وهكذا لم أعد أقضي أيامي جالسا وحسب فوق تل المراقبة أنتظر، بل كنت أقضي كل ساعة هناك في بناء المنار. كنت أجر فروعا ضخمة فوق الركام الصخري من الغابة أسفله وأضعها في كومة عالية، ولكن في جانب التل المواجه للبحر، وهو المكان المثالي الذي يتيح للسفن مشاهدته عند إشعال النار فيه، وفي الوقت نفسه لا يتيح لعين العجوز الفاحصة أن تلمحه، وكنت أعتبره الآن السجان الذي يحبسني. ولا شك أنه سوف يراقبني، وكنت واثقا من ذلك كل الثقة. ولذلك حرصت على ألا يلمحني إطلاقا أثناء قيامي بإحضار الحطب وحمله، كان من المحال على أحد أن يعرف ما أفعل إلا إذا نظر من ناحية البحر، ولم تكن في البحر أية عيون ترقبني.
وقضيت عدة أيام في العمل الشاق ببناء مناري السري. وكنت قد قاربت الانتهاء منه عندما اكتشف أحدهم فعلا ما أنا بصدده، لكنه لم يكن العجوز.
كنت أحمل فرعا هائلا وأضعه فوق الكومة حين أحسست فجأة بظل يغشاني. كانت سعلاة تقف فوق الصخرة العلوية وتنظر إلي من عل، لكنني لم أكن واثقا أنها كانت نفس القرد الذي شاهدته من قبل. كان واقفا على أطرافه الأربعة، وقد تحدبت كتفاه العظيمتان، وخفض رأسه، وجعل ينظر إلي نظرة جانبية. لم أجرؤ على الحركة. كانت مواجهة صامتة، كتلك التي حدثت من قبل على الشاطئ.
واعتدل في جلسته وظل ينظر إلي باهتمام فاتر برهة من الوقت، ثم حول بصره عني، وحك وجهه في غير مبالاة، ثم انحدر هابطا التل، وإن توقف مرة واحدة ليلقي علي نظرة من فوق كتفه قبل أن يواصل سيره في ظل الأشجار ويبتعد، وخطر لي وأنا أرقبه أنه ربما كان مرسلا للتجسس علي، وربما عاد ليخبر الرجل العجوز بما شاهدني أفعله. أعرف أنها كانت فكرة سخيفة مضحكة، لكنني أذكر أنها خطرت ببالي.
وهبت عاصفة على الجزيرة تلك الليلة، عاصفة رهيبة عاتية، وكان هزيم الرعد الرهيب المصاحب للبرق عاليا، إلى جانب صخب الأمطار وزفيف الرياح، حتى استحال علي تماما أن أنام. كانت الأمواج العالية تهدر في البحر، وتلطم الشاطئ وتهز الأرض من تحتي. وفرشت حصير نومي في آخر مكان بالكهف، وكانت ستلا ترقد بجانبي، بل في أحضاني، وكم أحببت ذلك!
ولم تسكن العاصفة إلا بعد أربعة أيام كاملة، ولكن - حتى في ذروة طغيانها - كنت لا أزال أجد سلة السمك والفواكه في انتظاري كل صباح تحت صفيحتي، وهي التي كان العجوز يحشرها الآن حشرا تحت الرف الصخري. والتزمت أنا وستلا بمأوانا ومخبئنا في الكهف، ولم نكن نرى سوى سياط المطر المنهمر خارجه. وكنت أتطلع في رهبة إلى قوة الأمواج الجبارة المنحدرة من المحيط العريض، فكانت تتكور وتهوي وتتفجر وهي تتكسر على الشاطئ، كأنما كانت تحاول تقطيع الجزيرة بالضرب المتوالي ثم ابتلاعنا جميعا في جوف اليم، وكثيرا ما كنت أفكر في أمي وأبي والسفينة بيجي سو، وأتساءل في نفسي: ترى أين الجميع الآن؟ وكل ما كنت أرجوه هو أن يكونوا قد نجوا من هذا الإعصار المداري الذي شهدته، ويسمى إعصار «التايفون».
ثم حدث ذات صباح أن توقفت العاصفة فجأة مثلما هبت فجأة. وسطعت الشمس في السماء الزرقاء، واستأنفت الغابة سيمفونية أصواتها بعد انقطاعها، فخرجت من الكهف، وانطلقت فتسلقت تل المراقبة فورا؛ لأنظر إن كانت هناك سفينة، ربما تكون قد خرجت عن مسارها، وربما كانت قد أوت إلى الجزيرة كي تحتمي بها من العاصفة. لكنني لم أشاهد شيئا. وخاب أملي، لكنني - على الأقل - رأيت مناري لا يزال منتصبا. كان البلل يغمره بطبيعة الحال، لكنه كان سليما. كان البلل يغشى كل شيء. وكان من المحال إشعال النار الآن، حتى يجف كل شيء.
كان الجو حارا وخانقا طول النهار. ولم يكن من اليسير أن أتحرك على الإطلاق، بل كان التنفس عسيرا. لم يكن في وسع ستلا إلا أن ترقد وتلهث. وكان مكان الابتراد الوحيد هو البحر، فقضيت معظم ذلك النهار في الاسترخاء في الماء، متكاسلا، وإن كنت أحيانا أرمي بعصي حتى تحضرها ستلا وتشعر بالسعادة.
كنت شبه راقد في الماء، لا أفعل سوى أن أطفو مع أحلام اليقظة، حين سمعت صوت الرجل العجوز. كان يجري على الشاطئ مهرولا نحوي ، وهو يصيح بنا ويلوح بعصاه بشدة في الهواء. وقال الرجل: «ياميرو! أبوناي! خطر. تفهم؟ لا سباحة.» لم يكن يبدو أنه غاضب مني، مثلما كان من قبل، وإن بدا من الواضح أن شيئا ما أزعجه.
ونظرت حولي. كان صدر البحر لا يزال يصعد ويهبط، وإن كان ذلك بلطف ورقة، كأنما كان يزفر آخر زفرات العاصفة، وكانت الأمواج تتهادى بفتور وتسكن منهكة على الشاطئ. لم أكن أستطيع أن أرى أي خطر خاص.
نامعلوم صفحہ