيضا أعظم الرجال أن يبلغوا قمة العبقرية بالدافع الثاني وحده . ولكن أعظمهم جميعا هم أولئك الذين اجتمعت لهم عناصر المعرفة العقلية وعناصر الإدراك الصوفي في آن معا.»
49
ويوضح برتراند راسل ذلك قائلا: «تطورت الميتافيزيقيا، أو محاولة إدراك العالم ككل بوسائل الفكر، منذ البدء عبر وحدة وتصارع دافعين إنسانيين؛ أولهما يحث الناس على التصوف، فيما يحثهم الثاني على العلم. لقد حقق بعض الأفراد ما هو عظيم ضمن الدافع الأول وحده، فيما حققه البعض الآخر عبر الدافع الثاني وحسب. فإذا أخذنا «ديفيد هيوم» مثلا، كان الدافع العلمي عنده هو الغالب دون منازع، فيما نجد عند «بليك» العداء حيال العلم يتعايش مع رؤية صوفية عميقة. لكن الأفراد الأكثر عظمة، والذين هم الفلاسفة، كانوا يشعرون بحاجة لكل من العلم والتصوف؛ فمحاولة خلق تناغم ما بين الاثنين - التي وسمت حياتهم، والتي يجب أن تكون دائما كذلك، بما فيها من توقد غير مستقر - هي التي جعلت الفلسفة تبدو، بالنسبة لبعض العقول شيئا يفوق بعظمته العلم والتصوف.»
50
ثم يعطينا برتراند راسل أمثلة للخصائص التي تميز دافعي العلم والتصوف مأخوذة من حياة فيلسوفين عظيمين امتزجت حياة كل منهما بقوة بما أنجزه. هذان الفيلسوفان هما هيرقليطس وأفلاطون؛ حيث يقول: «قد كان هيرقليطس، كما يعرف الجميع، يؤمن بمقولة التدفق الشامل: الزمن يبني جميع الأشياء ويحطمها. ومع أنه ليس من السهل معرفة كيف توصل إلى آرائه؛ إذ لم يبق لدينا منه سوى شذرات، يمكننا القول إن بعض ما قاله يوحي بأن المراقبة العلمية كانت ينبوع آرائه.» يقول: «الأشياء التي يمكن أن ترى، أو أن تسمع، أو يتم تعلمها، هي التي أثمنها أكثر.» إن لغة كهذه هي لغة أمبيريقية، تشكل فيها المراقبة الضمان الوحيد للحقيقة. وكذلك قوله إن «الشمس جديدة في كل يوم»، واحدة من تلك الشذرات؛ تكشف بوضوح، رغم طابعها المتناقض، أنها كانت تستلهم التفكير العلمي؛ فمما لا شك فيه أن هيرقليطس، عبر ذلك الحكم، كان يحاول تحاشي صعوبة فهم كيف أن الشمس بمقدورها التحرك من الشرق إلى الغرب. ولا بد أن تكون المراقبة العيانية أيضا هي ما أوحى له بنظريته المركزية، القائلة بأن النار هي الجوهر الوحيد الثابت، والذي تمر بفضله جميع الأشياء المرئية عبر مراحل. ففي الاحتراق نرى تحول الأشياء التام، فيما يتصاعد اللهب والحرارة في الهواء ثم يتلاشيان. يقول: «هذا العالم، والذي هو واحد بالنسبة للجميع، لم يصنعه أي من الآلهة أو من البشر، لكنه كان دائما، وهو الآن، كما سيكون دائما، من صنع النار الحية، ثمة مكيال يضيء، فيما يخمد مكيال آخر. تحولات النار هي، قبل أي شيء آخر، بحر؛ ونصف البحر أرض، ونصفه الآخر زوبعة تبقي هذه النظرية، رغم أنها قد أصبحت مرفوضة من قبل كل العلوم، علمية في روحها. كذلك يبقى علميا حكمه الشهير الذي يستشهد به أفلاطون: «لا يمكننا النزول مرتين في النهر الواحد؛ لأننا ننزل دائما في مياه جديدة.» غير أننا نعثر أيضا على حكم آخر ضمن تلك الشذرات «نحن نهبط في النهر الواحد ولا نهبط؛ لأننا موجودون وغير موجودين».»
51
ويرى راسل أن مقارنة هذه العبارة الصوفية، بتلك التي يذكرها أفلاطون، العلمية، تظهر إلى أي حد يتزاوج الدافع الصوفي بالدافع العلمي في نظام هيرقليطس؛ فالتصوف، في جوهره، شيء أكثر من محض توتر أوسع وأعمق في الإحساس حيال الطريقة التي يجري بها فهم الكون؛ وهذا الإحساس قد أدى بهيرقليطس، على أسس علمه، إلى ذلك النوع من الأقوال الغريبة والمؤثرة عن الحياة والعالم؛ كقوله: الزمن طفل يلعب بالنرد، القوة الملكية هي قوة الطفل؛ فالمخيلة الشعرية، لا العلمية، هي من يقدم الزمن باعتباره سيدا طاغيا يتحكم في العالم، بكل ما ينطوي عليه الطفل من طيش ولا مسئولية. والتصوف أيضا هو ما جعل هيرقليطس يؤكد على وحدة المتناقضات: «واحد هما الخير والشر»، كما يقول: كل الأشياء عند الرب لطيفة وخيرة وعادلة، لكن البشر يحسب البعض منها خاطئا والبعض الآخر صحيحا. ترتكز أخلاقية «بليك وهيرقليطس» على الكثير من التصوف. صحيح أن التحديد العلمي هو الذي ألهم حكمه التالي: طبع الإنسان هو مصيره؛ بيد أن المتصوف وحده من يمكنه القول: «تساق كل بهيمة بالصفعات إلى المرعى، وكذلك: يصعب نزاع المرء مع رغبة قلبه. كل ما يرغب الحصول عليه، يتم شراؤه على حساب الروح.» وأيضا: «الحكمة واحدة. إنها معرفة الفكرة التي ترص فيها الأشياء بعضها ببعض.»
52
ويزيد راسل في مضاعفة الأمثلة، فيقول: «ثمة مقاطع عند أفلاطون - من بين تلك التي تبين الجانب العلمي من عقله - تشير إلى معرفته الواضحة بذلك الأمر. أكثر تلك المقاطع أهمية هو ذلك المقطع الذي يشرح فيه سقراط، الذي كان شابا، نظرية الأفكار لبارمنيدس. فبعدما أوضح سقراط أن هناك فكرة للخير، لكن ليس ثمة من فكرة لأشياء كالشعر أو الطين أو القذارة، ينصحه بارمنيدس بالمضي، وألا يزدري حتى بالأشياء الوضيعة. وقد كشفت تلك النصيحة عن الطبع العلمي الأصيل؛ إذ لا بد من تركيب الرؤية الصوفية للواقع السامي للخير مع هذا الطبع اللامتحيز، إذا ما كانت الفلسفة تطمح في تحقيق أعظم ممكناتها. بيد أن إخفاقها على هذا الصعيد هو ما جعل الفلسفة المثالية هزيلة، فاقدة للحياة، وبلا مادة؛ فعن طريق التزاوج مع العالم يمكن لمثلنا جلب ثمارها: لكن إذا ما انفصلت عنه، فستظل تلك المثل عارية. غير أن التزاوج مع العالم لا يعني القيام به عبر مثالية تهرب من الواقع، أو تعلن بدءا بأن على العالم التطابق مع رغباتها.»
53
ثم يدلل «راسل» على ذلك ب «بارمنيدس الإيلي» الذي يصف تصوفه بأنه تصوف منطقي ظهر عند كثير من المتصوفة الميتافيزيقيين من يوم «بارمنيدس» إلى «هيجل» وتلاميذه المحدثين، وأساسه هو أننا لا نعرف اللاوجود وما لا نعرفه ليس موجودا. يقول راسل: «كذلك فإن ل «بارمنيدس» نفسه نوعا من التصوف الخاص، المثير للاهتمام، والذي كان يستولي على فكر أفلاطون؛ أي التصوف الذي يمكننا تسميته ب «المنطق»، ما دام يتجسد عبر نظريات في المنطق. فكما هو واضح يجد هذا الشكل من التصوف، بالقدر الذي يتعلق فيه الأمر بالغرب، جذوره عند بارمنيدس، كما أنه يستحوذ على طرق تفكير المتصوفة الميتافيزيقيين الكبار منذ أيامه وحتى هيجل ومريديه المعاصرين؛ فالواقع، مثلما يقول، لم يخلق، ولا يمكن تحطيمه، ولا تغييره، أو تجزئته؛ فهو مثبت ضمن حدود سلاسل كاملة القدرة، لا بداية له ولا نهاية؛ ما دام المجيء إلى الوجود والخروج منه قد تم إبعادهما عنه، وأزالهما عنه الإيمان الحقيقي؛ فالمبدأ الجذري الذي يوجه بحثه قد عبر عنه بحكم يمكن أن يجد مكانته عند هيجل: «لا يمكنك معرفة ما هو غير قائم - أمر مستحيل - وليس بمقدورك النطق به؛ ذلك لأنه شيء واحد ذلك الذي يمكنه الوجود وما يمكن التفكير به أيضا لا بد من أن يكون ما يقال وما يفكر به موجودا، ذلك لأنه قادر على أن يكون، وليس من الممكن لما هو غير كائن أن يكون». تنتج عن هذا المبدأ استحالة التغيير؛ لأن ما جرى في الماضي يمكن قوله، وهو ما زال قائما تبعا لذات المبدأ.»
54
ويستطرد راسل قائلا: «إن أحد الجوانب الأكثر إقناعا في التجلي الصوفي هو الوحي الظاهري بوحدة جميع الأشياء، وذلك ما ولد مذهب وحدة الوجود في الدين والتوحيد في الفلسفة. ثمة منطق متقن، كان قد بدأ مع بارمنيدس وبلغ ذروته عند هيجل وأتباعه، قد تطور تدريجيا، للبرهنة على أن الكون هو كلية واحدة لا تتجزأ، وما يظهر وكأنه أجزاء له، إذا ما تم التعامل معه باعتباره جوهرا يتمتع بالوجود الذاتي، ما هو إلا وهم؛ فالإيمان بوجود واقع يختلف تماما عن عالم الظاهر، واقع واحد، لا ينقسم ولا يتغير، كان قد أدخل على الفلسفة الغربية من قبل بارمنيدس، ليس لأسباب صوفية أو دينية، على الأقل اسميا، ولكن على أسس الحجة المنطقية القائمة على استحالة اللاوجود، وبأن غالبية النظم الميتافيزيقية اللاحقة كانت حصيلة لتلك الفكرة.»
55
ثم يؤكد راسل أن: «المنطق الذي تم استخدامه للدفاع عن التصوف يظهر بأنه خطأ في المنطق، وهو معرض للنقود التقنوية، وذلك ما قمت بشرحه في مكان آخر. لن أكرر هنا تلك النقود، ما دامت طويلة ومعقدة، لكني سأحاول القيام بتحليل للحالة الذهنية التي تولد عنها ذلك المنطق الصوفي. يتولد الإيمان بواقع مختلف تماما عما يظهر للحواس بقوة لا تقاوم في بعض الأمزجة، والتي هي مصدر غالبية التصوف والميتافيزيقيات ؛ فحينما يتغلب مزاج كهذا، ينتفي الشعور بالمنطق، وبالتالي فإن أكثر المتصوفة اندفاعا لا يستخدم المنطق، بل يسعى مباشرة للكشف عن رؤيته الداخلية. غير أن التصوف المدفوع إلى هذا الحد قلما نعثر عليه في الغرب؛ فعندما تتواصل قناعة بمثل هذه القوة الانفعالية، يبحث الفرد الممارس للتفكير عن أسس منطقية لصالح الإيمان الذي يجده في نفسه. لكن عندما يكون ذلك الإيمان قائما سلفا، سيكون هذا الفرد منفتحا حيال أية أرضية توحي بنفسها.»
56
وأخيرا يرى راسل أن: «... المتناقضات المبرهن عليها بصورة واضحة ضمن منطقه هي في الحقيقة متناقضات التصوف، وتشكل الهدف الذي يعتقد بأن على منطقه بلوغه، إذا ما أراد له أن يكون منسجما مع رؤيته الداخلية. وقد كان الناتج المنطقي هذا سببا في جعل غالبية الفلاسفة عاجزين عن وضع العالم العلمي والحياة اليومية ضمن اعتباراتهم. فلو كانوا مهتمين بأخذ ذلك في نظر الاعتبار، لكان في مقدورهم، ربما الكشف عن الأخطاء التي يتضمنها منطقهم، غير أن غالبيتهم لا تعير اهتماما لفهم عالم العلم والحياة اليومية، بل تدينه باعتباره غير واقعي لصالح عالم «حقيقي» يقع فيما وراء الحواس. بمثل هذه الطريقة تمت مواصلة المنطق من قبل أولئك الفلاسفة الكبار والذين كانوا من المتصوفة. لكن ما دام التعامل مع المألوف قد أخذ كونه ضامنا لتلك الرؤية المفترضة للانفعال الصوفي، فقد جرى تقديم عقائدهم المنطقية بنوع من الجفاف، وتم احتسابها من قبل مريديهم وكأنها مستقلة عن أي تجل مفاجئ كانت قد انبثقت عنه. ورغم ذلك ظل أصلهم ملتصقا بهم وبقوا، لكي أستعير كلمة نافعة من «سانتيانا»، «خبثاء» إزاء عالم العلم والحس العام. بهذه الطريقة وحسب يمكننا التعامل مع ذلك الرضا الذي قبل بموجبه الفلاسفة تناقض عقائدهم مع جميع الحقائق العلمية العامة التي تبدو أكثر استقامة وجدارة بالإيمان. يظهر المنطق الصوفي، كما هو الأمر في الطبيعة، حالات الخلل المتأصلة في كل ما هو خبيث. إن الدافع المنطقي، الذي لا يمكن الشعور به عندما يهيمن المزاج الصوفي، يعاود التأكيد على نفسه ما إن يتلاشى ذلك المزاج، ولكن مع الرغبة في الاحتفاظ بتلك الرؤية المضمحلة، أو على الأقل البرهنة على أنها لم تكن سوى رؤية داخلية، وبأن ما يناقض ذلك الدافع ما هو إلا وهم. إن نشوء منطق كهذا لا يخلو من المصلحة، فهو يستلهم كراهية معينة حيال العالم اليومي الذي يسعى لتطبيق نفسه فيه. من الطبيعي ألا يؤدي موقف كهذا إلى الوصول لأفضل النتائج. فكل واحد يعرف أن قراءة مؤلف ما من أجل دحضه وحسب ليست بالطريقة الصحيحة لفهمه؛ كما أن قراءة كتاب الطبيعة ضمن الاعتقاد بأن كل شيء فيها وهمي هي بالدقة ما لا يوصل إلى الفهم؛ فإذا كان منطقنا يجد العالم اليومي مفهوما، لا ينبغي أن يكون عدائيا، بل يجب عليه استلهام قبول أصيل له، بطريقة لا نعثر عليها عادة عند الميتافيزيقيين.»
57
من كل ما سبق يتضح لنا أن هناك فلاسفة قد أخذوا بالمنهج العقلي الاستدلالي فحصرهم الجدل العقلي الجاف في دائرة مغلقة، ولكنهم برغم هذا وصلوا إلى قمة العبقرية، ولكن هناك فلاسفة جمعوا بين المنهجين؛ أي تجاوزوا مرحلة الفكر الاستدلالي إلى مقام الرؤية المباشرة أو الكشف. وهؤلاء أعظمهم؛ لأنهم هم الذين اجتمعت لهم عناصر المعرفة العقلية وعناصر الإدراك الصوفي في آن واحد معا كما يقول «راسل».
58
والسهروردي خير من جمع بين عناصر المعرفة العقلية وعناصر الإدراك الصوفي؛ وذلك في منطقه الإشراقي القائم على الحكمة البحثية والحكمة الذوقية، وهو بهذا يظل ثنائيا كابن سينا؛ فهو منطقي فيلسوف من ناحية، يعتمد على العقل والبرهان في نقده للمنطق الأرسطي، بصرف النظر عن دوافع هذا النقد - وهي دوافع إشراقية، ثم هو إشراقي من ناحية، يعطينا تصورا للعالم كنور ولدرجات، العالم كدرجات من النور، فهو يمثل الفيلسوف المنطقي الإشراقي؛ أي الحكيم البحاث المتأله.
59
ويعطينا السهروردي تصورا لهذا الحكيم البحاث المتأله؛ وذلك في إطار تصنيفه لدرجات الحكماء فيقول: «العالم ما خلا قط عن الحكمة وعن شخص قائم بها عنده الحجج والبينات مصداقا للآية الكريمة:
إني جاعل في الأرض خليفة .»
60
ويصنف السهروردي الحكماء إلى حكماء بحثيين وحكماء إشراقيين، ثم حكماء يجمعون بين الحكمتين البحثية والإشراقية، ويرتب الدرجات لكل طائفة، وقد جعلها على أربع درجات؛ التوغل والتوسط والضعف والعدم، ومن ثم يكون لدينا حسابيا درجات ثلاث رئيسية وأربع فرعية، والثلاث الأولى بين التوغل «التأله مثل أكثر الأنبياء» و«الأولياء»، والثلاث الأولى بين التوغل والعدم وهي: (1)
حكيم عديم البحث متوغل في التأله، مثل أكثر الأنبياء والأولياء. (2)
حكيم إلهي متوغل في البحث عديم التأله، مثل كثير من الفلاسفة. (3)
حكيم إلهي متوغل في البحث والتأله، وهذه درجة نادرة لم يبلغها إلا السهروردي كما يذكر الشارح.
61
أما الدرجات الفرعية، فهي تتفاوت بين التوغل والتوسط والضعف، وهي:
62 (أ)
حكيم إلهي متوسط في البحث متوغل في التأله. (ب)
حكيم إلهي متوسط في البحث متوغل في التأله. (ج)
حكيم إلهي متوغل في البحث متوسط في التأله. (د)
حكيم إلهي متوغل في البحث ضعيف في التأله.
كما يصنف السهروردي طلاب الحكمة على درجات متفاوتة تقابل درجات الحكماء الثلاث، وهي:
طالب البحث والتأله، وهو يطابق الحكيم الإشراقي المتوغل في البحث والتأله.
طالب التأله فحسب، وهو يطابق الصوفي عديم البحث المتوغل في التأله.
طالب البحث فحسب، وهو يطابق الفيلسوف المتوغل في البحث عديم التأله.
والأفضل عند السهروردي الحكيم البحاث المتأله، ثم الحكيم المتأله، ثم الحكيم البحاث. يقول السهروردي: «وكتابنا هذا (يعني «حكمة الإشراق») لطالبي التأله، وليس للباحث الذي لم يتأله أو لم يطلب التأله فيه نصيب.»
63
ويعلق قطب الدين الشيرازي على هذا فيقول: «بأن المتوغل في البحث والتأله له الرياسة؛ أي رياسة العالم العنصري لكماله في الحكمتين وإحرازه للشريفين وهو خليفة الله؛ لأنه أقرب الخالق منه تعالى، وإن لم يتفق؛ أي لندرته وعزته؛ فالمتوغل في التأله، المتوسط في الباحث لا يسلم من الشك بخلاف الحاصل من التأله، وإن لم يتفق؛ فالحكيم المتوغل في التأله عديم البحث، وهو خليفة الله الذي يهدي به صراطا مستقيما لا أن يقتله ضلالا مبينا فصار وروده ملكة له، بحيث تلحظ النفس متى شاءت من استبيانه ليمكن أن يبني عليه ما يحتاج إليه من الأحكام. هذه أقل الدرجات وأعظمها أن يحصل له الملكة الثانية الطامسة وهي آخر المراتب.»
64
ثالثا: تقسيم السهروردي للمنطق
إن غاية المنطق عند أرسطو هي البرهان، والبرهان نوع من القياس المجرد البسيط، والقياس البسيط مكون من عناصر، هي القضايا، والقضايا تتكون من موضوعات ومحمولات وباختصار من حدود. وعلى ذلك فإن المنطق عند أرسطو والقدماء ينقسم إلى الأقسام الثلاثة الآتية:
القسم الأول:
منطق التصورات أو نظرية التصور: ويختص بمبحث الأسماء والألفاظ المعبرة عن التصورات التي يستخلصها عقلنا من إدراك الأشياء مفردة، وبعبارة أخرى مبحث الحدود بدون اعتبار العلاقات التي قد تكون بينها، وهذا المبحث يؤدي إلى التعريف.
القسم الثاني:
منطق التصديقات أو نظرية الحكم: وهو يبحث في القضايا المعبرة عن الأحكام التي تتكون بإدراك عقلنا لعلاقات بين تصورين أو حدين، أو بعبارة أخرى يبحث في ارتباط فكرة بأخرى في صورة الحكم.
القسم الثالث:
منطق القياس أو نظرية الاستدلال: وهو يبحث في القياس وقواعده وأشكاله وضروبه التي يرد بعضها إلى بعض، أو بعبارة أخرى يبحث في عمليات التزاوج بين قضيتين، تخرج منهما بنتيجة تجمع بينهما، وهذا المبحث يؤدي بنا إلى البرهان الذي هو في نظر أرسطو قياس مقدمات صادقة ويقينية.
65
ولقد تابع ابن سينا أرسطو في تقسيمه للمنطق؛ حيث يقول: «كل معرفة وعلم فإما تصور وإما تصديق، والتصور هو العلم الأول ويكتسب بالحد وما يجري مجراه مثل تصورنا ماهية الإنسان، والتصديق إنما يكتسب بالقياس أو ما يجري مجراه مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ. فالحد والقياس آلتان بهما تكتسب المعلومات التي تكون محمولة فتصير معلومة بالرؤية، وكل واحد منهما، ومنه ما هو حقيقي، ومنه ما هو دون الحقيقي، ولكنه نافع منفعة ما بحسبه ومنه ما هو باطل مشبه بالحقيقي.»
66
وهنا يتضح أن ابن سينا قصر عمليات المنطق على الحد والقياس، ولم يذكر القضية، ليس معنى هذا أنه لم يبحث القضايا أو أهملها، بل بحثها بحثا وافيا، على أنه من المحتمل أن يكون السبب في إهماله لها في هذا التقسيم أنه يعتبرها عنصرا أساسيا في القياس من ناحية، ومن ناحية أخرى أنها هي الغاية التي يصل إليها المنطق في عملية الاستدلال؛ إذ إن المنطق يصل إلى حكمة، أي إلى قضية، أو بمعنى أدق أن الاستدلال نفسه - كما يرى بعض المناطقة - حكم مركب أو قضية مركبة، والمنطق عند أرسطو - كما قلنا - ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة، وهو مصدر فكرة ابن سينا.
67
وقد تابع السهروردي ابن سينا في تقسيمه هذا؛ حيث يقسم المنطق في «رسالة اللمحات في الحقائق» (القسم الأول) إلى تصورات وتصديقات، وذلك في عشرة موارد. وهي تنقسم على النحو التالي:
المورد الأول:
وهو في التصورات، ويحتوي على تسع لمحات، تتناول في اللمحة الأولى بيان غرض المنطق، وتكلم في الثانية عن دلالة الألفاظ، سواء بالمطابقة أو بالتضمن، كما تكلم في اللمحة الثالثة عن أنواع الألفاظ وهي المفردة المركبة، وفي اللمحة الرابعة قسم الألفاظ إلى جزئية وكلية، وعرج من ذلك إلى اللمحة الخامسة؛ حيث تناول تكثر الألفاظ واتحادها من حيث اللفظ والمعنى. أما في اللمحة السادسة فتكلم عن الموضوع والمحمول، وفي السابعة قسم المحمول ذاتيا وعرضيا وفصلها، وفي اللمحة الثامنة تناول خصائص السؤال والإجابة عنه، وينتهي من هذا المورد باللمحة التاسعة التي بين فيها السهروردي معنى الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام، وهي ما تعرف في المنطق بالكليات.
68
المورد الثاني:
وهو في الحدود، ويحتوي على ثلاث لمحات، خصص الأولى لبيان الحد التام والحد الناقص، والثانية لتعريف الرسم، وأعطى في اللمحة الثالثة أمثلة للأخطاء الناتجة عن الخلط بين الكليات الخمس.
69
المورد الثالث:
وقد أسماه «في باري أرميناس» ومعناها «في العبارة»، وهو يحتوي على خمس لمحات، بين في الأولى جواز وجود الشيء في الأعيان أو في الأذهان أو في الكتابة ومتى يتم ذلك، وفي الثانية بين أنواع المركب، وخصص الثالثة لتناول تقسيم القضية المنطقية، من حيث الموضوع، إلى قضية جزئية وأخرى كلية، وفي اللمحة الرابعة قسم القضية من حيث السلب والإيجاب. وقد جعلها السهروردي على أربعة أقسام هي الموجبة البسيطة، وهي ما ليس بها أداة سلب، وسالبة بسيطة وهي التي تظهر فيها أداة السلب كلفظ مستقل؛ أي ليس جزءا من الموضوع أو المحمول، ومعدولة موجبة وهي التي بها أداة سلب، وسالبة بسيطة وهي التي تظهر فيها أداة السلب لفظ مستقل؛ أي ليس جزءا من الموضوع أو المحمول، ومن أمثلة ذلك لفظ «لاسلكي»؛ فلفظ «لا» هنا لا يغير السلب لأنه جزء من المحمول، وسالبة معدولة، وهي القضية السابقة عندما تدخل عليها أداة سلب، أما اللمحة الخامسة فيتكلم فيها الفيلسوف عن أنواع الشرطيات.
70
المورد الرابع:
وفيه يتكلم السهروردي عن جهات القضايا، ويقصد بذلك أنواع الاستدلال المباشر، وقد قسمه أيضا إلى خمس لمحات، تناول في الأولى نسبة المحمول إلى الموضوع؛ من حيث الضرورة والإمكان والامتناع، ثم تكلم في اللمحة الثانية عن القضية الوجودية، وهي القضية التي يكون موضوعها موجودا فعلا في الطبيعة؛ أي يمكن أن يتعين، ولها حالات للسلب والإيجاب فصلها السهروردي في هذه اللمحة ليخلص منها إلى اللمحة الثالثة التي خصصها للكلام عن التناقض؛ وذلك حتى يتناول في اللمحة الرابعة حالات الاستدلال المعروفة فيما يسمى بمربع أرسطو، وهي ما نعرفه الآن بالتضاد، والتداخل، والتناقض، والدخول تحت التضاد، ولكل حالة من تلك الحالات الأربع أحكام تطلق على القضايا تبعا لموقعها منها. أما اللمحة الخامسة فقد خصصت لأنواع العكس والنقض؛ أي أحكام جعل الموضوع محمولا والعكس، ولتلك الطريقة في الاستدلال المباشر ست حالات متعددة؛ هي حالة العكس المستوي، وحالة نقض المحمول، وحالة نقض العكس المستوي، وحالة عكس النقيض المخالف، وحالة عكس النقيض الموافق، وحالة النقض التام.
71
المورد الخامس:
وهو عن تركيب وأشكال القياس، وفيه ثلاث لمحات، يتناول في الأولى طريقة القياس وضروبه المنتجة، وفي الثانية قياس القضايا والشرطية، وفي الثالثة يبين طريقة الاستثناء في الشرطيات البسيطة من شرطية وحملية، سواء أكانت شرطية متصلة أم منفصلة.
72
المورد السادس:
وهو مورد خاص بقياس الخلف، وفي خمس لمحات، يتناول في الأولى شروط القياس، وفي الثانية تعريف قياس الخلف، وفي الثالثة تعريف قياس الدور، وفي الرابعة طريقة الحمل على المقدمات، وفي اللمحة الأخيرة يبين السهروردي كيف أن التسليم بصدق قضية يتضمن التسليم بكذب نقيضها.
73
المورد السابع:
وفيه يتناول السهروردي بالشرح طريقة الحكم على القضايا الكلية في الاستقراء، وكيف أن ذلك الحكم ينطبق على جزئيات القضية الكلية. ولهذا المورد شرح عام لم يقسمه السهروردي إلى لمحات كالعادة.
74
المورد الثامن:
وهو في أصناف القضايا؛ حيث يتناول القضايا الواجبة القبول، ويقسمها إلى الأوليات والمجربات والحدسيات والمتواترات والمشهورات والوهميات والمقبولات والتقريرات والمظنونات والمشبهات.
75
المورد التاسع:
وهو مورد خاص بالبرهان، ويتألف من أربع لمحات، تناول في الأولى تقسيم المطالب إلى تصورية وتصديقية، وفي الثانية تناول أقسام البرهان، وفي الثالثة تقسيم أجزاء العلم إلى موضوعات ومبادئ ومسائل، وفي اللمحة الرابعة تعريف معنى الحد والقسمة والاستقراء.
76
المورد العاشر:
وهو المورد الأخير في علم المنطق، وقد خصصه السهروردي للتحذير من بعض الأخطاء والمغالطات التي قد تقع في القياس.
77
هذا هو تقسيم المنطق الأرسطي كما عالجه السهروردي في رسالة «اللمحات في الحقائق»، إلا أنه في كتابه «حكمة الإشراق» أخذ ينقد ويحلل ويختصر منطق اللمحات؛ وذلك في ثلاثة مباحث: (1)
مبحث المعارف والتعاريف: وهذا المبحث يبحث سبعة ضوابط لنظام التعريف، فكان الضابط الأول يخص دلالة اللفظ على المعنى، والثاني تقسيم التصور والتصديق، أما الضابط الثالث فيخص مبحث الماهية، والرابع يبحث الفرق بين الأعراض الذاتية والغريبة، ثم ينتقل إلى بيان ضابط خامس، ينفي فيه وجود الكلي بالخارج، وفي الضابط السادس يبحث التمييز بين المعرفتين الفطرية والمكتسبة. أما الضابط السابع فيدرس فيه شروط التعريف، ثم يختم هذه المقالة بنقد نظرية الحد الماهوي ب «قاعدة إشراقية في هدم قاعدة المشائين في التعريفات.»
78 (2)
مبحث الحجج ومباديها: وهذا المبحث يقيمه السهروردي على سبعة ضوابط أيضا، الأول، ويبحث فيه السهروردي رسم القضية والقياس، ثم انتقل في الضابط الثاني إلى بيان أقسام القضايا، وبين في الثالث جهاتها، ثم ختم هذه الضوابط الثلاثة بحكمة إشراقية مفادها أن جميع القضايا ترجع كلها إلى الموجبة الضرورية. وبهذا الرأي، نجد السهروردي يسبق فلاسفة المنطق الحديث، من أمثال «دي مورجان» و«رونفييه» وغيرهما، ممن تنبهوا إلى إمكان رد القضايا السالبة إلى موجبة، وفي سياق الاختزال كذلك نلاحظ أنه يرد أيضا القضايا الجزئية إلى الكلية، لكننا هنا لا نراه منسجما مع أساس فلسفته الإشراقية ولا نزوعه النقدي لأسس التفكير المنطقي الأرسطي؛ فنفيه للحد الماهوي وتوكيده على الحد بالرسم وغيره من طرائق التعريف الناقصة لا ينسجم معها إلا تقدير القضايا الجزئية، وهنا نرى أن «ابن تيمية» كان أكثر منه توفيقا وإدراكا لقيمة القضية الجزئية. أما الضابط الرابع فدرس فيه التناقض وبين حده، وفي الخامس درس «العكس» (أي جعل موضوع القضية محمولا والمحمول موضوعا، مع حفظ الكيفية وبقاء الصدق والكذب بحالهما)، وفي الضابط السادس يدرس القياس وما يتعلق به، وبعد هذه الضوابط تتبدى إشراقية السهروردي في مباحث دقيقة كالسلب والشكلين الثاني والثالث من أشكال القياس، فضلا عن تحليله للشرطيات وقياس الخلف. وهنا لا بد أن نشير إلى أن السهروردي ينكر الشكل الرابع من أشكال القياس، ذاهبا في ذلك مذهب ابن سينا. ومعلوم أن العديد من المناطقة العرب قد أنكروا الشكل الرابع؛ لأنه ليس سوى عكس الأول؛ فالاكتفاء بالثلاثة يغني ويكفي. والحقيقة أن هذا الشكل ليس من وضع أرسطو؛ فمتن الأورجانون ليس فيه سوى ثلاثة أشكال فقط، وإن كانت فيه بعض العبارات الدالة على أن أرسطو كان مدركا لوجود هذا الشكل بناء على قلب الأول؛ أي عكسه، لذا فغالب الظن أن الشكل الرابع لم يكن إلا من إضافة الشراح بناء على تحليلهم وتفسيرهم للمتن الأرسطي ذاته، ونرى من الخطأ أن ننسب هذا الشكل إلى جالينوس، كما يذهب الكثير من مؤرخي علم المنطق، فليس ثمة ما يمكننا من الجزم بهذا. وقد كانت دراسة العالم المنطقي البولندي «يان لوكاشيفيتش» لهذه المسألة دقيقة وكافية في نفي نسب الشكل الرابع إلى جالينوس، وإذا لم يكن قد استطاع أن يخلص إلى تحديد صاحب هذه الإضافة إلى مبحث الأشكال، فإنه على الأقل استطاع نفي نسبتها إلى الشارح «جالينوس». وفي الضابط السابع يبحث السهروردي مواد الأقيسة البرهانية مع فصول في التمثيل وقسمي البرهان (أي اللمي والإني)، مختتما ببيان مطالب تتعلق بأدوات الاستفهام.
79 (3)
مبحث المغالطات، وبين فيه السهروردي المباحث الطبيعية والإلهية التي عرض لها الفلاسفة المشاءون؛ وذلك على أساس من تجربته الإشراقية.
80
وبعد هذا العرض لأقسام المنطق عند السهروردي يمكن تقسيم البحوث والدراسات في المنطق الإشراقي إلى قسمين: (أ)
نظرية التعريف الإشراقية. (ب)
نظرية الحجج الإشراقية.
رابعا: تقييم المنطق الإشراقي
يقلل بعض المستشرقين، من أمثال المستشرق «هنري كوربان» وغيره، من أهمية الجانب المنطقي في حكمة الإشراق، ويركزون على الجانب الكوني الميتافيزيقي، في حين أن الجانب المنطقي بمثابة التمهيد للجانب الكوني الميتافيزيقي؛ إذ عرض السهروردي فيه لأمور هي عنده مقدمات لمطالب في القسم الثاني؛ بمعنى أن الجانب المنطقي هو الذي يعرض لوحدة المنهج: منهج النظر ومنهج الذوق، وما الجانب الكوني الميتافيزيقي عن النور إلا تطبيق للمنهج الإشراقي في تصور المشائين للكون.
81
بل يجعل المستشرقون من السهروردي إشراقيا خالصا، ويتركون جانب الحكمة والتصوف، ويخرجونه من نطاق الفلسفة والمنطق. ولكن ما السبب الذي يجعل بعض المستشرقين يقفون هذا الموقف؟
أعتقد أنه ربما يرون أن السهروردي لم يعطنا منطقا إشراقيا بقدر ما أعطانا نقدا للمنطق الأرسطي؛ أي إن الجانب السلبي لديه أقوى وأوضح وأكثر من الجانب الإيجابي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن التأليف في المنطق ينافي الاتجاه الإشراقي، خاصة وأن المنطق علم آلي، عقلي، استدلالي، بخلاف الإشراق الذي يعني ذوق، فطرة، مشاهدة. ثم كيف يمكن ربط المنطق بالإشراق؟ وهل للإشراق منطق، والإشراق بطبيعته لا يخضع لقواعد المنطق، بل هو أساسا معرفة كشفية تند عن العقل ولا تحدث إلا بالذوق؟!
ولكننا نخالف هذا القول تماما؛ فالسهروردي إذا كان قد نقد المنطق الأرسطي نقدا سالبا، فإنه خرج من هذا النقد بآراء مبتكرة، وهو يسمي هذه الآراء مباحث أو ضوابط، بحيث يمكن لنا أن نطلق ما ذكرناه سالفا؛ أعني على مجموع تلك الآراء، «المنطق الإشراقي». هذا المنطق كما عرفه السهروردي هو سياق آخر وطريق أقرب تلك الطريقة وأنظم وأضبط وأقل إتعابا في التحصيل،
82
أو «الآلة الواقية للفكر» جعلناها مختصرة مضبوطة بضوابط قليلة العدد كثيرة الفوائد.
83
ويرجع مصدر هذا المنطق إلى الذوق فيقول : «ولم يحصل لي أولا بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر غير العقل.»
84
الفصل الثالث
المنطق عند السهروردي وعلاقته بالمنطق الأرسطي القديم
تمهيد
قلنا إن للسهروردي تجاه المنطق الأرسطي موقفا مزدوجا؛ فهو يقبل المنطق عامة، ويعتبره إحدى رياضات المتصوفة الإشراقية، ثم يضع منطقا جديدا ثانيا، أو يحاول أن يختصر هذا المنطق ثانيا. وقلنا إنه بهذا يخالف الصوفية الذين لم يقبلوا أية صورة من صور التفكير النظري. وإن كان السهروردي نفسه يصرح بأنه توصل إلى ابتكار هذا المنطق بواسطة الذوق، ويسمي كثيرا من أبحاثه الجديدة ضوابط إشراقية، فيقرر أنه سيجعل الآلة الواقية للفكر مختصرة مضبوطة بضوابط قليلة العدد، كثيرة الفوائد. ولذا سنحاول أن نشرح تفاصيل ذلك في هذا الفصل، وذلك على النحو التالي:
أولا: المنطق الأرسطي كما يصوره مفكرو الإسلام، وخاصة السهروردي في مؤلفاته
لقد تصور أرسطو أن منطقه آلة لتحصيل العلوم جميعها، أو مقدمة ضرورية لاكتسابها، باعتباره مدخلا للفلسفة التي كانت تشمل في عصره جميع المعارف والعلوم.
