وأجبته: «ولم لا؟ ماذا هناك؟»
وكان قد ألقى عصاه على الشاطئ وجعل يخوض في الماء تجاهي من خلال الأمواج. «لا سباحة. داميدا! أبوناي! لا سباحة.» وإذا به يمسكني من ذراعي ويقودني قسرا إلى خارج ماء البحر. كانت قبضته مثل الكماشة. لم تكن هناك فائدة في المقاومة. ولم يطلق سراحي إلا عندما عدنا إلى الشاطئ. ووقف يلهث عدة لحظات. «خطر. بالغ السوء. أبوناي!» وكان يشير إلى البحر وهو يتكلم. «لا سباحة. بالغ السوء. لا سباحة. هل تفهم؟» وكان يحدق في عيني تحديقا صارما، حتى لا يدع لدي شكا في أن ما يقوله ليس مجرد نصيحة بل هو أمر لا بد لي من طاعته. ثم استدار وابتعد داخلا الغابة، بعد أن التقط عصاه مرة ثانية. وجرت ستلا خلفه، لكنني دعوتها للعودة.
وشعرت في تلك اللحظة أنني أريد أن أتحداه وأعصيه صراحة. لسوف أنزل البحر من جديد ولسوف ألهو وألعب بأقصى ما أستطيعه من صخب واستفزاز. لسوف ألقنه درسا. كان بي غضب شديد من هذا الظلم الفادح. فلقد منعني أولا من إشعال النار، ثم نفاني بعدها وحدد إقامتي في أحد طرفي الجزيرة، وهو الآن لا يسمح لي حتى بالسباحة. كنت أريد أن أشتمه بكل الشتائم التي أعرفها، لكنني لم أفعل. ولم أعد إلى السباحة في البحر أيضا. واستسلمت. سلمت له بما أراد، لأنني مرغم. فأنا في حاجة إلى طعامه وشرابه. وكان علي أن أنفذ ما يقوله حتى يجف تماما مناري الخشبي، وحتى تأتي السفينة التالية. ومع ذلك، فقد صنعت من الرمل تمثالا بالحجم الطبيعي له على الأرض خارج كهفي، وجعلت أتواثب فوقه غضبا وإحباطا، فأحسست ببعض الراحة، وإن لم تكن راحة كبيرة.
وباستثناء ما كان ينتابني عرضا من آلام الحنين للوطن والإحساس بالوحشة، وهي الآلام التي كانت تعصر حشاي عصرا، كنت قد نجحت بصفة عامة في الحفاظ على روحي المعنوية العالية. ولكن صبري نفد. إذ ظل مناري مبتلا لا يريد أن يجف. وكنت كل يوم أصعد تل المراقبة آملا أن ألمح سفينة، والبحر يمتد أمامي كل يوم وفي جميع الاتجاهات خاليا خاويا. وازداد باطراد إحساسي بالعزلة وبالشقاء. وقررت آخر الأمر ألا أصعد تل المراقبة أبدا، فلا غناء في ذلك. وبدلا من ذلك كنت أمكث في كهفي، وأتكور فوق حصير فراشي ساعات طويلة أثناء النهار. كنت أرقد هنا غارقا في أحزاني، وقد سيطر على فكري خاطر أوحد هو اليأس الذي أواجهه، وكيف أنني لن أنجح يوما ما في الخروج من هذه الجزيرة، وأنني سوف أموت هنا، وأن أمي وأبي لن يعرفا أبدا حتى ما حدث لي. لن يعرف أحد ذلك إلا العجوز، المجنون، سجاني الذي يضطهدني.
