كلمة للمعرب
هدم مملكة جهنم وتجديدها
الخمر
مبادئ تولستوي
كلمة للمعرب
هدم مملكة جهنم وتجديدها
الخمر
مبادئ تولستوي
مملكة جهنم والخمر
مملكة جهنم والخمر
تأليف
ليو تولستوي
ترجمة
سليم قبعين
الفيلسوف تولستوي (آخر رسم له).
كلمة للمعرب
لا أزيد القراء تعريفا بالفيلسوف تولستوي، فإن مجرد ذكر اسمه يكفي للدلالة على شهرته؛ فهو فيلسوف هذا العصر الفرد بإجماع فلاسفة أوروبا وأميركا الذين اعترفوا له بسمو المدارك وسعة الاطلاع واستقامة المبادئ وحصافة الآراء. ولا عجب، فقد أفاض على العالم أجمع ينابيع الحكمة السامية، وعلم الناس كيف يعيشون، وأرشدهم إلى الطريق المؤدي إلى قمة الكمال الإنساني الذي لم يسبقه فيلسوف إلى تعريفه الحقيقي، ولم تتوصل أبحاث فطاحل العلماء إلى ما وصل إليه من المباحث بشأنه؛ فقد كشف النقاب عن كثير من الأسرار الغامضة. ومما تفرد به تولستوي إمكانه تصوير أنفس الناس تصويرا حقيقيا يدركه مطالعو كتبه لأول وهلة. وقد فاق من سبقه من الفلاسفة ببساطة فلسفته؛ فهي سهلة المأخذ، قريبة المنال، خالية من التعقيد والغموض.
وتولستوي فيلسوف قولا وفعلا؛ فإنه زهد هذه الدنيا الباطلة وتنازل عن جميع ممتلكاته الواسعة وأراضيه الشاسعة، واكتفى منها بمنزل تحيطه حديقة وقطعة أرض يستغلها بنفسه ويقضي سحابة يومه في الاشتغال بها؛ ليستثمرها ويتقوت من محصولها، وعدا ذلك فإنه يخيط ملابسه وحذاءه لأن من رأيه أنه يتحتم على الناس أن يداوموا على الشغل الذي هو الوسيلة الوحيدة التي تبعدهم عن الشر وارتكاب الموبقات والانغماس في حمأة الرذائل، فهو بهذا المعنى على رأي الشاعر العربي القائل:
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة!
وقد كرس حياته منذ زهد الدنيا للعمل والإرشاد ومساعدة البائسين والمعوزين؛ فقد أنشأ في قرية ياسنايا بوليانا - التي يقيم فيها - مدرسة يعلم فيها بعض ساعات، وعند عصر كل يوم يذهب إلى ظاهر القرية ويجلس تحت شجرة معلومة؛ فيجتمع إليه البائسون والمحتاجون، فيعزيهم بكلمات كالبلسم الشافي، ثم يمدهم بالإحسان، وقد اشتهرت هذه الشجرة في تلك الأرجاء حتى أطلق عليها الأهالي اسم «شجرة الإحسان». وقد قدر الناس عمل تولستوي هذا حق قدره، فأرسلوا إليه من جميع الجهات الأموال ليحسن بها على من يستحق الرحمة والإحسان.
عربنا هذا الكتاب وطبعناه في القاهرة عام 1909 فتخاطفته الأيدي ونفدت نسخه، وقد طلب إلينا كثيرون من جهات متعددة أن نعيد طبعه، فلم يسعنا إلا إجابة طلبهم والنزول على إرادتهم. وقد بوبناه تبويبا جديدا، وأضفنا إليه مقالة ضافية للفيلسوف عن الخمر وأضراره وأوزاره وما تجره على الإنسانية من الويل والثبور وعظائم الأمور، وقدمناه هدية لمشتركي «الإخاء»، فعسى أن تصادف خدمتنا هذه حسن القبول عند أبناء اللغة العربية.
والله نسأل أن يشد أزرنا لخدمة مواطنينا الشرقيين، إنه أكرم مسئول.