وقد ظل المنطق الأرسطي بمثابة كتاب مقدس، تقبل عليه الأجيال، تتدارسه وتشرحه، وتعلق عليه وتقتبس منه
1
حتى جاءت العصور الوسطى الإسلامية، فكان لمفكري الإسلام وفلاسفته ومتكلميه وأصولييه وفقهائه ومتصوفيه مواقف متباينة أمام هذا المنطق.
أما الفلاسفة فقد تلقوه بالإعجاب، وأحاطوه بهالة من القدسية، واهتموا به اهتماما كبيرا؛ فقاموا بشرحه والتعليق عليه، والإضافة إليه، واعتبروه يمثل: (1)
القوانين التي من شأنها أن تقوم العقل، وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات أو القوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل.
2 (2)
الصناعة النظرية التي تعرفنا أنه من أي الصور والمواد يكون الحد الحقيقي الذي يسمى بالحقيقة حدا، والقياس الصحيح الذي يسمى بالحقيقة برهانا، وتعرفنا أنه عن أي الصور والمواد يكون الحد الإقناعي يسمى رسما، وعن أي الصور والمواد يكون القياس الإقناعي الذي يسمى ما قوي منه، وأوقع تصديقا، شبيها باليقين جدليا، وما ضعف منه وأوقع ظنا غالبا ومادة يكون القياس الفاسد الذي يسمى مغالطيا وسوفسطائيا، وهو الذي يتراءى أنه برهاني أو جدلي ولا يكون كذلك، وأنه عن أي صورة ومادة يكون القياس الذي لا يوقع تصديقا البتة، ولكن تخييلا يرغب النفس في شيء أو ينفرها ويقززها أو يبسطها أو يقبضها، وهو القياس الشعري.
3 (3)
قانون صناعي عاصم للذهن عن الزلل، مميز لصواب الرأي عن الخطأ في العقائد، بحيث توافق السليمة على صحته.
4
وأما المتكلمون والأصوليون فجنحوا إلى الرواقية، متهمين المنطق الأرسطي بأنه عقيم وتحصيل حاصل، وينطوي على مصادرة على المطلوب، وغير مفيد. وأقام المتكلمون والأصوليون بدلا من القياس الأرسطي قياسا آخر بالمعنى الواسع لكلمة القياس أشبه بالتمثيل الأرسطي سمي بالقياس الأصولي.
5
وإذا كان المتكلمون والأصوليون يهاجمون المنطق الأرسطي، إلا أن الإمام أبا حامد الغزالي (ت505ه) في أول أمره كان يقدس منطق أرسطو، حتى إنه يقول عنه: «إن من لا يحيط به فلا ثقة بعلومه.» وبالغ في جعله ميزانا يزن به العلوم الدينية وسواها من حساب وهندسة
6
وكل علم حقيقي غير وضعي، فإني أميز حقه عن باطله بهذه الموازين، وكيف لا وهو القسطاس - المستقيم، الميزان الذي هو الكتاب والقرآن في قوله تعالى:
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط .
7
غير أن «أبا حامد الغزالي»، أنكر أن يكون المنطق سبيلا للوصول إلى المعرفة، ثم مضى يتلمس طريق التجربة الباطنية أو الكشف الصوفي كما صرح بذلك في اعترافاته.
8
أما ما سوى هؤلاء من فقهاء المسلمين فكان موقفهم عدائيا تاما، غير أنهم تباينوا؛ ففريق كان مظهر عدائه فتاوى يصدرها محرما بها الاشتغال بالمنطق ك «ابن الصلاح»
9 ⋆
ومن تبعه، وفريق كان موقفه موقف الناقد بالبرهان وإمام هؤلاء جميعا الإمام «ابن تيمية».
وأما المتصوفة، وخاصة المتصوفة الأوائل، فلم يعنوا بمنطق أرسطو كما عني به غيرهم من مفكري الإسلام كالمتكلمين والفلاسفة والفقهاء، وذلك راجع إلى أنه طريق نظري وهم لا يعنون بالنظر، وإنما تنصرف عنايتهم أولا وأخيرا إلى طريق الذوق والكشف.
10
أما السهروردي فهو يشذ عن هذه القاعدة؛ فقد اهتم السهروردي بالمنطق الأرسطي؛ حيث عرض له من خلال اهتمامه بالفلسفة؛
11
حيث أولع منذ شبابه الباكر بالدراسات الفلسفية، ووجد فيها مادة غزيرة فيما وضعه مشاءو العرب، وبخاصة «ابن سينا»،
12
ولقد قرأ هذه المادة وأفاد منها، وتتلمذ على بعض شيوخها، ثم أخذ يخرج بدوره سلسلة متصلة من الكتب والرسائل، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: (1) رسالة اللمحات في الحقائق
التزم السهروردي هنا في «اللمحات» بالتقسيم الثلاثي التقليدي للعلوم الفلسفية من منطق وطبيعيات وميتافيزيقا؛ ففي المنطق يعني التعريف والقضايا والقياس والبرهان دون أن يهمل مبحث المغالطات،
13
وفي الطبيعيات يعالج المادة والجسم والصورة والهيولى، والزمان والمكان. ويعد علم النفس جزءا من الطبيعيات على نحو ما صنع المشاءون العرب، ويفرق بين النفس والبدن، وبين الإدراك الحسي والإدراك العقلي، ويقف طويلا عند النفس الناطقة ومشكلة الخلاص التي هي هدفه الأسمى؛
14
وفي الميتافيزيقا يفصل القول في مشكلة الواحد والتعدد، ونظريتي الصدور والعقول العشرة.
15
ويختم الرسالة بحديث عن النبوة والأحلام والتناسخ، وليس له في كل هذا إلا أن يردد ما قال به مشاءو العرب، فيما عدا بعض أسماء جديدة لمسميات ثابتة، أو إضافات لا تخلو من نقد وملاحظة.
وباختصار أن يرد جل ما ورد على لسانه من بحث فلسفي إلى أصول مشائية، وهذا يدل على أنه بدأ حياته فيلسوفا مشائيا يعتمد على مضامين الفلسفة المشائية؛ وذلك لاعتقاده بأن الفيلسوف الإشراقي لا بد من أن يلم إلماما تاما بالمنطق والفلسفة المشائية، لما لهما من قيمة كبرى وخطر عظيم وأثر كبير في إعداد طلاب الحكمة وتثقيفهم.
16 (2) رسالة التلويحات اللوحية والعرشية
يذكر السهروردي أن غرضه فيها إنما هو بسط تعليم أرسطو دون التفات إلى شروح الفلاسفة المشائين الشائعة، فهو يقول: «هذا هو الشروع في علم ما بعد الطبيعة من التلويحات اللوحية، والعرشية، لم ألتفت فيها إلى المشهور من مذاهب المشائين، بل أنقح فيها ما استطعت، وأذكر لب قواعد المعلم الأول.»
17
ثم يبدأ السهروردي بمناقشة مقولات المنطق الأرسطي غير متقيد بمقتضيات هذا التعليم الشائع؛ وذلك لأن المقولات ليست مأخوذة في عرفه عن المعلم الأول، بل عن شخص فيثاغوري يقال له أرخوطس.
18
ولم يكتف السهروردي بهذا، بل يبحث بعد ذلك في مفاهيم الكلي والجزئي، المتناهي واللامتناهي، الحقيقي والذهني، ويعرض في هذه الرسالة لمشكلة مهمة هي قضية الماهية والوجود،
19
وهي من مخلفات «ابن سينا» التي عارضها السهروردي بعض المعارضة، فكان موقفه منها أنه لا يجوز أن يقال الوجود في الأعيان زائد عن الماهية؛ لأننا عقلناه دونه، فإن الوجود أيضا كوجود العنقاء فهمناه من حيث هو كذا أو لم نعلم أنه موجود في الأعيان، وإذن فكل منهما للآخر يعد صورة واضحة حصولا في الذهن. أما الأشياء الحاصلة فعلا فإن الوجود والماهية هما شيء واحد؛ وذلك لأن العقل لا يبتني أية ثنائية في الأشياء الموجودة، بل يدرك وحدة الوجود إلى الماهية ليست ما يظن البعض نسبة المحمول إلى الموضوع؛ لأنه بناء على هذا الافتراض يجوز أن توجد الماهية قبل الوجود أو بعده أو معه، بحيث لا يوجد الكائن الجزئي بحكم الوجود الذي يقرر ماهيته، بل الاستقلال أو بإزائه، وكل ذلك محال.
20 (3) رسالة المقاومات
في هذه الرسالة يسير السهروردي على نهج التلويحات، وفي هذا يقول: هذا (يعني المقاومات) مختصر يجري من كتابي الموسوم بالتلويحات مجرى اللواحق، وفيه إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه مما كان الأولون يرسلون إرسالا ولم يتيسر إيراده في التلويحات أشده إيجازها، فلم يكن يلائمها ما يحتاج إلى أقل بسط، والإيجاز في مواقع تدارك السهو في العظيمات لا يفيد؛ فأوردناه مضمونا إليه نكتا مشهورة، وسميته «المقاومات».
21 (4) رسالة المشارع والمطارحات
فقد أورد السهروردي في هذه الرسالة مباحث وضوابط مخرجة مشحذة من تصرفاته، وأنه لم يخرج في هذا عن مآخذ المشائين كثيرا، ولكنه يضيف إلى ذلك أنه أودع هذا الكتاب نكتا ولطائف تومئ إلى قواعد شريفة زائدة على ما يورده المشاءون.
22
وهنا تظهر الصلة التي توجد بين مذهب السهروردي الإشراقي الخالص، وما يعرضه من مذاهب المشائين في العلوم الفلسفية البحتة؛ فيقول: «ومن لم يتمهر في العلوم البحثية، فلا سبيل له إلى كتابي الموسوم ب «حكمة الإشراق»، وهذا الكتاب (يعني المشارع والمطارحات) ينبغي أن يقرأ قبله، وبعد تحقيق المختصر الموسوم بالتلويحات وأنا لا نراعي الترتيب ها هنا، ولا نلتزم في بعض المواضع بموضوع علم، بل عرضنا فيه البحث، وإن تأدى إلى قواعد من علوم متقدمة، فإذا استحكم الباحث هذا النمط فليشرع في الرياضات المبرقة بحكم القيم على الإشراق، حتى يعاين بعض مبادئ الإشراق، ثم يتم له مباني الأمور، وأما الصورة الثالثة في الإشراق، وهي علومها لا تعطى إلا بعد الإشراق، وأول الشروع في الحكمة هو الانسلاخ عن الدنيا، وأوسطه مشاهدة الأنوار الإلهية، وآخره لا نهاية له، وسميت هذا الكتاب بالمشارع والمطارحات.»
23
وهنا يتضح أن رسالة المشارع والمطارحات، وإن كانت من الرسائل التي يصرح السهروردي نفسه بأنه كتبها على طريقة المشائين، إلا أنه يصرح من ناحية أخرى، بأنه زاد على ذلك أشياء ليست من طريقة المشائين في شيء، وإنما هي من طريقة الإشراقيين في كل شيء، وهذا يتضح بما عبر عنه بالنكت واللطائف التي تومئ إلى قواعد شريفة.
يضاف إلى هذا أنه قد شرط فهم كتاب حكمة الإشراق بالتمهر في العلوم البحثية؛ أي علوم المشائين، على أنه يبدأ الطالب بالبحث والاطلاع على التلويحات والمقاومات والمطارحات حتى يتسنى له فهم حكمة الإشراق القائمة على البحث والتأله كما يصرح بذلك السهروردي.
24 (5) كتاب حكمة الإشراق
إذا كان السهروردي قد ذهب في رسالة اللمحات والتلويحات والمقاومات والمطارحات، تلك الرسائل التي تعود معظم الباحثين على تسميتها ب «المؤلفات المشائية»،
25
إلا أن غرضه فيها يقتصر على عرض آراء المشائين دون أن يسلم ضرورة بصحتها، لدرجة أنه لا يوضح المدى الذي يريد أن يذهب إليه في نقده لهذه الآراء، بل هو حالات كثيرة يبدو وكأنه يجاريها أو يختار من تأويلها ما هو أيسر مجملا، وهو يؤكد في مواضع عديدة أن موقفه الخاص الصريح منها ينبغي أن يتلمس في مصنفه الكبير الجامع «حكمة الإشراق»، الذي لم يظهر - في زعمه - كتاب يوازيه أو يفوقه.
26
وقد جاء موقف السهروردي من المنطق الأرسطي في كتابه «حكمة الإشراق» من خلال اهتمامه بالفلسفة أيضا؛ فهو يبدأ الكتاب بخطبة موجهة ضد الفلاسفة المشائين العرب؛ حيث يرى أن الحكمة التي وضعها هؤلاء هي حكمة متهافتة القواعد، باطلة الأصول. وفي هذا يقول الشهرزوري: «... ولا التي عليها المشاءون أصحاب المعلم الأول أرسطوطاليس بضعف قواعدهم وبطلان معاقدهم، وقد أدى هذا إلى أنهم حرموا من الوصول، أعني معاينة المعاني ومشاهدة الموجودات مكافحة لا بفكر، ولا بنظم دليل قياس، ولا باعتماد ونصب تعريف حدي ورسمي، بل بأنوار إشراقية متتالية.»
27
ومن ثم يتضح أن العلة التي هاجم لأجلها السهروردي فلسفة أرسطو أن الفلاسفة المشائين العرب في زعمه «لم يصلوا إلى المعارف الحقة، ما داموا حرموا عن طريق الكشف، واستخدموا المنطق القياسي الذي حصرهم في دائرة مغلقة من البحث والبرهان.»
28
وقد قسم السهروردي كتابه «حكمة الإشراق» إلى قسمين:
29
القسم الأول:
في ضوابط الفكر، وقد جعله في ثلاث مقالات:
المقالة الأولى:
في المعارف والتعاريف، ويضم مباحث اللغة، وصلة اللفظ بالمعنى، مع عرضه لنقد نظرية التعريف عند أرسطو والمشائين العرب.
المقالة الثانية:
في الحجج ومباديها، ويضم نقده لمباحث القياس وأشكال القضايا.
المقالة الثالثة:
في المغالطات وبعض الحكومات بين أحرف إشراقية وبعض أحرف مشائية، بمعنى أن السهروردي في هذه المقالة ينقد المباحث الطبيعية والإلهية عند الفلاسفة المشائين على أساس من تجربته الإشراقية.
القسم الثاني:
في النور وحقيقته، ونور الأنوار، ومبادئ الوجود وترتيبها. وقد جعلها في خمس مقالات:
المقالة الأولى:
في النور وحقيقته، ونور الأنوار، وما يصدر عنه أولا.
المقالة الثانية:
في ترتيب الوجود.
المقالة الثالثة:
في كيفية فعل نور الأنوار، والأنوار القاهرة، وتتميم القول في الحركات العلوية.
المقالة الرابعة:
في تقسيم البرازخ وهيئاتها وتركيباتها وبعض قواها.
المقالة الخامسة:
في المعاد والنبوات والمقامات.
والفكرة الرئيسية التي يقوم عليها القسم الثاني هي قوله «إن الله نور الأنوار»، ومصدر جميع الكائنات؛ فمن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالم المادي والروحي.
30
ويوضح السهروردي هذه الفكرة؛ حيث يشير إلى أن العالم قد برز من إشراق الله وفيضه؛
31
فالأول أو نور الأنوار يفيض عنه النور الإبداعي الأول، وعن هذا الصادر تصدر أنوار طولية يسميها بالقواهر العالية، ثم تصدر عن هذه القواهر أنوار عريضة يسميها بأرباب الأنواع، وهي أنوار تدبر شئون الأنواع الموجودة في العالم الحسي.
يضاف إلى هذا أن السهروردي قد ابتدع عالما أوسط بين العالم الحسي والعالم العقلي، أسماه بعالم البرازخ أو بعالم المثل المعلقة. ويبدو أن الوضع الأنطولوجي لهذا العالم الأوسط هو وضع المثل الرياضية المتوسطة عند أفلاطون. وإذا كان الفلاسفة المشاءون قد جعلوا العقول عشرة، فإن السهروردي يجعل «الأنوار في أعداد لاحقة لها»، بل إنه يشير إلى كثرة لا متناهية من الأنوار التي تنشأ عند تقابل الأشعة الإشراقية والمشاهدية، والتي لا تحدث أيضا كنتيجة للجهات العقلية المختلفة. ويظهر أن تخطيط الوجود النوراني عند السهروردي سيصل إلى أن يصبح العالم كتلة من الأنوار ذات الطبيعة الواحدة، والتي تتحرك حركات عظيمة لا متناهية، فيظهر فيها الثراء النوراني الضخم مما يعبر عن ديناميكية الوجود الخصبة.
غير أن تفصيل الفيوضات الإشراقية عند السهروردي وتقسيمها إلى مراحل إنما وضع لغاية صوفية؛ حيث إن إيضاح المراحل على هذا النحو إنما يفتح الطريق أمام الواصل لكي ينتقل من مرحلة إلى أخرى تدريجيا حتى يصل إلى جوار الحق أو نور الأنوار.
32
ومن الملاحظ أن فكرة الإشراق عند السهروردي تتميز عن باقي النزعات الصوفية الأخرى بشكل عام بما يلي: (أ)
الأساس الفلسفي الفكري للإشراق؛ إذ هو قائم عند السهروردي على أساس من الاستدلال البحثي العقلي، وهو ما سبق أن أكده في كتابه «حكمة الإشراق» أنه لطالب البحث والتأله. غير أن هذا التمييز لا يكفي؛ إذ إن نظرية الاتصال لدى كل من «الفارابي» و«ابن سينا» تقوم على أساس فلسفي؛ لينتهي إلى الاتصال بالعقل الفعال والتلقي المباشر عنه، وكذلك فإن المتصوف الأندلسي «عبد الحق بن سبعين» اعتبر المنطق والفلسفة والفقه والكلام خطوة في طريق التحقيق. (ب)
فكرة إشراق الأنوار الإلهية على النفس الإنسانية، وهذه الفكرة ليست بجديدة في تاريخ التصوف؛ إذ إن فكرة الأنوار الإلهية وإشراقها على أنفس من تهيأ لتلقيها ليست بجديدة، بل هي مشهورة عند معظم الصوفية، ومن تحدث عن المعرفة الذوقية من الفلاسفة. ويذكر هنا كتاب «أثولوجيا أرسطو»، والذي يعد من المصادر الرئيسية في فكر السهروردي، والذي تتكرر فيه فكرة النور والإشراق، وكذلك رسالة «مشكاة الأنوار» للغزالي، والتي كان لها أثر واضح في فكر السهروردي الإشراقي.
بيد أن أهم ما يميز السهروردي هو جمعه بين الخاصيتين، واستناد الثانية منهما إلى الأولى؛ إذ يمثل الأساس الفلسفي لديه مرحلة أولى ممهدة لمرحلة الإشراق؛ فالإشراق يستند إلى أساس فكري ونظري، وطالبه ينبغي أن يكون قد قطع عقبات العلم والبحث.
ثانيا: المصادر التي استمد منها السهروردي منطقه الإشراقي
هناك بعض المصادر التي تأثر بها السهروردي في منطقه الإشراقي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: (1) المصدر اليوناني (الرواقية)
تأثر السهروردي بالرواقية؛ وذلك حين اهتم بالقضايا الشرطية (المتصلة - المفصلة)؛ حيث استهل باب القضايا بالحديث عن القضايا الشرطية، وعالجها قبل معالجته للقضايا الحملية؛ فهو يرى أن القضية الشرطية قضية مكونة في أبسط صورها من قضيتين حمليتين، يربط بينهما رابط يفيد الشرط، ويستلزم الجزاء، الذي قد يقترن بكلمة إذن، ويسمى ما بعد الشرط بالمقدم، ويسمى الجزاء بالتالي؛ وذلك مثل كلمة «كلما طلعت الشمس كان نهارا».
ويقسمها السهروردي، شأنه شأن المناطقة العرب من أمثال ابن سينا وغيره، إلى لزومية تامة وغير تامة، وإلى اتفاقية أو غير لزومية.
33
ومن الواضح أن السهروردي متأثر تماما بالرواقية المشائية التي تمثلت عند الفارابي وابن سينا وابن رشد وأبو البركات البغدادي. وفي هذا يقول قطب الدين الشيرازي في شرحه لحكمة الإشراق إن «أرسطو أهمل في كتبه المتصلات والمنفصلات والاقترانات الشرطية التي زادها المتأخرون.»
34
ومما يؤكد تأثر السهروردي بالرواقية، ما قرره في القياسات الشرطية بأن شرائطها تشبه شرائطها القياسي الحملي، ولذلك لم يجد السهروردي داعيا لتكرار بحثها.
35
ومما يزيد تأثر السهروردي بالرواقية، محاولته نقد الحد الأرسطي (التعريف التام) القائم على الجنس والفصل؛ وذلك لأن الإتيان بالحد كما التزم به المشاءون من تأليفه من الجنس والفصل القريبين غير ممكن للإنسان، لجواز الإخلال بذاتي لم يعرف، وصعوبة تمييز الأجناس والفصول من اللوازم العامة والخاصة.
36
وإن كان السهروردي قد تأثر بالرواقية في إنكار التعريف التام، فهو يأخذ بالتعريف الناقص كما يذكر قطب الدين الشيرازي؛
37
فالرواقيون يعترضون على التعريف التام لصعوبته، ويعمدون إلى التعريف الناقص أو الرسم المؤلف من خواص الشيء؛ فتعريف الأشياء عند الرواقية تكون بذكر الأمور التي تخصها، وإحصاء الفروق التي تميزها عن غيرها.
38 (2) المصدر الإسلامي
حين كان ينقد السهروردي المنطق الأرسطي كان يمثل بهذا امتدادا لنقد المدرسة الكلامية والأصولية للمنطق الأرسطي، ولا شك في أن السهروردي قد تأثر بهذه المدرسة في هذا الجانب، خاصة أن المنطق الأرسطي قوبل في المدرسة الكلامية والأصولية حتى القرن الخامس الهجري أسوأ مقابلة، فهاجمته جميع الفرق الإسلامية الكلامية والأصولية من معتزلة أو أشعرية أو شيعية أو كرامية. يقول ابن تيمية: «ما زال نظار المسلمين لا يلتفتون إلى طريقتهم، بل الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وسائر الطوائف من أهل النظر كانوا يعيبون فسادها، وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي.»
39
ويقول في فقرة أخرى: «ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه (يعني المنطق الأرسطي) يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية.»
40
ومما يثبت هذا إثباتا واضحا:
أولا:
اختلاف نظرة المتكلمين والمناطقة المشائين في مبحث الحد وثقة الأولين لمبحث الحد الأرسطي.
ثانيا:
رفض المتكلمين لمبحث القياس الأرسطي.
ثالثا:
وجود نصوص كثيرة عن المتكلمين تثبت أنهم نقدوا المنطق الأرسطي، من هذه النصوص ما كتبه الباقلاني والنوبختي وإمام الحرمين «أبو المعالي الجويني» و«أبو سليمان السجستاني».
41
ولكن إذا كانت المدرسة الكلامية والأصولية قد نقدت المنطق الأرسطي، فذلك لارتباطه بالنزعة الميتافيزيقية، هذه النزعة التي انبروا يهاجمونها أشد الهجوم، ورأوا أنها تدعو إلى القول بقدم العالم وعدم الإيمان بالتوحيد،
42
غير أن نقد المدرسة الكلامية والأصولية للمنطق الأرسطي أدى إلى محاولتهم إيجاد منطق خاص يخالف منطق أرسطو.
43
ولا شك في أن السهروردي قد قام بنفس هذه المهمة؛ حيث نقد المنطق الأرسطي نقدا مبتكرا، وخرج من هذا النقد بقواعد تخالف قواعد منطق أرسطو، وهذا ما سوف نوضحه فيما بعد بالتفصيل.
ثالثا: أوجه الاتفاق والاختلاف بين منطق السهروردي ومنطق كل من ابن سينا وابن تيمية
هناك محاولات لدى مفكري وفلاسفة المسلمين تقترب من محاولة السهروردي، ويمكن توضيح ذلك بأن نقول إننا إذا كنا قد حاولنا سابقا وضع مقارنة بين منطق السهروردي ومنطق «ابن سبعين»، فإننا نرى أنه يمكن تلمس ذلك أيضا لدى كل من «ابن سينا» و«ابن تيمية». (1) ابن سينا
يتفق السهروردي مع ابن سينا في مسألة تجديد وتنسيق المنطق الأرسطي؛ فابن سينا حاول أن يتلمس بعض الثغرات في منطق أرسطو؛ فهو يقول في الذاتي: «يكاد المنطقيون الظاهرون عند التحصيل لا يميزون بين الذاتي وبين المقول في جواب وهو.»
44
ويقول في النوع: «ومما يسهو فيه المنطقيون ظنهم أن النوع في الموضوعين له دلالة واحدة ومختلفة بالعموم والخصوص.»
45
ويذكر في العرض قوله: «ومتخلفو المنطقيين يذهبون إلى أن العرض هو العرض الذي يقال مع الجوهر، وليس هنا من ذلك بشيء، بل معنى هذا العرض العرضي.»
46
وفي مبحث الموجهات يقول: «ومن ظن أنه لا يوجد في الكليات حمل غير ضروري فقد أخطأ.»
47
كما يعبر بطرحه عن الخلاف بقوله: «والقوم الذين سبقونا لا يمكنهم في أمثلتهم واستعمالاتهم أن يصالحونا على هذا، وبيان هذا يطول ...»
48
ومن أبرز المسائل والقضايا التي يحدد فيها ابن سينا بحثه في التناقض إذ يقول: «فهكذا يجب أن تفهم حال التناقض في ذوات الجهة، وتملى عما يقول به الأولون.»
49
ويقول في بحثه للقياس: «القياس على ما حققناه نحن.»
50
ويقول أيضا في مبحث القياس: «ولا نلتفت إلى ما يقال من أن البرهانية واجبة، والجدلية ممكنة أكثرية، والخطابية ممكنة ومساوية لا ميل فيها، والشعرية كاذبة ممتنعة؛ فليس الاعتبار بذلك، ولا أشار إليه صاحب المنطق.»
51
من هذه النصوص يتضح أن ابن سينا - بالنسبة للمنطق - كان ناقدا ومنسقا، وهذا هو مصدر أصالته التي استمدها أستاذه «الفارابي»؛
52
ففي اهتماماته المنطقية معالجة كاملة وشاملة لم يتردد في سد الثغرات التي خلفتها مناقشات من سبقوه أو في تصحيح أعمالهم، كما لم يكن «ابن سينا» مجرد جامع أو شارح تحليلي، بل هو عقلية أصلية على وجه قوي. وعلى الرغم من إخلاصه لمصادره المنطقية، فإن اهتمامه كان في الشرح وفي التنسيق، كما أنه لم يكن يثير اعتراضات تافهة عند الابتكار حين تستدعي المعالجة الملائمة لمشكلة معينة منطلقا جديدا.
ومن بين مساهمات ابن سينا المنطقية على حد تعبير المستشرق «نيقولا ريشر» يمكن تعداد ما يلي: (1)
معالجة الاعتبارات المنطقية في نظرية القضايا الحملية، بما في ذلك تسوير المحمول على طريقة هاملتون
Hamilton . (2)
نظرية تفصيله للقضايا الشرطية المتصلة والمنفصلة تضم منطوقا واضحا بالنسبة للكم والكيف. (3)
إعداد نظرية للقضايا الشخصية (المفردة) على طريقة الرواقيين. (4)
تحليل تفصيلي لمفهوم الوجود، وإعداد تمييز بين الوجود والماهية. (5)
نظرية للتعريف والتصنيف وعلاقتها معا، وهي نظرية تنطوي على عناصر أصلية.
53
على أن هذا ليس معناه أن «ابن سينا» لم يتأثر بمنطق أرسطو، بل بالعكس تأثر به كل التأثر، وعول عليه كل التعويل، فحاكاه في ترتيبه للمنطق، واستمد منه مواد كثيرة، ولا يتردد في أن يصرح بذلك، فيقول: «... ولما افتتحت هذا الكتاب (يعني المدخل)، ابتدأت بالمنطق، وتحريت أن أحاذي به ترتيب كتب صاحب المنطق، وأوردت في ذلك من الأسرار واللطائف ما تخلو عنه الكتب الموجودة، ثم تلوته بالعلم الطبيعي، فلم يتفق لي في أكثر الأشياء محاذاة تصنيف المؤتم به في هذه الصناعة وتذاكيره.»
54
وهنا يتضح أن «ابن سينا» إذا كان له بعض الملحوظات على المنطق الأرسطي، فإنه يتمسك بما قاله أرسطو، بينما السهروردي عكس ذلك تماما. ويمكن توضيح ذلك من خلال المقارنة التالية بين منطق الإشراق عند السهروردي ومنطق المشرقيين عند ابن سينا؛ فمنطق الإشراق يختلف عن منطق المشرقيين؛ وذلك لأن منطق المشرقيين لا يوجد فيه نقد للمنطق الأرسطي يأخذ بعدا إشراقيا، بل ذكر لبعض مسائل المنطق الأرسطي المختلف فيها؛ لأن المنطق المتفق عليه عرفه ابن سينا من قبل للعامة في الشفاء، ووضع مسائل الخلاف الخاصة في منطق المشرقيين. يقول ابن سينا: «... وبعد لا نلتفت فيه لفت عصبية أو هوى أو إلف، ولا نبالي من مفارقة تظفر منا ما ألفه متعلمو كتب اليونانيين إلفا عن غفلة وقلة فهم .»
55
غير أننا نلاحظ أن منطق المشرقيين عند ابن سينا، وإن كان يستعمل نفس اللفظ «شرق»، إلا أنه لا صلة بينه وبين منطق الإشراق؛ فلفظ «المشرقيين» عند ابن سينا لا يدل على منطق خاص، بل هو لفظ من اللغة العادية لا يعني به ابن سينا أكثر من عنوان لكتاب يذكر فيه بعض جوانب المنطق الأرسطي التي ثار حولها خلاف في عصره، بصرف النظر عن اختلاف أو اتفاق ما يصل إليه «ابن سينا» على ما جرى العرف عليه في كتابات المناطقة المشائين السابقين.
وهنا نستشهد بما لمحه السهروردي نفسه إلى مخطط «ابن سينا»؛ حيث يقول: «ولهذا صرح الشيخ أبو علي (يقصد ابن سينا) في كراريس نسبها إلى المشرقيين توجد متفرقة غير ملتئمة، بأن البسايط ترسم ولا تحد، وهذه الكراريس، وإن نسبها إلى المشرق، فهي بعينها من قواعد المشائين، والحكمة العامة، إلا أنه ربما غير العبارة، أو تصرف في بعض الفروع تصرفا لا يباين كتبه الأخرى بونا يعتد به، ولا يتقرر به الأصل المشرقي المقرر في عهد العلماء الخسروانية، فإنه هو الخطب العظيم.»
56
ومعنى هذا أنه لا مجال للتفرقة بين منطق الإشراق ومنطق المشرقيين من حيث المضمون. أما من حيث اللفظ؛ فالسهروردي لا يقصد في كلمة «إشراق» أي معنى جغرافي، بل يقصد معنى صوفيا، ولهذا يجعل من المشرق دلالة مجازية على الإشراق،
57
ذلك لأن الإشراق يعني الإضاءة بالشعاع، والمشرق هو مكان الشروق والنسبة إليه مشرقة،
58
فيقال «منطق المشرقيين»، وليس منطق «الإشراقيين».
ولكن بعض الباحثين مالوا إلى القول بضم الميم في كلمة «مشرقية» باعتبارها تعني حالة الشروق دون مكانه، وقد دفعهم إلى ذلك فقدان الجرأة في النصوص القديمة، إلا أن «نللينو» أوضح الخطأ اللغوي الكامن في هذه القراءة، وأنهى الجدل الطويل الذي قام به أنصار «المشرقية» وأنصار «المشرقية»، مؤكدا صواب القراءة الأولى.
59
وهنا يتضح أن منطق المشرقيين يختلف أيضا عن منطق الإشراق من حيث اللفظ. (2) ابن تيمية
إن الخلاف بين الصوفية والفقهاء خلاف قديم جدا، نشأ مع المحاولات الأولى لتأويل النصوص القرآنية من قبل مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية المتنازعة؛ فنشأ خلاف بين أهل الظاهر وأهل الباطن، ونظر كثير من الصوفية إلى الفقهاء على أنهم أهل ظواهر ورسوم، ومجالهم العبادات والأحكام، وإلى أنفسهم على أنهم أهل الحقائق والبواطن، وبحثهم يتعلق بالقلوب وأعمالها؛ فعلمهم علم الحقيقة، وعلم الفقهاء علم بأحكام الشريعة، وعلم الحقيقة أعلى مرتبة. وفي مقابل ذلك أنكر أهل الظاهر ما يدعيه الصوفية من مخصوص العلم وقالوا: لا نعرف إلا علم الشريعة الظاهرة التي جاء بها الكتاب والسنة، ورفضوا التمييز بين علم الظاهر وعلم الباطن.
60
وعلى الرغم من اختلاف الرؤية بين الصوفية والفقهاء، إلا أنهم اتفقوا على محدودية العقل واقتصاره على عالم الكثرة والتناهي، كما اتفقوا على نقد المنطق الأرسطي؛ بمعنى أنه إذا كان السهروردي قد نقد المنطق الأرسطي، فلا شك أن محاولته هذه قد وجدت صدى لمن جاء بعده، من أمثال ابن تيمية؛ والدليل على ذلك نقول حين وضع ابن تيمية كتابيه «الرد على المنطقيين» (المسمى بنصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان) و«نقض المنطق» في بيان تهافت الأسس التي يقوم عليها المنطق الأرسطي، وأهمها الحد (التعريف) والقياس، إلا أن ابن تيمية لم ينقد المنطق الأرسطي أو يهاجمه على أسس إشراقية، وإنما نقده على أسس تجريبية؛ حيث تناوله في جزئياته المتعددة بملاحظاته النقدية القيمة التي كانت بداية انطلق منها المناطقة الأوروبيون في العصر الحديث، خاصة «فرنسيس بيكون» و«جون استيوارت مل» و«ديفيد هيوم» في الهجوم على منطق أرسطو، ولم يكن ابن تيمية متعصبا في هجومه على المنطق لمجرد أنه يوناني الأصل، وإنما نظر إلى فائدته في تحصيل اليقين فوجدها معدومة، على عكس ما وجدها المناطقة المشاءون.
ولقد استهل ابن تيمية كتابه «الرد على المنطقيين» بقوله: «إن هذا المنطق (يعني المنطق الأرسطي) لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به الغبي، وقد كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيت صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه.»
61
ثم يكشف ابن تيمية بطريقة منهجية - شأنه شأن السهروردي - عن قصور هذا المنطق، وفساد قضاياه، وذلك في أربعة مقامات: مقامين سالبين، ومقامين موجبين؛ فالأولان قولهم: إن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد، وإن التصديق لا ينال إلا بالقياس، والآخران أن الحد يفيد العلم بالتصورات، وأن القياس يفيد العلم بالتصديقات. ثم يتناول ابن تيمية هذه الدعاوى بالنقد، محاولا إبطالها بالأدلة العقلية.
62
ولا شك في أن محاولة ابن تيمية هذه كانت نتيجة ثمار مرجوة تركها السهروردي وغيره من المتكلمين والأصوليين، إلا أنها محاولة عميقة، حتى إن أستاذنا الشيخ مصطفى عبد الرازق - رحمه الله - يقول عنها: «ولو أن الدراسات المنطقية سارت منذ عهد «ابن تيمية» على مناهجه في النقد بدل الشرح والتفريع والتعميق لبلغنا بهذه الدراسات من التجديد والرقي مبلغا عظيما.»
63
من كل ما سبق يتضح أن السهروردي أراد إظهار المنطق، وكأنه يقود الفكر إلى نتائجه الإشراقية؛ أي إن آراءه الإشراقية كانت نتاج بحث منطقي عقلي مجرد، بينما كانت في الحقيقة نتاجا لا يمكن بحال من الأحوال اجتزاؤها عن أساسها الفكري الإشراقي. وكذلك فإن الآراء الفقهية والأصولية والعقدية لابن تيمية لم تكن نتاج بحث منطقي صرف، وإنما كانت آراؤه الفقهية نتاج هذه الأبحاث العقدية والتصورات الميتافيزيقية. وعلى ذلك لا يمكننا أن نقيم جهود السهروردي وابن تيمية إلا استنادا إلى الأسس التي انطلقا منها؛ فالأساس الفكري الذي انطلق منه السهروردي وابن تيمية، والذي أنتج آلية معرفية مرتبطة بطبيعة هذا الفكر، هو المعيار المتبع؛ أي قدرة كل منهما على الاتساق مع ذاته في المقام الأول؛ فما ارتضاه السهروردي من رؤية للعالم والفكر، من المفترض ألا يناقضه بعد ذلك؛ إذ إن المنهج الذي وضعه، وضعه كتبرير لهذا الفكر من ناحية، وكتفسير له من ناحية أخرى، وكذلك ابن تيمية، من المفترض أن يبقى متسقا مع ذاته؛ فما رفضه من آراء وأفكار من غير المقبول أن يقبل بما يقود إليها أو ينتج عنها بشكل مباشر، وهنا مفارقة في النظريات المنطقية؛ إذ إن الأسس الفكرية والميتافيزيقية تنتج منطقا متسقا معها، ويتم بعد ذلك الاستعانة بهذا المنطق في تأييد هذه الأسس، وهذا ما ظهر واضحا من خلال آراء السهروردي وابن تيمية المنطقية؛ إذ حاولا إعادة توظيف المنطق المؤسس على طبيعة فكرهما الخاص لتأييد هذا الفكر مرة أخرى ... فما قدمه السهروردي من آراء منطقية إن اتصفت بالاتساق الداخلي فهي صحيحة ضمن إطار فكره الإشراقي، وما قدمه ابن تيمية من آراء منطقية هي صحيحة ضمن إطار فكره الفقهي وأسسه العقدي.
