وفي يوم 10 سبتمبر 1987م - وأنا أعرف التاريخ لأنني أضع سجل السفينة أمامي أثناء الكتابة - وبعد أن حشدنا في كل ركن وزاوية بالسفينة ما نحتاج إليه من مئونة ومن زاد، أصبحنا أخيرا على استعداد للإقلاع حتى نبدأ مغامرتنا الكبرى، ملحمة الأوديسية العظمى لنا.
كانت جدتي حاضرة لوداعنا وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وكانت في النهاية قد وافقت على قيامنا بالرحلة، بل قالت إنها تريد أن تصحبنا لزيارة أستراليا - إذ كانت دائما تتوق إلى مشاهدة دببة الكوالا الصغيرة على الطبيعة. وكان في وداعنا حشد كبير من أصدقائنا أيضا، ومن بينهم بارناكل بيل. وجاء صديقي الصغير إدي دودز مع والده. وألقى إلي بكرة قدم أثناء رفع المرساة. وصاح عاليا «إنها تميمة السعد!» وعندما فحصتها فيما بعد وجدت أنه غمرها بتوقيعاته مثل نجوم كأس العالم لكرة القدم.
وودعتهم الكلبة ستلا أرتوا بنباحها، كما ودعت جميع القوارب الراسية أثناء مرورنا بمضيق سولينت الذي يفصل جزيرة وايت عن أرض إنجلترا، ولكننا أثناء عبورنا تلك الجزيرة سكتت فجأة عن النباح، ربما أدركت، مثلما أدركنا، أنه لا عودة إلى الوراء الآن، لم يكن ذلك حلما، بل لقد بدأنا الإبحار حول العالم. كان ما يحدث حقيقيا، وحقيقيا حقا.
الفصل الثاني
الماء، الماء في كل مكان
يقولون إن الماء يغطي ثلثي سطح الأرض، والواقع أن الأمر يبدو كذلك عندما تكون في البحر، بل وهو ما تشعر به أيضا. ماء البحر، وماء المطر؛ كله بلل في بلل! كنت معظم الوقت مبتلا بللا كاملا. كنت أرتدي الملابس اللازمة، إذ كان الربان دائما يستوثق من ذلك، ولكن البلل كان يتسرب إلى جسمي بصورة ما.
وفي أسفل السفينة كان كل شيء مبتلا، حتى الأكياس المبطنة المعدة للنوم، ولم نكن نستطيع تجفيف أي شيء إلا عندما تسطع الشمس ويتوقف صدر البحر عن الصعود والهبوط! وعندها نأتي بكل شيء إلى ظهر السفينة، وإذا بسفينتنا بيجي سو وقد ارتدت الملابس كلها، وامتلأ حبل الغسيل من آخر السفينة إلى مقدمها. وكانت العودة إلى الجفاف بعد البلل متعة حقيقية، لكننا نعرف أنها لن تستمر طويلا.
قد تظن أنه لم يكن لدينا عمل كثير يشغلنا نحن الثلاثة في السفينة، يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع. ولكن ذلك خطأ مؤكد، فلم تكن تمر علينا لحظة هدوء طيلة النهار، وكان لدي دائما ما يشغلني: طي الشراع، وإنزاله بالرافعة، وإرخاء الحبال، وقيامي بنوبتي عند عجلة القيادة، وهو ما كنت مولعا به، أو مساعدة والدي في أعمال الإصلاح والترقيع التي لا تنتهي، فكان كثيرا ما يحتاج إلى مساعد له حتى يقبض على الخشبة مثلا أثناء الحفر أو دق المسامير أو إدخال البراغي أو النشر، وكنت دائما أقوم بالمسح والتنظيف، أو بإعداد الشاي، أو غسيل الأطباق، أو أعمال التجفيف. ولن أكون صادقا إن قلت إنني كنت أحب ذلك كله، ولكن العمل الدائب لم يدع للملل لحظة واحدة!
لم يكن مسموحا بالبطالة إلا لعضو واحد من أعضاء طاقم السفينة - ستلا أرتوا - وكانت دائما دون عمل. ولما لم تكن تجد ما يستحق النباح في صفحة البحر العريض، كانت تقضي الأيام العاصفة متكورة على نفسها في سريري في غرفتي أسفل السفينة. لكنه عندما يصفو الجو وتشرق الشمس كانت عادة ما تقوم بالمراقبة في مقدمة السفينة، منتبهة لأي شيء؛ أي شيء آخر سوى البحر. والمؤكد أنه إذا بدا أي شيء فلا بد لها أن تلمحه بسرعة: مجموعة من خنازير البحر مثلا، تغطس في الأمواج وتخرج منها، أو أسرة من الدلافين التي تسبح بجوار بعضها البعض، وقد اقتربت من السفينة إلى الحد الذي يوحي بأنك تستطيع مد يدك ولمسها! وحيتان، وأسماك القرش، بل والسلاحف البحرية؛ رأيناها جميعا. وكانت والدتي تلتقط صورها بالفيديو والكاميرا العادية، وكنت ووالدتي نتشاجر حتى نستخدم المنظار المقرب. ولكن ستلا أرتوا كانت في جوها الطبيعي، وعاد لها طبع كلبة الرعي، فأخذت تصدر أوامرها بالنباح على كائنات البحر، حتى تجمعها في قطيع واحد من أعماق البحر.
وعلى الرغم مما كانت تسببه لنا من ضيق - إذ كانت تشيع رائحة بللها في كل مكان - فإننا لم نندم يوما على اصطحابها معنا في هذه الرحلة، فقد كانت مصدر تسرية وسلوى لنا. فعندما كان البحر يضطرب بنا ويخضخضنا، وتشعر والدتي بدوار البحر حتى يكاد يغشى عليها، كانت تهبط إلى أسفل السفينة وتجلس ممتقعة اللون شاحبة، وعلى حجرها ستلا تلاطفها وتتلقى ملاطفتها. وعندما كنت أشعر بالرعب من الأمواج العالية كالجبال وصرخات الريح الداوية، كنت أتكور مع ستلا في مرقدي بالسفينة، وأدفن رأسي في عنقها وأحتضنها بشدة. وفي مثل تلك الأوقات - ولا أظن أنها كانت كثيرة، لكنني أذكرها بدقة شديدة وحسب - كنت دائما أضع كرة إدي بالقرب مني أيضا.
نامعلوم صفحہ