وقلت له: «تصبح على خير.» لم يكن تكلم باليابانية طول النهار إلا في تلك اللحظة، ولكنه كان يغني باليابانية غالبا، كنت علمته أغنية «عشر زجاجات خضراء»، وكانت تجعله يضحك كلما غناها. وكنت أحب ضحكته. لم تكن قهقهة مجلجلة قط، بل أقرب إلى الضحكة الخافتة المديدة. لكنها كانت دائما تثلج صدري.
وفي صباح اليوم التالي حمل قصبتين من قصبات صيد السمك، وشبكة، وسار أمامي إلى داخل الغابة، ثم قال لي: «نصيد اليوم سمكا كبيرا يا ميكا، لا سمكا صغيرا.» كان يسير بي إلى ذلك الجانب الذي قذفتني الأمواج عليه منذ شهور طويلة، وإن لم أكن أجد ما يدعوني إلى زيارته من جديد، بسبب ندرة الفواكه فيه أو انعدامها. وكان علينا أن نسلك دربا شاقا خلال الغابة قبل أن نمضي في طريق صخري يتلوى منحدرا إلى خليج رملي خفي. وما إن خرجنا من الغابة إلى الشاطئ، حتى انطلقت ستلا تعدو وتتواثب فورا في المياه الضحلة، وهي تنبح داعية إياي إلى اللعب معها.
وفجأة قبض كنسوكي على ذراعي قائلا: «انظر يا ميكاسان. ماذا ترى؟» كانت عيناه تنمان عن الإثارة والاستفزاز. ولم أعرف ما المفترض أن أنشده. فقال: «لا شيء هنا؟ صحيح؟ أنا رجل ماهر جدا. انظر وسوف أريك.» واتجه إلى آخر الشاطئ، وسرت خلفه. وعندما وصل بدأ يشد ويسحب طبقة النباتات الصغيرة النامية بين الأشجار، ودهشت حين رأيته ينتزعها بسهولة. وشاهدت أولا ما بدا كأنه كتلة خشبية في وسط الرمل، لكنه عندما أزال المزيد من الفروع أدركت أنه جانب من قارب، زورق بمسندين خشبيين، بل كان قاربا مصنوعا من جذع شجرة مقور، وله هيكل من المساند الخشبية على الجانبين. وكان مغطى بالخيش، ومن ثم بدأ يطوي الغطاء ببطء شديد ليكشف عن القارب وهو يضحك ضحكته الخافتة.
وكانت في قاع القارب، بجوار مجداف طويل، كرة القدم المهداة لي، ومد يده فالتقطها وألقاها إلي. كانت قد فقدت شدة انتفاخها، كما كان جانب كبير من الجلد الأبيض مشققا حائل اللون، لكنني كنت أستطيع أن أرى بصعوبة اسم إدي.
الفصل الثامن
كل من في نجاساكي مات
طرت فرحا. لقد وجدت جزءا مني كنت ظننت أنني فقدته إلى الأبد. وقال كنسوكي ناظرا إلي بوجه مشرق بالبسمات: «أنت الآن سعيد يا ميكاسان. وأنا أيضا سعيد. نذهب لصيد السمك. أقول لك بعد قليل أين وجدت هذه الكرة. سرعان ما أحكي لك كل شيء. لم تعد الأسماك الصغيرة طيبة المذاق الآن. وليست كثيرة أيضا. نحتاج إلى أسماك كبيرة أحيانا من البحر العميق. ندخن السمك، وعندها يصبح عندنا دائما سمك كثير جاهز للأكل، تفهم؟»
كان الزورق ذو المسندين أثقل كثيرا مما بدا لي. وساعدت كنسوكي في جره على الشاطئ وإنزاله إلى الماء. وقال ونحن نحمل ستلا إلى داخل القارب: «هذا قارب ممتاز. هذا القارب لا يغرق أبدا. صنعته بنفسي. قارب مأمون تماما.» ودفع القارب في الماء وركبنا. لن أتوقف يوما عن الدهشة من قوته الفذة ورشاقة حركته الفائقة. كان يجدف بمجداف واحد. واقفا في مؤخرة القارب كأنه يقود قاربا مسطحا بمجداف واحد. وسرعان ما تجاوزنا الخليج الآمن وانطلقنا نركب أمواج البحر الشاسع.
كنت أجلس محتضنا كرتي، وستلا عند قدمي، أتطلع إليه وأنتظر أن يبدأ قصته. كانت الحكمة تقضي بألا أضايقه بإلحاحي الآن، كما كنت أعرف. فصيد السمك له أولوية. وهكذا وضع كل منا الطعم في الشص، وجلسنا في صمت نصيد، كل واحد في جانب من جانبي القارب. كانت بي رغبة شديدة في سؤاله عن كرة القدم، وكيف عثر عليها، لكنني لم أجرؤ، خوفا من أن يتقوقع على نفسه فلا يقول شيئا. وبعد وقت طويل بدأ يتكلم، ولكن ما قاله كان جديرا بانتظاري.
قال: «سأحكي لك الآن كل شيء يا ميكاسان، حسبما وعدتك. أنا عجوز، لكنها ليست قصة طويلة. ولدت في اليابان. في نجاساكي. مدينة ضخمة جدا، على البحر، ونشأت في تلك المدينة، وعندما كبرت درست الطب في طوكيو. وسرعان ما أصبحت طبيبا. الدكتور كنسوكي أوجاوا. وكنت فخورا جدا. فأنا أرعى أمهات كثيرات، وكثيرا من الأطفال أيضا. كنت أول شخص يراه أطفال كثيرون في هذه الدنيا. ثم ذهبت إلى لندن. وقمت بالدراسة في لندن، في مستشفى «جاي». هل تعرف ذلك المكان؟» وهززت رأسي. «وبطبيعة الحال تعلمت قليلا من الإنجليزية هناك. وبعدها عدت إلى نجاساكي. اقترنت بزوجة جميلة اسمها كيمي. ثم جاءني ابن صغير أيضا، ميشيا. كنت بالغ السعادة في تلك الأيام. ولكن الحرب سرعان ما أتت. أصبح جميع الذكور اليابانيين جنودا، وربما بحارة. ودخلت البحرية. أصبحت طبيبا في سفينة حربية كبيرة.»
نامعلوم صفحہ