64
رابعا: الإضافات التي أضافها السهروردي للمنطق الأرسطي
إذا كان السهروردي قد عرض للمنطق الأرسطي في مؤلفاته في ضوء عرضه للفلسفة، إلا أنه نقد هذا المنطق في القسم الأول من حكمة الإشراق. ونقد السهروردي للمنطق الأرسطي ينم عن وجهة نظر خاصة. يقول الدكتور سيد حسين نصر: «... فلقد أجريت بعض الانتقادات في الفكر الإسلامي من جانب المتكلمين أو المتشرعين كابن تيمية. ولكن نقد السهروردي قد جاء في اتجاه مقابل تماما؛ حيث أنزل المقولات العشر إلى خمس.»
65
ثم جعل من المنطق الأرسطي سلما صاعدا إلى عالم الإشراق، فإذا تأملنا تاريخ المنطق الحديث بعد ذلك في الغرب ندرك ما لنقد السهروردي من قيمة بالغة.
66
وهذا يعني أن السهروردي قد نقد المنطق الأرسطي نقدا بناء. هذا النقد كان من أجل إصلاح هذا المنطق وتخليصه من آثار الفلسفة المشائية التي تعني لديه الصورية الفارغة، وللتحرر من الطريق الصوري؛ وذلك عن طريق الفلاسفة المشائين المتأخرين؛ كابن سينا وابن رشد وأبو البركات البغدادي، وذلك عن طريق الحصول على تجربة روحية تعطي لهذا المنطق مضمونه وتعدل في شكله، ولتخليص الفلسفة أيضا من المناقشات بين الفلاسفة والمشائين، من أجل إحياء الفلسفة الإشراقية الحقة، والعودة إلى النبع الذي أخذ من معينه الذي لا ينضب كل من «أفلاطون، ومن قبله سقراط وهرمس وأغاذيمن وأنباذوقليس.»
67
ومما يدل على ذلك: (1)
نقد السهروردي لنظرية التعريف في المنطق الأرسطي، ومحاولة وضع تعريف جديد. (2)
نقد السهروردي لمبحث القضايا والقياس. (1) نقد السهروردي لنظرية التعريف في المنطق الأرسطي، ومحاولة وضع تعريف جديد
نقد السهروردي مبحث المعارف والتعاريف في المنطق الأرسطي نقدا هداما، حتى إنه يغير بعض أسماء الألفاظ المنطقية المعروفة، ويضع مكانها أسماء أخرى؛ فيسمي مثلا القسمة الثلاثية المشهورة لدلالة اللفظ على المعنى: التطابق والتضمن والالتزام - يسميها القصد والحيطة والتطفل،
68
وهي ألفاظ تدل على جانب إشراقي. وفي قسمة الألفاظ إلى عام وخاص يسمي اللفظ الخاص اللفظ الشاخص، والمعنى الخاص المعنى الأخص أو المنحط.
69
ولكن الأكثر دلالة على المنطق الإشراقي هو نقد السهروردي للتعريف الأرسطي، وبيان حصول العلم عن طريقه؛ وذلك لاستناده إلى فكرة الماهية؛ أي الجنس والفصل. يقول السهروردي: «سلم المشاءون أن الشيء يذكر في حده الذاتي الذي ليس بجزء لذاتي عام آخر للحقيقة سموه فضلا، ثم سلموا أن المجهول لا يتوصل إليه إلا بالمعلوم؛ فالذاتي الخاص للشيء ليس بمعهود لمن يجهله في موضع آخر، فإنه إن عهد في غيره لا يكون خاصا به، وإذا كان خاصا به وليس بظاهر للحس وليس بمعهود فيكون مجهولا لا معرفة. فإذا عرف ذلك الخاص أيضا أن عرف بالأمور العامة دون ما يخصه فلا يكون تعريفا له. والجزء الخاص ما له على ما سبق فليس العود إلا أن أمورا محسوسة أو ظاهرة من طريق آخر، إن كان يخص الشيء جملتها بالاجتماع.»
70
ويعلق «قطب الدين الشيرازي» على هذا النص فيقول: «لما كان التعريف بالحد عند المناطقة التقليديين الأرسططاليسيين يقوم على الذاتيين؛ أي الجنس والفصل. ولما كان المجهول لا نتوصل إليه إلا بالمعلوم، فإن مبحث التعريف بالحد ينهار من أساسه؛ وذلك لأن الفصل ليس إلا الصفات الكلية التي يتميز بها أفراد حقيقة واحدة عن أفراد غيرها من الحقائق التي يشترك معها في جنس واحد، أو الفصل بمثابة الذاتي الخاص؛ فمتى وجد في غير المحدود ولم يكن خاصا به وغير محسوس فهو مجهول مع الشيء. فلا يمكن التعريف به لوجوب تقدم العلم بالمعرف على المعرف به. أما إذا عرف بالأمور العامة - أي الشاملة له ولغيره فلا يختص به هو بالذات - فلا يكون خاصا كما افترض من قبل.»
71
ثم يستطرد الشيرازي؛
72
حيث يذكر بأن السهروردي يحدد طريقتين أخريين للتعريف، ويكون ذلك: (1)
إما عن طريق الإحساس؛ فالأمور المحسوسة تدرك تمام الإدراك. (2)
وإما طريق الكشف والعيان، وهو أدق الطرق وأوثقها. وإذا كان السهروردي قد توصل إلى أن المشائين يأخذون الذاتي العام؛ أي الجنس، والذاتي الخاص؛ أي الفصل في تعريف الشيء. ولما كان الذاتي الخاص هذا غير معلوم عند من يجهله، فإقحامه في التعريف يناقض القاعدة المشائية القائلة بأن المجهول لا يوصل إليه إلا بالمعلوم، ثم يعطينا سببا آخر لهدمه لنظرية التعريف الأرسطية، بأنه لو افترضنا أنه اتفق للمعروف الإلمام بهذا الذاتي الخاص أو الفصل، فكيف يأمن ألا يكون قد غفل عن ذاتي آخر لا يعرف الشيء إلا به، فتكون المعرفة بالشيء آنذاك ممتنعة، وكذلك تعريف الشيء.
73
وفي هذا يقول السهروردي:
74 «من ذكر ما عرف من الذاتيات لم يأمن وجود ذاتي آخر غفل عنه، وللمستشرح أو المنازع أن يطالبه بذلك. وليس للمعرف حينئذ أن يقول لو كانت صفة أخرى لاطلعت عليها؛ إذ كثير من الصفات غير ظاهرة.» ويستطرد فيقول: «لأن الحقيقة إنما تكون عرفت؛ إذا عرف جميع ذاتها، فإذا انقدح جواز ذاتي، لم تكن معرفة الحقيقة متيقنة، بل تكون مشكوكة.» ويقرر فيقول: «إن صاحب المشائين - أي أرسطو طاليس - اعترف بصعوبة الإتيان بالحد.»
75
وهنا يتضح أن السهروردي يتأدى إلى التصريح بأن الإتيان - كما التزم به المشاءون؛ أي تركيبة من الجنس والفصل - غير ممكن، وفي هذا يقول الشيرازي في تحليل ذلك: «إما بجواز الإخلال بذاتي لم يعرف، وإما بصعوبة تمييز الأجناس والفصول من اللوازم العامة والخاصة، ولهذا عدل المناطقة الأرسططاليسيون إلى الرسوم المؤلفة من الخواص.»
76
ومن ناحية أخرى يهاجم السهروردي التعريف الأرسطي القائم على الجوهر؛ حيث يقول «إن المشائين أوجبوا ألا يعرف شيء من الأشياء؛ إذ الجواهر لها فصول مجهولة. والجوهرية عرفوها بأمر سلبي، والنفس والمفارقات لها فصول مجهولة عندهم، والعرض - كالسواد مثلا - عرفوه بأنه لون يجمع البصر؛ فجمع البصر عرض، واللونية عرفت حالها؛ فالأجساد والأعراض غير مقصورة أصلا. وكان الوجود أظهر شيء لهم، وقد عرفت حاله. ثم إن فرض التصور باللوازم؛ فللوازم أيضا خصوصيات يعود مثل هذا الكلام إليها، وهو غير جائز؛ إذ يلزم منه - أي لا يعرف في الوجود شيء ما. والحق أن السواد شيء واحد بسيط، وقد عقل وليس له جزء آخر مجهول، ولا يمكن تعريفه لمن يشاهده كما هو أو من شاهده استغنى عن التعريف، وصورته في العقل كصورته في الحس؛ فمثل هذه الأشياء لا تعريف لها، بل قد تعرف الحقائق المركبة من الحقائق البسيطة، كمن تصور الحقائق البسيطة متفرقة فيعرف للمجموع بالاجتماع في موضع ما. واعلم أن المقولات التي حرروها كلها اعتبارات عقلية من حيث مقولتيها ومحمولتيها وبعضها المشتق منه؛ أي البسيط الذي منه أخذ المحمول بخصوصه أيضا صفة عقلية كالمضاف والأعداد بخصوصها - كما سبق - وكل ما يدخل فيها الإضافة أيضا، ومنها ما يكون في نفسه صفة عينية. أما دخوله تحت تلك المقولات لاعتبار عقلي، كالرائحة مثلا والسواد، فإن كونهما كيفية أمر عقلي معناه أن هيئة ثابتة كذا أو كذا، وإن كانا في أنفسهما صفتين محققتين في الأعيان. ولو كان كون الشيء عرضا أو كيفية ونحوهما يعد موجودا آخر، لعاد الكلام متسلسلا على ما سبق.»
77
ومعنى هذا أن: (1)
الجواهر لها فصول مجهولة، مثل النفس والمفارقات الأخرى الجوهرية. (2)
الجوهرية معرفة بأمر سلبي يحتاج إلى تعريف. (3)
الأجسام والأغراض غير مقصورة أصلا، بل تعرف بالحس والمشاهدة. (4)
معرفة الجواهر باللوازم، واللوازم لها خصوصيات تعريف بلوازم أخرى إلى ما لا نهاية؛ ومن ثم فلا يمكن أن يعرف شيء في الوجود. (5)
اللونية معروفة، وهي عرضية ولا تحتاج إلى التعريف؛ لأنها شيء بسيط وليس لها جزء آخر مجهول. (6)
هناك فرق بين عالم الأعيان وعالم الأذهان، والمقولات كلها لا توجد إلا في عالم الأذهان، ولا يمكن الانتقال منها إلى عالم الأعيان، الأول عالم التصورات والثاني عالم الحس.
وإذا كان السهروردي أنكر أنه يتكون الحد (التعريف) من الذاتيين (الجنس والفصل)، وقرر أننا لا نصل إليهما إطلاقا، ولا ندركهما، وأن الطريق الوحيد للتعريف هو إما طريق الإحساس، والأمور المحسوسة تدرك تمام الإدراك، وإما طريق الكشف والعيان، وهو أدق الطرق وأوثقها؛ فهو يضع التعريف الكامل لديه ويسميه بالمفهوم وبالعناية، ويحدده بأنه «التعريف بأمور لا تختص آحادها الشيء ولا بعضها، بل تخصه للاجتماع.»
78
وتفسير هذا، كما يعلق عليه قطب الدين الشيرازي، «بأن التعريف يجب بأمور تخصه؛ أي شخص تلك الأمور، ذلك الشيء بأحد وجوه ثلاثة، فإن غير المختص بالشيء يمتنع تعريفه، أما عبارة لتخصيص الآحاد، وهو أن يكون كل واحد من تلك التي هي أجزاء المعرف مختصا بالشيء قولنا في تعريف الإنسان إنه ناطق ضاحك كاتب متفكر، ويعتبر الشارح هذا التعريف إذا ما حاولنا أن نرده إلى صورة منطقية يونانية رسما ناقصا لخلوه عن الجنس.»
79
أما عبارة لتخصيص البعض فهو أن يكون بعض أجزاء المعرف مختصا بالمعرف دون البعض «ويعتبر الشارح هذا التعريف حدا تاما أو رسما تاما إذا كان جزء المعرف غير المختص جنسا قريبا وجزء المعرف المختص إما فصلا وإما خاصة، فإذا أردنا أن نعرف الإنسان قلنا إنه حيوان ناطق أو ضاحك، والتعريف الأول حد تام والثاني رسم تام، ويعتبره حدا ناقصا أو رسما ناقصا، إن كان الجزء المعرف غير المختص جنسا بعيدا، أو إن كان الجزء المعرف المختص إما فصلا وإما خاصة. فإذا أردنا أن نعرف الإنسان قلنا إنه جوهر ناطق ضاحك.»
ويرى الشيرازي هذا أيضا إذا ما أبدلنا الجنس القريب بالعرض فنقول «إنه إما شيء ناطق أو ضاحك.»
80
أما عبارة «للاجتماع» فيشرحها الشيرازي «بأن يكون التعريف بأمور لا تختص آحادها الشيء ولا بعضها بل تخصه للاجتماع - هو أن يختص مجموعها بالشيء من أجزائه.» ويعتبر الشيرازي هذا التعريف رسما ناقصا؛ لأنه بالخاصة المركبة؛ أي إن اختصاصه إنما يحصل بالتركيب، فنقول في تعريف الخفاش إنه طائر ولود - أعم من الخفاش - ومجموعهما ما يختص به.
81
وهنا يتضح أن التعريف يكون على ثلاثة أنواع: (1)
أمور تختص الشيء لتخصيص الآحاد. (2)
أمور تختص الشيء لتخصيص البعض. (3)
أمور تختص الشيء لتخصيص الاجتماع.
وهذا النوع الأخير من التعاريف يعتبره السهروردي أكمل أنواعها. يقول الشيرازي نقلا عن كتاب السهروردي «المشارع والمطارحات»: «ليس عندنا إلا تعريفات تخص الاجتماع؛ كقولنا في تعريف الإنسان: إنه المنتصب القامة البادئ البشرة العريض الأظفار ؛ لأن كلا منهما، وإن جاز وجوده في غيره، لكن المجموع يختص به دون غيره مما نعرفه من الماهيات، وما به يتحصل تميزه. ولا يقدح فيه جواز كون المجموع في ماهية أخرى لا نعرفها، ولا يخفى أن هذه الصعوبة إنما هي في الحد بحسب الحقيقة والماهية لا بحسب المفهوم والعناية، فإنه إذا عبر عن هذا الاصطلاح عليه ولا يجوز تبديله بأن يقال: هو حيوان ناطق عريض الأظفار، فإن كان واحد مما ذكر في الأول ذاتي بحسب المفهوم والعناية، ولا يجوز تبديل وإثبات الحد ولا الزيادة ولا النقصان فيها، وهذا ليس برسم؛ لأنه باللوازم والراسم يعرف أن هذا الاسم ليس لهذه المحمولات، بل لأمر ينتقل الذهن منها إليه بخلاف الحاد، بحسب العناية، فإن الاسم عنده لمجموع هذه المحمولات التي كلها ذاتي بحسب المفهوم.
82 (2) اختصار السهروردي للمقولات العشر الأرسطية
حصر أرسطو فكرة الأجناس العالية في عشرة، وهذه الأجناس العشرة هي: مبحث المقولات. وقد عرف المسلمون هذه المقولات معرفة تامة؛ حيث هاجمها المتكلمون منذ وقت مبكر مهاجمة شديدة، وأدت هذه المهاجمة - من وجهة نظر منطقية - أن نشأ في العالم الإسلامي مشكلة لم يبحثها أرسطو ولا الشراح من بعده، وهي: هل هذه المقولات منطقية أم ميتافيزيقية؟
انقسم المناطقة العرب تجاه هذا مواقف مختلفة: (1)
فابن رشد - وهو يمثل أكبر حد للاتجاه الأرسطي - اعتبر المقولات من منطق أرسطو وعالجها على هذا الأساس، وهو في هذا يحترم نظرية المقولات الأرسطية، ويرى أن عددها فوق النقد والملاحظة.
83 (2)
أما ابن سينا فلم يعتبر المقولات من مباحث المنطق، بل من مباحث الميتافيزيقا؛ حيث إن المقولات عنده تنصب على الأمور الموجودة في الذهن أو في الخارج، ولهذا عالجها في الجزء الثاني من قسم الشفاء، إلا أنه في منطق النجاة لا يعرض لها إلا في ثنايا نظرية التعريف. أما في منطق الإشارات والتنبيهات فيغفلها إغفالا تاما.
84
ولقد سار على نهج ابن سينا معظم المناطقة العرب، وعلى رأسهم الغزالي والسهروردي؛ فالغزالي لم ير أية حاجة إلى ذكرها في معظم كتبه المنطقية، سواء كتابيه «معيار العلم» أو «محك النظر». أما السهروردي فهو نفس الشيء؛ حيث يغفلها إغفالا تاما في القسم الأول من رسالة اللمحات في الحقائق، في حين أنه يعرضها في القسم الثالث من نفس الرسالة (القسم الميتافيزيقي)، كما يعرضها بالتفصيل في مجموعة الحكمة الإلهية (التلويحات والمقاومات والمطارحات)، إلا أنه في كتابه حكمة الإشراق يغفلها تماما.
وهو في هذا يسير على نهج ابن سينا من حيث طبيعتها، إلا أنه يخالفه من حيث عددها.
وقد توسع السهروردي في المشارع والمطارحات في الحديث عن المقولات، ولكن مع ملاحظة أنه في جميع كتبه التي تناول فيها المقولات كان يعرض لها في القسم المتعلق بالميتافيزيقا لا في قسم المنطق، والمقولات الأساسية لديه هي الجوهر والكم والكيف والإضافة والحركة، أما الباقي فترتد إلى هذه، على اعتبار أنها حال من أحوالها، فهو يذكر الأنواع العشرة، ثم يرد بعضها إلى بعض. يقول السهروردي: «أما متى فليست البتة إلا نسبة الشيء إلى زمانه، ومحال أن يعقل متى إلا بالنسبة»، وكذلك ترد الأين إلى النسبة؛ حيث إن الشيء إذا لم يوضع له نسبة إلى المكان لم يفهم الأينية فيه، وحال الكون في المكان كحال الكون في الزمان على ما ذكرنا، وكذلك الوضع يستحيل أن يعقل إلا بنسبة الأجزاء، وعلى ذلك تعد الأين والمتى والوضع نسب. ويذكر أن «متى» يمكن أن ترد إلى «الحركة» إن كانت هيئة أخرى غير الإضافة إلى الزمان؛ فإما أن تكون قارة أو غير قارة، فإن كانت قارة؛ فلا نسبة لها، وإن كانت غير قارة؛ فهي حركة، فمتى في نفسها حركة.»
85
ويشير في رسالة «المشارع والمطارحات» إلى حصر «ابن سهلان الساوي»، صاحب البصائر النصيرية، للمقولات في أربع، وهي «الجوهر والكم والكيف والنسبة»، فيرفضه لإسقاط الحركة التي لا تدخل تحت مقولة جوهر ولا مقولة الكم والكيف ولا النسبة.
86
ويعلق الإمام التهانوي على هذه المشكلة فيقول: اعلم أن حصر المقولات في العشر: «الجواهر والأعراض التسع»، من المشهورات فيما بينهم، وهم معترفون بأنه لا سبيل لهم سوى الاستقرار المفيد للظن. ولذا خالف بعضهم فجعل المقولات أربعة: «الجوهر والكم والكيف والنسبة الشاملة للسبعة الباقية»، والشيخ المقتول (السهروردي) جعلها خمسة؛ فعد الحركة مقولة برأسها. وقال «العرض» إن كان قارا فهو الحركة، وإن كان قارا، فإما ألا يعقل إلا مع الغير فهو النسبة أو الإضافة، أو يعقل بدون الغير، وحينئذ - إما أن يقتضي لذاته القسمة - فهو الكم وإلا فهو الكيف.
87
والتهانوي يعني أن المقولات عند السهروردي هي الحركة والعرض يتشكل بأشكال مختلفة؛ فأحيانا يكون حركة، وأحيانا يكون نسبة، وتارة يكون كما، وطورا يكون كيفا.
وهذا واضح عند السهروردي؛ فهو يورد على حصره للمقولات في خمس، حججا وشواهد شتى في كل من التلويحات والمطارحات، متذرعا في خروجه على العرف الذي درج عليه المناطقة العرب بذريعتين:
الأولى:
أن الفضلاء من شيعة المشائين يعترفون بأنه لا برهان لهم على الحصر.
88
الثانية:
أن المقولات ليست مأخوذة من المعلم الأول أرسطو، بل عن شخص فيثاغوري يقال له أرخوطس. وأرخوطس هذا،
89
كما يرى بعض الباحثين، هو الفيلسوف الرياضي الصقلي الذي تعرف إليه أفلاطون لدى زيارته الأولى إلى صقلية سنة 388 ق. م.
90
ويرى السهروردي أن البحث في المقولات وفي عددها غير ذي عناء، «فإنها قليلة الفائدة في العلوم جدا. ولا يضر التقصير فيها»،
91
وذلك لاختلاف المناطقة في هذه المقولات.
وبذلك يكون قد حصر المقولات العشر في خمس، وهي: الجوهر والحركة والإضافة والكم والكيف، ويعتبر مقولات «متى وأين والملك والوضع» ضروبا من الإضافة، ومقولتي «الفعل والانفعال» ضربا من الحركة. وفي هذا يقول: «متى وأين والملك والوضع لا تعقل إلا وأن تعقل الإضافة قبلها، والفعل والانفعال حركة تضاف تارة إلى الفاعل وأخرى إلى القابل.»
ويتضح لنا أن السهروردي إذا كان قد سار على نهج ابن سينا في معالجة المقولات في الجانب الميتافيزيقي، وليس في الجانب المنطقي؛ فذلك لأنه في المقولات يختلط المنطق بأبحاث ميتافيزيقية، بالإضافة إلى أبحاث لغوية وأنطولوجية وسيكولوجية، وهذا واضح في تناول أرسطو للمقولات عندما كان يصنف الموجودات نفسها إلى جواهر وأعراض. (3) محاولة السهروردي وضع نسق جديد لمنطق القضايا والقياس يرجع أساسا إلى القضية البتاتة
عندما أعلن السهروردي في كتابه حكمة الإشراق أن الآلة الواقية للفكر تم جعلها مضبوطة بضوابط قليلة العدد كثيرة الفوائد، ظهر ذلك واضحا من خلال رفضه للتقسيمات المشهورة لمبحث القضايا من حيث الكم والكيف والجهة، والعمل على ردها جميعا إلى أصل واحد، هو القضية الكلية الموجبة الضرورية، والتي يسميها القضية البتاتة. ويمكن توضيح ذلك بشيء من التفصيل على النحو التالي:
أولا:
من حيث الكيف: يرد السهروردي القضايا السالبة إلى القضايا الموجبة، وذلك كما يذكر الشيرازي: «بأن يجعل السلب في المحيطة جزء المحمول والموضوع، حتى لا يكون لنا إلا قضية، أما جزء المحمول وذلك بأن يجعله بعد الرابطة لأنه إذا وضع قبلها كان قاطعا للنسبة.»
92
يقول السهروردي: «السالبة هي أن تكون سلبها قاطعا للرابطة، وفي العربية ينبغي أن يكون السلب مقدما على الرابطة لينفيها؛ لقولهم: زيد ليس كاتبا.»
93
وهذه القضية عند السهروردي، كما يذكر الشيرازي، هي السالبة، لكن إذا ارتبط السلب بالرابطة، فصار أحد جزءيها (الموضوع والمحمول)، حينئذ يكون الربط الإيجاب باقيا، كأن يقال مثلا: زيد هو لا كاتب. وقد أصبح السلب جزء المحمول؛ فالمحمول الآن ليس إذن كاتب، بل - لا كاتب، وحينئذ تسمى القضية معدولة.
94
إذن رد السهروردي جميع القضايا السالبة إلى قضايا موجبة معدولة الموضوع والمحمول، وعلى هذا تصير القضايا كلها موجبة كلية ضرورية، وهذا يعني رد الفرع إلى الأصل؛ فالسلب فرع والإيجاب أصل، والسهروردي يبحث عن الأصول لا عن الفروع. والمعرفة الإشراقية أصل المعرفة الإنسانية، إذا كان السلب جزءا للموضوع أو المحمول لم يكن قاطعا للنسبة؛ فالإيجاب قطع والسلب ظن، والإيجاب ثابت عيني، أما السلب فهو في الذهن فقط وليس في الخارج؛ فالمعرفة الإشراقية إذن لا سلب فيها، بل كلها إيجاب، وهي لا تسلب صفة الوجود، بل تعطيه صفات الإشراق إيجابا لا سلبا.
95
ثانيا:
وأما من حيث الكم، فيرد السهروردي القضايا الجزئية إلى القضايا الكلية: يقول السهروردي: «في المهملة البعضية الشرطية تقول قد يكون إذا كان (أ ب) كانت (ج د)، أو إما يكون (أ ب) أو (ج د)، والبعض فيه إهمال أيضا؛ فإن أبعاض الشيء كثيرة، فلنجعل لذلك البعض في القياسات اسما خاصا - وليكن مثلا (ج) فيقال: كل (ج) كذا؛ فيصير قضية محيطة فيزول عنها الإهمال المغلط . ولا ينتفع بالقضية البعضية إلا في بعض مواضع العكس والنقيض، وكذا في الشرطيات كما يقال: قد يكون إذا كان زيد في البحر وليس فيه مركب أو سباحة فهو غريق. وكون طبيعة البعض مهملة لا ينكر. وإذا تفحصت عن العلوم لا تجد فيها مطلوبا يطلب فيه حال بعض الشيء مهملا دون أن يعين ذلك البعض؛ فإذا عمل على ما قلنا لا يبقى القضية إلا محيطة؛ فإن الشواخص لا يطلب حالها في العلوم، وحينئذ تصير أحكام القضايا أقل وأضبط وأسهل.»
96
إذن السهروردي اعتبر بعض أحوال المقدم في الشرطية كبعض أفراد الموضوع في الحملية، ولما كانت هذه الأفراد في الحملية مهملة أو بعضية وقد افترضت كلية، فيجب أيضا جعل بعض أحوال المقدم البعضية أو الجزئية في الشرطية كلية. فالسهروردي يتخلص من الإهمال والبعضية بالافتراض، وطريقته في هذا هي أن يحذف إرسال كمية الموضوع أو إهمالها من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه يسمي الأبعاض المحكوم عليها في القضايا الجزئية بأسماء معينة. ثم يحكم على هذا الاسم الافتراضي بحكم شامل لكل فرد من أفراد هذا الاسم الافتراضي، وهذه القضايا الكلية هي وحدها التي يرى السهروردي أنها لا تفيد في العلوم من ناحية، وتضبط أحكام القضايا وتسهلها من ناحية أخرى.
ويلاحظ بعض الباحثين في رد السهروردي القضايا الجزئية إلى القضايا الكلية بعدا إشراقيا؛ حيث يقول الدكتور حسن حنفي: «... وذلك لأن الكل هو الأصل، والجزء هو الفرع، والمعرفة الإشراقية كلية لا جزئية، وفي العلوم لا تطلب البرهنة على القضايا شرطا في التناقض، وبالتالي فهي لا تدخل في أصول القضايا، والكلية لا بد أن تكون محيطة أو حاصرة.»
97
ثالثا:
أما من حيث الجهة: فيرد السهروردي القضايا الممكنة كلها إلى قضايا ضرورية أو بتاتة؛ وذلك لأن الممكن سلب للضروري. والمعرفة الإشراقية معرفة ضرورية وليست ممكنة. ويجعل السهروردي الإمكان والاقتناع جزءا من المحمول، ولم يجعله شرطا للتناقض، والقضية البتاتة هي الوحيدة التي تستخدم في العلوم، أما الممكنة أو الممتنعة فلا تستخدم على الإطلاق، وفي هذا يقول السهروردي ما نصه: «لما كان الممكن إمكانه ضروريا والواجب وجوبه أيضا، كذلك فالأولى أن تجعل الجهات من الوجوب وقسميه أجزاء للمحمولات، حتى تصير القضية على جميع الأحوال ضرورية كما تقول «كل إنسان بالضرورة هو ممكن أن يكون كاتبا، أو يجب أن يكون حيوانا، أو يمتنع أن يكون حجرا»، فهذه هي الضرورة البتاتة، فإنا إذا طلبنا في العلوم إمكان شيء أو امتناعه فهو جزء مطلوبنا، ولا يمكننا أن نحكم حكما جازما بتة إلا بما نعلم أنه بالضرورة كذا، فلا نورد من القضايا إلا البتاتة، حتى إذا كان من الممكن ما يقع في كل واحد؛ أي من الأفراد الشخصية، وقتا ما كالتنفس، صح أن يقال كل إنسان بالضرورة يتنفس وقتا ما، وكون الإنسان ضروري التنفس وقتا ما، يلزم أبدا. وكونه ضروري اللاتنفس في وقت غير ذلك الوقت أيضا، أمر يلزمه أبدا، وهذا زائد على الكتابة، فإنها وإن كانت ضرورية الإمكان ليست ضرورية الوقوع وقتا ما.»
98
وينبغي أن نلاحظ مسألتين على جانب كبير من الأهمية في رد القضايا الممكنة إلى القضايا الضرورية البتاتة.
أما الأولى:
فهي أنه ليس من اللازم أن ندرج الجهة في المحمول في القضايا الضرورية نفسها، لأنه لا حاجة إلى تكرير الجهة، بينما القرينة دالة على الضرورية؛ فليس من اللازم إذن أن نرد كل إنسان هو بالضرورة حيوان إلى القول - بالضرورة كل إنسان يجب أن يكون حيوانا.
99
ويقول السهروردي: «إذا كانت القضية ضرورية كفانا جهة الربط فحسب، أو أن يفرض كونها بتاتة دون إدخال جهة أخرى في المحمول، مثل أن تقول كل إنسان بتة هو حيوان، أما غير هذه القضايا فيجب إدراج الجهة في المحمول.»
100
أما المسألة الثانية:
فهي أنه لا ينبغي التعرض للسلب بعد التعرض للجهات، وتفسير هذا كما يقول الشارح:
101 «أن السلب التام هو ما يكون ضروريا، وهذا السلب الضروري يعتبر إيجابا إذا ما غيرنا مفهومه بمفهوم الامتناع ولفظ السلب بلفظ الامتناع. فكل إنسان ليس بحجر، تنقلب إلى كل إنسان يمتنع أن يكون حجرا؛ فمفهوم الامتناع هنا أوقع السلب تحت الإيجاب. وعلى هذا لم تكن ثمة حاجة إلى تغيير السلب بعد تغيير الجهة، وهذا ما يحدث أيضا في القضايا الممكنة؛ أي في السلب غير التام، أو السلب الإمكاني؛ فإن السلب في القضية الممكنة ينقلب إلى موجبة، وذلك بمجرد إدراج الجهة في المحمول.» يقول السهروردي: «لنا ألا نتعرض للسلب بعد تعرضنا للجهات - فإن السلب التام من الضروري، وقد دخل تحت الإيجاب إذا ورد الامتناع على ما ذكرنا، وكذا الإمكان. واعلم أن القضية ليست هي باعتبار مجرد الإيجاب قضية، بل وباعتبار السلب أيضا، فإن السلب أيضا حكم عقلي سواء عبر عنه بالرفع أو بالنفي، فإنه حكم في الذهن ليس بانتفاء محض، وهو إثبات من جهة أنه حكم بالانتفاء، والشيء لم يخرج عن الانتفاء والثبوت، أما النفي والإثبات في العقل فهما أحكام ذهنية حالهما شيء آخر؛ فالمعقول إذن لم يحكم عليه بحال ما فليس بمنفي ولا بمثبت، بل هو نفسه إما منتف أو ثابت.»
102
يكاد السهروردي يعترف هنا بالسلب؛ فهو يعتبره حكما عقليا، ولكنه يعود فيقول: «إنه إثبات من حيث إنه حكم بالانتفاء - وكل حكم بالإثبات أو بالنفي فهو إثبات.»
103
والسبب الذي يدعو السهروردي إلى الاعتراف بالسلب في هذه الصورة هو أهمية السلب في مبحث التناقض. يقول صدر الدين الشيرازي في تعليقاته على شرح قطب الدين الشيرازي لحكمة الإشراق: «إنا معشر الإشراقيين لسنا ممن يجوز أن يطوي جانب اعتبار السلب طيا، ويهمل جانب النقائض إهمالا، فيصير مساغا لتطرق الأغاليق إلى الأذهان، ومحلا لولوج شياطين الأوهام بشرورها وكلماتها إلى سماء الحكمة المحكمة بدعائم البراهين المنورة بإشراقات العقل، بل الواجب اعتبار العقود السالبة البسيطة أولا، ثم عطف النظر إلى إيجاب سلوبها للموضوعات، وجعل الموجبات التي محمولاتها تلك السوالب ضروريات بتاتات.»
104
فالسبب الذي يدعو السهروردي وغيره من الحكماء الإشراقيين إلى اعتبار السلب هو أن له عملا مهما في مسألة التناقض، وهي مسألة سوف نعرض لها بالتفصيل.
ولكن اعتبار السلب هذا وضعه السهروردي في صورة الإيجاب، بل واعتبره إثباتا، وعلى هذا يمكن القول بأن السهروردي لم يعترف في باب الكمية والكيفية والجهة إلا بقضية واحدة، وهي القضية الكلية الموجبة البتاتة. يقول صدر الدين الشيرازي: «الشيخ أراد في هذا الكتاب (يعني السهروردي)، في كتابه حكمة الإشراق، أن يرد جميع القضايا على اختلاف أصنافها وتباين أقسامها إلى القضية الكلية الموجبة الضرورية البتاتة بناء على أن المعتبر في العلوم الحقيقية هو هذه القضية دون غيرها في كيفية ذلك الرد، أما في باب الكمية فبإزالة الإهمال والبعضية بالافتراض، وأما في باب الكيفية فبالعدول أو السلب إذا صار جزء لا حدي إلى شيئين لم يكن قاطعا للنسبة فصارت القضية موجبة. وأما في باب الجهة فيجعل الجهات منه الإمكان والتوقيت وغيرها جزءا للمحمول، حتى تصير القضية دائمة ضرورية.»
105
وإذا كان السهروردي رد جميع القضايا إلى القضية الكلية الموجبة الضرورية البتاتة، فقد كانت نتيجة هذا الرد تنطوي على جانب عظيم من الأهمية في مباحث ثلاثة في المنطق: (1)
مبحث التناقض. (2)
مبحث العكس المستوي. (3)
مبحث القياس.
مبحث التناقض
يذكر السهروردي أن التناقض هو اختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب لا غير،
106
وهو يوافق المناطقة في هذا التعريف، ويوافقهم أيضا في اعتبار شروط التناقض الثمانية: وهي:
107 (1)
عدم اختلاف الموضوع. (2)
عدم اختلاف المحمول. (3)
عدم اختلاف الزمان. (4)
عدم اختلاف المكان. (5)
عدم اختلاف القوة والفعل. (6)
عدم اختلاف الكل والجزء. (7)
عدم اختلاف الشرط. (8)
اختلاف في الإضافة.
ولكن يبدأ الاختلاف بين السهروردي والمناطقة المشائين حين يضيف المناطقة في القضايا المحصورة شرطا، وهو الاختلاف في الكلية والجزئية؛ فيكون نقيض «ك م»-«ج س» ونقيض «ك س»-«ج م»، وهذا الشرط لازم عند المناطقة؛ لأنه بدونه يمكن أن تكذب القضيتان معا، مثل الكليتين في مادة الإمكان، كما نقول: «كل إنسان كاتب ولا واحد من الناس بكاتب-وأن يصدقا معا.»
108
مثل الجزئيتين في مادة الإمكان أيضا. ومن الأمثلة على هذا: «بعض الناس كاتب-بعض الناس ليس بكاتب».
109
والحالة الأولى :
أي كذب القضيتين معا يعتبر تضادا؛ لأن التضاد يكون بين «ك م» و«ك س». وحكم القضيتين المتضادتين أنهما لا تصدقان معا، ولكنهما قد تكذبان معا.
110
والحالة الثانية:
دخول تحت التضاد؛ لأنهما بين «ج م» و«ج س»، وهاتان القضيتان قد تصدقان معا. وحكم القضيتين الداخلتين تحت التضاد أنهما لا تكذبان معا، ولكن قد تصدقان معا؛ فعدم اشتراط الاختلاف في الكمية يخرج هذه القضايا عن أن تكون تناقضا، إلى أن تكون صورا أخرى من الاستدلالات المباشرة - فلا بد إذن من إضافة هذا الشرط.
111
ولكن السهروردي لم يقبل إضافة هذا الشرط التاسع، كما أنه لم يقبل إضافة شرط عاشر أيضا، هو الاختلاف في الجهات؛ فقال: «لا يحتاج إلى زيادة شرط، بل يسلب ما أوجبناه بعينه.»
112
هذه هي عملية التناقض عند السهروردي «أن يسلب المستدل ما أوجبه بذاته بدون تغيير في الكمية.»
113
وهذا ما أملاه عليه مذهبه العام الذي يقرر أن القضية المستعملة في العلوم هي القضية الكلية الموجبة الضرورية البتاتة. يقول الشارح: «كقولنا في القضية البتاتة: كل فلان بالضرورة هو ممكن أن يكون بهمانا، نقيضه ليس بالضرورة كل فلان هو ممكن أن يكون بهمانا. وهكذا في غيره إذا قلنا لا شيء من الإنسان بحجر مثلا، نقيضه ليس لا شيء من الإنسان بحجر، وقد سلب ما أوجبناه بعينه في النقيضين.»