كتبه
سليم قبعين
صاحب مجلة الإخاء
هدم مملكة جهنم وتجديدها
1
قال الفيلسوف: حدث ذلك عندما نشر المسيح تعاليمه بين الناس، تلك التعاليم الواضحة القريبة المنال التي يسهل على كل إنسان فهمها وإدراكها واتباع ما جاء فيها من السنن والشرائع، ولا ريب أنها تنقذ الناس التابعين لها من الشر، وتخرجهم من ظلمات الآثام إلى النور الذي شعاره المحبة ودثاره الإخاء والمساواة. وقد انتشر ذلك التعليم بسرعة، ولم يقدر أحد أن يقف في وجه انتشاره أو يصد تياره.
إن بعلزبول
1 - أب ورئيس جميع طغمات الشياطين - اضطرب جزعا وارتعشت أعصابه فزعا؛ ذلك لأنه علم حق العلم بأن سلطته على الناس أخذت في التقلص والزوال، وأنها ستتلاشى وتصبح أثرا بعد عين إذا لبث المسيح مواصلا تعاليمه وكرازته، ولم يقاومه أحد مقاومة عنيفة تحول بينه وبين مواصلة التعليم والإرشاد. أجل، لقد اضطرب وجعل يضرب أخماسا بأسداس، وطفق يعمل الفكرة الشيطانية لإيقاف تيار ذلك التعليم، فأخذ من الضعف قوة وحرض أتباعه والخاضعين له من الفريسيين والكتبة لكي يقاوموا المسيح ويبالغوا في تحقيره وسومه صنوف العذاب والهوان، وحرض تلامذة المسيح وجسم لهم الخوف والهلع وزين لهم الهرب وترك معلمهم وحيدا فريدا دون مؤاس أو عضد. وقد فعل الشيطان ذلك زعما منه أن الحكم على المسيح بالموت صلبا - وما كان يصلب في تلك الأيام إلا كبار المجرمين - ثم تحقيره والاستهزاء به وتركه من جميع تلامذته، وأخيرا أن العذابات والآلام والإهانات؛ تحمل المسيح في آخر دقيقة من حياته على إنكار تعليمه، وهذا الإنكار يقضي القضاء المبرم على قوة ذلك التعليم، ولا يدع له قيمة في نظر الناس.
ولكن الأمر جاء على عكس ذلك، فقد ظهرت النتيجة الفاصلة والمسيح معلق على الصليب عندما صرخ قائلا: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ ولما سمع ذلك بعلزبول ارتعش فرقا وأخذ القيد الذي كان معدا لتقييد المسيح وقيد به رجليه تقييدا محكما، ثم سمع بعد ذلك كلمات المسيح التي لفظها على الصليب بصوت عال، وهي: «يا أبي، اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون»، ثم أتبع المسيح ذلك بقوله: «قد تم وأسلم الروح.»
وقد أدرك بعلزبول حينئذ أن جميع مساعيه ذهبت عبثا، ومكايده التي كادها ذهبت أدراج الرياح ولم تجده أقل نفع، فأراد أن ينزع القيود التي قيد بها نفسه عن رجليه ويولي الأدبار فلم يستطع إلى ذلك سبيلا؛ لأن القيود قفلت قفلا محكما، فحاول فتحها فلم يقدر، وحاول أيضا أن ينهض بواسطة جناحيه ويطير ولكنهما خاناه ولم يتحركا لا ذات اليمين ولا ذات اليسار. ثم رأى بعلزبول - وهو على تلك الحالة الحرجة - كيف أن المسيح بنوره اللامع وقوته الفعالة فتح أبواب الجحيم، وأبصر أيضا كيف أن جميع الخطاة من آدم حتى يهوذا خرجوا منها، ورأى بعيني رأسه كيف أن جميع أتباعه الشياطين ركنوا إلى الفرار وتفرقوا أيدي سبا، وشاهد سقوط جدران جهنم الأربعة حتى لم يبق منها حجر على حجر؛ فخانته قواه ولم يستطع احتمال كل ذلك، فأن أنينا مؤلما، وسقط سقطة هائلة، وهوى إلى هاوية مظلمة حيث لبث لا يبدي حراكا ولا ينبس ببنت شفة، وقد أيقن بالبقاء على تلك الحالة إلى الأبد.
