فلما رآهم سعيد حياهم بلغة أهل السودان، فردوا عليه التحية، فسألهم عن مقصدهم، فقالوا: «جهات الخرطوم شمالا، ولعلك جئت من هناك لأمر ذي بال!» قال: «نعم جئت لأمر سري، وأنا عائد بمثله إلى إسماعيل باشا.» فاستأنس هؤلاء به وأحبوا مرافقته، وكان هو أشد رغبة في ذلك منهم، فركب الجميع في الصباح على جمالهم ومعهم قافلة محملة أحمالا مختلفة وسارت الجمال التي عليها الأحمال في جانب، والتي عليها التجار في جانب ومعهم سعيد، يقطعون جميعا تلك الصحراء الرملية، ولا صوت لسير جمالهم على تلك الرمال، وقد أشرقت الشمس.
فلما مضى جانب من النهار، سألهم عن تلك الأحمال التي هم ذاهبون بها، فقالوا: «هي بضائع إفرنجية من ثياب وأدوات، وبعض مقادير من الأرز والسكر والقهوة، نحملها إلى الأراضي السودانية ونقايض عليها بحاصلات تلك البلاد.»
قال سعيد: «وهل كانت هذه مهنتكم منذ زمن طويل؟» فقال أحدهم: «لا يا عبد الخير؛ لأن البلاد السودانية لم تكن التجارة فيها سهلة قبل سنتين من الزمن، بل كانت محفوفة بالمخاطر والمكاره، وكانت حاصلاتها تأتينا على يد بعض التجار من أهلها، ولكن بعد أن بعث إليها محمد علي باشا والينا ولده إسماعيل، وفتح جانبا كبيرا منها دعانا العزيز إليه وحثنا على أن نتوجه إلى تلك الأصقاع، فتمنعنا أولا، ثم قبلنا، فأمدنا بخبراء، ودربنا على طرق التصرف أثناء الرحلة.»
فقال سعيد: «يظهر أن أفندينا معتن بحكومته وراحة بلاده!» فقالوا جميعا: «هذا لا شك فيه، فإنه ما من أحد ينكر فوائد مشروعاته، ومن كان يتصور إمكان وصول مصر إلى هذه الحالة، بعد أن كان المماليك الملاعين يستبدون بها، فنحمد الله على نجاتنا منهم.»
فقال سعيد متجاهلا: «ومن هم هؤلاء المماليك؟»
فقال الرجل: «هم الذين كانوا حكاما لمصر قبل والينا محمد علي، وقد كانوا يقتلون وينهبون ويستبدون بغير حساب.»
فقاطعه أحد رفاقه قائلا: «نحمد الله أننا تخلصنا من المماليك الآن، وإن كانت لا تزال هناك عراقيل أخرى تقف في سبيل نجاح بلادنا، وهم هؤلاء الأرناءوط والمغاربة.» •••
فقال سعيد: «ومن هم؟» فقال: «هم جنود كانوا في جملة من جاء مع الحملة التي أنقذت مصر من يد الفرنسيين، وهؤلاء حين أراد أفندينا تدريبهم على النظام العسكري الحديث امتنعوا وأصروا على الامتناع، حتى هددوا الباشا بالعصيان لأنهم اعتبروا أن كل ما يخالف عاداتهم القديمة بدعة.»
فقال آخر: «ولكن لا يخفى عليك أن أفندينا عرف كيف ينبغي أن يعاملهم؛ ولذلك أرسلهم إلى هذه البلاد المميتة ليفتحوها، ولم يكن يهدف إلا أن يشغلهم عن العصيان، وأن يغتنم فرصة غيابهم ليدرب الجنود المصرية كما يشاء.»
وقال آخر: «ليس ذلك كل قصده من إرسال الحملة إلى السودان، وإنما قصده الأول على ما بلغني التفتيش عن مناجم الذهب التي في أرض السودان، وتوسيع نطاق التجارة.»
نامعلوم صفحہ