114
فالتناقض إذن عند السهروردي هو إدخال حرف السلب لا غير من غير تغيير في جهة أو في كمية؛ فالقضية الأولى التي يعتبرها المشاءون «ك م» نقيضها عندهم «ج س».
والقضية الثالثة «ك س» نقيضها «ج م»، أما السهروردي فاعتبر «نقيض كل من تلك القضيتين إدخال حرف السلب على القضية. ولكن يلزم من القضية النقيض لوازم جزئية، فإذا قلنا بالضرورة كل إنسان حيوان فنقيضه ليس كل إنسان بالضرورة حيوانا، ويلزم من هذا النقيض بعض الإنسان ليس بحيوان بالإمكان. فهذه القضية الجزئية لازم من لوازم القضية ليس كل إنسان حيوانا، وإذا قلنا لا شيء من الإنسان بحجر بالضرورة، فنقيضه ليس لا شيء من الإنسان بحجر بالضرورة، ويلزم من هذا النقيض بعض الإنسان حجر بالإمكان.»
115
يقول السهروردي: «لزم من سلب الاستغراق في الإيجاب تيقن سلب مع جوار الإيجاب في البعض، ومن سلب الاستغراق في السلب تيقن سلب البعض.»
116
وهذه هي فائدة القضية الجزئية، وقد اعترف السهروردي بفائدة هذه القضية في بعض نواحي التناقض والعكس المستوي فقال: «ولا ينتفع بالقضية البعضية إلا في بعض مواضع العكس والنقيض.»
117
ولكن هذه الفائدة هي أنها مجرد لوازم للنقيض، وليس لها بعد ذلك ثمة فائدة في التناقض؛ لأنه ليس لها هي نفسها نقيض. يقول السهروردي: «القضية التي خصصت بالبعض لم يكن لها من البعض نقيض.»
118
أي ليس لها نقيض من جنسها؛ لأننا إذا أدخلنا حرف السلب على البعضية أدى هذا الإدخال إلى تغاير الموضوعين، فلا يصح أن نقول: «بعض الحيوان إنسان، ليس بعض الحيوان إنسانا»؛ لأنه مهمل التصور؛ فيجوز أن يكون البعض الذي هو إنسان غير البعض الذي ليس بإنسان. فلم يكن موضوع القضيتين في السلب والإيجاب لا غير، ولكن الطريقة التي تستطيع الحصول على نقيض الجزئية هي أن نردها إلى محيطة، والمحيطة لها نقيض من ذاتها لا يختلف معها إلا في الكيفية.
119
يقول السهروردي: «إذا عينا البعض وجعلنا له اسما كما ذكرنا من جعله مستغرقا كان على ما سبق.»
120
وهنا يتضح أن رد السهروردي القضايا جميعا إلى القضية الكلية الموجبة الضرورية له أثر على مبحث التناقض عنده؛ حيث خالف المناطقة المشائين في هذا الأمر، كما أنه لم ينكره إطلاقا لفائدته في التناقض، كما أنه اعترف بفائدة الجزئيات في بعض مواطن التناقض؛ لذا يرى السهروردي أن مبحث التناقض - كما يعرضه - يغني عن كثير من الأبحاث التي وضعها المشاءون، ويخلص المنطق من كثير التطويلات التي لا فائدة لها.
121
وهكذا نجد السهروردي في مبحث القضايا لم يخرج عن نطاق المنطق الأرسطي ونسقه العام، وإن قد غير العديد من شروطه، وذلك بهدف توظيف المنطق في اتجاه تربوي ليجعل المنطق ممهدا للإشراق، وإن كانت الفكرة الأساسية التي استند إليها في خروجه عن هذا المنطق الأرسطي، قد استمدها من هذا المنطق ذاته؛ أي فكرة العدول، فنقلها من نطاق الكيفية إلى نطاق الكمية والجهة، لتصبح القضايا كلها كلية موجبة ضرورية، وهذا ما أثر على مبحث النقض والعكس، وسيظهر أثره واضحا على مبحث القياس أيضا.
أما مبحث العكس المستوي
إن السهروردي يعترف أيضا بفائدة القضية الجزئية ولزومها؛ وذلك أن العكس كما يقول: «هو جعل موضوع القضية بكليته محمولا، والمحمول موضوعا، مع حفظ الكيفية، وبقاء الصدق والكذب بحالهما، فإذا أردنا أن نأتي بعكس القضية كل إنسان حيوان لم نستطع أن نقول: كل حيوان إنسان؛ وذلك لأن الموضوع في القضية الأولى أخص من المحمول؛ لأن المحمول أعم من الموضوع. ولكن في العكس حملنا المحمول على الموضوع؛ أو بمعنى أدق حملنا الخاص على كل أفراد العام، فخرجنا إذن على شرط أساسي من شروط العكس، وهو عدم استغراق حد في العكس لم يكن مستغرقا في الأصل. فحيوان لم يستغرق في الأصل واستغرقت في الفرع.»
122
ويعترف السهروردي بهذا، ولكن يبدأ الخلاف بينه وبين المناطقة المشائين في مسألة عكس القضية الموجبة الضرورية؛ فالسهروردي يرى أن عكس القضية الموجبة الضرورية قضية موجبة ضرورية، سواء كانت جهتها قبل أن ترد إلى ضرورية إمكانا أو امتناعا أو وجوبا؛ فالقضية: بالضرورة كل إنسان هو ممكن أن يكون حيوانا، عكسها: بالضرورة بعض ما يمكن أن يكون كاتبا فهو إنسان. والقضية: بالضرورة كل إنسان يجب أن يكون حيوانا - تعكس إلى: بالضرورة بعض ما يمتنع أن يكون حجرا فهو إنسان.
123
فالسهروردي إذن ينقل الجهة كما هي إلى العكس لتصبح القضايا كلها ضرورية بتاتة، وفي هذا يقول ما نصه: «عكس الضرورية البتاتة الموجبة ضرورية بتاتة موجبة، مع أي جهة كانت؛ فللمحيطة وللجزئية انعكاس على أن شيئا من المحمول يوصف بالموضوع مهملا.»
124
ويعلق قطب الدين الشيرازي على هذا؛ حيث يذكر أن المناطقة المشائين لم يوافقوا على عكس الموجبة الضرورية ضرورية؛ لأنه قد يجوز أن يكون المحمول ضروريا للموضوع في الأصل: كل كاتب إنسان والمحمول غير ضروري للموضوع في العكس (كل إنسان كاتب )؛ لأنه يكون بالمكان لا بالضرورة، ولهذا اعتبروا عكس القضية الضرورية الموجبة قضية ممكنة موجبة. أما السهروردي فلم يقبل هذا؛ لأن القضية الوحيدة عنده في العلوم هي القضية البتاتة الضرورية. غير أن السهروردي لم يعكس القضية: بالضرورة كل كاتب يجب أن يكون إنسانا إلى القضية: بالضرورة كل إنسان يجب أن يكون كاتبا، بل إلى: بالضرورة بعض ما يجب أن يكون إنسانا فهو كاتب.
125
أما عكس السالبة الكلية الضرورية عند السهروردي فهي سالبة كلية ضرورية؛ حيث يرى السهروردي أنه إذا كان بالضرورة لا شيء من الإنسان بحجر. عكسها: لا شيء من الحجر بإنسان. ويعلق الشيرازي على هذا فيقول: «إذا كان السهروردي قرر من قبل أنه يلزم من سلب الاستغراق في السلب تيقن الإيجاب في البعض، وهذه القضية إذا ما عكست كانت - بعض الإنسان حجر - وينتج عن هذا كذب الأصل والعكس. أما الأصل، وهو بالضرورة لا شيء من الإنسان بحجر، فقد كذب لصدق بعض الإنسان حجر، أما العكس: وهو لا شيء من الحجر بإنسان لصدق بعض الحجر إنسان.»
126
ومن ناحية أخرى يقول السهروردي إن «الضرورية البتاتة إذا كان الإمكان جزء محمولها، فإن معها سلبا ينقل أيضا، كقولهم - بالضرورة كل إنسان هو ممكن ألا يكون كاتبا، فهي بتاتة موجبة عكسها بالضرورة شيء مما يمكن ألا يكون كاتبا فهو إنسان.»
127
ويستطرد السهروردي فيقول: «إن السلب ينبغي أن ينقل مع الإمكان؛ لأن العكس جعل المحمول بكليته موضوعا والموضوع بكليته محمولا. وقد سلبنا في الكلية السالبة المحمول عن الموضوع سلبا كليا؛ فيجب أن ينقل هذا السلب الكلي في العكس لأنه جعل الموضوع محمولا بكليته لا يجزأ منه.» والسهروردي يتفق مع المناطقة المشائين في أن عكس السالبة الكلية - أي «ك س» - سالبة كلية - أي «ك س».
غير أن السهروردي يختلف معهم أيضا في مسألة الجهة، فهم لا ينقلون الموجبة الضرورية - وهي التي تعود إليها سالبة السهروردي الكلية - إلى موجبة ضرورية، ولكنهم ينقلونها إلى موجبة ممكنة.
128
أما السالبة الجزئية، فيعلق عليها قطب الدين الشيرازي بقوله بأنها «لا تنعكس عند المناطقة المشائين.» ولكن السهروردي يرى أنه من الممكن انعكاسها؛ فإذا قلنا ليس بعض الحيوان إنسانا، وعينا هذا البعض من الحيوان الذي ليس بإنسان؛ وذلك بأن نجعله فرسا أو غيره من الحيوانات غير الإنسانية، وجعلناه كليا فقلنا: لا شيء من الفرس بإنسان، استطعنا ببساطة أن نعكس فنقول: لا شيء من الإنسان بفرس، ونستطيع كذلك أن نعكس الجزئية السالبة؛ وذلك بجعل السلب جزء المحمول؛ فليس بعض الحيوان إنسانا نجعلها بعض الحيوان هو غير إنسان، ثم نعكسها إلى بعض غير الإنسان حيوان، أما في الحالة الأولى فإننا رددنا القضية الجزئية السالبة إلى قضية كلية سالبة؛ وذلك بأن نعين النوع الذي سلب عنه المحمول، ونعتبره كليا ثم نسلب عنه المحمول سلبا كليا. أما في الحالة الثانية؛ فرددنا القضية الجزئية الموجبة؛ وذلك بأن نجعل السلب بعد الرابطة؛ أي مرتبطا بالمحمول، والسهروردي يعتبر السلب الحقيقي ما كان مرتبطة أداته بالرابطة، وتلك الحالتان هما اللتان يمكن فيهما انعكاس الجزئية السالبة.
وأخيرا يرى السهروردي الأمر أن «ذكر النقيض والعكس والمهملات البعضية لا فائدة منه على الإطلاق، ولكن ينبغي ذكرها لمعرفة القوانين المنطقية اقتداء بأصحاب تلك الصناعة من المتقدمين، بل من المتألهين.»
129
أما القياس
يعرف السهروردي القياس بأنه عند المناطقة: «قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنه لذاته قول آخر.»
130
غير أن السهروردي لا يعرض لقواعد القياس، وأغلب الظن أنه ربما كان يعتقد أن قواعد القياس ليست هي قواعد بالمعنى الدقيق تضمن لنا صحة الحجة القياسية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن هذه القواعد تتضح بصورة أدق حين نتناول أشكال القياس على حدة، لنبين القواعد اللازمة لكل من الأشكال حتى يأتي الضرب في القياس منتجا. وهذا ما قام به السهروردي بالفعل؛ حيث شرع في مبحث القياس إلى عرض أشكال القياس، وهذه الأشكال كما يقول السهروردي: «الحد الأوسط إما أن يكون محمول الصغرى وموضوع الكبرى ويسمى «الشكل الأول» لظهوره في نفسه، ويتبين غيره به، وهو الأشرف لإنتاجه جميع المطالب من المحصورات الأربعة، وأما موضوع الصغرى ومحمول الكبرى (الشكل الرابع) فهو بعيد عن الطبع لا يتفطن لقياسته إلا بصعوبة وكلفة، وأما محمولها جميعا وهو الثاني (الشكل الثاني) وموضوعها وهو الثالث (الشكل الثالث)، ويكاد الطبع يتفطن لقياستهما دون الحاجة إلى بيان ما على ما سنذكره واشتراك الثلاثة في أن لا نتيجة فيها عن الجزئيتين، ولا عن سالبتين، ولا عن سالبة صغرى وجزئية كبرى، إلا في سوالب هي في حكم الموجبات، وأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين في الكيف والكم، وما استثني من الكيف قائما في سوالب هي في حكم الموجبات بلا حاجة إلى الاستثناء.»
131
من هذا النص يتضح أن السهروردي يجاري المناطقة المشائين، وخاصة ابن سينا في أن أشكال القياس ثلاثة وهي:
الشكل الأول:
وهو أكمل الأشكال وأكثرها صحة ومشروعية.
الشكل الثاني:
وهو لا ينتج إلا السوالب، ولذلك فهو يبرهن على القضايا السالبة التي تبرهن عن استحالة انتماء للمحمول؛ فهو يستبعد كل منهما الآخر.
الشكل الثالث:
وهو لا ينتج إلا الجزئيات، حتى إذا كانت المقدمتان قضيتين كليتين، وهو يبرهن على أمثلة جزئية مستنتجة من القضايا العامة، محتملة الصدق أو الكذب. ولذلك يعبر هذا الشكل عن العرضية والاحتمال في انتماء الموضوع للمحمول.
الشكل الرابع:
هذا الكل يسقطه السهروردي من قائمة الأشكال؛ وذلك لكونه «السياق البعيد الذي لا يفطن لقياسته من نفسه ولذلك حذف.»
132
وهنا يتضح أن السهروردي يخالف المناطقة المشائين في رد كل أضرب أشكال القياس إلى الضرب الأول من الشكل الأول. ويمكن شرح ذلك بالتفصيل على النحو التالي:
الشكل الأول
ويقول السهروردي عنه بأنه «أكمل الأشكال» - كما بينا آنفا - فهو «الأول المقام في الاقترانيات ما يكون الأوسط محمول المقدمة الأولى فيه، فهو السياق التام.»
133
والسهروردي في الشكل يرد القضية السالبة إلى الموجبة، والقضية الكلية إلى القضية الجزئية. على أن يتكون هذا الشكل من ضرب واحد مكون من قضيتين موجبتين بتاتين - كل «ج ب» بتة وكل «أ ب» بتة فينتج عنهما كل «ج أ» بتة. ويقول السهروردي: «اعلم أن الفرق بين السلب إذا كان في القضية الموجبة وبين السلب إذا كان قاطعا للنسبة الإيجابية، هو أن الأول لا يصح على المعدوم؛ إذ لا بد للإثبات من أن يكون على ثابت، بخلاف الثاني؛ فإن النفي يجوز على المنفي، ولكن على هذا الفرق يكون في الشخصيات لا في القضايا المحيطة وجملة التصورات؛ فإنك إذا قلت: «كل إنسان هو غير حجر» أو «لا شيء من الإنسان بحجر» هو حكم على كل واحد من الموصوفات بالإنسانية متحققة حتى يصح أن تكون موصوفة بها؛ فإذا زال الفرق فيجعل السلب في المحيطة جزء المحمول أو الموضوع حتى لا يكون لنا إلا قضية موجبة، ولا يقع الخبط في نقل الأجزاء في مقدمات الأقيسة، ولأن السلب له مدخل في كون القضية السالبة قضية؛ إذ هو جزء التصديق على ما سبق فنجعله جزءا للموجبة، كيف وقد دريت أن إيجاب الامتناع يغني عن ذكر السلب الضروري والممكن إيجابه وسلبه سواء. والسياق الأتم ضرب واحد كل «ج ب» بتة وكل «ب أ» بتة فينتج كل «ج أ». وإذا كانت المقدمة جزئية فنجعلها مستغرقة مثل «أن يكون بعض الحيوان ناطقا» و«كل ناطق ضاحك» مثلا - فلنجعل لذلك البعض مع قطع النظر عن الناطقية اسما كان معها وليكن «د» فيقال «كل د ناطق» وكل ناطق كذا على ما سبق، ثم لا يحتاج أن نقول: «بعض الحيوان د» على أنه مقدمة أخرى لأن «د» اسم ذلك الحيوان فكيف يحمل اسم حيوان، فهو غير حجر، ينتج أن كل حيوان هو غير حجر، فلا يحتاج إلى تكثير ضروب وحذف بعض واعتبار بعض.»
134
من هذا النص يتضح أن السهروردي يتخلص من السلب في المقدمة السالبة بجعله جزءا للمحمول حتى تنقلب المقدمات السالبة إلى موجبة، كما يتخلص السهروردي من الكمية البعضية في المقدمات الجزئية بواسطة الافتراض؛ وذلك في رده للقضية الجزئية إلى قضية كلية.
أما عن الجهات، فيرى السهروردي أنه ينبغي أن تجعل جزء المحمول حتى تكون كلها بتاتة. وفي هذا يقول: «لما كان الطرف الأخير يتعدى إلى الطرف الأوسط بتوسط الأوسط؛ فالجهات في القضية الضرورية البتاتة تجعل جزء المحمول في المقدمتين أو إحداهما فيتعدى إلى الأصغر، مثل أن كل إنسان بالضرورة هو ممكن الكتابة، وكل ممكن الكتابة فهو بالضرورة واجب الحيوانية أو ممكن الشيء - ولا يحتاج إلى تطويل كثير من المختلطات.»
135
وينتهي السهروردي إلى القول بأن الضابط الإشراقي مقنع، والسياقان الآخران - يقصد الشكلين الثاني والثالث - ذنابتان لهذا السياق.
136
وليس معنى هذا أن السهروردي لم يبحث هذين الشكلين، بل بحثهما في ضوء مذهبه.
137
وما فعله السهروردي في الشكل الأول سيكرره في الشكلين الآخرين؛ إذ هما حسب تعبيره، كما أوردنا عنه، ذنابتان لهذا السياق، ورغم كونهما للسياق الأول، إلا أنه سيبحثهما من خلال رأيه في القضايا.
الشكل الثاني
يرى السهروردي أن هذا الشكل إذا كان ينتج سوالب عند المناطقة المشائين، فهو عند الإشراقيين لا ينتج إلا ضروريات بتاتات. يقول السهروردي: «إذا كانت قضيتان محيطتان مختلفتا الموضوع يستحيل إثبات محمول على الآخر من جميع الوجوه أو من وجه واحد، فاعلم يقينا أنه لو كان أحدهما مما يتصور أن يدخل تحت الآخر ما استحال عليه محموله. إذن أن يوصف أحدهما بالآخر أيهما جعل هو موضوعا في النتيجة وأيهما حمل؛ فالنتيجة ضرورية بتاتة.»
138
أما إذا كان هناك في مقدمات ضروب هذا الشكل مقدمة جزئية، فينبغي أن تقلب كلية. يقول السهروردي: «إن كان في هذا السياق جزئية فلتجعل كلية.»
139
والسهروردي في هذا يرد الضربين الثالث والرابع
baroco ،
festino
من هذا الشكل إلى الضربين الأولين
camestres ،
cesare . ولم يكن هذا هو الاختلاف الوحيد بين السهروردي وأرسطو في هذا الشكل، بل حاول أن يرد قضايا الضربين الأول والثاني إلى قضيتين موجبتين
barbara .
وأما طريقته في الرد فهو أن يجعل الجهات والسلوب جزء المحمول؛ فالمقدمة: كل إنسان بالضرورة ممكن الكتابة، جعل فيها الإمكان جزء المحمول. وكل حجة بالضرورة ممتنع الكتابة. في هذه المقدمة جعل السلب الضروري جزء المحمول؛ وذلك بأن أبدل السلب بالامتناع. ينتج من هاتين المقدمتين السالفتين غير متحد؛ فهو في القضية الأولى: ممكن الكتابة، وفي القضية الثانية: ممتنع الكتابة.
140
أما عند أرسطو فينبغي أن يكون المحمول - أي الحد الأوسط - في المقدمتين واحدا. غير أن السهروردي «لا يشترط اتحاد المحمول من جميع الوجوه في هذا السياق».
141
ويلاحظ أيضا أن المقدمتين غير مختلفتين في الكيف بل هي موجبة. يقول قطب الدين الشيرازي: «إن هذا الشكل لا يشترط اختلاف مقدمتين في الكيف عند الإشراقيين بخلاف المشائين.»
142
ويعلق صدر الدين الشيرازي في صدر تعليقاته على كلام قطب الدين الشيرازي في شرحه لحكمة الإشراق، فيذكر أن الإشراقيين يقررون اختلاف المقدمتين في الكيف بأحد الوجهين؛ أي أن تكون إحداهما موجبة محصلة والأخرى سالبة بسيطة، أو تكونا موجبتين لكن يكون محمول إحداهما فقط مشتملا على سلب.
143
وأما عن اشتراك المحمول في المقدمتين فيقول السهروردي: «إنما يعتبر الشركة فيما وراء الجهة المجعولة جزء المحمول.»
144
فقد اشترك المحمولان المذكوران في المقدمتين الآنفتي الذكر في الكتابة، ولكن اختلفت الجهة، فكانت إحداهما إمكانا والأخرى امتناعا؛ أي أن تكون الجهة التي تجعل جزء محمول المقدمة الصغرى مختلفة عن الجهة التي تجعل جزءا من محمول المقدمة الكبرى؛ فالمحمولان إذن يتغايران في الجهة. ويقول السهروردي: «يجوز تغاير جهتي القضية فيه.»
145
والحد الأوسط لا ينبغي على هذا الأساس تكراره بتمامه في هذا الشكل؛ لأنه يراعى فيه أن هناك سلبا في إحدى المقدمتين تحت صورة الامتناع، كما أن الجهة قد تكون امتناعا في أحدهما وإمكانا أو إيجابا في الآخر، يكفي إذن في الإنتاج أن يتحد المحمولان أو الحد الأوسط فيما وراء الجهة.
146
إذن يختلف المنطق الإشراقي عن المنطق المشائي في الشكل الثاني؛ وذلك في ثلاثة وجوه: (1)
أنه ينقل المحمول في الشكل الثاني بتمامه من المقدمة الصغرى إلى المقدمة الكبرى بدون اختلاف في الكم أو الكيف أو الجهة. (2)
أنه لم يبين في صورة هذا الشكل الاتحاد أو نقل الحد الأوسط بتمامه من الصغرى إلى الكبرى. (3)
أنه لم يوافق في شروط هذا الشكل على اختلاف المقدمتين في الكيف، بل رد السالبة في كل حالة إلى موجبة.
والسهروردي يرى أنه يمكن بيان هذا القياس بالشكل الأول فيقول: «ومخرجه من السياق الأول أن هذين القولين قضيتان استحال على موضوع إحداهما ما أمكن على موضوع الأخرى؛ فموضوعاتهما بالضرورة متبائنان.» ينتج أن «هذين القولين قضيتان موضوعهما بالضرورة متبائنان.»
147
ويلزم أيضا عن تباين الموضوعين واختلافهما: (أ)
إذا كان المحمول لإحدى المقدمتين في البتاتة ممكن النسبة، مثل: «كل إنسان بالضرورة كاتب»، وأن محمول المقدمة الأخرى واجب، مثل: «كل حجر بالضرورة غير كاتب» فيلزم «أن الإنسان بالضرورة غير حجر». (ب)
إذا كان محمول إحدى المقدمتين في البتاتة ممكن النسبة، ومحمول الأخرى ممتنع النسبة: مثل كل إنسان بالضرورة ممكن الكتابة، وكل حجر بالضرورة فهو ممتنع الكتابة، فينتج أن الإنسان بالضرورة ممتنع الحجرية؛ فاختلاف النسبة في الجهة ينتج تباين الموضوعين.
148
وهذا ما يؤيد النتيجة التي استخلصها السهروردي ببيانه لهذا الشكل بواسطة الشكل الأول، وهذه النتيجة هي «أن هذين القولين قضيتان موضوعهما بالضرورة متبائنان».
وينتهي السهروردي من هذا الشكل بقوله: «إنه ترك التطويل على أصحابه في الضروب والبيان والخلط.»
149
أي يغني هذا عن تطويل المنطق الأرسطي في هذا الشكل، واعتبار ضروبه أربعة، وهي في منطق الإشراق عند السهروردي واحدة.
أما عن الشكل الثالث
ويعرفه السهروردي بقوله: «إذا وجدنا شيئا واحدا معينا كالأوسط وصفا لمحمولين، علمنا أن شيئا من أحد المحمولين موصوف بالمحمول الآخر ضرورة.» وهذا التعريف للشكل الثالث يتفق مع التعريف الأرسطي له؛ فالحد الأوسط هو موضوع في المقدمتين. والنتيجة أن شيئا من المحمولين موصوف بالمحمول الآخر. ومعنى هذا أن النتيجة لا بد أن تكون جزئية. والأمثلة التي يعطيها السهروردي تثبت هذا، فمثلا «أن يكون زيد حيوانا أو زيد إنسانا» علمنا أن شيئا من الحيوان إنسان، بل وشيء من الإنسان حيوان على أي طريق كان. وإذا كان هذا الشيء المعين معنى عاما، فيكون مستغرقا كقولنا: كل إنسان حيوان وكل إنسان ناطق. فصار هذا الحصر شيئا معينا موصوفا بالأمرين فيلزم أن يكون شيء من أحدهما هو الآخر.
150
وهذه النتيجة هي بعض الحيوان ناطق. بل إن السهروردي يعترف صراحة بأن النتيجة في ضروب الشكل الثالث جزئية فيقول: «يلزم اتصاف كل واحد من المحمولين بالآخر في هذا السياق، فإن المحمولين أو أحدهما ، ربما يكون أعم من الموضوع الذي هو الأوسط. والطرف الآخر فلا يلزم اتصاف كل أحدهما بالآخر، بل شيء من أحدهما هو الآخر.»
151
وإذا كانت النتيجة جزئية، فلا بد أن تكون إحدى المقدمتين جزئية؛ لأن النتيجة تتبع الأخس من المقدمات.
وعلى هذا لا يشترط في هذا الشكل كلية المقدمتين - تبعا لمذهب السهروردي العام الذي يقرر أن القضايا ينبغي أن تكون كلها كلية - بل تكفي فيه كلية إحدى المقدمتين: كل إنسان حيوان، وبعض الإنسان كاتب، تنتج بعض الحيوان كاتب. يقول السهروردي: «وإن كان إحدى المقدمتين مستغرقة والأخرى غير مستغرقة بعد الشركة في الموضوع، فيجوز أن يخلو من الكل، ومن يلزم اتصاف شيء من أحد المحمولين الآخر. أما عن السلب، فيتفق السهروردي فيه مع مذهبه العام فيقرر نقله إلى المحمول، حتى تصير القضايا كلها موجبة: كل إنسان حيوان، وكل إنسان فهو غير الحجر، لينتج بعض الحيوان هو غير الحجر. وإذا ما جعل السلب جزء المحمول، كانت القضايا في هذا السياق موجبة. ولم تعد ثمة حاجة إلى سالب. وكان من الممكن حمل كل من المحمولين على الموضوع بالإيجاب - ونتج عن هذه نتيجة موجبة؛ فمثلا كل إنسان هو طائر، وكل إنسان هو لا فرس. أنتج أن شيئا مما يوصف بأنه لا طائر هو لا فرس. ويرى السهروردي أننا إذا جعلنا الجهات والسلوب أجزاء للمحمول في المقدمتين، استغنينا عن ضروب كثيرة. ثم يقول: «مدار هذا الشكل هو تيقن اتصاف شيء واحد بشيئين، ومخرجه عن الشكل الأول أن هذين القولين قضيتان فيهما شيء ما وصف بكلا المحمولين، وكل قضيتين فيهما شيء ما وصف بكلا المحمولين، فبعض موصوفات أحد المحمولين يوصف بالآخر، فهذان القولان هكذا حالهما.»
152
القضايا الشرطية وقياس الخلف
يذكر السهروردي أننا قد نؤلف من الشرطيات قضايا اقترانية، مثل قولنا: كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، وكلما كان النهار موجودا فالكواكب خفية، إذن كلما كانت الشمس طالعة فالكواكب خفية. ولا يضيف السهروردي شيئا في هذا الباب وإنما يقول: «الشرايط والحدود حالها كما سبق.»
153
أما قياس الخلف فيعرفه السهروردي بقوله: «القياس الذي يتبين فيه حقية المطلوب بإبطال نقيضه.»
154
أي يبرهن فيه المطلوب عن طريق إبطال نقيضه، أو كما يحدده الشيرازي شارح كتاب حكمة الإشراق: «الاستدلال بامتناع أحد على حقية النقيض الثاني.»
155
وتركب من قياسين؛ قياس اقتراني وقياس استثنائي، فإذا أردنا أن نثبت أن لا شيء من الإنسان جماد، فنثبت ذلك عن طريق إبطال نقيضها، وهو أن الإنسان جماد؛ وذلك عن طريق قياس شرطي، وهو أنه إذا كان بعض الإنسان جمادا لم يكن كل الإنسان حيوانا؛ لأنه لا شيء من الجماد بحيوان، وينتج ليس كل إنسان حيوانا، ويلزم أن يكون بعض الإنسان جمادا؛ أي إذا كذب لا شيء من: «أ ب» يصدق بعض «ب أ»، وإذا أردنا أن نثبت أن لا شيء من «أ ب»، نثبت ذلك عن طريق فرض أن بعض «أ ب»، وإذا بعض «أ ب» وكان هذا باطلا، وهي أن بعض الإنسان جماد، ونقيضها صحيح، وهو المطلوب؛ أي «لا شيء من الإنسان جماد»؛ أي أثبتنا صدق هذه القضية عن طريق إثبات بطلان نقيضها أو لازم نقيضها.»
156
وما ذكرناه الآن توضيح لفكرة البرهان كما عرضها السهروردي وشارحه، وجديد فيها، على حد تعبير السهروردي نفسه، والذي يقول عن القياسات الشرطية بأن «شرائطها تشبه شرائط القياس الحملي. ولذلك لم يجد السهروردي لتكرار بحثها.»
157
مواد الأقيسة البرهانية
أما من حيث مادة البراهين؛ ف «السهروردي» لا يستعمل إلا مادة يقينية، سواء أكانت فطرية أم ما ينبني على فطري على قياس صحيح. والحدسيات عند السهروردي تشمل المجريات، وهي مشاهدات مفيدة يقينية تحدث بالتكرار والمتواترات، وهي شهادات يقينية لكثرتها بعيدة عن التواطؤ، ومؤيدة بالقرائن. أما المشهورات والمخيلات فكلها لا تفيد اليقين؛ فواضح أن اليقين عند السهروردي هو الحدس، والحدس يشمل المتواترات والمشاهدات؛ أي الوحي والمعرفة الإنسانية على حد سواء.
158
أما طرق الاستدلال الأخرى كقياس التمثيل، والذي يحدده السهروردي بقوله: «ما يدعى فيه شمول حكم لأمرين، بناء على شمول معنى واحد لهما.»
159
ويعني بذلك القياس الفقهي، وهو برأيه «غير مفيد لليقين، لاحتمال أن يكون مناط الحكم وصف غفلوا عنه.» ويذكر السهروردي العديد من الاعتراضات التي وجهت للقياس الفقهي، والتي تحفل بها كتب أصول الفقه والكلام، من كون الحكم مخصوصا بالأصل ولا يتعدى، أو أنه لمجموع الأوصاف لا لعلة واحدة، أو كون العلة المحددة عن طريق السبر والتقسيم قابلة للانقسام، والحكم ملائم لأحدهما فقط أو غفلتهم عن وصف هم مناط الحكم ... ويضيف الشيرازي شارح حكمة الإشراق: «هذا استقراء ناقص؛ فيجوز أن يكون حال ما لم يستقرأ يخالف حال من استقرئ.» والكثير من الانتقادات التي ذكرها قد طرحت للنقاش من قبل الأصوليين أنفسهم، وتجادلوا فيها، ورد بعضهم عن بعض. وكون قياس التمثيل يفيد الظن لا اليقين، فهذا الرأي قد أخد به الكثير من الفقهاء، على اعتبار أن اليقين يستند إلى النص القطعي، أما القياس فهو اجتهاد.
160
هذه هي أهم الجوانب المتعلقة بالمنطق كما تناولها السهروردي في نقاشه لها، وقد حاولنا أن نركز على الجانب النقدي دون الجانب الذي اتفق فيه مع المشائين، وإن كنا ذكرنا الكثير من آرائه التي وافقت آراء المشائين؛ فذلك بهدف توضيح فكره المنطقي بشكل كامل.
الفصل الرابع
نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السهروردي والمناطقة المحدثين
تمهيد
كشف لنا المنطق الإشراقي عند السهروردي على أنه يمثل محاولة من أعمق المحاولات في تاريخ المنطق العربي؛ إذ لا نجد لها مثيلا لدى مناطقة العرب، فقد وضع السهروردي، كما رأينا، مبحثا في التعريف، ثم وضع مبحثا في القضايا، حاول أن يرد فيه جميع القضايا إلى القضية التي أسماها بالقضية البتاتة. ولم يعترف بفائدة ما للقضية الجزئية إلا في بعض نواحي العكس والتناقض وبعض ضروب الأقيسة؛ فغير بهذا كثيرا من أصول المنطق الأرسطي. والسهروردي يشبه إلى حد كبير الكثير من مناطقة العصر الحديث الذين حاولوا نقد المنطق ثم محاولة إصلاحه؛ بحيث يتواءم مع التوجه الفلسفي الذي يسعى إليه كل عالم من علماء المناطقة. وهنا نحاول أن نكشف ذلك بالتفصيل خلال هذا الفصل؛ وذلك على النحو التالي:
أولا: نقد السهروردي والمناطقة المحدثين للمنطق الأرسطي
بينا في الفصول السابقة كيف نقد السهروردي المنطق الأرسطي، ثم كيف حاول إصلاح هذا المنطق من خلال مذهبه العام القائم على الإشراق، الأمر الذي حدا بنا لأن نطلق على مجموع هذه الإصلاحات «المنطق الإشراقي». والموضوعية العلمية تجعلنا نشير إشارة عابرة عن هذا نظرا لموقف المحدثين تجاه المنطق الأرسطي؛ حيث إن موقف المحدثين من المنطق الأرسطي لم يعد بالجديد بعد أن تبين لنا أن السهروردي قد نقد المنطق الأرسطي نقدا علميا منظما. وقد كانت له بجانب هذه الانتقادات وجهات نظر خاصة قد خلعها على المنطق الأرسطي، سواء بالإضافة أو بالتجديد.
ومن ثم نريد أن نغطي الجانب الحديث من المنطق لبيان وجهات النظر المؤيدة والناقدة للمنطق الأرسطي، مع توضيح وجهات النظر الجديدة؛ حيث نعقد مقارنة بين السهروردي والمحدثين في نقد المنطق؛ وذلك على النحو التالي:
في عصر النهضة الأوروبية، تعرض المنطق الأرسطي لهجوم شديد قام به أول الأمر المغرمون بالدراسات الإنسانية؛ حيث هاجم بطرس راموس
(1515-1572م) المنطق الأرسطي هجوما عنيفا، مؤكدا أنه عقيم بالنسبة للعلم وبالنسبة للحياة، والمنطق الأرسطي لا يفيد - من وجهة نظره - مهارة فن الكلام ولا قدرة له على اكتساب العلم أو الشعر، ولا يوصل إلى الحكمة.
1
ومن ثم حاول راموس أن يقيم بدلا منه جدلا ومنهجا فلسفيا، ولكنه فشل في إقامة هذا المنهج،
2
إلا أنه نجح في إيجاد منطق إنساني يتناسب مع النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر.
3
ونقد راموس للمنطق الأرسطي أدى إلى ظهور الكثير من المعارضين للمنطق الأرسطي؛ ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر تعرض المنطق الأرسطي لإهمال ملحوظ؛ وذلك بسبب قيام الفيزياء الحديثة على يد جاليليو
Galileo (1642م) ونيوتن
Newton (1643-1827م)، والتحقق من أن الاكتشاف يحتاج إلى مناهج أخرى غير القياس الأرسطي وإلى تقدم الرياضيات، وأخذ العلماء يحاولون لإقامة مناهج جديدة للعلم والاكتشاف فيه تعتمد على معايير غير أرسطية.
4
ومن أشهر من نقد المنطق الأرسطي في العصر الحديث، على سبيل المثال لا الحصر: (1) فرنسيس بيكون
F. Bacon (1531-1626)
وجد بيكون أن حملة التطهير التي ينبغي القيام بها من أجل إرساء التفكير الفلسفي والعملي على أسس سليمة، لا تتم إلا عن طريق نقد المنطق القديم وكشف عيوبه؛ حيث إنه الأداة التي استعان بها الفلاسفة القدماء في الوصول إلى نظرياتهم الباطلة، وقد عبر عن معارضة للمنطق القديم الممثل في منطق أرسطو، والذي استمر فترة طويلة يعرف بالأداة (الأرجانون)؛ وذلك عندما أطلق على الكتاب الذي تضمن منطقه الجديد «الأرجانون الجديد»، ونشره باللغة اللاتينية.