2
مر على ذلك مئة عام، ثم مئتان، ثم ثلاثمئة، حتى إن بعلزبول خانته ذاكرته ولم يعد يذكر الزمن الذي مر عليه، فضلا عن أنه كانت تحيط به ظلمة حالكة وتحدق به سكينة الموت، وكان مطروحا على الأرض دون حراك، يجتهد بأن لا يعيد على مخيلته ذكرى الحوادث الماضية التي قادته إلى هذا المأزق الحرج، وكان يحرق الأرم ويصر بأسنانه غيظا، وينفث من فيه صنوف الشتائم، ويوجهها إلى ذاك الذي سبب له هذا الهلاك.
ولبث على تلك الحالة غير مفتكر بالخلاص من هذه الورطة الشنعاء أو الخروج من تلك الظلمة الظلماء، ولكنه سمع ذات يوم فجأة أصواتا مختلطة آتية من فوق رأسه، وقد أخذت تلك الأصوات في الازدياد حتى قاربت الغوغاء، وسمع وقع أقدام وأنات وصراخا وصرير أسنان، فرفع بعلزبول رأسه ووجه سمعه وهو جاثم لا يبدي حراكا، ولم يخطر بباله أن جهنم تتجدد وتعود إليها حالتها الماضية التي تقوضت بعد انتصار المسيح وفوزه، ومع ذلك فإن الجلبة والضوضاء ووقع الأقدام وصرير الأسنان كانت تزداد وضوحا وجلاء، فرفع جثته وانتفض ثم حرك رجليه الرفيعتين الطويلتين ذات الحواف المخيفة اللتين كانتا مطويتين تحت جسمه أعواما وأياما، ولشدة دهشه ومزيد استغرابه شعر بأن القيود المقيدة فيها سقطت من نفسها ووجد نفسه حرا، فزاد فيه النشاط وتجدد في فؤاده الأمل بالرجوع إلى سابق عهده، فنهض ورفرف بجناحيه وصفر ذلك الصفير المزعج الذي كان يستدعي به في أزمان سلطته الماضية خدمه وأتباعه من الشياطين الذين لا يحصى لهم عدد.
ثم أبصر كوة فتحت فوق رأسه ولمع منها نور أحمر ساطع، وجمهورا غفيرا من الشياطين يتساقطون من تلك الكوة - دافعين بعضهم بعضا - إلى تلك الهاوية، وأحاطوا ببعلزبول إحاطة الغربان للجثة أو النسور للرمة.
وكان هؤلاء الشياطين مختلفين في الحجم والطول والعرض، فمنهم الكبير والصغير والسمين والضئيل المهزول، ولهم أذناب بعضها طويل وبعضها قصير ورفيع وقرون مستطيلة مستقيمة أو عوجاء معقوفة.
وكان أحدهم عاري الجسم، ولكنه وشح أعلى جسده بوشاح من أطمار بالية، ولون بشرته أسود لامع، ولم ينبت بوجهه شعر، وقد انتفخ بطنه وبرز بروزا ظاهرا مضحكا. جلس هذا الشيطان القرفصاء أمام بعلزبول وجها لوجه، ولكنه ما كان يستقر على حالة بل كان يلتفت ذات اليمين وذات اليسار مجيلا بصره الناري في تلك الهاوية، ولم يفارق الابتسام فمه، ويلوح بذنبه المتناهي في الطول.
3
فقال بعلزبول مشيرا بيده إلى العلو: ما معنى هذه الضوضاء والغوغاء؟ ماذا حدث؟ ... ماذا جرى؟ ...
فأجابه الشيطان الموشح بالوشاح: حدث ما كان يجري سابقا، ورجعت الأمور إلى مجاريها القديمة، وعادت مملكة جهنم فتجددت وامتلأت بالناس.
