وعندما تحسنت صحتي، كان كنسوكي يخرج ويتركني وحدي، والحمد لله أن ذلك لم يكن لفترات طويلة. وكان عندما يعود، وهو يغني في أحيان كثيرة، كان يحمل السمك، وقد يحمل الفواكه أيضا أو جوز الهند أو الأعشاب، وكان يعرضها علي مزهوا. وكانت قردة السعالي تعود أحيانا معه، لكنها كانت تتوقف عند مدخل الكهف. وكانت تحدق في وجهي، وفي ستلا التي كانت دائما ما تحافظ على ابتعادها عنها. ولم يكن يحاول الدخول إلا الصغار، ولم يكن على كنسوكي إلا أن يصفق في وجهها وسرعان ما تبتعد مهرولة.
كم كنت أتمنى في تلك الأيام الأولى في الكهف لو استطعنا التحادث: كان هناك ألف لغز ولغز، وألف شيء وشيء أريد أن أعرفه. ولكن الكلام كان لا يزال يؤلمني، كما أنني كنت سعيدا تماما بالصمت الذي يسود بيننا، وأحسست أنه يفضله كذلك بصورة ما. كان يبدو أنه شخص شديد التكتم، وأنه راض بأن يظل كذلك.
وذات يوم، بعد أن قضى كنسوكي عدة ساعات منحنيا يرسم إحدى لوحاته، جاءني وأراني إياها. كانت صورة شجرة، شجرة مزهرة. وقالت بسمته كل شيء. ثم قال: «لك! شجرة يابانية. أنا من اليابان.» وبعد ذلك أراني كنسوكي جميع اللوحات التي رسمها، حتى تلك التي مسحها فيما بعد. كانت جميعا باللونين الأبيض والأسود، لقرود السعالي والجيبون، والفراشات، والدلافين، والطيور، والفواكه. لم يكن يحتفظ بإحداها إلا فيما ندر، فيقوم بتخزينها بعناية في أحد الصناديق. ولاحظت أنه يحتفظ بعدة لوحات للأشجار، وكانت دائما أشجارا مزهرة، أو «شجرة يابانية»، كما كان يسميها، وكنت أدرك أنه يجد متعة خاصة في عرضها علي. كان من الواضح أنه يريدني أن أشاركه شيئا عزيزا جدا على قلبه. وأحسست أن في ذلك تكريما لي.
وكان يجلس بجواري يرقبني عندما يخبو ضوء النهار كل يوم، وقد سقطت آخر أشعة شمس الغروب على وجهه. كنت أحس أن نظرات عينيه تجلب لي الشفاء. وكنت في الليل كثيرا ما أفكر في أبي وأمي. لكم تمنيت أن أراهما من جديد، وأن أخبرهما أنني ما زلت حيا، ولكن الغريب أنني لم أعد أفتقدهما.
وبمرور الوقت عادت قدرتي على الكلام، إذ فقد الشلل سيطرته علي وعادت لي قوتي، فأصبحت أستطيع الخروج مع كنسوكي، كلما دعاني إلى ذلك، وكثيرا ما كان يدعوني. كنت في البداية أجلس القرفصاء على الشاطئ مع ستلا وأشاهده وهو يصيد السمك في المياه الضحلة. كان يقف ثابتا ساكنا ثم يضرب السمكة بسرعة البرق. ثم قام ذات يوم بصنع رمح لي، إذ أصبح علي أن أشاركه صيد السمك. أرشدني إلى مكان الأسماك الكبيرة. وأراني أماكن اختفاء الأخطبوط تحت الصخور، وعلمني كيف أقف ساكنا مثل طائر مالك الحزين وأنتظر، وقد جهزت رمحي وصوبته فوق الماء، وظلي يمتد خلفي حتى لا تخاف الأسماك فتهرب. والحق أن صيد سمكة بالرمح لأول مرة كان يشبه إحراز هدف لفريق «مدلاركس» لكرة القدم في الوطن؛ سأفضل إحساس تقريبا يمكن أن يحسه الإنسان.
كان كنسوكي، فيما يبدو، يعرف كل شجرة في الغابة، ويعرف مكان كل شجرة من أشجار الفاكهة، ما كان ناضجا من الثمار وما كان فجا، وما كان جديرا بتسلق الشجرة من أجله. كان يستطيع أن يتسلق الأشجار التي قد يستحيل تسلقها بخفة وثبات قدم ودون خوف. لم يكن يزعجه شيء في الغابة، لا قرود الجيبون التي تعوي وتتأرجح فوق رأسه لتصرفه عن ثمارها، ولا النحل الذي يحتشد حوله حين يعود هابطا بقرص الشهد من فجوة في شجرة عالية (كان يستخدم عسل النحل في تسكير الفواكه وحفظها في زجاجات). وكانت أسرته من السعالي تصحبنا دائما، فتتبعنا كظلنا في الغابة، وقد تستطلع المسارب التي سنسير فيها أو تهرول خلفنا في الطريق. لم يكن على كنسوكي إلا أن يغني فتأتي، وكانت تبدو جميعا مسحورة برنين صوته. كانت تشعر بالحيرة إزائي وإزاء ستلا، ولكنها كانت تقلق منا ونقلق منها، وهكذا حافظنا مؤقتا على ابتعادنا عن بعضنا البعض.