5
والحكمة التي يمكن استخلاصها من هذا الكتاب هي: (1)
أن المقصود بالمنطق هو أن يضع لنا المنهج السليم لاكتشاف قوانين العالم الطبيعي، لكي تيسر لنا أن نفهم ذلك العالم ونسيطر على قواه ونخضعه لإرادتنا؛ ومن ثم يمكننا أن نفيد من القوانين العلمية فيما يفيد الفرد والجماعة، ولكن القياس الأرسطي لا يهتم بعالمنا الطبيعي؛ إذ هو استدلال صوري لا يهمه سوى حتمية الانتقال من مقدمات إلى نتائج تلزم عنها، سواء أكانت تلك المقدمات صادقة من حيث الواقع أم كاذبة. لا قيمة للقياس إذن في تحقيق هدفه الأكبر. (2)
يبدأ القياس الأرسطي من أفكار جزئية محسوسة، ويجعلها أفكارا عامة، ويفترض أنها مقدمات صادقة لازمة، لكن ما تلك المقدمات إلا محتوية على أفكار شائعة قد تكون غالبا كاذبة، وإذن فضررها من نفعها. (3)
إذا افترضنا أن المقدمات في القياس الأرسطي صادقة على الواقع، وإذا افترضنا أن انتقالنا إلى النتيجة سليم صحيح، كانت النتيجة عقيمة؛ أي لا تحوي جديدا عما أثبتت من قبل في المقدمات، ولكن ينبغي من المنطق أن يدفعنا إلى نتائج جديدة ومعارف جديدة. إذن فالقياس الأرسطي مضيعة للوقت.
6 (2) ديكارت
R. Descartes (1596-1650م)
أما ديكارت فقد هاجم المنطق الأرسطي؛ فهو يرى: (1)
أن القياس الأرسطي أو الاستدلالي القياسي لا يؤدي إلى معارف جديدة، والأفضل استخدام الاستدلال الرياضي. (2)
أن الوحدة الأولى لا تكون قاصرة على القضية الحملية وحدها ذات الموضوع والمحمول، وإنما على كل قضية لا تحتوي على شيء أكثر مما يكون في عناصرها البسيطة.
7 (3)
وإذا كان ديكارت يهاجم المنطق الأرسطي، فهو يسعى إلى إيجاد منهج جديد يستبعد فيه القياس الأرسطي، ويستخدم الاستدلال الذي يعتمد عليه المنهج الرياضي، والذي يبدأ من الأفكار الواضحة المتميزة، مدركا ما بينها من علاقات، فيتقدم من أبسط الحقائق ويتدرج إلى أعقدها، ويساعده على ذلك الاستنباط الذي يوضح كيف تتحد الطبائع البسيطة، وعلى أي نحو تتألف بعد أن يتضح ما بينها من علاقات ضرورية، وهذا هو التقدم في المعرفة.
8 (3) برتراند راسل
B. Russell
نقد راسل المنطق الأرسطي؛ حيث ذهب إلى أن من أراد في عصرنا الحاضر أن يدرس المنطق فوقته ضائع سدى لو قرأ لأرسطو أو لأحد من تلاميذه، نعم إن تآليف أرسطو المنطقية دليل على مقدرة ممتازة، وتكاد تكون ذات نفع للإنسانية لو ظهرت في الوقت الذي لم تزل فيه عقول اليونان نشيطة منتجة، ولكنها قد ظهرت في ختام فترة الإبداع للفكر اليوناني؛ ومن ثم تمسك بها الناس على أنها المرجع الموثوق بصحته، حتى إذا ما حان الوقت الذي عادت فيه للمنطق قوة الأصالة والابتكار، كان أرسطو قد أنفق على عرش السيادة ألفي عام؛ مما جعل إنزاله عن العرش الخاص به أمرا عسيرا.
9 (4) رودلف كارناب
R. Carnap
ذهب كارناب إلى أن المنطق الأرسطي عاجز عجزا تاما عن أن يستوفي الدور الجديد الذي ينبغي أن يلعبه في الفكر، من ثراء في المضمون، ودقة صورية، وفائدة تنتج عن طريق استخدامه؛ لأنه ظل معتمدا على المنطق الأرسطي الذي لم يحرز - حتى في أقصى حالات تطوره - إلا تقدما طفيفا في ذاته.
10 (5) ألفرد تارسكي
A. Tarski
يقول تارسكي: إنني أعتقد أن المساحة المحدودة التي خصصناها في هذا الكتاب (يقصد كتابه المنطق ومنهج البحث في العلوم الاستدلالية) تتفق والدور الصغير البسيط الذي يلعبه في العلم الحديث، وإنني أعتقد كذلك أن أغلب المناطقة المعاصرين يشاركونني هذا الرأي.
11
مما سبق يتضح لنا أن المنطق الأرسطي لقي هجوما شديدا من المنطق الحديث، يثبت أن هذا المنطق عقيم، وتحصيل حاصل، وينطوي على مصادرة المطلوب، وغير مفيد، وقد أقيمت كثير من الأبحاث والدراسات تثبت النتائج الجوهرية لعدم دقة أرسطو المنطقية؛ ومن هذه النتائج ما يلي:
12 (1)
خلط المنطق بأبحاث ميتافيزيقية وأنطولوجية ولغوية وسيكولوجية أو عدم صورية المنطق. (2)
اعتبار القياس الصورة الوحيدة للبرهان. (3)
اعتبار القضايا الشخصية كلية . (4)
عدم دقة تعريف القياس في بداية الأمر. (5)
تبرير الاستقرار وذلك برده إلى القياس. (6)
عدم تسمية حدود القياس الثلاثة على أساس واحد. (7)
تضمن الكليات للجزئيات المتداخلة معها. (8)
عدم إقامة نسق للمنطق. (9)
عدم الاعتماد على قضايا حملية، أو عدم إقامة منطق للقضايا الشرطية والمنفصلة. (10)
قلة العلاقات التي يقوم عليها المنطق الأرسطي، وعدم إقامة منطق للعلاقات. (11)
عدم الرمز للثوابت.
ثانيا: الإصلاحات المنهجية التي أضافها السهروردي والمناطقة المحدثون للمنطق الأرسطي
إذا كان السهروردي قد جد في إصلاح المنطق الأرسطي؛ فقد سبق بهذا المحدثين الذين جدوا في إصلاح النقص الذي أصاب المنطق، وانتهت محاولاتهم إلى إقامة مناهج جديدة علمية من أهمها: (1) المنهج الاستقرائي
وهو منهج نشأ نتيجة قصور القياس الأرسطي عن تحقيق الغاية من الاستدلال في كل صوره، وأول من وضع قواعد المنهج الاستقرائي هو «فرنسيس بيكون»؛ حيث رسم الخطوط الأولى لمنطق استقرائي يختلف في جوهره عن المنطق الأرسطي. هذا المنطق يبدأ بالجزئيات غير المحدودة، ويتقدم بالتدريج نحو استنباط القوانين المحددة؛ فهو يستقرئ عددا من الجزئيات ليصل إلى صور الأشياء، التي هي قوانين ثابتة لجزئيات غير محددة.
13
والمنطق الاستقرائي عند «فرنسيس بيكون» هو تخطيط لمباشرة عملية المعرفة، ابتداء من الشروع بالتجارب الحسية، حتى نهاية الاستدلالات العقلية. إنه يبدأ بجمع تاريخ طبيعي، ويتقدم شيئا فشيئا عن طريق الملاحظات الدقيقة للأشياء لصياغة القوانين العامة. إنه لا يعير أي التفات للأفكار العامة المسبقة للذهن، ولا يذعن للمعلومات التي تأتي مباشرة عن الحواس. إنه ينتقل من الحقول المختلفة للعلم، دون أن يبدي أي اعتبار لشيء اسمه «مسلمات»، تلك التي ارتكزت عليها العلوم التقليدية. إن قوانينه مشتقة من التجربة والاختبار، ترتكز على الحواس، وتضبط عن طريق العقل بالاحتكام إلى الطبيعة، ثم نقض واستبعاد ما لا ينسجم معها، ولا يركن إلى جمع الأمثلة الإيجابية فقط، بل يوجه الاهتمام إلى الأمثلة السلبية كذلك، وليس هناك مقياس لجدارة نتائج هذا العلم إلا مدى نفعها وإيجابيتها في الأعمال.
14
وقد سار على نهج بيكون كثير من العلماء والفلاسفة، من أمثال جون استيوارت مل، وجون لوك ، وديفيد هيوم، وبمحاولات هؤلاء نشأ المنطق الاستقرائي معارضا للمنطق الأرسطي.
15
وعلى هذا النحو أضيفت أجزاء جديدة إلى المنطق الأرسطي، وميز بين الاثنين على أساس أن المنطق الأرسطي صوري أو شكلي من حيث إنه يشتغل بالمضمون أو المادة، وإنما يعنى بصورة الفكر فحسب، بينما المنطق الاستقرائي يعنى خصوصا بالفكر أو مادته.
ولقد كان لدخول الجانب الاستقرائي في المنطق أثره في أن يحاول كثير من العلماء والفلاسفة أن يدخلوا على المنطق اعتبارات أو مسائل سيكولوجية ولغوية وميتافيزيقية وبيولوجية واجتماعية ... وهلم جرا.
16 (2) المنهج الاستنباطي
إذا كان بعض العلماء والفلاسفة قد أدخل الجانب الاستقرائي في المنطق، فإن هناك دائرة من العلماء والفلاسفة رأوا أن المنطق الأرسطي قاصر من حيث شكليته، بل إن فيه بعض المادية التي تحول بينه وبين الانطباق على جميع صور الفكر، وهذا الاتجاه هو ما يسمى بالاتجاه الرياضي. ويتضح ذلك من مهاجمة المنطق؛ وذلك من وجهة رياضية بعيدة عن منطق أرسطو، وهو بصدد تصوره للعلم الحديث، ورأى أن العلم ينبغي أن يستند إلى فكرة الكم لا الكيف، وأبرز مثال وأوضحه للعلم الكمي هو الرياضيات، وقرر أنها هي المنطق الحقيقي للعقل، وأنه لم يعد ثمة مكان للمنطق الأرسطي التصوري القائم على الكيف، وكان ديكارت يحتقر هذا المنطق ويعتبره لا فائدة له.
17
غير أن ليبنتز
Leibniz
الفيلسوف الألماني كان أول من خطا خطوة فعلية في إقامة بدايات المنطق الرمزي الحديث.
18
وترجع أهمية ليبنتز في هذا الصدد إلى: (1)
أنه فكر في اصطناع منهج عام يمكن اتباعه في أثناء البحث في كل العلوم؛ وذلك باتخاذ المنهج الرياضي نموذجا يحتذى به في جميع العلوم. (2)
أنه فكر في استخدام لغة علمية يتخذها العلماء والمفكرون وسيلة للتفاهم بينهم، أسماها باللغة العالمية التي تستخدم الرموز بدلا من ألفاظ اللغة العادية، أو باللغة الفلسفية ذات الخصائص العامة. (3)
أنه رد كل المعارف أو الحقائق الضرورية إلى مبدأ واحد هو مبدأ الهوية، وصياغة رمزية عرفت فيما بعد باسم «قانون ليبنتز». (4)
أنه توصل إلى قائمة مبدأ مشترك بين جميع الاستدلالات، وهو مبدأ «استبدال المتكافئات »
Substitution of Equivalents ، وذلك الذي أوضحه جيفونز
Jevons
فيما بعد باسم «استبدال المتشابهات».
19
وقد خلف ليبنتز وراءه تصورين للمنطق:
الأول:
تصور هندسي، يرى أنه من الممكن أن يعالج المنطق بالطرق الهندسية، باستخدام الأشكال والحدس المكاني في التعبير عن العلاقات بين التصورات.
الثاني:
تصور جبري حاول أصحابه أن يعالجوا المنطق بالطرق الجبرية، مستخدمين الرموز والإشارات والمعادلات الجبرية. وكان «ساكيري»
Saccheri
وجيرجون
Gergonne
من أصحاب الاتجاه الهندسي، وكان «ميمون»
Maimon
من بين أصحاب الاتجاه الجبري، وكان «لامبرت»
Lambert ، وبلوكيت
من أصحاب الرياضي بعامة.
وكان هدف هؤلاء إصلاح المنطق، بأن يقيموا منطقا رياضيا. ومع أنهم لم يفلحوا في ذلك، ولم يصلوا إلى ضالتهم، إلا أن ذلك يؤكد باستمرار حياة باطنية لصلة قديمة بين الرياضة والمنطق، تكشف النقاب عن نفسها من وقت إلى آخر في صورة تيارات رياضية ومنطقية. ومن أهم هذه التيارات: التيار الذي حاول أن يصلح المنطق لغرض أن يطبق في الرياضيات - وهذه حركة قام بها الرياضيون أنفسهم، وفي مقدمتهم «جورج بول»
G. Boole
20
الذي حاول أن يجعل من المنطق جبرا، عرف ب «جبر المنطق»، وقد اكتمل على يد «جيفونز»
Jevons
و«شريدور»
schroder
و«وايتهد»
Whitehead .
21
ومن أهم مميزات هذا الجبر أنه صوري مجرد يقبل تفسيرات كثيرة، وأنه ممكن التناول بواسطة الآلات. وهذه الصلة بين المنطق والرياضة ومنهجها قويت بإقامة «فريجه»
Frege
لحساب منطقي، واستخلاص قضايا حسابية من مقدمات منطقية صرفة. وقد بين فريجه أن الأفكار الأساسية في الرياضيات ترد إلى قوانين الفكر الأساسية، وبالتالي يجب أن تلحق الرياضيات بالمنطق، على أن تصبح الرياضيات أكثر منطقية والمنطق أكثر رياضة؛ مما يترتب عليه استحالة وضع خط فاصل بينهما؛ إذ الواقع - على حد تعبير «راسل» - أن الاثنين شيء واحد، والخلاف بينهما كالخلاف بين الصبي والرجل؛ فالمنطق شباب الرياضيات، والرياضيات تمثل طور الرجولة للمنطق.
22
ولقد تطور هذا الاتجاه، الذي بدأه فريجه على يد كل من بيانو
، في كتابه «الصيغ الرياضية
Formulaire de Mathématiques » الذي حلل فيه الرياضيات بغرض ردها إلى المنطق، وبرتراند راسل في كتابه المبادئ الرياضية
Mathematica ، الذي ظهر في ثلاثة أجزاء من 1910م إلى 1913م، وفي هذا الكتاب بلغت كل الأبحاث في السبيل لإقامة المنطق الرياضي، منذ «ليبنتز» حتى ذلك التاريخ، أوجها وتمام نضجها، وهو أكمل وأنضج وأدق أثر صدر عن حركة المنطق الرياضي حتى اليوم، وقد أشاد البعض بأن مثله بالنسبة إلى هذه الحركة مثل «نقد العقل الخالص» ل «كانط» بالنسبة للفلسفة عموما.
23
والواقع أن تطور المنطق الرمزي لا يرجع فقط إلى جهود وأبحاث المناطقة الذين سبقت الإشارة إليهم؛ إذ لا يمكن إغفال جهود كثير من المناطقة مثل لويس
Lewis
وهلبرت
Hilbert
ولوكاشفيتش
Luksiewicz
وغيرهم، الأمر الذي أدى إلى تطور المنطق الرمزي على الصورة البالغة.
24
وبعد هذا العرض لمعرفة تطور المنطق الرمزي الحديث، يتضح لنا أن هذا المنطق ما هو إلا مجرد تعديل وإصلاح للمنطق الأرسطي؛ حيث كتب جون ديوي
John Dewey
فصلا كاملا بعنوان «الإصلاح المطلوب في المنطق»، وذلك في كتابه «المنطق ... نظرية البحث»؛ حيث أشار إلى أن الإصلاح المطلوب في المنطق هو وضع منطق يتمشى مع الإجراءات الحديثة،
25
أو على حد تعبير بعض الباحثين وضع منطق لا أرسطي، على غرار الهندسية اللاإقليدية والفيزيقا اللانيوتينية، ليواجه التفكير العلمي في تطوره الأخير.
26
ولما كانت الرياضة لغة العلم، فيجب وضع منطق يتفق مع الرياضة، وهو المنطق الرياضي، هذا المنطق الذي استطاع العلماء والفلاسفة إنشاءه على هذه الصورة التي تبدو لنا اليوم ليس منطقا جديدا مبتعدا عن المنطق الأرسطي القديم، إنما هو مجرد تجديد وإصلاح له؛ حيث يرى بعض الباحثين أن أرسطو قد قطع شوطا محدودا في إقامة منطق رمزي، استخدم نوعا واحدا من الرموز، وهي رموز المتغيرات للحدود، ولم يستخدم متغيرات ترمز إلى القضايا، إلا من النادر، كما يدرس أرسطو الثوابت والأسوار دراسة جادة، وبالتالي لم يضع لها رموزا، كما لم يهتم بدراسة القضية الشخصية والقضية الوجودية الاهتمام المرتقب، ولم تكن له مساهمة فعالة في إقامة نظرية العلاقات لاستبداد القضية الحملية به. لكن يمكن القول إن منطق أرسطو ليس إلا جزءا ضئيلا من نظرية الأصناف، وكانت نظريته في القياس أكثر اهتماما بدراسة قواعد الربط الصحيح بين ثلاثة «حدود»، أو دراسة قواعد الاستنباط وذلك من خلال قضايا نظرية القياس بوصفها تمثل جزءا صغيرا من نظرية الأصناف، بمعنى أن الثانية تحوي الأولى وتزيد عليها. بالرغم من كل هذا، فإن لأرسطو الفضل الأول في فتح باب الصورية والرمزية في المنطق.
27
وهنا يتضح قول لوكاشفيتش القائل: «يخطئ من يظن أن نظرية القياس الأرسطية قد انتفت بظهور المنطق الرياضي الحديث، والذين يفرقون بين المنطق الأرسطي والمنطق الرياضي، إنما يسيئون فهم العلاقة بينهما؛ فالمنطق الرياضي ليس جنسا آخر من المنطق يباين المنطق الأرسطي، وإنما هو منطق صوري في ثوب جديد.»
28
ليس ثمة فاصل إذن بين المنطق الأرسطي والمنطق الرمزي، وإنما يمثل كلاهما حركة أو نزعة نحو التجديد الفكري الخالص نحو بيان الصورة الفكرية عارية من كل مادة وخالية من كل موضوع ذي قوام خارج الذهن. وإذا كانت هذه هي الغاية من المنطق؛ فلا مناص إذن من أن يرتمي في أحضان العلم الذي يمثل هذا الاتجاه نحو التجريد المطلق إلى أعلى درجة، ألا وهو العلم الرياضي؛ فعلى المنطق إذن أن يستعير من الرياضيات مناهجها وأساليب العمل فيها، وأن يطبقها على موضوعه الخاص، إن كان له حقا موضوع خاص؛ حتى يستطيع أن يحقق الغاية التي يأمل بلوغها، فكان المنطق إذن تابعا للرياضيات من حيث طبيعة عملياتها ومناهجها من الناحية الفكرية، وهكذا شعر المنطق بأنه في مرتبة أعلى من الرياضيات، أو على الأقل بأن الرياضيات والمنطق يسيران معا ويرتبطان فيما بينهما وبين بعض أشد الارتباط، فكان ثمة حركة متبادلة بين المنطق والرياضيات؛ فالمنطق من جانبه يحاول أن «يمنطق الرياضيات»، والرياضيات من جانبها تحاول أن تروض المنطق.
29
ولكن كل هذا يجب ألا ينسينا أيضا ما هنالك من فارق كبير بين المنطق الأرسطي والمنطق الرمزي.
ويمكن توضيح ذلك في المقارنة التالية: (1)
المنطق الرمزي صوري صورية كاملة، أو هو على الأقل أكثر تجديدا وصورية من المنطق القديم الذي يجمع بين الصورية والمادية، وإن يغلب عليه الطابع الصوري. وتتبدى هذه الصورية الكاملة في المنطق الرمزي في أنه لا يبحث في العلاقات الواقعية بين الأشياء، إنما يبحث في العلاقات التي يمكن أن تقوم بين القضايا، ولذا فهو يحتوي على تقسيمات ذات مستوى لم تكن تبلغه باتباع المنطق الأرسطي، بمعنى أنه لا يهتم بالمطابقة بين القضايا والواقع الخارجي، بل يميل أصحابه إلى أن تكون قضاياه والعلاقات بينها مما يختلف عن الواقع الخارجي. (2)
إن وسيلة التعبير في المنطق الأرسطي - وهي ألفاظ اللغة - أقل دقة وأدعى إلى الوقوع في الخطأ منها في المنطق الرمزي الحديث، الذي يستخدم بدلا من الألفاظ الرموز المختلفة. (3)
إن منهج الاستدلال في المنطق الأرسطي أقل دقة منه في المنطق الرمزي الحديث؛ لأنه كان مقتصرا على نوع واحد من الاستدلال، هو الاستدلال القياسي. (4)
إن المنطق الأرسطي كاد أن يقتصر في تناوله للعلاقات على علاقة التضمن وحدها، الأمر الذي جعل قضاياه قضايا حملية تتكون كل منها من موضوع ومحمول مرتبطين بعلاقة التضمن أو الاشتمال. أما المنطق الرمزي فقد كشف عن مجموعة كبيرة من العلاقات، وحللها ووضع لها رموزا محددة وحسابا تحليليا دقيقا. (5)
المنطق الأرسطي لم يكن يفرق بين القضية ودالة القضية. أما المنطق الرمزي الحديث فيفرق بينهما، ويجعل أغلب اهتمامه منصرفا إلى دالات القضايا، ما دام يستخدم رموزا ومتغيرات. (6)
المنطق الرمزي الحديث أكثر خصوبة في نتائج الاستدلال؛ وذلك لاستخدامه كم المحمول وحسابه، مما يوسع من قاعدة الاستدلال وكذا تحليل العلاقات، مما يوسع مجال الاستدلال ونطاقه.
30
وفي هذا تقول «سوزان ستيبنج»
Stebbing
إن أنصار المنطق الرياضي يأخذون على المنطق الأرسطي عدة أشياء؛ فهم يأخذون عليه:
أولا:
أنه مقتصر على نوع واحد من أنواع الاستدلال وهو القياس.
ثانيا:
أنه أخفق في وضع رموز موافقة للعلاقات المنطقية.
ثالثا:
أنه أخطأ في تحليل هذه العلاقات.
31
ومن ثم يتضح أن المنطق الرمزي اكتشف أنواعا من الاستدلال غير القياس لها أهمية كبرى في التفكير، ففتحت أمامه ميدانا واسعا للبحث، كما استطاع أن يكتشف ويحلل مجموعة كبرى من القضايا والإضافات، يمكن أن يعبر عنها بواسطة الرموز، فإلى جانب إضافة التضمن التي قال بها وحدها المنطق الأرسطي، قال المنطق الرمزي بإضافات أخرى يعبر عنها في اللغة بالأسماء الموصولة وحروف الجر وحروف العطف.
32 (7)
المنطق الأرسطي منطق تداخل بين أصناف؛ فمبادئه الثلاثة المشهورة: مبدأ الذاتية، والتناقض، والثالث المرفوع، لا تفيد إلا في تصنيف الحدود مأخوذا كل منها على حدة؛ أي بحسبانها منفصلة يندرج الواحد منها تحت الآخر ، ويوضع الواحد منها بالتبادل مكان الآخر، أما المنطق الرمزي فعليه أن يكمل هذا المنطق بمنطق قضايا، فينظر في القضايا من حيث إنها في الواقع الوحدات الأولى الأصلية، كما ينظر المنطق الأرسطي في الحدود؛ أي ينظر في كيفية التداخل بينها، وتقسيمها، وتضمن الواحد منها الآخر كي يمكن الاستدلال. (8)
إذا كان المنطق الأرسطي قد سمح بتضمن الكليات للجزئيات المتحدة معها في الكيف، إلا أن المنطق الرمزي الحديث يرفض الانتقال من مقدمة أو مقدمات كلية إلى نتيجة جزئية؛ وذلك لأن الكلية مجرد فرض، لا يتضمن ذلك الوجود الذي تشير إليه القضية الجزئية، كما أن القضايا الكلية لكونها فروضا تكون صادقة دائما، سواء وجد موضوعها أو لم يوجد، في حين أن القضايا الجزئية قد تصدق وقد تكذب. وبذلك لا يضمن صدق الكليات صدق الجزئيات المتداخلة معها، كما أن افتراض الدلالة الوجودية يضيف مقدمة أخرى مضمرة إذا صرح بها تحول الاستدلال المباشر إلى غير المباشر، وصار للقياس أكثر من مقدمتين، أو صار يتكون من أكثر من ثلاث قضايا.
33 (9)
إذا كان المنطق الأرسطي يخلو من إقامة منطق للعلاقات، فإن المنطق الرمزي الحديث حاول إقامة منطق للعلاقات، وتمثل هذا لدى لامبرت
Lambert (1728-1777م)، ودي مورجان
De Morgan (1806-1887م)، وساندرز تشالرز بيرس
S.
.
34 (10)
إذا كان المنطق الأرسطي قد رمز للمتغيرات فإنه لم يرمز للثوابت، أما المنطق الحديث فقد اهتم بذلك. (11)
إذا كان المنطق الأرسطي لم يحقق الشروط التي تجعل القياس نسقا فرضيا استنباطيا، يبدأ من تعريفات وبديهيات أو مسلمات، يبرهن بها على قضاياه؛ وذلك على الرغم مما قام به من عمليات للرد للأضرب الناقصة إلى الأضرب الكاملة.
35
تلك هي أوجه الاختلاف بين المنطق الأرسطي والمنطق الرمزي الحديث، ولكن هذه الاختلافات كانت نوعا من الإصلاح للمنطق الأرسطي القديم.
وقد حاول كثير من المحدثين أن يطبق هذه الفكرة ، فنجد مثلا سوزان ستيبنج؛ حيث قامت بعمل مؤلف أسمته «مقدمة حديثة في المنطق»، وفقت فيه بين المنطق الصوري الأرسطي والمنطق الرمزي الحديث، ورأت أن المنطق الرمزي الحديث ما هو إلا تعديل أو إصلاح للمنطق الصوري القديم. كما ذهبت فيما يتعلق بنقطتي قيد البحث إلى أن المنطق علم قوانين الفكر الضرورية.
36
الفصل الخامس
النزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث
تمهيد
لقد بينا في الفصل الثاني من موضوع البحث: المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السهروردي، «حيث اتضح أن المنطق عند السهروردي يعني سياقا آخر وطريقا أقرب من تلك الطريقة وأضبط وأنظم وأقل إتعابا في التحصيل»؛ كما يعني أيضا «الآلة الواقية للفكر مختصرة مضبوطة بضوابط قليلة العدد كثيرة الفوائد.»
ويرجع السهروردي مصدر هذا التعريف إلى الذوق مصداقا لقوله: «ولم يحصل لي أولا بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر مثلا ما كان يشككني فيه مشكك.» وهذا التعريف للمنطق عند السهروردي يتفق مع مذهبه العام الذي يؤمن به ويعتقده.
والموضوعية العلمية تجعلنا نحاول أن نثبت أن هذه المحاولة جديدة من نوعها في المنطق العربي، ويمكن تلمسها في المنطق الأوروبي الحديث، وذلك على النحو التالي:
أولا: تعريف المنطق وربطه بالمعرفة
ليست المشكلة المنطقية بحثا نظريا مجردا، وإنما هي إشكالية الواقع في ذاته، من حيث هي إمكان إدراكه على ما هو عليه، ووسائل هذا الإدراك. وذلك مرتبط بمعنى الوجود ذاته؛ إذ إن تحديد هذا المعنى سيصوغ الآلية التي يمكن من خلالها التعامل معه؛ فمسألة الوجود هي المحور الذي تدور حوله نظرية المعرفة، من حيث طبيعة المعرفة البشرية وآلياتها ومداها؛ فهي تتعلق بمسألة الحقيقة وقدرة العقل على الوصول إلى اليقين. فهل مجال العقل ينحصر في إطار الوجود الطبيعي أو يتجاوز ذلك إلى ما بعد الطبيعة؟ أوليس للعقل قدرة على الوصول إلى اليقين ويجب تعليق الحكم؟! وإذا كان المنطق بالمعنى العام يشير إلى العمليات العقلية الهادفة إلى معرفة الحقيقة أو الشروط التي ننتقل بها من حقيقة ثابتة لدينا إلى حقيقة أخرى، أو الانتقال من المعلوم إلى المجهول، أو رد ما هو مشكوك فيه إلى ما يعد يقينا، فإن الخلاف سيتركز في تحديد نقطة البداية؛ أي ما الذي يعد يقينا.
1
هنا نجد أن الأمر لم يعد يستند إلى رؤية منطقية نسقية موضوعية، وإنما إلى رؤية فكرية وفلسفية يتحدد من خلالها مفهوم العقل ودوره في المعرفة؛ وذلك ما تجلى واضحا من خلال النظريات المنطقية التي طرحت، والتي تعكس بوضوح رؤى فلسفية وميتافيزيقية. فمن خلال نقدها لطبيعة أو قيمة نوع ما من المعرفة، فإنها لا تفعل ذلك إلا لتعارضها مع معرفة أخرى تعد معرفة يقينية بذاتها؛ فهي نقد لنوع محدد من المعرفة لا نقد للمعرفة على العموم؛ فالجانب المنطقي لدى أي مفكر أو فيلسوف هو جزء من نسق فكري عام يتسم بالشمول والاتساق، ونظرية المنطق بارتباطها الوثيق مع نظرية المعرفة تسعى لبيان قدرة العقل على إدراك الواقع ومعرفته، ووسائل هذه المعرفة وحدودها، ليتم بعد ذلك صياغة هذه الوسائل على هيئة نسق مترابط من الآراء المنطقية يطرح تصورا عاما عن المعرفة من حيث طبيعتها وأصلها وقيمتها ووسائلها وحدودها.
2
وهذا ما شكل محور هذا البحث من خلال تتبع النزعة الصوفية في المنطق عند السهروردي في ضوء المنطق الحديث، وأجد لزاما علي أن أقدم نماذج من المناطقة المحدثين لتتبع تلك النزعة لديهم على سبيل المثال لا الحصر على النحو التالي: (1) برنارد بوزانكيت
نجد دعاة المثالية الذاتية، وعلى رأسهم «برنارد بوزانكيت»
B. Bosanquet
يعدون المنطق: «علم صوري وأن العلوم كلها صورية»؛
3
وهذا التعريف يحاول دعاة المثالية الذاتية دمجه داخل نظريتهم في المعرفة، حيث يقول بوزانكيت: «إن طالب المنطق الذي لا يعرف المثالية الذاتية
Subjective idealism
لا يمكن أن يتبين مشكلة المنطق الحقيقية بغير استيعاب المثالية الذاتية.»
4
فدعاة المثالية يرون أنه إذا كان المنطق علما صوريا؛ بمعنى أنه يعالج صورة المعرفة لا محتواها أو مادتها، وصورة أي موضوع هي ما يبدو عليه هذا الموضوع، وما يمكن للعقل أن يحتويه، بينما يبقى الموضوع كحقيقة فيزيقية كما هو.
5 (2) الوضعية المناطقة
كما نجد دعاة الوضعية المنطقية يعرفون بأنه «علم يبحث في صورة الفكر »؛
6
هذا التعريف للمنطق حاول دعاة الوضعية المنطقية فهمه داخل نظريتهم في المعرفة التي تقول إن صور الفكر انطباعات تقع على الحواس؛ فكل فكرة أو تصور يصدر عن الحواس، وليست الأفكار التي تعتبرها أولية إلا أفكارا مركبة من تلك الأفكار الحسية. وهذه المعرفة يمكن تحليلها - من وجهة نظر «راسل» و«فيتجنشتين» بصفة خاصة - إلى ذرات أولية، والذرة الواردة عنها هي قضية أولية يكون موضوعها فردا واحدا أو جماعة من أفراد.
7
إن أبرز ما يطرحه دعاة الوضعية المنطقية، هو تأكيد أن معرفتنا عن العالم تأتي عن طريق «التجربة» وحدها، وأن الفلسفة تقوم بالتحليل المنطقي، شأنها شأن بقية العلوم، معتمدين في ذلك على المنطق الرياضي المعاصر آنذاك (نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين)، فقد ظهر في تلك الفترة ما سمي ب «المنطق الرياضي أو الرمزي». يقول برتراند راسل: «بإمكان إرجاع جميع المفاهيم الرياضية إلى علاقات تقوم بين الأعداد الطبيعية، وأن هذه العلاقات ذات طبيعة منطقية بحتة.» ونتيجة لذلك افترض راسل أنه يمكن استنباط الرياضيات كلها من المنطق. أمام هذه التصورات (فعالية المنهج التحليلي المنطقي) راح راسل بعيدا ليقول أيضا بإمكان حل المسائل الفلسفية، وأن المنطق هو لب الفلسفة. بينما أعلن تلميذه فيتجنشتين أن الفلسفة ليست نظرية، وإنما هي فعالية، وهذه الفعالية تكمن في نقد اللغة؛ أي التحليل المنطقي لها؛ فالفلسفة التقليدية برأيه تقود إلى الاستعمال غير الصحيح للغة، لذلك قال بضرورة وضع لغة كاملة تنص عباراتها إما على أحكام بخصوص الوقائع (العلوم التجريبية)، أو على تحصيل حاصل كما في الرياضيات والمنطق.
8
إن ما يجمع أصحاب التيار الوضعي هو: (1)
إيمانهم بأن مهمة الفلسفة هي تحليل لما يقوله العلماء، لا التفكير التأملي الذي ينتهي بالفيلسوف إلى نتائج يصف بها الكون ونتائجه. (2)
ضرورة حذف الميتافيزيقا من مجال الكلام المشروع؛ لأن تحليل عباراتها الرئيسية تحليلا منطقيا بين أن عبارات مثل: «الضرورة - الجوهر - الضمير ... إلخ» لا معنى لها، وبالتالي لا يمكن وصفها بالصواب. (3)
ضرورة الاتفاق على أن العلاقة بين السبب والمسبب هي علاقة ارتباط في التجربة، لا علاقة ضرورة عقلية. (4)
ضرورة اعتبار القضايا الرياضية وقضايا المنطق الصوري تحصيل حاصل لا تضيف إلى العلم الخارجي علما جديدا؛ فالقضية الرياضية مثل: 2 + 2 = 4، ما هي إلا تكرار لحقيقة واحدة، أو لرمزين مختلفين. (5)
كل شيء لا يخضع للتجربة والتحليل غير مفكر به. (6)
ضرورة تأكيد أن وظيفة الفلسفة وعملها هو تحليل المعرفة، وبخاصة المتعلقة بالعلم، وأن المنهج المتبع هو تحليل لغة العلم. (3) الواقعية الجديدة
كما نجد أيضا أنصار الواقعية الجديدة يعدون المنطق علم البرهان، «بمعنى أنه جزء من نظرية المعرفة بالمعنى الفلسفي، ومعنى ذلك أن المنطق ليس علما مستقلا، بل هو جزء من مباحث الفلسفة وهو نظرية المعرفة»؛ وهذه النظرية تقول بوجود عالم خارجي مستقل عن أي عقل يدركه وعن جميع أفكار أو أحوال ذلك العقل، وليست الأمور المدركة في التجربة سوى رموز في العقل، ولكنها رموز تدل على حقائق خارجية واقعية.
9
وكما تختلف النظرية المنطقية باختلاف الأساس الذي يذهب إليه الفيلسوف في نظريته في المعرفة، فكذلك تختلف النظرية المنطقية باختلاف الأساس الذي يبتنى عليه العلم في العصر المعين، فكلما غير العلم عن أساسه تغيرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأن المنطق إن هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه تحليلا يبرز صورها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائما على فلسفة بعينها هي الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورة أمينة تبعا لذلك، وكما تختلف النظرية المنطقية باختلاف الأساس الذي يبنى عليه العلم في عصر معين، كذلك تختلف باختلاف المذهب الفلسفي الذي يذهب إليه صاحب تلك النظرية، فقد يعيش في العصر العلمي الواحد أكثر من فيلسوف ينتمون إلى أكثر من مذهب فلسفي واحد. من ثم تراهم يختلفون في تحليل الأساس العلمي الذي يجعلونه هدفهم ومدار بحثهم، ففي عصرنا هذا مثاليون وواقعيون وبراجماتيون ومنطقيون ووضعيون، ولكل من هؤلاء وجهة للنظر تنعكس على النظرية المنطقية عندهم.
10
ومن ثم فقد أول كثير من المناطقة المحدثين وضع تعريفات خاصة من هذا القبيل للمنطق القديم، وهي تثبت فيه اعتبارات ميتافيزيقية ونفسانية وبيولوجية ولغوية.
ولكن الأكثر دلالة هو محاولة بعض المناطقة المحدثين ربط المنطق بالرياضة، ومحاولة تعريفه على هذا النحو.
ومن هذه التعريفات تعريف «جيوسيب بيانو»
للمنطق الرياضي بأنه المنطق «الذي يدرس خصائص الإجراءات والعلاقات الخاصة بالمنطق، وأن موضوعه هو صياغة أبسط نسق من المفاهيم المنطقية صياغة تجعل منه شيئا ضروريا وكافيا لتمثيل الحقائق الرياضية وبراهينها تمثيلا رمزيا.»
11
ويعبر كل من هلبرت
Hilbert
وأكرمان
Ackermann
عن المعنى نفسه بطريقة مختلفة إلى حد ما بقولهما: «إن المنطق الرياضي - وليسم كذلك المنطق الرمزي - امتداد للمناهج الصورية الخاصة بالرياضيات إلى مجال المنطق.»
12
كما يعرف راسل
Russell
المنطق الرمزي الحديث بأنه «العلم الذي يبحث في القواعد العامة التي تجرى الاستدلال عليها.»
13
وهنا يتضح أن هذه التعريفات للمنطق تنبع من وجهات نظر خاصة، والسهروردي قد قام بهذه المحاولة حين عرف المنطق تعريفا خاصا يتفق مع مذهبه العام القائم على الإشراق، وهو بهذا يعتبر إلى حد ما سابقا للمناطقة المحدثين؛ حيث يحظى المنطق الأوروبي الحديث بمناطقة حاولوا وضع تعريفات خاصة للمنطق. ومن هذه التعاريف على سبيل المثال: (أ)
تعريف جيفونز
Jevons
الذي يرى أن المنطق هو علم قوانين الفكر
The Lows of Thought .
