الأمير والكاشف
أما الأمير بشير، فقد تركناه في خيمته يتحادث هو وابنه الأمير خليل في أمر غريب وأمين، ولم يتمكنا من النوم طوال تلك الليلة من كثرة الهواجس، وبينما كان الأمير بشير يفكر في ذلك الجواد، لاح له أنه ربما كان الأمر مكيدة نصبت لبعضهم فأصابت الغلام، فلما طلع الفجر بعث إلى الكاشف فجاءه فقال: «هل تلقيت خبرا من أحد؟» قال: «لا.»
فقال الأمير: «أريد منك أن تقبض على الذين باعوا لك ذلك الجواد.» قال: «سمعا وطاعة.» فبعث بعض الشرطة فجاءوا بهم إليه، وكان الأمير بشير جالسا كأنه طود راسخ، وقد ظهرت على وجهه ملامح الغضب، فنظر إلى الكاشف وقال: «إني لا أطلب ما أفقده هنا إلا منك، وأنا لا أعرف سواك، وأنت عليك أن تستقصي حقيقة الأمر من هؤلاء العربان الذين باعوا لك الجواد.» فوقع الرعب في قلب الكاشف، واستشاط غيظا، فأمر أن يجلد هؤلاء العربان بالسوط حتى يعترفوا بالحقيقة، فطرحوهم وجعلوا الفلق في أرجلهم، وظلوا يجلدونهم بالسياط حتى سالت الدماء من أرجلهم، وهم لا يفوهون ببنت شفة، كأنما كان الجلادون يضربون في حديد بارد، حتى تعجب كل من حضر. أما الأمير فسر بذلك، وأشار إلى الكاشف أن يحلهم ففعل، فوقف الأمير وقفة الأسد ونادى هؤلاء الرجال بصوته الجهوري: «تقدموا إلى هنا.» وهم بصفعهم، ثم حملق فيهم وقال: «أنا لا أسأل سواكم عن ولدي، فما بالكم ولهذا النكران؟ أتظنون أن أمركم لا يزال مكتوما وقد أخبرني واحد منكم بحقيقة الأمر وعلمت أنكم لم تفعلوا ذلك باختياركم؟ أنتم غير مسئولين، أما إذا أصررتم على الكتمان فلا نحمل المسئولية أحدا غيركم.» فصرخوا بصوت واحد: «ليعش رأس أفندينا، نحن مظلومون!» فقال الأمير: «قلت لكم إنكم مظلومون إلا إذا لم تخبرونا بحقيقة الأمر لنتأكد مما سمعناه.» •••
فتقدم واحد منهم وترامى على قدمي الأمير وقبلهما، وهو يرتجف خوفا ورعبا، وقال: «وحياة رأس أفندينا نحن عبيد مأمورون، ولم نفعل شيئا من تلقاء أنفسنا، ولكن أمير قبيلة بني واصل أرسلنا لنبيع هذا الفرس للكاشف بأي ثمن كان ولا نعلم غرضه.» فقال الأمير: «كفى، خذوا هؤلاء إلى مركز الشرطة.» ثم سأل الكاشف عما إذا كان بينه وبين ذلك الأمير عداوة فقال: «نعم، كنت أرسلت بعض رجالي فقبضوا على بعض لصوصه.»
فتحقق للأمير الأمر، فزاد اضطرابه، والتفت إلى ولده وقال: «يا خليل، ما العمل؟ أتسمع بتضحية أخويك ونحن جالسون هنا؟» فاهتز الأمير خليل لذلك، ونهض للحال إلى جواده، وفعل مثل ذلك الأمير بشير، وسائر من عنده من الرجال، فأمسكه الكاشف قائلا: «إن الحكومة مسئولة عن هذا الأمر»، فلم يصغ. وفيما هم في ذلك أبصروا غبارا وراء الأفق، انقشع عن بضعة فرسان عرفوا في الحال أنهم من رجال الأمير، فتوجه الأمير لملاقاتهم وإذا هم قادمون من عند ابنه فبشروه بما كان، فاطمأن خاطره، ولكنه ظل متشوقا لمعرفة الحقيقة.
فتريث إلى المساء، حتى وصل الأميران أمين وغريب، ومن معهما من الرجال، بعد الغروب بنحو ساعتين. فاستقبلهم الأمير بشير، وقبل غريبا، وذهب الجميع إلى البر الثاني، يحمدون الله على عودة ذلك الغلام سالما. وأخذ الأمير أمين في أثناء الطريق يحدث والده بالخبر من أوله إلى آخره.
فلما أتم حديث ذلك الرجل الذي أنقذ غريبا من الموت، قال له والده: «ولماذا لم تأت به معك لكي نكافئه على صنعه؟» قال: «صدقني يا سيدي، إني ألححت عليه كثيرا وسألته المجيء غير مرة فلم يقبل، والذي يظهر لي من كلامه وحركاته أنه ليس بدويا، والأغلب أنه من أعيان هذه البلاد، وقد أتى أمرا استوجب من أجله غضب عزيز مصر عليه؛ لأني لاحظت شيئا من ذلك أثناء تمنعه عن المجيء معي إلى هنا. ومما يقوي عندي هذا الظن، أنه لم يرفع اللثام عن وجهه قط أثناء اجتماعي به أمس حتى ساعة وداعنا له اليوم، وقد تركته في عصر هذا النهار وأنا أفكر في أمره، ولا أزال أذكر جملة قالها لي ساعة الوداع وهي: «بلغ تحياتي إلى سيادة والدكم، وأرجو أن يسعدني الحظ بمقابلته حيث لا حرج علي، إني أظن أن مجيئه إلى هنا لا يخلو من المشقة عليه لبعد المسافة، وقد كان علي أن أسعى إليه وإنما ليس بوسعي، فاترك الأمر لله، ولعلي أنال خيرا إذا اجتمعت به».»
كشف المخبأ
قال الأمير بشير: «يظهر يا أمين أن الرجل في ضيق ويحتاج إلى من ينفس كربته، وأنه كما قلت لا يستطيع المجيء إلى هنا حذرا من رقابة الحكومة له، فيجب علي قياما بواجب الإنسانية والشهامة أن أسير إليه بنفسي، مهما كلفني ذلك من المشقة، فإنه أحيا لنا غريبا بعد أن أشرف على الموت، ففي صباح غد إن شاء الله أركب إليه بمعيتك، وبعض الرجال الذين عرفوا الطريق.»
وكان الأمير خليل يكلم غريبا في أثناء ذلك ويلاطفه ويقبله، ويسأله عن قصته حتى وصل الجميع إلى المنزل.
نامعلوم صفحہ