وانطلقت ستلا تجري أمامي فنزلت البحر، وهي تنبح لي كي تدعوني لمشاركتها. لم أكن بحاجة إلى إقناع. فألقيت بنفسي في الماء وأنا أتواثب وألهو وأهتف وأضربه بيدي ورجلي، وكانت هي أثناء مرحي الطليق تنطلق سابحة لا تلوي على شيء. كانت تبدو عليها سيماء الجد دائما عندما تسبح، رافعة ذقنها، وتضرب الماء بقوائمها في ثقة.
كان البحر ساجيا هادئا ولا تكاد ترى فيه أدنى حركة للموج. لم أجرؤ على السباحة في المنطقة العميقة، فلقد نلت ما يكفيني العمر كله من جراء ذلك! وخرجت من البحر أشعر بالنظافة والانتعاش والحيوية - خرجت شخصا جديدا. كان البحر مصدر شفاء عظيم. كانت آثار لذع البعوض ما زالت موجودة ولكنها لم تعد تؤلمني.
وقررت اكتشاف المزيد من منطقة الشاطئ، وحتى آخره إذا استطعت، بشرط ألا يغيب كهفي عن بصري لحظة واحدة. كانت هنا قواقع بحرية، ملايين القواقع، بعضها ذهبي اللون وبعضها وردي، ملقاة في صفوف طويلة بحذاء الشاطئ، وقبل وقت طويل شاهدت ما بدا لي من مسافة بعيدة نتوءا صخريا مسطحا لا يخرج إلا قليلا عن مستوى الرمال. وكانت ستلا تخمش الأرض بحماس في طرفه، واتضح أنه لم يكن من الصخر على الإطلاق بل كان لوحا معدنيا طويلا علاه الصدأ - والواضح أنه كان كل ما بقي من جانب هيكل سفينة غدا الآن دفينا في أعماق الرمال، وقلت في نفسي ترى ماذا كانت تلك السفينة، وكم مضى من الزمن على تحطمها. ترى هل دفعتها عاصفة رهيبة نحو الجزيرة؟ هل نجا من ركابها أحد؟ أيمكن أن يكون أحدهم مقيما هنا حتى الآن؟ وانحنيت على الرمل وتحسستها بيدي. وعندها لاحظت وجود قطعة من الزجاج الشفاف فوق الرمل على مسافة قريبة، وربما كانت ما بقي من إحدى الزجاجات. كانت بالغة السخونة فلم أستطع أن ألمسها، ناهيك بأن أمسكها بيدي.
وخطر لي خاطر كالبرق. كان إدي قد علمني الطريقة، وكنا جربناها في فناء المدرسة ، مختبئين خلف صناديق القمامة حيث لا يشاهدنا أحد. قطعة من الورق وشظية من الزجاج والشمس، وأشعلنا النار! لم تكن لدي أية أوراق، ولكن أوراق الشجر تصلح. وانطلقت أجري على الشاطئ وجمعت ما استطعت أن أجده من تحت الأشجار؛ قطع من العصى والأغصان وشتى أنواع ورق الشجر - ما رق منها - حتى أصبح مثل ورق الكتابة وجف جفافا تاما. ووضعتها في كومة صغيرة على الرمل وجلست بجوارها. وأمسكت بقطعة الزجاج في يدي بالقرب من ورق الشجر وضبطت الزاوية حتى تجمع ضوء الشمس. كان علي أن أجلس ساكنا، بل ساكنا تماما، وأنتظر أول بشائر الدخان.
وجلست طويلا، وجاءت ستلا فأزعجتني، إذ كانت تريد أن تلعب، فدفعتها بعيدا عني، وذهبت آخر الأمر ممتعضة واجمة، وجعلت تتمدد وهي تتنهد في ظل أشجار النخيل، كانت حرارة الشمس حارقة، ولكن لم يحدث شيء. وبدأت ذراعي تؤلمني، وهكذا أقمت هيكلا من الغصون فوق أوراق الشجر، ووضعت الزجاجة فوقه، وقبعت بجواره وانتظرت. ولكن لم يحدث شيء أيضا.
وفجأة هبت ستلا من رقادها، وفي حلقها صوت زمجرة عميقة. والتفتت وانطلقت تجري نحوي، ثم استدارت كي توجه نباحها الغاضب إلى الغابة، ثم رأيت ما أزعجها.
كان تحت الأشجار ظل يتحرك قادما بخطى متثاقلة نحونا. كان قردا، قردا عملاقا، لم يكن من قرود الجيبون على الإطلاق. كان يمشي الهوينى على أطرافه الأربعة، لونه بني؛ بني ضارب إلى الصفرة. كان سعلاة، أو ما يسمى أيضا إنسان الغابة، وكنت واثقا من ذلك. وقعد ذلك القرد على مبعدة خطوات معدودة مني وأخذ يحدق في، لم أجرؤ على الحركة، ولما شاهد ما يكفيه، حك رقبته دون اهتمام واستدار، ثم عاد يسير على أربع ببطء عائدا إلى الغابة. واستمرت ستلا في زمجرتها حتى بعد أن مضى بفترة طويلة.
إذن كانت هنا السعالي أيضا إلى جانب قردة الجيبون. بل ربما كانت السعالي هي التي كانت تصدر أصوات العواء لا قرود الجيبون، ربما كنت مخطئا منذ البداية. كنت شاهدت ذات يوم فيلما يلعب فيه كلينت إيستوود دور البطولة ويصور أحد السعالي، كان ذلك القرد في الفيلم ودودا إلى حد كبير. وتمنيت أن يكون هذا مثله.
ثم رأيت الدخان. شممت رائحة الدخان. ظهر بصيص نار وسط كومة الأوراق التي وضعتها، فقبعت على الفور وجعلت أنفخ فيها نفخا لطيفا. وتحول البصيص إلى ألسنة لهب، فأضفت المزيد من ورق الشجر، ثم وضعت غصنا جافا أو غصنين، ثم بعض الأغصان الكبيرة. وأشعلت النار! أشعلت النار!
وانطلقت مسرعا في الغابة فجمعت كل الركام الذي وجدته، كل قشور جوز الهند الجافة، وكل ما وجدته من حطب. وجعلت أتحرك جيئة وذهابا حتى أصبحت النار تتأجج ولها عجيج مسموع كالجحيم! كان الشرر يتطاير عاليا في الهواء، والدخان يرتفع وسط الأشجار من خلفي. وعرفت أنني لا أستطيع أن أستريح الآن، فالنار تحتاج المزيد من الحطب، وقطعا أكبر من الخشب، بل ومن فروع الأشجار، وأن علي أن أذهب لإحضار ذلك حتى أتأكد أنني جمعت ما يلزم لاستمرارها، وجمعت الكفاية من المخزون.
نامعلوم صفحہ