وظل الجو ثقيل الوطأة مشبعا بالرطوبة. كم كنت أود أن أغطس في المحيط، لكنني لم أجرؤ. فالمؤكد أنه لن يغفل عن مراقبتي. وكل يوم يمر كان يزيد من كراهيتي لذلك الرجل، على الرغم من مواصلته إحضار السمك والفواكه والماء إلي. ربما كنت أحس بالضيق والاكتئاب، لكنني كنت أشعر أيضا بالغضب. وبدأ هذا الغضب تدريجيا يولد في نفسي تصميما جديدا على الهرب، ورفع هذا التصميم روحي المعنوية. فاستأنفت صعود تل المراقبة كل يوم، وبدأت أجمع مخزونا جديدا من أوراق الشجر والأغصان الجافة من حافة الغابة، خبأتها جميعا في شق عميق من شقوق الصخر حتى أضمن دائما أنها جافة، عندما تحين اللحظة المناسبة. وكان مناري قد جف آخر الأمر، فأضفت إليه الكثير حتى ارتفع وزاد ارتفاعه. وعندما فعلت كل ما في طوقي جلست في انتظار اللحظة المنشودة، وكنت واثقا أنها سوف تأتي، يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع، كنت أجلس فوق تل المراقبة وقد وضعت زجاجة إشعال النار، بعد صقلها، في جيبي، ومناري جاهز ينتظر.
وقد تصادف أنه حينما حانت اللحظة المنتظرة لم أكن فوق تل المراقبة! إذ حدث أنني خرجت ذات صباح من كهفي، والنعاس لا يزال برأسي فشاهدتها. سفينة! كانت سفينة ذات أشرعة غريبة لونها بني ضارب إلى الحمرة، وقلت في نفسي إنها سفينة من نوع «الينك» الصيني ذي القاع المسطح، ولم تكن على مسافة بعيدة داخل البحر. وغلبني الانفعال فانطلقت في عجل واضطراب أجري على الشاطئ، صائحا صارخا هاتفا بكل ما أوتيت من قوة. ولكنني أدركت فورا أن الأمر ميئوس منه، فرغم أن السفينة لم تكن بعيدة بعدا كبيرا في البحر، فإنها كانت أبعد من أن يراني من فيها أو يسمعني أحدهم. وحاولت تهدئة نفسي، وحاولت التفكير ... النار! أشعل النار!
وغدوت أجري طول الطريق صاعدا التل دون أن أتوقف مرة واحدة، وستلا في أعقابي كظلي وهي تنبح. وكانت الغابة من حولي تضج بأصوات النقيق والوقوقة والصراخ الحاد احتجاجا على ذلك الإزعاج المفاجئ. وجهزت مخزوني من أوراق الشجر الجافة وأمسكت بزجاجة إشعال النار ثم قبعت بجوار المنار لإشعال ناري. لكنني كنت أرتجف من فرط الانفعال والإرهاق فلم أستطع الحفاظ على ثبات يدي إلى الحد اللازم. وهكذا بنيت هيكلا من الغصون ووضعت الزجاجة فوقه، مثلما سبق لي أن فعلت. وعندها جلست إلى جواره، راجيا أن تضطرم النار في ورق الشجر.
وكلما نظرت إلى البحر وجدت تلك السفينة، أو الينك. كانت تبتعد ببطء عنا، ولكنها كانت لا تزال هناك.
كنت أشعر كأنما مر علي دهر في جلستي قبل أن ألمح خيطا رفيعا من الدخان، وبعد ذلك بقليل وهجا رائعا لألسنة النار الجميلة الرائعة، وهي تنتشر في طرف ورقة من أوراق الأشجار. وانحنيت فوقها حتى أنفخ فيها كي تضطرم.
وفي تلك اللحظة أبصرت قدميه، فرفعت بصري. كان العجوز واقفا قبالتي، وقد امتلأت عيناه غضبا واستياء. لم يتفوه بحرف واحد، بل انطلق يخمد ناري الوليدة. واختطف من يدي زجاجة إشعال النار ورمى بها بعيدا على الصخرة أسفل التل فتفتتت وتناثرت شظاياها. لم أكن أملك إلا أن أنظر ما يحدث وأبكي، وهو يحطم مناري ويلقي بالغصون والفروع واحدا بعد الآخر إلى أسفل التل. وفي أثناء ذلك تجمع حشد من قرود السعالي لمشاهدة ما يحدث.
نامعلوم صفحہ