وذات مساء، بينما كنت أرقب كنسوكي وهو يصيد السمك، فوجئت بأحد قرود السعالي الصغيرة يصعد ركبتي ويقبع في حجري ويبدأ في فحص أنفي بإصبعه، ثم انتقل إلى فحص أذني. وشدها بقوة لم أسترح لها؛ لكنني لم أصرخ. وبعد ذلك حذت الأخرى حذوه، كأنما كنت جهاز تسلق تلعب فوقه. بل إن الكبار أنفسها، الأضخم جسما كانت تمد أيديها وتلمسني من وقت لآخر، لكنها والحمد لله كانت دائما متحفظة، أشد حذرا من الصغار. وأما ستلا فكانت لا تزال تراعي المسافة التي تفصلها عن القرود، وتفصل القرود عنها.
وعلى مدى هذه الفترة الزمنية كلها - ولا بد أنني كنت قضيت عدة شهور، على ما أظن، في الجزيرة - لم يكن كنسوكي قد قال إلا أقل القليل. كان يصعب عليه بوضوح أن ينطق بالألفاظ الإنجليزية القليلة التي يعرفها. وعندما كانت أية ألفاظ تستخدم في الحديث بيننا لم تكن تساعد كثيرا في التفاهم. وهكذا لجأنا في معظم الأحيان إلى البسمات والإيماءات، وإلى التلويحات والإشارات، بل إننا كنا أحيانا نرسم صورا في الرمل لشرح مقاصدنا. كان ذلك يكفي وحسب لاستمرار التواصل، ولكنني أتحرق شوقا إلى معرفة الكثير. ما السبب الذي جعله يعيش هنا وحده في هذه الجزيرة؟ وكم مضى عليه هنا؟ وكيف تأتى له الحصول على كل هذه القدور والأواني والأدوات، وعلى السكين التي يحملها دائما في حزامه؟ كيف أصبح أحد صناديقه الخشبية مكدسا بالملاءات؟ من أين أتت؟ ما موطنه؟ ولماذا يبدي كل هذا العطف تجاهي الآن، ويحافظ على مشاعري بهذه الصورة، بعد أن كان يظهر استياءه الشديد مني بوضوح أول الأمر ؟
لكنني كنت إذا طرحت عليه أيا من هذه الأسئلة هز رأسه وحسب وأشاح عني كأنه رجل أصم يشعر بالعار من صممه. ولم أكن واثقا في يوم من الأيام إن كان لا يفهمني حقا أو لا يريد وحسب أن يفهم. ومهما يكن الأمر كنت أرى أنه يقلقه فأقلعت عن طرح المزيد من الأسئلة. كانت الأسئلة فيما يبدو تدخلا في حياته الخاصة، فوطنت نفسي على الانتظار.
كانت حياتنا معا عامرة بالنشاط دائما، ومنتظمة مثل عقارب الساعة. كنا نستيقظ في الفجر وننطلق في أحد المسارب فنسير قليلا للاستحمام في الجدول حيث ينحدر بمياهه الباردة العذبة من جانب التل فيصل إلى مرجل عظيم من الصخور الملساء. وكنا نغسل ملاءاتنا وملابسنا فيه هنا أيضا (وكان قد صنع لي الثوب الفضفاض، أي الكيمونو، الخاص بي من قبل)، فكنا نضرب الصخور بالملابس ونقرعها فيها قبل أن ننشرها لتجف على أحد فروع الأشجار القريبة. كان الإفطار يتكون من عصير الفواكه الغليظ السميك، وكانت الفاكهة تختلف من يوم ليوم، فيما يبدو، إلى جانب الموز أو جوز الهند. لم أشعر بالملل من الموز يوما ما، لكنني سرعان ما سئمت جوز الهند. وكنا نقضي الصباح إما في صيد السمك في المياه الضحلة أو في جمع الفواكه من الغابة. وكنا أحيانا نقوم بعد هبوب إحدى العواصف، بتمشيط الشاطئ بحثا عن الأصداف التي كان يرسم عليها - ولم تكن تصلح إلا أكبر الأصداف وأشدها تسطيحا - أو بحثا عن الركام الطافي الذي يلقيه البحر حتى نضيفه إلى مخزون الخشب في آخر الكهف. كان من الواضح أن المخزون ينقسم إلى قسمين، الأول يستخدم بوضوح حطبا، وأما الثاني فأظن أنه كان مخصصا لأشغاله اليدوية، وكنا بعد ذلك نعود إلى البيت - في الكهف - لتناول الغداء الذي كان يتكون من السمك النيئ (وهو دائما لذيذ) وفاكهة الخبز عادة (وكانت دائما لطيفة الطعم يصعب بلعها)، وبعد أن ينام كلانا فترة قصيرة بعد الغداء، يشرع هو في الرسم على منضدته، وأنهمك أنا في مشاهدته ومتابعة عمله حتى يستغرقني تماما فأتمنى ألا تغرب شمس النهار. وقد نطبخ حساء السمك فوق الموقد، دون أن نستبعد أي جزء من أجزاء السمكة، لا رأسها ولا ذيلها، ونضيف عشرة أعشاب مختلفة، فلم يكن كنسوكي يفرط في شيء على الإطلاق، وبعد ذلك يأتي الموز الأحمر، وكان لي أن آكل منه كل ما أريد. لم أكن أحس مطلقا بالجوع. وعندما ينتهي العشاء كنا نجلس عند باب الكهف ونشهد غروب الشمس في البحر، وبعد ذلك، ودون أن يتفوه بكلمة واحدة، ينهض. ومن ثم ينحني كل منا لصاحبه، فينشر هو حصير فراشه ويتركني أنشر حصيري.
نامعلوم صفحہ