14
هذا التعريف للمنطق ينطوي على بعد ميتافيزيقي؛ لأنه يحاول أن يجعل من المنطق قوانين عامة تخضع لها كل الكائنات. (ب)
أما كينز
Keynes
فيعرف المنطق بأنه العلم الذي يبحث في المبادئ العامة للتفكير الصحيح، وموضوعه البحث في خواص الأحكام، لا بوصفها ظواهر نفسية، بل من حيث دلالتها على معارفنا ومعتقداتنا، ويعنى على الأخص بتحديد الشروط التي بها تبرز انتقالنا من أحكام معلومة إلى أخرى لازمة عنها.
15
هذا التعريف للمنطق ينطوي على بعد مثالي يختص أساسا بما ينبغي أن نفكر فيه، ولا يبحث فيما يكون عليه تفكيرنا إلا عن طريق مباشر، كوسيلة فحسب. ومن ثم ينبغي أن يوصف بأنه علم معياري أو منظم، وهو يشترك مع علم الأخلاق وعلم الجمال في هذه الناحية، فإذا كان المنطق يبحث في القواعد العامة للسلوك الصحيح؛ فالجمال يبحث في القواعد العامة للذوق الصحيح.
ثانيا: أبعاد الحكمة البحثية والذوقية لدى مفكري العصر الحديث
إذا كان برتراند راسل قد أشار في كتابه المنطق والتصوف إلى أن أعظم الرجال في تاريخ الفكر الإنساني هم الذين قد جمعوا بين عناصر المعرفة العقلية وعناصر الإدراك الصوفي؛ فقد تلمس الباحث هذه المحاولة لدى السهروردي على أنه فيلسوف إسلامي قام بهذه المحاولة على الوجه الأكمل .
16
ويرى الباحث أن هناك من مفكري العصر الحديث في أوروبا استطاعوا أن يجمعوا في فلسفتهم بين الحكمة البحثية والحكمة الذوقية، وإن كانوا عبروا عنها في صور مختلفة تتفق مع فلسفتهم الخاصة، فنجد مثلا: (1) باسكال
(1623-1662م)
جمع باسكال بين الحكمة البحثية والحكمة الذوقية، وذلك في بيان حديثه عن نوعين من العقل العلمي
Scientific reason
والعقل الشعوري
Reason of the heart ، الأول مصدره البرهان، والثاني مصدره القلب. ولقد عرف باسكال أهمية العقلين للمعرفة؛ فالمعرفة المنطقية المبنية على الإثبات والبرهان المنطقي هي المعرفة العلمية لها قيمتها عند باسكال، ولكن لا يعتقد أن معرفة الأشياء جميعا تأتي عن طريق البرهان. لقد بحث باسكال عن أبعاد أخرى للمعرفة ووجدها في القلب؛ لأن العقل العلمي بطيء في عمله، وأحيانا كثيرة تنقض الأدلة البرهانية والمنطقية، بينما العقل الشعوري معرفته مباشرة، كما أنه يشعر بوجود الله. لقد اكتشف باسكال العقل العلمي، وأراد أن يذهب إلى أبعد من إيضاحاته، والأمثلة المهمة في حياتنا في نظره لا تجاب بالفروضات العلمية.
17 (2) اسبينوزا
Spinoza (1632-1677م)
كما يمكن تلمس أبعاد للحكمة البحثية والحكمة الذوقية عند اسبينوزا، وذلك في محاولته التوفيق بين النزعة العقلية الخالصة، التي تتمثل في منهجه الهندسي، وفي ميتافيزيقا الجوهر الواحد، وتعريفه لهذا الجوهر وصفاته وأحواله، وبين النزعة الصوفية التي تتمثل في الأخلاق القائمة على محبة الإنسان لله حبا يصل إلى درجة القداسة والعبادة.
18
وقد تمخض عن ذلك قوله بنظرية وحدة الوجود التي نادى بها من قبل «ابن عربي»، والذي يرى أن الوجود واحد في ذاته وحقيقة أمره، أي متواصل ومتلاحم - وإن هو تكثر في أجزائه وأسمائه وما فيه من الصفات والمحمولات. وفضلا عن ذلك، فإن الوجود، عند مستوى اللب أو الماهية، هو الحق إياه وليس سواه؛ ولكنه يصير الخلق عندما ينظر إليه في «أعيانه» وممكناته المضمرة؛ أي في جزئياته وصوره الكثيرة التي لا تحصى. وهذا يعني أن الشيخ قد استعار فكرة «الصورة» و«الهيولى» من أرسطو، فحذف الهيولى، وأحل محلها مقولة الحق الذي هو الاسم الآخر للماهوي أو الكلي؛ بل قل إنه الشارط اللامشروط؛ فأصبح كل شيء يتركب من الصورة التي تخصه وحده، والتي يستتب الحق فيها استتبابا شاملا. يقول الشيخ في فصوص الحكم: فإن للحق في كل خلق ظهورا. فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته.
19
ويعلق أستاذنا الدكتور إبراهيم مدكور رحمه الله على ذلك قائلا: «ونستطيع أن نقرر أن ابن عربي واسبينوزا كانا مؤمنين إيمانا عميقا، وإن اتهما بالإلحاد. كانا مؤمنين إيمانا عميقا يملأ قلبيهما، فكانا يريان الله في كل شيء، ولا يكادان يريان شيئا سواه - كانا يعتدان بأخوة الحب والإيمان، فلا يفرقان بين موسوي ومسيحي، ولا بين مسلم وغير مسلم.»
ويستطرد قائلا: «ولا نزاع في أن فكرة وحدة الوجود في أساسها وليدة فرط إيمان، تدفع إليها عاطفة قوية وشعور فياض، وهي لهذا تلائم الصوفية والروحانيين. ترد كل شيء إلى الله، ولا تدع لغيره مكانا في العالم. ولكنها لا تسلم من نقد واعتراض، فهي تكاد تلغي الكون، ولا تفسر التغير، ولا تحل مشكلة الواحد والمتعدد - وصعابها الدينية لا تقل عن صعابها الفلسفية؛ فهي تقول بإله مطلق مجرد لا نهائي، في غنى عن البرهنة عليه وإثبات وجوده، ولكن أين الإنسان؟ وأين مسئولياته وواجباته؟ إن في القول بوحدة الوجود ما يقضي على الأخلاق والتكاليف.»
20 (3) ليبنتز
Leibniz (1646-1716م)
كما يمكن تلمس أبعاد للحكمة البحثية والحكمة الذوقية عند ليبنتز، وذلك في محاولته الجمع بين الآلية الحسية الذرية عند ديموقريطس وأبيقور، والاتجاه الروحي عند أفلاطون، بل وربما الاتجاه العقلي عند ديكارت.
21
وقد تمخض عن ذلك قوله بنظرية الكمال الإلهي التي نادى بها من قبل «ابن عربي»، والذي يرى أن الوحدة في الوجود بين الموجد والموجود (الله والعالم)؛ فالوجود كله حقيقة واحدة، وإدراك ذلك لا يكون بالعقل لقصوره، ولا للحواس لعجزها، وإنما بالذوق الصوفي، ولقد ذهب إلى أنه قد تكشف له من أسرار الوجود ما تقطع دونه الرقاب. ولآرائه الصادمة للفكر الإسلامي في ذلك الحين، فقد اتهم الرجل في دينه، ورماه الشيوخ بالكفر والزندقة.
22
ذهب ابن عربي إلى أن العالم الذي نعيش فيه هو أفضل عالم ممكن، وإذا خيل لأحد أن بالعالم نقصا أو اعوجاجا فإنه لا يعرف سر الخلق والحكمة الإلهية؛ فهذا الاعوجاج هو من كمال الخلق، كما أن اعوجاج القوس هو عين استقامته؛ فإذا أردت أن تقيمه على الاستقامة كسر، والعلماء وحدهم هم من يدركون الكمال في خلق الله.
23 «النقص في العالم من كمال وجوده»، وإن شئت قلت من كمال العالم؛ إذ لو نقص النقص من العالم لكان (هذا العالم) ناقصا، والكمال المطلق لله وحده.
24
العالم غاية في الكمال؛ لأنه من صنع الله الذي له الكمال وحده، ولا يصدر من الكمال شيء إلا كان على درجة محددة من الكمال تليق به؛ إذ لابد أن تبدو صفة الصانع في صنعته.
25
الكمال ذاتي في الأشياء، والنقص عرضي.
26
العالم جميل وهو جدير بالحب رغم ما قد يوقعنا عليه الحس من بعض ضروب النقص.
27
ذلك أن العارفين قد تكشف لهم أن هذا العالم بأسره غاية في الجمال وليس فيه شيء من القبح، بل قد جمع له الحسن كله والجمال كله؛ فليس في الإمكان أبدع ولا أجمل ولا أحسن من هذا العالم؛ ذلك لأن هذا العالم مرآة ينعكس عليها المعاني الإلهية، والله جميل، والجمال محبوب لذاته. لهذا ينبغي أن نرضى بالواقع فلا نحقر شيئا فيه، فهذا التحقير لا يصدر عن امرئ يتقي الله.
28
ومن يقرأ للفيلسوف الألماني ليبنتز
Leibniz
يفاجأ بنظرية تكاد تكون صدى لنظرية الإمام الأكبر ابن عربي؛ فيرى ليبنتز أنه قد كان في مقدور الله أن يخلق عددا لا نهاية له من العوالم، فلماذا اختار الله هذا العالم بالذات ليخرجه إلى الوجود؟ لا بد أنه - سبحانه - قد اختار - كما يقول ليبنتز - أكثرها تجانسا وأرقاها في درجة الكمال؛ حيث تتحقق من جراء ذلك أكمل الغايات . ويقول ليبنتز: «السبب في وجود أفضل عالم ممكن ينحصر في أن الحكمة الإلهية هي التي تكشف للعلم الإلهي أن رحمة الله هي التي تحدد اختياره لهذا العالم، وأن قدرته هي التي تخلقه (كتاب المونادولوجي لليبنتز)؛ فالحكم الإلهية هي السبب في خلق أفضل عالم ممكن، وليس في الإمكان أن يوجد شيء أفضل مما اختاره الله برحمته، وخلقه بقدرته، وحدد غاياته بحكمته.»
29 (4) تيلش
Tillich (1886-1965م)
كما يمكن تلمس أبعاد للحكمة البحثية والذوقية لدى الفيلسوف الوجودي تيلش؛ حيث إن الحقيقة في نظره ثنائية؛ حيث يرى أن الحقيقة ذات مستويين؛ المستوى الأول وهو ما يمكن أن يسمى بالعقل الأنطولوجي
Ontological Reason ، والمستوى الثاني وهو ما يمكن أن يسمى بالعقل الآلي
Technical Reason ؛ فالأول ذو عناصر ميتافيزيقية، وهو يعد الممثل الأعلى للحقيقة، لا العقل الآلي الذي يحمل خصائص التفكير. ويتميز العقل الأنطولوجي بتفهمه للوجود الحقيقي
Actual Existence ، كما أنه فعال في المجال العاطفي؛ بينما العقل الآلي لا يهتم بالوجود، بل هو نمط من المعرفة التي يمكن الحصول عليها بطريق الملاحظة.
30
ويرى تيلش أن الفلسفة الوضعية خير مثال لهذا التفكير الذي ساد عصرنا وضاعت بسببه كثير من العناصر الإنسانية. ورغم نقد تيلش للعقل الآلي وخصائصه المبنية على الملاحظة والمنطق والموضوعية، إلا أنه - كما يخبرنا - يبقى لا غنى لنا عنه في سعينا نحو الحقيقة المتكاملة التي لا تفهم إلا بوجود نوعي العقل معا؛ الآلي والأنطولوجي، مع الاحتفاظ بالعقل الأنطولوجي بأنه «العقل الأسمى أو الأعلى».
31
وهنا يتضح أن السهروردي سبق المفكرين والفلاسفة في العصر الحديث في الجمع بين الحكمة البحثية والحكمة الذوقية.
ثالثا: خصائص المنطق الحديث
إذا كان من خصائص النظرية المنطقية عند السهروردي أنها تقوم على النظر والذوق كما وضح آنفا، فإن من خصائص المنطق الحديث أنه يقسم إلى نوعين من المنطق: (1)
منطق مادي وهو الاستقراء. (2)
منطق صوري وهو الاستدلال.
وهذا التقسيم اعتاد المناطقة عليه منذ أرسطو، ولكن وضح أكثر في العصر الحديث، وإن كانت الناحية الصورية أغلب ظهورا أو وضوحا؛ وذلك عندما أراد المنطق الصوري الرمزي أن يتحرر من رقبة العلوم الأخرى، ارتد إلى الصورة الأرسطية لهذا السبب ملتمسا صوريته من تاريخه. وكان من الضروري على الدوام فهم معنى الصورية الأرسطية فهما وثيقا قبل الإقبال على دراسة المنطق الرمزي.
32
ويمكن عقد مقارنة بين خصائص المنطق المادي والمنطق الصوري؛ وذلك على النحو التالي:
أولا:
المنطق المادي هو المنطق المتعلق بالتجربة الخارجية، وهو لذلك يتضمن إخراج واستحداث معرفة جديدة؛ فمن المستحيل بلوغ أي تقدم من وراء الاستدلال الصوري؛ أي إن الاستقراء جسر يعبر من الوقائع إلى القوانين، وهو عملية تستخدم في اكتشاف وتكوين القضايا العامة. أما الاستدلال فتحليل قائم على أساس تفريغ العبارات من أية إشارات إلى جزئيات من أجل تحويلها إلى قضايا رمزية، لا يهمنا فيها إلا سلامة الانتقال من البداية إلى النتيجة. ولا يهتم هنا إلا التجريد التام للعلاقة بين التصورات والوقائع، ولهذا يؤدي تقسيم المنطق إلى صوري ومادي إلى ظهور شيء جديد نسميه بالتحليل والتركيب. والتحليل دائما صوري؛ لأنه لا يأتي في النتائج إطلاقا بأكثر مما في المقدمات، في حين لا بد أن يولد التركيب شيئا جديدا في نهاية الاستقراء. والاستقراء تركيبي في حين أن الاستدلال تحليلي.
33
ثانيا:
المنطق المادي يعتمد على استنباط عقلي، ولكنه يلتمس برهانه في الظواهر الجزئية - أي الوقائع الحسية، بينما المنطق الصوري يعتمد على الاستنباط في العلوم الرياضية، وهو يبدأ من بديهيات - لا جزئيات محسوسة، ويلتمس البرهان عن طريق الإثبات المحض؛
34
بمعنى أنه يبدأ من مسلمات، وهي إما بديهيات أو مصادرات، فأما البديهيات أو الأوليات فهي قضايا بديهية واضحة بذاتها لا تقبل برهانا؛ لأن من يعرف معاني حدودها يسلم بصحتها دون حاجة إلى دليل، وهي تدرك برؤية مباشرة أي بالحدس، ولا تجيء عن طريق خبرة حسية، ولا عن تفكير استنباطي عقلي؛ لأنها أولية فطرية لا تستنبط من أخرى سابقة عليها بالبديهيات المنطقية التي تقول إن الشيء لا يمكن أن يكون موجودا وغير موجود في آن واحد. أما المصادرات فهي قضايا يفترض العالم صحتها منذ البداية مجرد افتراض، بشرط ألا يعود فيفترض صدق نقيضها؛ لأن النقيضين لا يصدقان معا .
35
ثالثا:
المنطق المادي يعتمد على قوانين طبيعية احتمالية ترجيحية وليست يقينية كقوانين المنطق والرياضة البحتة؛ وذلك لأن القوانين الطبيعية تقال تفسيرا لمجموعة من الظواهر المتشابهة لم يخضع الكثير منها لما تجريه من ملاحظات وتجارب.
رابعا:
المنطق المادي إذا كان يعتمد على الاستقراء الذي يرقى إلى المقدمات الكلية بمشاهدة الجزئيات؛ فهو بهذا يضمن صحة هذه المقدمات ولا يفترض صدقها مجرد افتراض. في حين أن المنطق الصوري يعتمد على الاستنباط الذي يجعل المقدمات أفكارا بسيطة تدرك بالحدس وتؤمن الزلل من معرفتها، ومنها يتوصل الباحث إلى نظرياته.
36
خامسا:
المنطق المادي يبحث في المناهج التي تقدم عليها العلوم المختلفة، كل على حدة، وعلى هيئة مجموعات عامة، ويضع القواعد وفقا للعلوم الخاصة، فهو نسبي، خاص، مادي، ولكنه يقوم بهذا كله واضعا نصب عينيه القواعد التي وضعها المنطق الصوري؛ لأنها قواعد عامة يخضع لها كل تفكير عقلي. أما المنطق الصوري فيعني البحث في المبادئ العامة للتفكير المجرد، وفي العقل، وفي القواعد الضرورية التي يسير عليها الفكر في بحثه في جميع الموضوعات بلا تمييز، ويضع القواعد ناظرا إلى الشكل فحسب، بصرف النظر عن مضمون المعرفة وموضوعاتها، فهي قواعد تتعلق بصورة الأحكام والاستدلالات، وترمي إلى اتفاق الفكر مع نفسه فحسب.
37
سادسا:
إذا كان المنطق الصوري منطقا شكليا يعتمد على الرموز؛ فذلك لأن هذه الرموز تدعو إلى الدقة في التعبير. تقول سوزان ستيبنج إن استخدام اللغة العادية أحيانا ما يؤدي إلى الوقوع في الخطأ، أما إذا استخدمنا رموزا معينة، فإننا نتحاشى الخلط أو اللبس الذي قد ينشأ عن استخدام الألفاظ.
38
وتستطرد ستيبنج فتقول: «إن استخدام الرموز يعني الاقتصاد في الجهد والفكر، فضلا عن البساطة والدقة والاتساق والنسقية.»
39
وهنا يتضح الفرق بين المنطق المادي والمنطق الصوري من حيث خصائص كل منهما، إلا أن هذه الخصائص مرتبطة بنظرية المعرفة؛ فدعاة المنطق يحاولون فهم المنطق داخل نظريتهم في المعرفة، هذه المعرفة تعتمد على الإحساس وحده دون العقل؛ حيث رفضوا التسليم بالأفكار الفطرية الموروثة والمبادئ العقلية البديهية، والقواعد الخلقية الأولية التي تجيء اكتسابا ، وأنكروا هذا الحدس الذي يدرك الأوليات الرياضية والبديهيات المنطقية، وراموا بأن هناك حدوسا متعددة تختلف باختلاف أصحابها، وردوا المعرفة في كل صورها إلى التجربة - مع خلاف بينهم في تعبيرها.
أما دعاة المنطق الصوري فقد حاولوا فهم داخل نظريتهم في المعرفة، هذه المعرفة قائمة على أن في العقل أفكارا ليست آتية من التجربة. وهذه المعرفة العقلية صادقة، وتوجب صدقها ضرورة عقلية أن أحكامها وقضاياها صادقة على الدوام صدقا ضروريا محتويا؛ إذ لا يمكن أن تصدق وتكذب أخرى، كقولك: إذا كانت «أ» أكبر من «ب»، «ب» أكبر من «ج»، كانت «أ» أكبر من «ج»، وهذا الحكم صادق دوما، وتوجب صدقه ضرورة عقلية لا خبرة حسية، ومثل هذا يقال في قوانين المنطق وأوليات الرياضة.
40
رابعا: أقسام المنطق عند المحدثين
لقد ذكر الباحث في الفصل الثاني من هذا البحث أقسام المنطق عند السهروردي؛ حيث اتضح أن السهروردي يجاري عادة المناطقة العرب في تقسيم المنطق، وبالتالي فهو يسير في اتجاه مضاد لبعض المناطقة المحدثين الذين يرون أن اهتمام المنطق ينصب على التفكير، ولما كانت القضايا هي وحدات التفكير، فلا بد أن يكون مبحث القضايا هو أول ما يجب دراسته، بل إن بعض المناطقة المحدثين نادى بحذف مبحث التصورات أو الحدود من مباحث المنطق؛ لأن البحث في القضايا يتضمن البحث في ألفاظها المؤلفة لها، ومن هؤلاء على سبيل المثال: (1) بوزانكيت
Bosonquet
الذي ذهب في كتابه
The essentials of logic
إلى أن المنطق ينقسم إلى قسمين: قسم يبحث في نظرية الأحكام، وقسم يبحث في نظرية الاستدلال. وفي هذا يقول: «إنه لا حقيقة للاسم أو التصور في لغة حية أو تفكير حي إلا عندما يشير إلى مكانه في قضية أو كم»؛
41
بمعنى أنه لا يفهم الصور ولا يتحقق تحقيقا منطقيا، إلا إذا كان موضوعا أو محمولا في قضية؛ فهو حالة ناقصة من حالات العقل، ولا يمكن أن نقوم بذاتها، وإنما يكملها وجودها في قضية أو حكم. (2) برادلي
Bradley
يذهب برادلي في كتابه
The Principles of Logic
إلى مهاجمة المنطق الأرسطي والمنطق التجريبي؛ حيث يعد الحكم لا التصور في منطقه؛ هو الوحدة الحقيقية للفكر؛ الصورة المنطقية الأولى. وأن هذا الحكم متصل بالوعي الكامل، وأننا حين نحكم إنما نقتطف من هذا الوعي أو الشعور المتصل جزءا منه، بينما هذا الجزء لا يمكن فصله على الحقيقة من هذا التيار المتصل.
42 (3) جوبلو
Goblot
أما جوبلو فقد أخذ إنكار مبحث التصور على يديه صورة أخرى؛ حيث عبر عن ذلك بتقسيمه المنطق إلى: (أ)
نظرية الحكم: وفيها ندرس الأحكام التي إما أن تقوم مباشرة على التجريد، وهذه تسمى بأحكام التجربة، وإما لا تقوم مباشرة مع التجربة، بل تصدر عن غيرها من الأحكام. وهذه تسمى بأحكام البرهان. (ب)
نظرية الاستدلال: وفيها ندرس الانتقال من حكم أو أحكام إلى حكم آخر، ويسمى حكما برهانيا يكون صادقا إذا كانت المقدمات صادقة.
43
وإذا كان بعض المناطقة المحدثين قد رأوا أن التقسيم الأرسطي الثلاثي للمنطق لم يعد قائما الآن، وإنما أصبح المنطق منقسما إلى قسمين فقط هما: الأحكام والقضايا.
ولعل المشكلة تقسيم المنطق على هذا النحو أو ذاك لم تعد شاغل المفكرين والمناطقة المحدثين الذين اهتموا بالمنطق الرياضي؛ فإذا ما تأملنا المذاهب المختلفة التي تعرضت لمثل هذا في المنطق الرياضي، فإننا لن نجد عند أي منهم أي اتجاه لهذا التقسيم.
إن ما اهتم به المنطق الرياضي هو فكرة الاستنباط من المسلمات والتعريفات لكل قضايا المنطق، أو محاولة إقامة نسق استنباطي، برهن فيه على كل القضايا ابتداء من مجموعتين من المسلمات والتعريفات.
إن المنطق الرياضي هذا استبعد تماما العمليات السيكولوجية من مباحثه، فهو لم يبحث فيما إذا كان التصور يأتي إلى الذهن أولا بمفرده أم لا، كما أنه لم يبحث في ارتباط تصوراتنا سواء أردنا أم لم نرد بأحكامنا، بحيث تصح هذه الأحكام هي البقية المنطقية الأولية، إنه منطق آلي رمزي صرف، واستنباطي صرف لا يتصل بالمعرفة ولا بكيف نعرف، وما إذا كانت معارفنا متصلة أو منفصلة.
44
الفصل السادس
منطق السهروردي ومحاولة قراءة أفكاره في المنطق الأوربي الحديث
تمهيد
ذكرنا من قبل أن النظرية المنطقية تختلف باختلاف الأساس الذي يذهب إليه الفيلسوف في نظريته في المعرفة، فكذلك تختلف النظرية المنطقية باختلاف الأساس الذي يبتنى عليه العلم في العصر المعين، فكلما غير العلم عن أساسه تغيرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأن المنطق إن هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلا يبرز صورها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائما على فلسفة بعينها هي الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورة أمينة تبعا لذلك، وكما تختلف النظرية المنطقية باختلاف الأساس الذي يبنى عليه العلم في عصر معين، كذلك تختلف باختلاف المذهب الفلسفي الذي يذهب إليه صاحب تلك النظرية؛ فقد يعيش في العصر العلمي الواحد أكثر من فيلسوف ينتمون إلى أكثر من مذهب فلسفي واحد؛ من ثم تراهم يختلفون في تحليل الأساس العلمي الذي يجعلونه هدفهم ومدار بحثهم؛ ففي عصرنا هذا مثاليون وواقعيون وبراجماتيون ومنطقيون ووضعيون، ولكل من هؤلاء وجهة للنظر تنعكس على النظرية المنطقية عندهم.
من هذا المنطلق نحاول في هذا الفصل أن نستعرض أهم الآراء المنطقية عند السهروردي، ونتلمس أوجه التقارب الفكري بينها وبين مناطقة العصر الحديث.
أولا: اختصار المنطق الأرسطي ثم محاولته وضع نسق له
بعد أن عرض السهروردي للقضايا الأرسطية وتقسيماتها المعهودة في كتب المنطق الأرسطي من حيث الكمية والكيفية والجهة، يعود لينقد هذا التقسيم من حيث الكمية والكيفية والجهة، ويرى أنه كثير الفروع والتشعبات، والتي يمكن الاستغناء عن الكثير منها، وذلك ما سيعمل السهروردي على إيضاحه خلال رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية، ورد القضايا السالبة إلى قضايا موجبة، ورد الجهات من حيث الإمكان والامتناع إلى الضروري، فلا يبقى لدينا من تقسيمات القضايا الأرسطية وتفريعاتها إلا قضية واحدة، وهي القضية الكلية الموجبة الضرورية، وهي ما يطلق عليها السهروردي اسم «البتاتة»؛ أي الجازمة والقاطعة؛
1
ولم يعترف السهروردي بفائدة ما للقضية الجزئية إلا في بعض نواحي العكس المستوي والتناقض، فغير بهذا كثيرا من أصول المنطق الأرسطي القديم.
والسهروردي هنا يشبه إلى حد كبير المناطقة الرياضيين في أوروبا الذين حاولوا اختصار منطق أرسطو، وإن كان هناك خلاف بينه وبينهم فهذا لأن المناطقة الرياضيين رأوا أن المنطق مقتصر على صورة واحدة من صور الاستدلال، فاصطنعوا صورا أخرى أكثر خصوبة في نتائج الاستدلال تقوم على كم المحمول وحسابه، ثم تحليل العلاقات، الأمر الذي يوسع مبحث الاستدلال من حيث قواعده ومجاله ونطاقه، وأما السهروردي فقد رأى ما في المنطق الأرسطي من تطويل فحاول أن يرد صور أشكال القضايا والقياس إلى صورة واحدة، وهي القضية البتاتة.
2
وفي رد السهروردي لمبحث أشكال القضايا والقياس إلى القضية البتاتة، يعني أن السهروردي قد حاول جاهدا وضع نسق للمنطق، وهو بهذا قد سبق المناطقة المحدثين من أمثال «فريجه» و«بيانو» و«راسل» و«هيلبرت» و«فيتجنشتين» و«روسير» و«جينتزن» وغيرهم، وهؤلاء وإن اتفقوا مع السهروردي في المبدأ، لكنهم اختلفوا معه في الغاية؛ حيث إنهم وضعوا أنساقا جد مختلفة عن نسق السهروردي.
ثانيا: نقد التعريف الأرسطي ومحاولة وضع تعريف جديد
كان السهروردي قد رفض المفهوم المشائي للحد، والمؤلف عن طريق الجنس والفصل المميز لسببين؛ أولهما أن المميز مجهول مع المعرف، وإن كان معلوما عن طريق آخر فلا يصلح للتمييز؛ لأنه لم يعد خاصا. وثانيهما أن من تمام شروط الحد عند المشائين إيراد جميع الصفات الذاتية، وذلك مستحيل عقلا؛ لأن معرفة جميع الذاتيات مرتبط بمعرفة ماهية الشيء، وماهية الشيء هنا تقتنص عن طريق الذاتيات فنقع في دور لا مخرج منه، وعلى فرض ذكرنا الذاتيات الخاصة بالشيء كيف لنا أن نعلم أنه ليس هناك ذاتي آخر مجهول بالنسبة لنا. ونجد أن كلا السببين يرتد في النهاية إلى فكرة الدور في الحد الأرسطي، وهذه الفكرة كانت من أكثر ما استند إليه كل من رام نقد الحد الأرسطي. ونتيجة للأسباب المانعة للتعريف على طريقة المشائين، اقترح السهروردي طريقا آخر للتعريف هو ما يسميه التعريف بالمفهوم والعناية.
3
وإذا كان السهروردي قد أنكر التعريف الأرسطي القائم على الجنس والفصل باعتباره قائما على نزعة ميتافيزيقية، فهو بهذا يكون قد سبق بعض المناطقة المحدثين في إنكار هذا التعريف، فنجد إيتون
Eaton
يهاجم نظرية أرسطو في المحمولات التي هي أساس نظريته في التعريف ، هذه النظرية - فيما يذهب «إيتون» - نظرية ميتافيزيقية ووجودية وليست نظرية منطقية، وإن كانت مقدمة للقياس باعتبارها جزءا من تحليل القضايا، فهي تعكس وجهة نظر أرسطو الميتافيزيقية في الأصناف وفي الأجناس والماهيات المحددة، كما تعكس وجهة نظر الفلسفة العامة في أن المعرفة العلمية تكون تدرجا من الصور وتعرض المحمولات الأربعة التي تكلم عنها أنماط العلاقات المختلفة التي من الممكن أن تقوم بين الصور المعبرة عنها في القضايا؛ فكل محمول يعبر عن نمط من هذه العلاقات بين الكليات. وقد ميزت النظرية بين العلاقات الضرورية والعرضية، وأساس هذا التمييز هو الواقع الأنطولوجي.
4
ومن ثم يتضح موقف «إيتون» من تعريف أرسطو أنه يهاجم نظرية التعريف الأرسطية لأنها مختلطة بمباحث ميتافيزيقية وأنطولوجية. غير أن دعاة الوضعية المنطقية يعترفون بأن هذه النزعة الميتافيزيقية في التعريف الأرسطي نزعة متسامية، ولكنها لم تصل إلى الدرجة التي يمكن معها أن تكون نظرية علمية، بمعنى أن دعاة الوضعية المنطقية يرون أننا لن نصل إلى الحدود الحقيقية إلا نادرا؛ لأن معرفة وإثبات الشيء الذي تتألف منه ماهيتها أمر صعب؛ لأن عملية الحد لا تتيسر لكل إنسان؛ فإن هذا لا يرفع الإشكال من الناحية العملية؛ لأن الأشياء لا تعرف بحقائقها فحسب، بل تعرف بعلاقاتها بالأشياء، بمعنى أن الشيء المعرف ينقسم إلى عنصرين أساسيين؛ وهما: الجنس والفصل، وإنما الغاية هي تجديد الطريقة التي تستعمل بها كلمة من كلمات اللغة، فكأنهم حينئذ لا يبحثون عن جوهر الأشياء، بل يبحثون عن معنى اللفظ في اللغة التي اتفق على استعمالها لأداء المعاني.
5
وهم في هذا الاتجاه يراعون المظهر الخارجي للأشياء، وليشتقوا منه الصفات التي يمكن أن تكون من العوامل الأساسية في التعريف، بخلاف ما درج عليه المنطق التقليدي الأرسطي في النظر إلى الأشياء نظرة جوهرية لا تتغير بتغير الأعراض الخارجية، ويظهر الفرق واضحا بين النظرية الوضعية والنظرية الأرسطية في مثال «الماء» إذا تجمد أو تبخر؛ فالماء والثلج والبخار صور ثلاث لطبيعة واحدة، والنظرية الجوهرية لا تختلف في نظرتها إلى هذه الطبيعة مهما تغيرت عوارضها؛ ومن ثم يكون التعريف واحدا لها حتى إن اختلفت صورها.
6
وإذا كان السهروردي سبق المناطقة المحدثين، وبخاصة دعاة الوضعية المنطقية في عدم الأخذ بالتعريف القائم على الجنس والفصل، وعدم الوصول إلى الماهية، فقد حاول السهروردي أيضا وضع تعريف جديد مختلف تماما عن التعريف الأرسطي ،
7
وهذا التعريف يمكن إدراكه إما عن طريق الإحساس، والأمور المحسوسة تدرك تمام الإدراك، وإما طريق الكشف والعيان، وهو أدق الطرق وأوثقها، وتفسير هذا أن هناك طريقين لإدراك التعريف الصحيح: (1)
طريق المعرفة الحسية. (2)
طريق المعرفة الإشراقية.
8
فالمعرفة الحسية تدرك بالمشاهدة الخارجية، وهي وحدها التي تعطي الخاص، وهي تعطي معرفة جديدة لا يمكن للتعريف الأرسطي أن يصل إليها، وهي الضامن لصدق المعرفة الإنسانية ومقياس صدقها؛ فالواقع منه المجهول ومنه المعلوم، والمعرفة الإنسانية جزئية لأنها لا تستطيع إلا أن تحصل على المعلوم دون المجهول، في حين أن المعرفة الإشراقية تعطينا المجهول والمعلوم على حد سواء، والمعرفة الإشراقية هي النقطة اليقينية الضرورية لكل معرفة إنسانية، وهي تعطينا معرفة بالواقع، في حين أن التصورات عاجزة تماما عن الخروج من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، ثم يضع السهروردي التعريف الكامل لديه، ويسميه التعريف بالمفهوم بالعناية، ويحدده بأنه التعريف بأمور لا تختص آحادها الشيء ولا بعضها، بل تخصه للاجتماع.
9
ومما لا شك فيه أن السهروردي إذا كان قد ذكر بأن التعريف يتم بأمور تخصه: إما بتخصيص الآحاد والبعض أو الاجتماع (الكل)؛ فالتعريف هو انتقال من العام إلى الخاص، ومن الكل إلى الجزئي، ومن غير المشخص إلى المشخص، في حين أن التعريف الأرسطي انتقال من عام إلى عام، ولكن بدرجة أقل كما هو واضح في الكليات الخمس؛ فهي كليات لا تشير إلى تخصص، ومن ثم يستحيل تعريف الشيء عن طريقها.
10
وإذا كان السهروردي قد سبق بعض المناطقة الأوروبيين في العصر الحديث في التعريف الصحيح القائم على الكل أو الاجتماع، إلا أنه يختلف عنهم في أن هذا التعريف، والذي أطلق عليه اسم التعريف المفهومي، هذا التعريف ينتفع به في العلوم نفعا لا يقصر عن التعريف فحسب الماهية والحقيقة.
11
لأن التعريف المفهومي عند السهروردي أصح من التعريف بحسب الحقيقة ولا صعوبة فيه؛ لأن التعريف بحسب الحقيقة قد ينقدح وجوده في ماهية لا يعلمها صاحب التعريف (الحاد)، كما أنه يجوز الإخلال بذاتي لم يطلع عليه، وعلى العموم تكثر في هذا التعريف الأغاليط الحدية.
12
ويفرق السهروردي بين الحد بحسب المفهوم والعناية وبين الرسم؛ لأن الرسم يحصل باللوازم. بينما الحد المفهومي هو مجموعة المحمولات الذاتية التي نطلقها على الشيء بحسب المفهوم، كما يفرق بين التعريف بحسب المفهوم والعناية، والتعريف بحسب الاسم؛ فالتعريف بحسب المفهوم والعناية هو تصور أمور موجودة بالفعل، أما التعريف بحسب الاسم فهو تصور مفهومات غير معلومة الوجود في الخارج، سواء كانت موجودة أم لا.
13
وتفسير هذا أنه لا بد أن يتم التعريف بأمور تختص مجموعها بالشيء دون شيء من أجزائه. تعرف الخفاش مثلا أنه طائر ولود، وكل واحد من هذين الأمرين أعم من الخفاش، ومجموعها يختص به. أو تعرف الإنسان بأنه المنتصب القامة البادي البشرة، العريض الأظفار. وكل من هذه الصفات وإن جاز وجودها في غيره، ولكن المجموع يختص بها دون غيره مما نعرفه بين الماهيات، وما به ليتحصل تميزه.
14
وهنا يتضح أن السهروردي قد سبق بعض المناطقة المحدثين، وبخاصة جون استيوارت مل
G. S. Mill
وبرنارد بوزانكيت
B. Bosanquet .
فإذا كان «جون استيوارت مل» قد رفض التعريف الأرسطي، فإنه يرى أن التعريف الصحيح هو تعديد الصفات الخاصة بكل فرد،
15
غير أن «مل» قد سخر هذا التعريف لأسباب خاصة تخدم النزعة التجريبية التي يؤمن بها، ولهذا نجد «مل» يدعو إلى تعريف فردي واسمي يفسر الاسم، ويعدد صفات الفرد التي تتبين لنا عن طريق الإحساس، في حين أن التعريف عند السهروردي هو الذي يعدد صفات الفرد التي تتبين لنا عن طريق الإحساس أو طريق المشاهدة والذوق، فإذا وضح التعريف عن طريق الإحساس لا مانع من الأخذ به، لكن إذا وضح عن طريق المشاهدة والإدراك المباشر كان هذا أفضل.
أما بوزانكيت فقد أشار إلى أن التعريف الصحيح هو جمع الصفات، بمعنى إحصاء كل الصفات الذاتية ، التي إذا أخذت جملة لم توجد إلا في الشيء المعرف، ولو أنها قد توجد فرادى في أشياء أخرى.
16
وهكذا يتضح أن السهروردي رفض نظرية التعريف كما وضعها أرسطو في الأورجانون، وذلك لأنها تستند إلى الماهية وتكوينها في الجنس والفصل، ويكاد يتفق مع المتكلمين والفقهاء في هذا. كما يعد سابقا لبعض المناطقة الأوروبيين في العصر الحديث. والسبب في هذا يرجع إلى أن نظرية التعريف عند أرسطو ذات طابع ميتافيزيقي. هذا الطابع ترفضه كل الدراسات المنطقية القديمة والحديثة.
كما سبق السهروردي بعض المناطقة الغربيين في العصر الحديث في محاولة وضع تعريف بديل عن التعريف الأرسطي، وإن اختلف كل منهما في أمر هذا التعريف؛ أي إنهم يتفقون في المبدأ ويختلفون في الغاية.
ثالثا: اختصار المقولات الأرسطية
إذا كان السهروردي قد نقد المقولات العشر عند أرسطو، ثم اختصر هذه المقولات في خمس، وهي الجوهر والكم والكيف والنسبة والحركة؛ فالسهروردي قد سبق معظم مناطقة العصر الحديث في نقد المقولات العشر، باعتبار أن أرسطو لم يكن دقيقا أو متتبعا لمنهج معين،
17
بمعنى أدق إذا كان السهروردي قد أكد أن التقصير في المقولات كما وضح آنفا، فذلك لأن هذه المقولات - على حد تعبير عالم المنطق الفرنسي «جوبلو»
Goblot - اختلف المناطقة فيها اختلافا شديدا، حيث لم يستقر بعد لقائمة من قوائم هذه المقولات أي قرار، وليس هذا بغريب، فإن العلم الحديث أيضا غير مستقر، ولكن لا يمنع عدم الاستقرار والغموض في تقدم العلم، بل على العكس هو الدافع له.
ويلاحظ «جوبلو» أن الهندسة اكتملت في كثير من ميادينها، مع العلم أنه لا يوجد تعريف غير منقوض حتى الآن للخط المستقيم.
18
ومما لا شك فيه أن محاولة السهروردي رد المقولات العشر إلى خمس، تعد تصنيفا جديدا لمبحث المقولات سبق به السهروردي بعض المناطقة المحدثين الذين حاولوا وضع تقسيمات جديدة للمقولات، وأهمهم كانط
Kant ؛ فقد أراد كانط أن يتوج المنطق بقائمة للمقولات على غرار ما فعل أرسطو من قبل، غير أن المقولات، وإن كان بعضها مماثلا لمقولات أخرى عن أرسطو، فليس لها دلالة المقولات الأرسططاليسية، بل إن بين الفلسفتين فارقا أساسيا في وجهة النظر، ذلك لأن الانقلاب الذي أحدثه «كانط»، والذي كان استمرارا لتفكير «ديكارت»، قد أحل المثالية الحديثة محل واقعية الفلسفة القديمة.
19
ويقسم «كانط» المقولات إلى اثنتي عشرة مقولة: أربع رئيسية وهي: الكم والكيف والإضافة والجهة، وتنطوي كل منها على ثلاث مقولات فرعية؛ فالمقولات الفرعية للكم هي: «الواقعية والسلبية والتحديد»، والمقولات الفرعية للإضافة هي: الجوهر والعلية والمشاركة، أما المقولات الفرعية للجهة فهي: «الإمكان والوجود والضرورة».
20
ولقد كانت قائمة المقولات عن «كانط» نقطة بداية قوائم أخرى، نسبتها إلى قائمة «كانط» هي نفس نسبة أرسطو للقوائم التي وضعها المناطقة العرب إلى قائمة أرسطو؛ فنجد مثلا عالم المنطق الفرنسي «رونفييه» متأثرا ب «كانط»، وفي ضوء المذهب الكانطي يرى أن المقولات هي قوانين المعرفة الأولية والتي لا يمكن ردها إلى غيرها، وهي العلائق التي بها تعين الصورة وينتظم الآن. أما هذه المقولات عنده فهي الوجود، أو العلاقة، العدد والوضع والتتابع والكيفية والتغيير والعلية والغائية والشخصية.
21
كما تطلع «هاملتون»
Hamilton (1856-1907) إلى بناء سلسلة للمقولات، وذلك عن طريق العلية الثلاثية التي سار عليها «كانط»، والمركب من القول ونقيضه، ويحصرها في خمسة مواضع: (1)
الإضافة والعدد والزمان. (2)
الزمان والمكان والحركة. (3)
الحركة والكيف والاستحالة. (4)
الاستحالة والنوعية والعلية. (5)
العلية والغائية والشخصية.
22
هذه صورة للمقولات في المنطق الحديث، حاولنا تلمسها لكي نثبت أن السهروردي سبق دعاة المنطق الحديث فيما توصلوا إليه بخصوص اختصار المقولات الأرسطية.
رابعا: الاهتمام بالقضايا الشرطية بجانب القضايا الحملية
عرض السهروردي للقضايا الشرطية بعد عرضه للقضايا الحملية على أساس أنها ما يتركب من القضايا الحملية؛ أي القضايا الحملية هي ما يتركب من الحدود، والقضايا الشرطية هي ما يتركب من القضايا الحملية «قد يجعل من القضيتين قضية واحدة، بأن يخرج كل واحدة منهما عن كونها قضية ويربط بينهما؛ فإذا كان الربط بلزوم، يسمى قضية شرطية متصلة، كقولهم: إذا كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا، وما قرن به حرف الشرط من جزءيها يسمى المقدم، وما قرن به حرف الجزاء يسمى التالي.»
23
وتحديده هذا للقضية الشرطية المتصلة لا يختلف عما هو معروف لدى ابن سينا، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالشرطية المنفصلة التي يذكر فيها التحديد والأمثلة ذاتها «إن كان الربط بين الحمليتين بعناد يسمى شرطية منفصلة، كقولنا: إما أن يكون هذا العدد زوجا وإما أن يكون فردا، ويجوز أن يكون أجزاؤها أكثر من اثنين، والحقيقة هي التي لا يمكن اجتماع أجزائها ولا الخلو عن أجزائها.»
24
ولكن السهروردي لا يحاول رد القضايا الشرطية إلى قضايا حملية، وإن كان ذلك ممكنا لبعضها الذي يكون أقرب إلى الحملية منه إلى الشرطية، لوجود أداة الشرط أو الفصل بعد الموضوع. يقول السهروردي: «اعلم أن الشرطيات يصح إلى الحمليات بأن يصرح باللزوم أو العناد، فيقال: طلوع الشمس يلزمه وجود النهار أو يعانده الليل، فكأن الشرطيات محرفة عن الحمليات.»
25
ومعنى هذا أن السهروردي لا يوافق على اعتبار القضية الشرطية حملية، وإن كان بعض الشرطيات من الممكن أن يكون في قوة الحمليات، أو أقرب إلى الحملية منه إلى الشرطية، ومن الممكن رده إلى الحملي، ولكن ذلك لا ينبغي وجود الشرطي، وإن تساوى مع الحملي للتلازم الموجود بين القضايا.
ولقد رفض السهروردي اعتبار القضايا الشرطية حملية، لعدم تساويها وإن وجد تساو بينهما، فإنه لا يقضي على ضرورة وجود الشرطيات.
والسهروردي بذلك يكون على اتفاق مع ابن سينا الذي اهتم بالقضايا الشرطية، ورأى ضرورة استغلالها وعدم إمكان ردها إلى الحملية دون إفساد لطبيعتها، وأن الحملية لا يمكن أن تؤدي المعنى الذي تؤديه الشرطية، وإن كان هناك قضايا شرطية ومنفصلة هي أقرب إلى الحملية منها إلى الشرطية، وهي التي تأتي أداة الشرط أو أداة الفصل بعد الموضوع لا قبله، وقد أوضح ابن سينا ما يميز الشرطية والمنفصلة عن الحملية، وإن كان هناك أمور مشتركة بينهما.
26
ومن ثم يتضح مدى تأثر السهروردي بابن سينا، وهذا يدل على أن كلا منهما على اتفاق في نقد المنطق الأرسطي الذي أهمل هذا النوع من القضايا والاستدلالات، الأمر الذي يترتب عليه أن القياس الأرسطي ليس هو المنطق الأولي، وأن المنطق الشرطي سابق عليه منطقيا، لأنه منطق قضايا غير محللة، وبالتالي يكون أقل تعقيدا من منطق أرسطو الذي هو منطق للقضايا المحللة إلى موضوع وسور ورابطة منفية أو مثبتة.
إن اهتمام السهروردي وابن سينا بمبحث القضايا الشرطية يجعل كلا منهما على اتفاق مع المنطق الرياضي الحديث الذي يحلل القضية الحملية الكلية فيردها إلى قضية شرطية، ويحلل القضية الحملية الجزئية، ويردها إلى قضية متصلة أو عطفية، من الممكن أن تحول إلى منفصلة، وحتى إلى شرطية.
27
ومن أشهر من قام بذلك «فريجه»؛ حيث حاول وضع رموز تعبر عن جميع القضايا الحملية، بعد تحليلها تحليلا كاملا وصياغتها بلغة الأسوار والدوال، وقد بين أن جميع التعبيرات الدالية ذات الأسوار عن القضايا الحملية من الممكن أن توضع على هيئة قضايا شرطية، أو على هيئة قضايا من الممكن أن ترد إلى الصورة الشرطية.
28
خامسا: رد القضايا السالبة إلى قضايا موجبة
إذا كان السهروردي قد رد القضايا السالبة إلى قضايا موجبة، كما أوضحنا سابقا، فهو بهذا قد نظر نظرة تشبه نظرة العالم المنطقي «رونفييه» و«دي مورجان» و«برجسون» في العصور الحديثة. (1) أما رونفييه
فيرى أن القضية السالبة في أية صورة كانت تساوي دائما موجبة، فنحن نستطيع أن نعبر عن القضيتين «لا واحد من الناس بسعيد» أو «بعض الناس غير عادلين»، بالقضيتين «وكل إنسان شقي» أو «بعض الناس ظالمون»؛ فمن هذا يستنتج أن القضية السالبة ترد إلى موجبة، وتتكون بواسطة نفس العناصر، الشيء الوحيد المختلف هو أن المحمول أو الصفة بدلا من أن تكون محدودة لجنس بحد معين، تتحدد بمجموعة شيء آخر غير هذا الحد المعين.
29 (2) أما دي مورجان
De morgan
فذكر أن السوالب هي فقط أعراض لغوية أو تعبيرات لغوية بسيطة أمكن إذن التعبير عنها في ألفاظ موجبة، شكل اسم سالب يعبر عنه باسم موجب، ولا محل إطلاقا لوجود قضايا.
30 (3) أما برجسون
Bergson
فقد عرض للأحكام السالبة وقيمها في كتابه «التطور الخالق»، وهو يصور ذلك في تحليل بارع ل «فكرة العدم»؛ فرد الأحكام السالبة إلى أحكام موجبة، وأنكر وجود تصورات سالبة في العقل. يقول: «النفي (السلب) هو إثبات من الدرجة الثانية، وهو يثبت شيئا لإثبات يثبت بدوره شيئا لموضوع.»
31
أي أن النفي (السلب) ليس إلا مسلكا يحذوه الذهن تجاه إثبات المحتمل، فعندما أقول: إن هذه المائدة سوداء فإني أتكلم عن المائدة دون شك؛ فلقد رأيتها سوداء وحكمي يعبر عما رأيت، لكن إذا قلت: «إن هذه المائدة ليست بيضاء»، فمن المؤكد أنني لا أعبر عن شيء قد أدركته، وذلك لأني رأيت سوادا لا غيبة للبياض، إذن لا أصدر هذا الحكم في الواقع على المائدة نفسها، وإنما أصدره من باب أولى على الحكم الذي يصرح بأنها بيضاء، وأنا أصدر حكما على حكم لا على المائدة؛ فالقضية: هذه المائدة ليست بيضاء، تتضمن أنك تستطيع أن تعتقد أنها بيضاء، أو أنك كنت تعتقد أنها بيضاء، أو أني كنت أوشك أن أعتقد أنها كذلك، فأنا أنبهك مقدما أو أنبه نفسي إلى أن هذا الحكم يجب أن تستبدل به حكما آخر، وحقيقة أني أترك هذا الحكم الآخر غير محدود، وهكذا نجد أن الإثبات إذا كان ينصب على الشيء مباشرة، فإن النفي (السلب) لا ينصب على الشيء إلا بطريق غير مباشر؛ أي خلال إثبات يعترض سبيله؛ فالقضية الموجبة تعبر عن حكم على موضوع، أما القضية السالبة فتعبر عن حكم على حكم.
32
علاوة على ذلك فإن «برجسون» يرى أن كل حكم سالب يدخل فيه عنصر اجتماعي يتجاوز المنطق والفكر من حيث هما منطق وفكر؛ فالنفي (السلب) إذن ماهية اجتماعية وتربوية، وذلك لأن عملية السلب هي أن يجيب على حكم: إما ملفوظا وإما بالقوة عند شخص آخر، فليس للحكم إذن من حيث هو نفي (سلب) أية قيمة منطقية في ذاته، وهو لا يكون إلا نصف فعل عقلي، بينما يترك النصف الآخر غير معين، فعلى الشخص الآخر الذي يوجه الحكم إليه أن يعين هذا النصف الآخر غير المعين؛ فالحكم السالب إذن لا قيمة له فعلية.
33
وينتهي برجسون إلى القول بأنه لا توجد أحكام سالبة أو أفكار سالبة، وليس في العقل لا وجود لغير الموجود، ويستخرج برجسون نتائج ميتافيزيقية من تحليله، وعلى وجه الخصوص النتيجة التي تقول: «إن العدم هو فكرة مزعومة لا وجود لها».
34
سادسا: رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية
إذا كان السهروردي قد رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية ، مؤكدا أنه في العلوم لا تطلب البرهنة على القضايا الجزئية، بل على القضايا الكلية؛
35 ⋆
فالسهروردي هنا كان هدفه هو العمل على التخلص من الإهمال والبعضية بالافتراض؛ أي من خلال فرض أن المجموعة الجزئية تشكل فئة مستقلة ذات خصائص مميزة يمكننا أن نطلق عليها حكما كليا يشمل جميع أفرادها، وإذا تم حمل المحمول على كافة عناصر الموضوع تصبح القضية كلية، وبذلك يمكن رد القضية الجزئية إلى قضية كلية، من خلال الحصر الواضح للأفراد التي ينطبق عليها الحكم، وكأنه عودة بالقضية الجزئية إلى نوع من الاستقراء التام الذي نعمل من خلاله على تكوين فئة مستقلة تامة من هذه الجزئيات؛ أي إذا قلنا «بعض الورود حمراء» نستطيع جعلها قضية كلية من خلال الاستقراء الذي يعمل على تحديد الأنواع الحمراء بشكل دقيق، والتي هي «أ، ب، ج، د»، ونستطيع بعد ذلك أن نحمل عليها حكما كليا.
36
وما توصل إليه السهروردي يذكرنا ربما - على حد تعبير «بوزانكيت»
Bosanquet - «أن القضية الجزئية قضية غير علمية؛ فهي تعبر عن وصف ناقص، كما أنها تعبر عن إحصاء غير تام».
37
علاوة على أن المناطقة الرياضيين يرون أن الانتقال من مقدمة أو مقدمات كلية إلى نتيجة جزئية غير جائز؛ لأن الكلية مجرد فرض لا يتضمن ذلك الوجود الذي تشير إليه القضية الجزئية، كما أن القضايا الكلية لكونها فروضا تكون صادقة دائما، سواء وجد موضوعها أو لم يوجد، في حين أن القضية الجزئية قد تصدق وقد تكذب.
38
ويظهر الفرق واضحا بين القضية الجزئية والقضية الكلية عند «برتراند راسل»، الذي يرى أن القضية الجزئية تحوي السور الوجودي، وثابت الربط، ولا تنطوي على صيغة الشرط، بينما القضية الكلية تحوي السور الكلي، وثابت التضمن، الذي ينطوي على شرط، وذلك لتوضيح أن القضايا الجزئية تقرر وجودا واقعيا لموضوعها، ومن ثم ثابت صيغة الشرط، بينما القضية الكلية لا تتضمن تقرير الوجود الواقعي لموضوعها، ومن ثم صيغت في شرط، وبالتالي يمكن لأفراد موضوعاتها وجود واقعي.
39
وإذا كان السهروردي قد رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية، فهو لا ينكر القضايا الجزئية، وإنما يرى أنه ينتفع بها بعض نواحي التناقض والعكس المستوي. ويمكن تلمس هذه الفكرة بطريق غير مباشر لدى عالم المنطق «كينز»
Keynes
الذي يرى أن للقضية الجزئية فائدتين: (1)
فالمقصود بها غالبا أن تكون نفيا لأخرى أولى من أن تكون وصفا لحالة إيجابية، وبذلك تكون الجزئية الموجبة نفيا للكلية السالبة، ولا تكون الجزئية السالبة نفيا للكلية الموجبة. (2)
أحيانا لا تهم معرفة الكل، بل معرفة البعض؛ ففائدة القضية الجزئية: هي التعبير عن حالة لا تهمني منها أن أعرف الكل، بل إثبات وجود شيء فقط، ويلاحظ كذلك أن القضية الكلية المطلقة لا تكاد توجد؛ لأن القضية الكلية تتكون من إحصاء الجزئيات. والجزئيات لا تتناهى، وبهذا يبقى في كل قضية كلية نوع من الشك أو الاحتمال. ومن هنا قيل إن لكل قاعدة شواذ؛ فالقضية الكلية لا تعبر عن حقيقة الوجود، بل هي تعبير مصطنع يستخدم في التفاهم.
40
سابعا: عدم اعتبار القضايا الشخصية قضايا كلية
إذا كان السهروردي قد أنكر القضايا الشخصية حين ذكر بأن «الشواخص لا يطلب حالها في العلوم»؛ فذلك لأنه يرفض تماما اعتبار الشواخص قضايا كلية - كما ذهب أرسطو؛ حيث رأى أرسطو وتلامذته أن القضية الشخصية والكلية من صورة منطقية واحدة، والشواهد على ذلك ما يلي: (1)
كان أرسطو يعتبر القضية الشخصية كما لو كانت قضية كلية إذا دخلت مقدمة في قياس. (2)
تنطوي القضية الكلية على تقرير وجودي لأفراد موضوعها؛ أي أن الحد العام يدل على وجود واقعي، كما أن اسم العلم يشير إلى شيء جزئي في الواقع، ذلك لأن أرسطو كان قد وصل إلى صياغة نظريته الواقعية في المعنى، يكون بمقتضاها للكليات والمعاني العامة قوام واقعي، وإن كان واقعا غير محسوس. (3)
موضوع القضية الشخصية مستغرق كموضوع القضية الكلية، ذلك لأننا ننظر إلى «سقراط» في القضية «سقراط فان» مثلا على أنه حد يسند المحمول كله إليه لا إلى جزء منه، واسم العلم لا يجري عليه التجزيء.
41
وبالرغم من أن أرسطو وتلاميذه لم يميزوا تمييزا حاسما بين القضية الشخصية والقضية الكلية، فإنا نجد عند السهروردي نقطا توحي بإدراكه لهذا التميز حين أشار إلى أن الشواخص لا يطلب حالها في العلوم.
والسهروردي بهذا قد سبق المنطق الحديث الذي يرى أن فكرة اعتبار القضايا الشخصية قضايا كلية اعتبار خاطئ، ويعلل بعض الباحثين هذه الاعتبارات للأسباب الآتية:
42 (1)
موضوع الكلية حد كلي يشير إلى فئة أو مجموعة، أما موضوع الشخصية فحد فردي أو شخصي يشير إلى شيء واحد بعينه، وليس إلى كثرة من الأشياء. (2)
الكلية قضية مسورة أو تقبل التسوير، أما الشخصية فهي غير مسورة ولا تقبل التسوير. (3)
الكلية قضية من الممكن أن تعكس عكسا كاملا، أو بالعرض، بأن يحل موضوعها محل محمولها، ومحمولها محل موضوعها، مع المحافظة على الكيف والصدق وعدم استغراق الحدود التي لم تكن مستغرقة، وبالنسبة للكم فقد حافظ عليه في حالة العكس الكامل ولا تحافظ عليه في حالة العكس بالتحديد (الذي لا يجيزه المنطق الحديث)، أما الشخصية فلا يمكن أن تعكس في جملة أو قضية مقبولة لغويا. (4)
من الممكن أن نحصل من الكلية على نقض العكس المستوي، وعكس النقيض المخالف والموافق والنقض الجزئي (نقض الموضوع) والنقض التام (نقض الموضوع والمحمول)، أما في الشخصية فلا يمكن الحصول على أي نتيجة لاستحالة إجراء هذه العمليات الاستدلالية ابتداء من الشخصية، نظرا لعدم إمكان عكسها. (5)
بين الكلية الموجبة والكلية السالبة يقوم تضاد، فلا تصدقان معا، وقد تكذبان معا، لإمكانية انطباق الحكم على البعض دون البعض الآخر، وبالتالي لا يصح انطباقه على الكل أو عدم انطباقه على الكل، أما بين الشخصية الموجبة والشخصية السالبة فهناك تناف؛ فلا تصدقان معا ولا تكذبان معا، ووجود أي احتمال آخر فحكمه حكم التناقض، وإن كان لا يشترك مع التناقض إلا في اختلاف الكيف؛ لأنه لا ينطوي على اختلاف في الكم . (6)
بين الكليات والجزئيات المتحدة في الكيف هناك تداخل يقبله ضمنا أرسطو، ويقبله صراحة أتباع أرسطو، ابتداء من «الإسكندر الأفروديسي» الذي أدخله ويرفضه المنطق الحديث، أما بين الشخصيات والجزئيات فلا تقوم مثل هذه العلاقة، بل تقوم علاقتان جديدتان، هما: التمثيل الوجودي في حالة الانتقال من الجزئيات إلى الشخصيات، والتعميم الوجودي في حالة الانتقال من الشخصيات إلى الكليات. (7)
بين الكليات والشخصيات المعتمدة في الكيف تقوم علاقتان جديدتان هما التمثيل الكلي، إذا انتقلنا من الكليات إلى الشخصيات، والتعميم الكلي إذا انتقلنا من الشخصيات إلى الكليات، وبين كليات متحدة في الكيف لا تقوم أي من هاتين العلاقتين. (8)
بين الكليات والجزئيات المخالفة في الكيف تناقض لا يجتمع فيه صدق القضيتين المتناقضتين أو كذبهما، أما بين الشخصيات والجزئيات المخالفة لها في الكيف فلا توجد أي علاقة. (9)
القضية الكلية من الممكن أن تستخدم كمقدمة كبرى في جميع أشكال القياس، أما القضية الشخصية فلا نستطيع أن نستخدمها كمقدمة كبرى في جميع أشكال القياس، باستثناء الشكل الثالث الذي ننتقل فيه من مقدمات شخصية إلى نتيجة جزئية، وقد سمح أرسطو باستخدام الشخصية كمقدمة في قياس بعد أن كان - فيما يبدو - يرفض ذلك. (10)
القياس الذي يحتوي على قضية كلية من الممكن أن تبرز مشروعيته برده إلى الضرب الكامل، أو بأن يشتق منه إذا لزم الأمر، بإجراء عكس مستو كامل، أو بالعرض على هذه القضية الكلية أو الكلية المناظرة لها في الضرب الكامل، أما القياس الذي يحتوي على قضية شخصية، فلا يمكن أن تبرز مشروعيته برد أو باشتقاق، ما دامت الشخصية لا تعكس.
إذن فاعتبار أرسطو للشخصيات على أنها كليات أمر مرفوض، ويجب علينا أن نعتبر الشخصيات قضايا - مستقلة عن الكليات.
43
ثامنا: التحلل من عدد أضرب أشكال القياسات الأرسطية
إذا كان السهروردي قد رد كل ضروب أشكال القياس إلى الضرب الأول من الشكل الأول، فهو في هذا لم يقبل الشكلين الثاني والثالث؛ لأن القضية الوحيدة المنتجة عنده هي القضية الكلية الموجبة الضرورية (البتاتة).
وهنا يتضح أن السهروردي قد حاول لأول مرة في تاريخ المنطق العربي التحلل من عدد أضرب أشكال القياسات الأرسطية، وتلك كانت غاية بعض المناطقة الرياضيين في العصر الحديث، الذين حاولوا اختبار أضرب أشكال القياسات الأرسطية في ثلاث طرق:
44 (1)
الطريقة الجبرية. (2)
الطريقة الهندسية. (3)
الطريقة المنطقية.
ويمكن أن نعرض لهذه الطرق بإيجاز: (1) الطريقة الجبرية
وتتمثل هذه الطريقة عند «ليبنتز» و«هاملتون» و«جورج بول». أما «ليبنتز» فقد جعل الشكل الأول مكونا من ستة ضروب، وذلك أنه يستبدل بالنتائج الكلية لكل من
celarent ،
barbara
جزئيات متوافقة، كما أنه يضع ستة أضرب للشكل الثاني، وذلك بأن يقيم عملية تداخل لنتائج
cesare ،
camestres ، وأخيرا يضع ستة أشكال للشكل الرابع، وذلك بأن يقيم عملية تداخل لنتيجة
celarent ، ولكن كل هذه التقابلات ليست في الحقيقة إلا أقيسة لاحقة
episyllogism ؛ أقيسة تتضمن نتيجة القياس السابق، ولا صلة لها إطلاقا بمقدمات القياس الأصلي، لكن «ليبنتز» اعترف مع ذلك بأن الضروب التقليدية هي وحدها المنتجة. وقد اعترف أيضا بأن أشكال المدرسيين الأربعة تتفاوت دقة وشرفا. الشكلان الثاني والثالث أقل درجة من الأول، والشكل الرابع أقل درجة من الثاني والثالث، وكل الضروب ترد إلى مبدأ الذاتية، وتثبت بواسطة قياس الخلف، وذلك بسبب التعارض الذي يوجد بين المقدمة والنتيجة المتناقضة معها ذات الكم والكيف المختلفة، والتي تصل إلى نفس المقدمتين من هذه النتيجة.
45
وأما هاملتون فإن رأيه في عدد الأشكال والضروب إنما يتكيف طبقا لنظرية كم المحمول وتصوره العام عن المنطق الصوري. وقد قام هاملتون بتبسيط الأشكال كلها، وذلك أن محل قضية عنده هو مساواة أو رمز على مساواة كمية تحل محل الرابطة المنطقية الكيفية. ليس هناك إذن حد أكبر ولا أصغر ولا أوسط، ولا يوجد شكل قياس. الشكل: هو تغير عرض للصورة القياسية، إذن ليس ثمة مشروعية في رد الشكل الثالث إلى الأول، والشكلان الثاني والثالث صورتان غير متكاملين، استدلالين غير تامين، والأقيسة الوحيدة هي الأشكال الثلاثة الأولى. وأميز مثال للاستدلال هو:
ب = أ.
ج = ب. ∴
ج = أ.
والمبدأ الذي يسيطر على المنطق عنده ويسوده هو مبدأ إحلال المتشابهات؛ الواحدة محل الأخرى، وهذا مبدأ رياضي بحت ، وكانت له أهمية في جيفونز
Jevons
الرياضي فيما بعد.
كان هاملتون يميل إلى اعتبار المنطق جبرا أو علامات تحل محل الأفكار، وقد أدت محاولة هاملتون هذه إلى أنه وضع عددا من الضروب أكثر بكثير من ضروب المنطق المدرسي؛ ففي الأشكال الثلاثة التي قبلها هاملتون، يكون عدد الضروب المنتجة مائة ضرب لكل شكل؛ 12 ضربا موجبا، و35 ضربا سالبا.
46
وأما جورج بول فقد أكد أننا نستطيع أن نبرهن بطريقة جبرية على صحة الأضرب القياسية، ونستطيع بها أن نسقط الأضرب غير المنتجة والفاسدة التي تسقطها الطريقتان اللتان اتبعهما المناطقة المشاءون (الطريقة التجريبية والطريقة التقليدية)، ولكنها تسقط بالإضافة إلى ذلك خمسة أضرب ضعيفة، سمح بها مناطقة العصور الوسطى هي
Barbari ،
Celaront ،
Cesarop ،
Camestro ،
Camenop ، وأربعة أضرب قوية سمح أرسطو باثنين منها وهما
Darapti ،
Felapton ، وسمح من أدخل الشكل الرابع ومن تابعه بالاثنين الباقيين، وهما
Bramantip ،
Fesapo ، وذلك لأن هذه الأضرب تنتقل من كليات تعبر عن فروض إلى جزئيات تؤكد الوجود، وعلى ذلك فهي تقبل خمسة عشر ضربا من الأضرب التي تقبلها الطريقة المشائية الأرسطية، وترفض الأضرب الباقية.
47 (2) الطريقة الهندسية
وتتمثل لدى «جون فن»
G. Venn ، وفي هذه الطريقة حاول فن أن يبرهن برسوم هندسية بدون معرفة أي قاعدة من قواعد القياس العامة أو الخاصة بكل شكل من الأشكال الأربعة، وأن هذه الطريقة الهندسية تسقط كما أسقطت الطريقة الجبرية تسعة أضرب صحيحة عند أرسطو وعند أتباعه، منها أربعة قوية وخمسة ضعيفة، ويسقط منها مبدأ المقول على الكل وعلى اللاواحد الذي يقرر أن ما يصدق على الكل أو نفيا يصدق على كل ما يتدرج تحته؛ لأن هذا الكل قد لا يكون له وجود.
48 (3) الطريقة المنطقية
وهي طريقة حساب القضايا؛ فهي تبرهن على فساد الأضرب الفاسدة؛ لأننا في حالة هذه الأضرب: إما أن نتوقف فلا نجد من القواعد ما يسعفنا، ولكن ليس التوقف دليلا كافيا على فساد القياس أو الاستدلال، فربما يرجع إلى معرفة القواعد، وإما أننا لا نتوقف ونجد من القواعد ما نستخدمه، ونصل به إلى نتيجة تخالف نتيجة القياس، وذلك كما في الأضرب الضعيفة.
49
تاسعا: إنكار الشكل الرابع
إذا كان السهروردي يقبل الشكل الأول لأنه أكمل الأشكال وأوضحها، كما يقبل الشكلين الثاني والثالث، وإن كانا أقل وضوحا من الشكل الأول، إلا أنه ينكر الشكل الرابع، باعتباره القياس الذي لا يتفطن لقياسيته ولذلك حذف. فقد تأثر السهروردي في هذا بابن سينا الذي ينظر إلى الشكل الرابع، وقد صرحه بالفعل فوضع بحثا خاصا للشكل الأول وآخر للشكل الثاني، وثالثا للشكل الثالث، وألغى اعتباره الشكل الرابع نهائيا الذي كان موضع أخذ ورد؛ لأنه بعيد عن الطبع، ولا تكاد تسبق قياسيته إلى الذهن وفي إثبات حجته كلفة مضاعفة كما يقول.
50
وهنا يتضح أن إنكار السهروردي للشكل الرابع يرجع إلى اختلاف المناطقة العرب فيه، فمنهم من ينكره ومنهم من يقبله؛ فالمتقدمون ينكرون هذا الشكل باعتباره: (1)
أنه بعيد عن الطبع وينطوي على كلفة ومشقة.
51 (2)
أن أرسطو هو واضع هذا الشكل، إنما هو من وضع المتأخرين.
52
أما المتأخرون فقد تحدثوا عن هذا الشكل ضمن حديثهم عن أشكال القياس، محددين شروطه وضروبه المنتجة، فتحدثوا عن الضروب الخمسة المعروفة في كتب المنطق العامة.
53
وأما في المنطق الأوروبي الحديث، فقد لقي الشكل الرابع كثيرا من الهجوم والدفاع؛ حيث يرى «كينز» أنه لا يكاد يظهر في كتب المنطق إطلاقا قبل بداية القرن الثامن، ولا يزال يتنكر له كثيرون من علماء المنطق المحدثين، ومن هؤلاء «باون»
Bowen
الذي يشير إلى أن الشكل الرابع ما هو إلا بمثابة الشكل الأول عكس حد النتيجة؛ أي أننا لا نستدل على النتيجة الحقيقية من الشكل الرابع، بل نستدل بها من الشكل الأول، ثم إذا دعا الحال عمدنا إلى نتيجة هذا الشكل الأول.
ولقد تابع «باون» كثير من المناطقة في إنكار الشكل الرابع؛ فيذكر «جوبلو» بأنه ليس ثمة غير ثلاثة أشكال للقياس الحملي، وذلك لأنه لكي يمكن الحد الأوسط أن يدخل الأكبر في الأصغر أو يستبعده منه، لا بد أن يكون مرتبطا بالواحد وبالآخر، ولا يمكن إلا أن يكون موضوعا للواحد وللآخر مثبتان له أو منفيان عنه، أو محمولا مثبتا أو منفيا عن الواحد أو عن الآخر أو عن كليهما معا ... والحالة الأولى هي حالة الشكل الثالث، وفي الحالة الثانية إذا كان الحد الأوسط مرتبطا مع الاستغراق، إما بوصفه موضوعا للشكل الأول، أو بوصفه محمولا للشكل الثاني؛ فإنه يمكنه إدخاله في الموضوع أو إبعاده عنه، ولكن يجب من أجل هذا أن يكون مثبتا للأصغر، أما في الشكل الرابع فإن الأصغر هو الذي سيكون للأوسط أو منفيا عنه؛ فإذا كان من الممكن استنتاج شيء من مثل هذه المقدمات، فإن ذلك لا يكون الصغرى والأوسط موضوعها مساوية لقضية الأصغر تستخرج عنها بواسطة العكس المستوي، هذه الأخيرة هي الصغرى حقا.
كما يهاجم جوزيف
Joseph
الشكل الرابع قائلا إن نظرية القياس قد أصابها كثير من الغموض والفساد بإضافة الشكل الرابع؛ لأن في جعله شكلا مستقلا يؤدي إلى أن يكون التمييز بين الحد الأكبر والحد الأصغر قائما على أساس موضعهما في النتيجة، وليس مع طبيعتيهما، ما يجعل الأكبر أكبر والأصغر أصغر.
كما تعرض بعض المناطقة المحدثين لمشكلة وضع هذا الشكل الرابع؛ فبعض المناطقة يرون أن «جالينوس» هو واضع الشكل، والبعض الآخر يرفض ذلك، إلا أن «يان لوكاشفيتش» يثبت في دراسته الدقيقة لنظرية القياس الأرسطية أن جالينوس ليس هو صاحب الشكل الرابع من أشكال القياس، وإنما انتقل هذا الرأي خطأ إلى المناطقة الأوروبيين في العصر الوسيط عن طريق ابن رشد، ويعتبر لوكاشفيتش الآراء التي حاولت تبرير هذا الرأي بأن ثمة اكتشافا أصلا حول الشكل الرابع من أشكال القياس يثبته من خلال حاشية ضمنها «ماكسيمليان» و«أليس» لمؤلف مجهول، وذلك عند تحقيقه للشروح الأرسطية. ومن بين ما تثبته هذه الحاشية أن الشكل الرابع من وضع شخص آخر غير جالينوس، ولكنه إما أنه لم يفهم من نصوص جالينوس، ولم يطلع عليها أصلا، وقد يكون أراد لرأيه حين نسب هذا الشكل إلى جالينوس على اعتبار أنه من كبار المناطقة بعد أرسطو.
54
وعلى ذلك ينادي لوكاشفيتش إلى أن الشكل الرابع من أشكال القياس الحملي ليس من وضع جالينوس، ولكنه أيضا ليس من وضع مؤلف مجهول، إذ إن نصوص أرسطو الواردة في التحليلات الأولى تثبت أصلا معرفته بالشكل الرابع من أشكال القياس، إلا أنه يأخذ على أرسطو قوله «إن كل قياس لا بد أن يكون في واحد من هذه الأشكال الثلاثة»، ذلك لأن أرسطو ذاته كشف عن وجه رابع ممكن حين أخذ يرد بعض ضروب من الشكل الرابع - الذي لم يتحدث عنه كشكل مستقل - إلى ضروب من الشكل الأول.
55
وينتهي إلى النتيجة التالية: «ينتج مما تقدم أن أرسطو يعلم ويقبل كل أضرب الشكل الرابع، وينبغي توكيد ذلك في معارضة الرأي الذي ذهب إليه بعض الفلاسفة القائلين إنه رفض هذه الأضرب، وفي رفضها خطأ منطقي لا نستطيع أن ننسبه إلى أرسطو. ولقد كان الخطأ الوحيد يقوم في إهماله هذه الأضرب في قسمته المنهجية للأقيسة، ولسنا نعرف السبب في ذلك الإهمال.»
56
نتائج الدراسة
بعد هذه الجولة من دراستنا للعلاقة بين المنطق والتصوف في تراثنا الفكري «السهروردي المقتول نموذجا»، نود أن نشير إلى أهم النتائج التي توصلنا إليها، وذلك على النحو التالي: (1)
لا شك أن المنطق الإشراقي عند السهروردي قد انطلق من نزعة إنسانية شاملة ترمي إلى إحياء الحكمة العتيقة التي ما زال أئمة فارس والهند ومصر وقدماء اليونان إلى أفلاطون يدورون عليها ويستخرجون منها حكمتهم؛ فحاول السهروردي من خلال حكمة الإشراق أن يجمع كل التيارات الكبرى في الفكر الشرقي واليوناني في نظام متناسق داخل الحضارة العربية، وذلك بالبحث عن منهج شامل يجمع بين الكشف والبحث، وتجلى ذلك في موقفه من المنطق الأرسطي؛ فقد قبله بشكل عام، وعده إحدى رياضيات المتصوفة الإشراقية، ومن ثم حاول أن يطبعه بطابعه الإشراقي، جاعلا من المنطق الأرسطي سلما صاعدا إلى عالم الإشراق؛ فالطريقة البحثية الخالصة مرحلة أولى تؤدي إلى التأمل المباشر في الحقائق المعقولة، وهذه الطريقة البحثية الخالصة، برغم قصورها، إلا أنها طريقة حسنة لمن لم تهبط عليه «سوانح نورانية»، لكن عقلا دون سند يسنده لا يجدر الوثوق به. (2)
لقد كشف لنا المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول أن منهج الصوفية لا يتعارض مع منهج المناطقة؛ فمنهج الصوفية في نظره يقوم على تجاوز ثنائية الذات والموضوع، لرؤية الوحدة الكامنة خلف هذه الثنائية وخلف التعدد الظاهر من خلال النور الإلهي، ولا يعني ذلك أن الأشياء تتوحد، بل يرى العارف الوحدة كامنة وراء الأشياء جميعا، ولذا رفض اعتبار المنطق والعقل وسائط بين الذاتين الإلهية والإنسانية، وذلك لا يعني أن الصوفية قد أنكروا دور العقل والمنطق في عملية المعرفة، بل الكثير منهم أقر به، ولكن ضمن نطاق عالم الكثرة والتعدد؛ فالمنطق العقلي منطق كثرة وتعدد لا منطق وحدة واتصال، ولذا رأينا السهروردي، ومن بعده عبد الحق بن سبعين، يعرضان في كتبهما للمنطق الأرسطي لبيان قدرته في التوصل للحقيقة، ثم يعقبانه بالنقد عندما يتجاوز قدرته وعالمه؛ فهذه المعرفة لا تخضع في دلالتها ولا في طريقها إلا لاعتبار واحد هو اعتبار التجربة الداخلية. (3)
إن النزعة الإشراقية التي ينطلق منها السهروردي قد صبغت نقده للمنطق الأرسطي ببعد صوفي يتبدى من خلال محاولته دمج المنطق الأرسطي من خلال منظومته الإشراقية، وإعطائه دورا مهما ممهدا لعملية الإشراق. (4)
إن مسيرتنا خلال هذا البحث كشفت لنا عن أن السهروردي لم يبدأ مشائيا، ثم انتهى إشراقيا أو العكس بالعكس، بل إنه سار في الاتجاهين معا منذ ريعان الصبا، ثم راح أحد الاتجاهين يغلب على الآخر في سياق التأليف وهو دون الثلاثين؛ فبرز الاتجاه الإشراقي في الرسائل على حساب الاتجاه المشائي، وبخلاف ما حصل في الكتب الأرسطية حتى توحد معا في «حكمة الإشراق» الذي لا يخلو من منهجية الفلاسفة وطرقهم في معالجة أبواب المنطق والميتافيزيقا، على كون السهروردي لا يباحث فيه إلا أصحابه الإشراقيين. (5)
لقد تميز السهروردي في منطقه الإشراقي بتعدد وتنوع المصادر التي استقى منها فكره؛ فتيارات متعددة وأفكار مختلفة - سواء دينية وفلسفية وصوفية ومذاهب اليونان والفرس القديمة - أسهمت في تكوين مذهبه، وتجلت مهارته في حبك مختلف الاتجاهات والتيارات في نسق متكامل، من خلال محاولته التوفيق بين الاتجاه البحثي العقلي والاتجاه الكشفي الصوفي في منهج واحد يبدأ من العقل ويترقى صاعدا حتى يصل إلى مرحلة الكشف والإشراق. (6)
إن فكرة الإشراق عند السهروردي قامت على أساس من الاستدلال البحثي العقلي، وهو ما أكده السهروردي نفسه في حكمة الإشراق، حين أعلن أن الأساس الفلسفي لديه يمثل مرحلة أولى ممهدة لمرحلة الإشراق؛ فالإشراق يستند إلى أساس فكري ونظري، وطالبه ينبغي أن يكون قد قطع عقبات العلم والبحث. (7)
إن السهروردي لم يرفض فلسفة أرسطو والاتجاهات الفلسفية العقلية والبحثية، وإنما أبقى عليها على اعتبار أنها مرحلة أولى ممهدة للحكمة الحقيقية، ومقدمة لما يليها، وأداة العلم في هذه الفلسفة، ألا وهو المنطق، إنما يمثل مرحلة نحو عالم الإشراق؛ فمنطق أرسطو صحيح في عالم الكثرة، وأما عالم الوحدة فيحتاج إلى منطق آخر؛ منطق المحقق كما يسميه ابن سبعين، أو المنطق الإشراقي كما يسميه السهروردي؛ حيث صرح بأنه يمثل الآلة الواقية للفكر، والتي تتسم بأنها مضبوطة بضوابط قليلة العدد كثيرة الفوائد، وهي كافية للذكي ولطالب الإشراق، بيد أن قصور المنطق اليوناني عن الوصول إلى المعرفة الحقة، جعل السهروردي يعمد إلى نقده، ومحاولة إصلاحه ليتلاءم مع منحاه الإشراقي. (8)
إن السهروردي نظر إلى منطقه الإشراقي على أنه يمثل ناحيتين؛ الأولى، وهي اعتباره مرحلة ضرورية ممهدة للإشراق، يبدأ من خلاله العقل بالتمرس على المجردات والمعقولات المنطقية، ويترقى شيئا فشيئا من عالم الحس والمادة إلى عالم المعقولات والمجردات؛ حتى يصبح مهيأ لمعاينة الأنوار المجردة وتلقي الإشراق منها. والثانية، لما كان المنطق في طريق الإشراق، وجب تجاوزه للانتقال إلى ما بعده، ولذا كان لا بد من نقده، ومحاولة إصلاحه ليتفق مع رؤية السهروردي الإشراقية. (9)
عندما بدأ السهروردي في القسم الأول من كتاب حكمة الإشراق بالبحث في «أسس الفكر» من حيث المعايير المنطقية، وذلك ليرى إمكانية التوصل إلى الحقيقة من خلال هذه المعايير العقلية، وعندما اكتشف أنها لا تفيد في الوصول إلى الحقائق الثابتة والدائمة التي ينشدها، لجأ إلى نقدها وحاول إصلاحها لتصبح صالحة كمرحلة نحو عالم الموجودات الحقيقية، عالم الأنوار والمجردات، وهو ما عرض له بالفعل في القسم الثاني من الكتاب حين تناول نظرية الأنوار ومراتبها وما يتعلق بها من مباحث كوسمولوجية وطبيعية. (10)
إن محاولة السهروردي لتجاوز الصعوبات التي وجدها في الحد الأرسطي، وخاصة ما يتعلق منها بالمفاهيم التصورية العقلية، وجد أن المعرفة تقال على ثلاثة أوجه: أولها المعرفة الحسية المباشرة، وثانيها الكشف والعيان، والمعرفة بالمعنى الثالث هي إدراك التصورات العقلية عن طريق التعريف، فهو لم يرفض المنطق بداية، ولم يرفض الطريق العقلي وفكرة الحد بشكل كامل، وإنما عمل على تعديلها لتتفق مع فكره الإشراقي. (11)
إن السهروردي لا يقصي المنطق العقلي بشكل كامل من اتجاهه الإشراقي، وإنما يسعى لتوظيفه واستخدامه، ولكن بعد أن يتم تعديله وإصلاحه ليتفق مع الاتجاه الإشراقي، والذي يعده طريقا أضبط وأنظم وأقل إتعابا؛ فهو يبدأ من المجاهدات والرياضات الصوفية في محاولة للتخلص من علائق المادة؛ فالبداية من الجزئي الواقعي، ولكن بهدف تخطيه وتجاوزه نحو عالم المعقولات والمجردات والأنوار؛ فهو ترق من مرحلة دنيا في ترتيب الموجودات إلى درجة أعلى؛ فالطريقة البحثية تؤدي إلى التأمل المباشر في الحقائق المعقولة، فيصبح بذلك سلما صاعدا نحو عالم الإشراق. (12)
إن السهروردي بعد أن أسس التعريفات على الحس الظاهر والموجودات الجزئية الواقعية، بدأ في القضايا بما يشبه العروج خطوة خطوة نحو المجردات والكليات، وذلك من خلال آلية منطقية عمل من خلالها على رد القضايا الجزئية، والتي تتصف بالوجود الواقعي، إلى قضايا كلية، والقضايا الكلية قضايا ذهنية عقلية مجردة، فنجد أننا ننتقل هنا من الجزئي إلى الكلي؛ أي من المحسوس إلى المجرد، وكذلك الأمر في القضايا السالبة عمل على ردها إلى قضايا موجبة؛ إذ إن المعرفة الإشراقية معرفة إيجابية لا سلبية، والنفس البشرية في عملية المعرفة ليست متلقية سلبية، بل هي ذاتها نور تشرق على الموضوع فتنيره، وأما القضايا الممكنة فيردها إلى الضروري؛ إذ ليست المعرفة الحقيقية بالمعرفة الممكنة المتشكك فيها، وإنما هي معرفة يقينية ضرورية لا شك أو ظن يشوبها. (13)
إن السهروردي، على الرغم من رفضه للقضايا السلبية والجزئية، إلا أنه يذكرها، ولعل ذلك ربما يكون عائدا إلى الدور التعليمي التربوي الذي نشده في المنطق، أو لعله لم يكن قد تحرر بشكل كامل من التأثيرات المشائية في محاولة إصلاح المنطق، ولا أدل على ذلك من أنا نجده في جميع المباحث المنطقية، ما قبل منها وما رفض، يسير وفق الترتيب المعهود في الكتب المشائية ككتب ابن سينا والساوي وغيرهما دون أن يخرج عن هذا الترتيب المشائي المعهود. (14)
إذا تأملنا ما قام به السهروردي في قسم المنطق في كتابه حكمة الإشراق، نجد أنه يعد المنطق نوعا من الرياضة الصوفية المهيئة لعملية الإشراق من خلال تمرس الذهن والعقل في الأمور المجردة الكلية، وهذا ما ظهر واضحا من خلال الانتقال نحو القضية البتاتة؛ القضية الموجبة الضرورية؛ فالسالك في نظر السهروردي يبدأ بالتعلق بالنور المحسوس، ثم ينتقل إلى إدراك أن النور المعقول أولى باسم النور من المحسوس، ثم ينتقل إلى مشاهدة الأنوار، ويصل إلى قمة هذه الأنوار، وهو الله حقيقة الحقائق. هذا العروج الروحي أو النفسي من عالم المادة والحس نحو عالم المجردات والمعقولات يظهر بوضوح في التغييرات التي قام بها السهروردي على مبحث القضايا؛ إذ حاول التخلص من علائق المادة عن طريق التخلص من القضايا الوجودية المرتبطة بالمادة والحس، والارتفاع نحو المعقولات والمجردات؛ أي القضايا الكلية في المنطق. (15)
إن السهروردي قد قام بقفزة كبيرة أحدثت فجوة لا يمكن تجاوزها بين ما قدمه في التعريفات من عودة إلى الظواهر والمحسوسات، ثم الانتقال المفاجئ في مبحث القضايا من الجزئي إلى الكلي، فلم يحافظ على وحدة الفكرة، كما طرحها في البداية؛ إذ كان الظاهر والحس هو المرجع هناك، وهنا أصبح الكلي والمجرد هو الأساس؛ فالسهروردي لم يتابع ما بدأه في التعريفات من الاستناد إلى الواقع في المعرفة، وإنما كان الواقع لديه درجة أو مقام من مقامات المعرفة، يبدأ العقل بالمعرفة الحسية المباشرة ليترقى منها نحو المعرفة المجردة. (16)
إن ما قدمه السهروردي في باب القياس لم يأت فيه بجديد وإن تغيرت بعض مباحثه نتيجة التغييرات التي قام بها في مبحث القصايا؛ فظهر مبحث القياس لديه كاستمرار آلي لمبحث القضايا، وهو يتعامل مع نتائج آرائه في القضايا بشكل منطقي بحت، ولم يظهر أثر الإشراق في هذا المبحث، إلا إذا اعتبرت عمليات رد أشكال القياس إلى الشكل الأول هي استمرار لفكرة رد القضايا؛ أي عودة إلى المصدر الأول الذي صدر عنه كل شيء؛ فهدفه من عرض القياس، وما قام به من إصلاحات، بحسب رأيه، تمنح أشكال القياس القدرة على إنتاج قضايا كلية موجبة ضرورية؛ فحتى عن طريق القياس حاول الانتقال نحو الكلي الموجب الضروري، ولو بدأ من جزئي أو سالب أو ممكن أو غير ذلك مما يشوبه النقص في درجة الوجود، ولكنه يملك إمكانية الترقي نحو الكلي الموجب الضروري. (17)
إن السهروردي أراد أن يعيد سبك الحدود والمفاهيم والقضايا بشكل يخدم رؤيته لموقع المنطق من بنائه الفكري، إلا أنه رغم هذا النقد الذي قدمه، ومحاولة الإصلاح التي قام بها، لم يستطع الخروج عن نطاق هذا المنطق، بل بقي أمينا له في معظم مباحثه، وإن كنا قد نجد أثرا للإشراق في مباحث الحد والقضايا، إلا أننا وجدنا أن آراءه في القياس بقيت امتدادا منطقيا لآرائه في القضايا دون خروج عن قواعد القياس، بل سار بالقضايا إلى نتائجها المنطقية في القياس. (18)
إن ما قام به السهروردي قد يكون جزءا من مشروع أكبر لم يكتمل بسبب مقتله وهو في مقتبل عمره، غير أننا لا يمكن أن نحكم على ما كان يمكن أن ينجز، وإنما نقيم ما تم إنجازه فعليا. (19)
لقد كشفت لنا مسيرتنا خلال هذه الدراسة أن السهروردي كان أول صوفي تصدى للفلسفة المشائية في القرن السادس الهجري، وذلك حين أعرب في كتابه حكمة الإشراق عن تبرمه بها، ونزوعه إلى الفلسفة الإشراقية، وهذا يعني أنه كان صوفيا أكثر من كونه فيلسوفا، على أنه يضع الفلسفة والتصوف في علاقة خاصة لا توجد عند غيره، كما أن الفكر الإنساني في نظره غير قادر وحده على امتلاك المعرفة التامة، ولا بد أن يستعين بالتجربة الداخلية والذوق الباطني، كما أن الاختبار الروحي لا يزدهر، ويثمر إلا إذا تأسس على العلم والفلسفة. إن رؤية السهروردي هذه جعلته موسوعي النزعة ، لا يقنع بكتاب، ولا يقتصر على شيخ، ولا يتقيد بفلسفة، وقد جمع بين حكمة الفرس واليونان وكهنة مصر وبراهمة الهند، وآخى بين أفلاطون وزرادشت، وبين فيثاغورس وهرمس. (20)
إذا كان ابن سينا قد ذكر في كتابه منطق المشرقيين أن الحكمة المشائية هي حكمة العوام ، وأنه في سبيله إلى الحديث عن حكمة الخواص. وبالرغم من صدق السهروردي المقتول من أن ابن سينا لم يحصل على منابع هذه، فإن ابن سينا في رسائله وضع لبنة في بناء هذا الأساس، وهي رسائله: «حي بن يقظان» و«رسالة الطير» و«سالمان وأبسال» و«رسالة في العشق». ولم تغب هذه الرسائل عن خواطر متصوفة الفرس، فكتب فريد الدين العطار «منطق الطير»، ونظم عبد الرحمن الجامي «سالمان وأبسال». (21)
إذا كان السهروردي قد انطلق من نزعة كلية شاملة ترمي لإحياء المعرفة الصوفية اللدنية وتكوين تيار فكري إنساني ومنهج موحد يجمع بين العقل والقلب، إلا أنه يختلف عن ابن تيمية الذي انطلق من نزعة عملية واقعية تستند إلى أساس لاهوتي إسلامي يتداخل فيها التناول العقلي مع إرادة الدفاع عن الأصول وحراسة العقائد من خطر المناطقة الذين اتهموه بالزندقة؛ لذا انطلق ابن تيمية من الواقع والمحسوس، ممهدا بذلك السبيل لنقد نظرية الاستدلالات في صورتها البرهانية، طارحا ما يراه أولى بالاتباع. (22)
إن السهروردي في نقده للحدود والقضايا والقياس كان بحاجة إلى إعادة صياغة المقدمات لتصبح مهيأة لينطلق منها نحو الإشراق، فتركز نقده للقضايا، وجاء القياس لديه وكأنه تحصيل حاصل؛ إذ إن التغييرات التي أجريت على القضايا فرضت نفسها على القياس. (23)
إن مسيرتنا خلال هذا البحث كشفت لنا عن حقيقة مهمة، وهي أن السهروردي بقي مجهولا لفترة طويلة في العالم العربي، إلى أن قام الكثير من المستشرقين من أمثال «هنري كوربان» و«لويس ماسينون» و«ماكس هورتن» وغيرهم بنشر وتحقيق الكثير من أعماله، ودراستها بشكل مفصل، وهذا ما ساعد على إلقاء الضوء على السهروردي الذي امتد أثره قرونا طويلة، وخاصة في فارس، غير أن هذه الدراسات كانت غالبا ما تركز على الجانب الإلهي من فكره المتعلق بالإشراق وفكرة النور، فتم بذلك تجاهل الجانب المنطقي من هذا الفكر، والذي تكمن أهميته في قدرة السهروردي البارعة في توظيف كل ما يقع عليه لخدمة فكره الإشراقي، بما في ذلك المنطق ذاته، وعلى هذا الأساس بنى نقده للمنطق الأرسطي ، محاولا إعطاءه دورا في عملية الكشف والإشراق. (24)
إذا كان السهروردي قد رد المقولات العشر إلى خمس، وهي الجوهر والكمية والكيفية والإضافة والحركة، وعد متى وأين والملك أنواعا من الإضافة، وأن يفعل وأن ينفعل أنواعا من الحركة، وهذه المحاولات من قبل السهروردي، وإن كانت قد سبقت المنطق الأوروبي الحديث في نظرنا، إلا أن عملية الاختصار والرد تلك للمقولات ليست بجديدة؛ فالمتكلمون، واستنادا إلى رؤيتهم المختلفة للوجود، والتي لا تقبل فكرة الهيولى والصورة، أخذوا بفكرة الجزء الذي لا يتجزأ؛ فنتج عن ذلك مفهوم مختلف للمقولات، وإذا كان ابن سينا وغيره من الفلاسفة العرب قد أخذوا بالمقولات العشر، إلا أن أنصار نظرية الجوهر الفرد من المتكلمين أثناء رفضهم للصورة والهيولى الأرسطية، حاولوا أن يكونوا العالم من جواهر فردة، يخلقها الله دون انقطاع، وهي منفصلة دائما، ولا يكون في تلاقيها أي مركب، وبالتالي ليس هناك ثمة خط ولا سطح ولا كم متصل ولا منفصل ولا زمان ولا إضافة، وكل ما هنالك جواهر فردة، متحركة باستمرار؛ فالمقولات في عرف أنصار نظرية الجوهر الفرد ثلاثة لا عشرة، وهي الجوهر وأعراضه التي يجمعها الكيف، والأين الذي يتحرك فيه. (25)
لقد كشفت لنا مسيرتنا خلال هذا البحث أن القضية البتاتة برأي السهروردي تمتلك ثلاث خصائص: القضية الكلية، ثم القضية الموجبة، ثم القضية الضرورية، والهدف من عمليات الرد هذه، كما أعلن السهروردي، أنه في العلوم الحقيقية لا يطلب البرهنة على قضايا جزئية أو سالبة، وإنما العلوم الحقيقية تطلب الكلي البات.
قائمة المصادر والمراجع
أولا: كتب السهروردي في مجال المنطق (1)
اللمحات في الحقائق، تحقيق د. محمد علي أبو ريان، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1988م. (2)
اللمحات، تحقيق د. إميل المعلوف، دار النهار للنشر، بيروت، 1969م. (3)
هياكل النور، تحقيق د . محمد علي أبو ريان، المكتبة التجارية، القاهرة، 1957م. (4)
هياكل النور، نشر محمد صبري كرد، مطبعة السعادة، القاهرة، 1335ه. (5)
مجموعة الحكمة الإلهية، الجزء الأول، إستانبول، 1945م، النشريات الإسلامية، جمعية المستشرقين الألمانية، بتصحيح هنري كوربان، ويحتوي على: (أ)
التلويحات اللوحية والعرشية. (ب)
كتاب المقاومات. (ج)
كتاب المشارع والمطارحات. (6)
مجموعة دوم ، مصنفات الإشراق، شهاب الدين بن يحيى السهروردي، الجزء الثاني، باريس - طهران، 1952م، نشر هنري كوربان، ويحتوي على: (أ)
كتاب حكمة الإشراق. (ب)
رسالة في اعتقاد الحكماء. (ج)
قصة الغربة الغربية. (7)
شرح حال السهروردي، للشهرزوري، 3 / 16-17، ضمن مجموعة مصنفات السهروردي، بعناية هنري كوربان، ط طهران، 1373ه.
ثانيا: المصادر والمراجع العربية (1)
ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، نشر وتحقيق نزار رضا، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1965م. (2)
ابن تيمية: الرد على المنطقيين، نشر وتحقيق سليمان الندوي، المطبعة القيمة، بومباي، 1368ه/1949م. (3)
ابن تيمية: نقض المنطق، تحقيق محمد بن عبد الرازق حمزة، سليمان بن عبد الرحمن الضبع، دار المعرفة، دمشق، دون تاريخ طبع. (4)
ابن تغري بردي، جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي: النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1355ه/1936م. (5)
ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، ج1، القاهرة، دون تاريخ طبع. (6)
ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء أهل الزمان، تحقيق إحسان عباس، ج6، دار الثقافة، بيروت، 1397ه/1977م. (7)
ابن سينا: المدخل (الجزء المنطقي من الشفاء)، وزارة المعارف العمومية، القاهرة، 1952م. (8)
ابن سينا: المقولات (الجزء المنطقي من الشفاء)، تحقيق الأب قنواتي وآخرين، تقديم د. إبراهيم مدكور، وزارة المعارف العمومية، القاهرة، 1959م. (9)
ابن سينا: القياس (الجزء المنطقي من الشفاء)، تحقيق سعيد زايد، المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، 1964م. (10)
ابن سينا: الإشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، 1971م. (11)
ابن سينا: كتاب النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، نقحه وقدم له د. ماجد فخري، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى، 1980م. (12)
ابن سينا: منطق المشرقيين ، المكتبة السلفية، القاهرة، 1328 ه/1910م. (13)
ابن رشد: تلخيص كتاب المقولات، تحقيق بويج، بيروت، 1932م. (14)
ابن عربي: الفتوحات المكية، القاهرة، 1876م. (15)
أبو البركات البغدادي: المعتبر في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، ج1، دار المعارف العثمانية، حيدر آباد، الركن، 1357ه. (16)
أبو العلا عفيفي: التصوف ... الثورة الروحية في الإسلام، دار المعارف، القاهرة، 1963 م. (17)
أبو ريان (محمد علي): أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1987م. (18)
أبو ريان (محمد علي): الإشراقية مدرسة أفلاطونية إسلامية، مناقشة المصدر الإيراني، بحث نشر بالكتاب التذكاري للسهروردي في الذكرى المئوية لوفاته الذي يصدره المجلس الأعلى لأكاديمية البحث العلمي والعلوم الاجتماعية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1980 م. (19)
أبو ريان (محمد علي): تاريخ الفلسفة في الإسلام، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1980م. (20)
أحمد أمين: حي بن يقظان (لابن سينا وابن طفيل والسهروردي)، دار المعارف، القاهرة، 1966م. (21)
أحمد (قيس هادي): نظرية العلم عند فرنسيس بيكون، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1986م. (22)
إقبال (محمد): تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، القاهرة، 1955م. (23)
التفتازاني (أبو الوفا): ابن سبعين فلسفته الصوفية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973م. (24)
التفتازاني (أبو الوفا): مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1979م. (25)
التفتازاني (أبو الوفا): ابن سبعين وحكمة الإشراق، من الكتاب التذكاري للسهروردي. (26)
التهانوي: محمد الفاروقي، كشاف لاصطلاحات الفنون، طبعة كلتكا، 1892م. (27)
السيوطي (جلال الدين): صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، تحقيق علي سامي النشار، مطبعة الخانجي، القاهرة، 1970م. (28)
الساوي، ابن سهلان: البصائر النصيرية في المنطق، تحقيق محمد عبده، القاهرة، 1898م. (29)
السرياقوسي، محمد أحمد مصطفى، المنهج الرياضي بين المنطق والحدس، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1982م. (30)
السرياقوسي، محمد أحمد مصطفى: التعريف بالمنطق الصوري، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1980م. (31)
السرياقوسي، محمد أحمد مصطفى: التعريف بالمنطق الرياضي، دار نشر الثقافة، الإسكندرية، 1978م. (32)
السرياقوسي، محمد أحمد مصطفى: النتائج الجوهرية لعدم دقة أرسطو المنطقية (ضمن بحوث ومقالات في المنطق)، الدار الفنية للنشر والتوزيع، الجزء الأول، القاهرة، 1988م. (33)
السرياقوسي، محمد أحمد مصطفى: العلاقة الجدلية بين القضية الحملية والقضية الشرطية، ضمن بحوث ومقالات في المنطق، الدار الفنية للنشر والتوزيع، الجزء الأول، القاهرة، 1988م. (34)
السرياقوسي، محمد أحمد مصطفى: الطرق المنطقية والجبرية والهندسية لاختبار القياسات الأرسطية، ضمن بحوث ومقالات في المنطق، الجزء الأول، القاهرة، 1988م. (35)
السرياقوسي (محمد أحمد مصطفى) وآخرون: أساليب البحث العلمي، مكتبة الفلا، الكويت، 1988م. (36)
أسين بلاثيوس: ابن عربي ... حياته ومذهبه، ترجمه عن الإسبانية د. عبد الرحمن بدوي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1965م. (37)
الشهرزوري (شمس الدين محمد بن أحمد): نزهة الأرواح وروضة الأفراح، نسخة مصورة في جامعة القاهرة، تحت رقم 24-37. (38)
الشيرازي (قطب الدين الشيرازي): شرح حكمة الإشراق، نسخة مصورة في جامعة القاهرة، تحت رقم 6144. (39)
الطويل (توفيق): أسس الفلسفة، الطبعة السابعة، دار النهضة العربية، القاهرة، بدون تاريخ طبع. (40)
الغزالي: المستصفى في علم الأصول، الجزء الأول، طبعة بولاق، القاهرة 1322ه، 1324ه. (41)
الغزالي: القسطاس المستقيم، ضمن مجموعة القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي، نشر محمد مصطفى أبو العلا، مكتبة الجندي، القاهرة، بدون تاريخ طبع. (42)
الغزالي: المنقذ من الضلال (ضمن مجموعة بعنوان المنقذ من الضلال وكيمياء السعادة والقواعد العشرة والأدب في الدين)، مكتبة الجندي، القاهرة، بدون تاريخ طبع. (43)
غراب (محمود محمود): شرح فصوص الحكم من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، القاهرة. (44)
الفارابي: إحصاء العلوم، تحقيق عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1968م. (45)
الفندي (محمد ثابت): أصول المنطق الرياضي وفلسفة الرياضة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1987م. (46)
د. قاسم غني، تاريخ التصوف في الإسلام، دار النهضة المصرية، القاهرة، 1970م. (47)
الكيالي (سامي): السهروردي، دار المعارف، بيروت، 1955م. (48)
النشار (علي سامي): مناهج البحث عند مفكري الإسلام ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسي، دار الفكر العربي، 1947م، وكذلك: النشار (علي سامي): مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984م. (49)
النشار (علي سامي): المنطق الصوري منذ أرسطو حتى عصورنا الحاضرة، دار المعارف، القاهرة، 1966م. (50)
النشار (علي سامي): فيدون في العالم الإسلامي، ضمن كتاب الأصول الأفلاطونية، الإسكندرية، 1966م. (51)
أليس أمبروزا، موريس لازيروفيش: أوليات المنطق الرمزي، ترجمة عبد الفتاح الديدي، القاهرة، 1983م. (52)
برتراند راسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الجزء الأول، ترجمة زكي نجيب محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1957م. (53)
برتراند راسل: مقدمة في الفلسفة الرياضية، ترجمة محمد موسى أحمد، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1980م. (54)
برتراند راسل: أصول الرياضيات، الجزء الأول، ترجمة محمد موسى أحمد وأحمد فؤاد الأهواني، دار المعارف، القاهرة، 1958م. (55)
بول موي: المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة فؤاد زكريا، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، 1961م. (56)
جعفر آل ياسين: المنطق السينوي، منشورات دار الآفاق، بيروت، 1983م. (57)
جون ديوي: المنطق نظرية البحث، ترجمة د. زكي نجيب محمود، دار المعارف، القاهرة، 1969م. (58)
جولد زيهر: موقف أهل السنة بإزاء علوم الأوائل، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي (دراسة لكبار المستشرقين)، طبع النهضة العربية ، القاهرة، 1946م. (59)
جومس نولجانس: السهروردي ودوره في الميدان الفلسفي، بحث ضمن الكتاب التذكاري، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1980م. (60)
روبير بلانشي: المنطق وتاريخه منذ أرسطو حتى راسل، ترجمة خليل أحمد خليل، دار المطبوعات الجامعية، الجزائر، الطبعة الأولى، 1400ه/1980م. (61)
شرف (محمد جلال): النزعة الإشراقية بين الفلسفة والدين في الفكر الإسلامي، دار المعارف، القاهرة، 1972م. (62)
شرف (محمد ياسر): حركة التصوف الإسلامي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1986م. (63)
د. عبد الرحمن بدوي: الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، دار النهضة المصرية، 1947م. (64)
د. عبد الرحمن بدوي: المنطق الصوري والرياضي، وكالة المطبوعات، الكويت، 1981م. (65)
د. عبد الرحمن بدوي: شخصيات قلقة في الإسلام، وكالة المطبوعات، الكويت، ط3، 1978م. (66)
عبد القادر محمود: فلسفة الصوفية في الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، 1967م. (67)
عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1971م. (68)
عثمان أمين: ديكارت، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1968م. (69)
عثمان يحيى: الصحف اليونانية، أصول غير مباشرة لفكرة الحكيم المتأله عند السهروردي، بحث نشر ضمن الكتاب التذكاري للسهروردي. (70)
عزمي إسلام: أسس المنطق الرمزي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1970م. (71)
عزمي إسلام: بدايات المنطق الحديث عند ليبتنز، بحث نشر ضمن حوليات كلية الآداب، جامعة عين شمس، المجلد الخامس عشر، 1975-1978م. (72)
علي عبد المعطي: ليبتنز فيلسوف الذرة الروحية، تقديم د. محمد علي أبو ريان، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1980م . (73)
علي عبد المعطي: المنطق الرياضي وأسسه ونظرياته، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، دون تاريخ طبع. (74)
علي عبد المعطي: المنطق الصوري، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1982م. (75)
فخري (ماجد): تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمه عن الإنجليزية كمال اليازجي، نشرته الدار المتحدة، بيروت، 1972م. (76)
فخري (ماجد): السهروردي ومآخذه على المشائية العرب، بحث نشر بالكتاب التذكاري للسهروردي. (77)
كوربان (هنري): تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ الينابيع الأولى حتى وفاة ابن رشد، ترجمة نصير مروة - حسن قبيسي، منشورات عويدات، بيروت، 1966م. (78)
كوربان (هنري): السهروردي المقتول، مؤسس المذهب الإشراقي، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، ضمن كتاب شخصيات قلقة في الإسلام، دار النهضة العربية، القاهرة، 1946م. (79)
ماهر عبد القادر: فلسفة العلوم الطبيعية ... المنطق الاستقرائي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1979م. (80)
ماهر عبد القادر: المنطق الرياضي، التطور المعاصر، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1980م. (81)
محمد مصطفى حلمي: حكيم الإشراق وحياته الروحية، بحث نشر بمجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، المجلد الثاني عشر، الجزء الثاني، عدد ديسمبر 1970م. (82)
محمد مصطفى حلمي: الحياة الروحية في الإسلام، سلسلة دراسات إسلامية، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970م. (83)
محمد مصطفى حلمي: آثار السهروردي المقتول «تصنيفاتها وخصائصها الصوفية والفلسفية»، بحث نشر بمجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، المجلد الثاني عشر، الجزء الأول، عدد مايو 1951م. (84)
محمد مصطفى حلمي: السهروردي وحكمة الإشراق، بحث نشر بدائرة المعارف الإسلامية، المجلد الثاني عشر، طبعة دار الشعب، القاهرة. (85)
محمود (زكي نجيب): المنطق الوضعي، الجزء الأول، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الخامسة، 1973م. (86)
محمود (زكي نجيب): نحو فلسفة علمية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1980م. (87)
مدكور (إبراهيم بيومي): بين السهروردي وابن سينا، بحث نشر بالكتاب التذكاري. (88)
مدكور (إبراهيم بيومي): في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيق، جزءان، دار المعارف، القاهرة، 1983م. (89)
مدكور (إبراهيم بيومي): وحدة الوجود بين ابن عربي واسبينوزا، الكتاب الذهبي لابن عربي، القاهرة، 1969م. (90)
مصطفى عبد الرزاق: فيلسوف العرب والمعلم الثاني، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1364ه/1945م. (91)
د. مصطفى غالب: السهروردي، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1982م. (92)
ناصر محمد يحيى ضميرية: نقد المنطق الأرسطي بين السهروردي وابن تيمية، رسالة ماجستير غير منشورة بكلية الآداب، جامعة دمشق، سوريا، 2005م. (93)
نللينو (كارل ألفونسو): علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى، منشورات الجامعة المصرية، روما، 1911م. (94)
نللينو (كارل ألفونسو): محاولة المسلمين إيجاد فلسفة شرقية، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، ضمن كتاب التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دار النهضة المصرية، 1946م. (95)
نجاح موسى أحمد: فكرة الإرادة عند اسبينوزا، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة أسيوط، 1984م. (96)
نوال الصراف الصايغ: المرجع في الفكر الفلسفي، نحو فلسفة توازن بين التفكير الميتافيزيقي والتفكير العلمي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1983م. (97)
ياقوت الحموي: معجم الأدباء، المجلد التاسع عشر، دار المأمون بالقاهرة، بدون تاريخ طبع. (98)
نيكلسون، الصوفية في الإسلام، ترجمة نور الدين شرابية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2012م. (99)
نيكلسون: معجم البلدان، الجزء الثالث، دار صادر، بيروت، 1979م. (100)
يان لوكاشفيتش: نظرية القياس الأرسطية من وجهة نظر المنطق الصوري الحديث، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1961م. (101)
يحيى هويدي: منطق البرهان، مكتبة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1979م.
ثالثا : المصادر والمراجع غير العربية (1)
Alfred Tarski: Introduction to Logic: And to the Methodology of Deductive Sciences, Oxford university press, New York, 1959.
وقد قام بالترجمة إلى العربية عزمي إسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة. (2)
Bertrand Russell: Mysticism and Logic and Other Essays, Allen & Unwin, Impression, 1932. (3)
B. Bosanquet: The Essentials of Logic, London, 1895. (4)
B. Bosanquet: Logic or the morphology of knowledge, Book 1, CH. 1, Ed 2, London 1911. (5)
F. H. Bardley: The Principles of logic, London, 1876. (6)
R. Carnap: The old and The New logic, in Logical positivism, edited by A. J. Ayer, The free Press of Glencoe, USA, 4th printing, 1963. (7)
E. Carruccio: Mathematics and Logic in History and in Contemporary Thought, Faber & Faber, London 1964). (8)
H. Corbin: Opera metaphysica et mystica, Vol. 1, Paris, 1949. (9)
R. M. Eaton: General Logic, Scribner's sons, 1931. (10)
L. Gardet: Quelques Reflexions sur I’Ishraq de Suhrawardi.
ضمن الكتاب التذكاري للسهروردي. (11)
Wal-Mutarahat de Suhrawardi.
ضمن الكتاب التذكاري للسهروردي. (12)
E. Goblot: Traité de logique, Ed. 4, Paris, 1962. (13)
Hilbert, D. and Ackermann, W.: Principles of mathematical logic, Chelsea Publishing Company, New York, 1950. (14)
Max Horten: Die philosophie des islam, München, 1924. (15)
M. Iqbal: The Development of Metaphysics in Persia, London, 1908. (16)
Jevons: Elementary Lessons in Logic, London, Macmillon, 1918. (17)
Joseph, H. W. B: An introduction to logic, oxford university press, London, 1931. (18)
W. Kneale and M. Kneale: The development of logic, Oxford at the Clarendon Press, London, 1966. (19)
J. M. Keynes: Studies and exercises in formal logic, Macmillan, London, 4th Ed, 1906. (20)
L. Massignon: Recueil de textes inedits concernant l’histoire de mystique en pays d’Islam, Paris, 1929. (21)
J. S. Mill: A system of logic, Harper and Bros, New York 1887. (22)
Seyyed Hossein Nasr: Shihab al Din Suhrawardi Al-maqtul in A History of Muslim Philosophy: With short accounts of other Disciplines and the Modern renaissance in muslim lands, edited and introduced by M. M. Sharif, Vol. 1, Wiesbaden, Otto Harrassowitz, 1963. (23)
S. Stebbing: A Modern Introduction to Logic, Methuen & CO. London, 1950. (24)
Robert Adamson, LL. D: A short history of logic, William Blackwood and sons, Edinburgh and London, 1911. (25)
The New Encyclopedia Britannica, article S. Stebbing, 14eme ed, William Benton, Publisher, London, 1943-1973.
نامعلوم صفحہ