فقال بعلزبول: وهل يوجد الآن في العالم أشرار وخطاة؟
فأجاب ذو الوشاح: أكثر من الكثير.
فسأله قائلا: وأين ذهب تعليم ذاك الذي لا أريد ذكر اسمه؟
فضحك الشيطان ذو الوشاح حتى برزت نواجذه، ثم قهقه سائر الشياطين قهقهة أحدثت ضجة هائلة.
ثم قال الموشح: إن تعليمه لا يوقف سير أعمالنا؛ لأنهم يصدقون بذلك التعليم ولا يسيرون الآن حسب منطوقه وأوامره.
فقال بعلزبول: ولكن ذلك التعليم واضح كالشمس في رابعة النهار، ولا ريب في أنه ينقذ متبعيه من سلطتنا، ولا يدع لمكايدنا سبيلا إلى الوصول إليهم، وقد أيده صاحبه ووطده بموته.
فقال الشيطان ذو الوشاح بعد أن كنس الأرض بذنبه: إنني قد حورت ذلك التعليم وقلبته انقلابا يخالف صورته الأصلية.
فسأله بعلزبول: وكيف تسنى لك ذلك؟
فأجابه: لقد قلبته وشوهته، حتى إن الناس أصبحوا لا يعتقدون به، بل يعتقدون بتعاليمي ويصدقونها، وهم يسمونها باسمه وينسبونها إليه. - أخبرني كيف تم لك ذلك؟ - لقد جرت الأمور من نفسها، وأنا كنت مساعدا على تنفيذها وزيادة شيوعها.
فقال بعلزبول: اذكر لي ذلك باختصار، وتباعد عن الإسهاب والإطناب.
فأطرق الشيطان الموشح رأسه كأنه يجمع أفكاره وصمت برهة، ثم رفع رأسه وقال: عندما حدثت تلك الحادثة الهائلة التي قوضت أركان جهنم وجعلتها أثرا بعد عين، وجعلت أبانا ورئيسنا يبتعد عنا بعدا ظننا أن لا تلاقي بعده؛ ذهبت عند ذاك إلى تلك الأماكن التي يبشرون فيها بذلك التعليم الذي كاد يقضي علينا القضاء المبرم ولا يدع لنا ذكرا في الوجود؛ لأرى كيف يعيش أولئك الناس الذين قبلوه واتبعوه، فرأيت ما أدهشني وجعلني أندب سوء حظنا وأذرف الدمع السخين، ولا أبالغ إذا قلت بأني بكيت بدل الدمع دما، وجثمت أرثي مملكتنا العظيمة التي دالت دولتها ودرست معالمها، ذلك لأني أبصرت الناس العائشين بحسب ذلك التعليم يجرون مطارف السعادة والهناء، وأيقنت أن لا قدرة لي ولأمثالي على تضليلهم أو التغرير بهم.
فهم لا يغضبون على بعضهم بعضا، بل على عكس ذلك يتساهلون تساهلا عظيما في أعمالهم وتصرفاتهم المتبادلة، ولم يكن لجمال النساء تأثير عليهم، وكثيرون منهم لم يتزوجوا ولم يخضعوا لشهوات الجسد، والمتزوجون منهم اقتصروا على امرأة واحدة اقتصارا حقيقيا، فلم يهجروها ولا خانوها ولم يعرفوا غيرها مطلقا، وفوق ذلك فإنهم جميعا ما كانوا يهتمون بجمع حطام هذه الدنيا ولا التفتوا إلى زخارفها، بل كان جميع ما يمتلكونه مشتركا بين الجميع على السواء، ولم يقاوموا المعتدين عليهم بل كانوا يقابلون الشر بالخير والاعتداء بالتجاوز والإغضاء، ولذلك كانت حياتهم حياة طيبة منزهة عن النقائص والشوائب، ولذلك كان يتوافد عليهم الناس المختلفو الأجناس وينضمون إليهم وينسجون على منوالهم في عيشة الصلاح والتقوى والمحبة. ولما رأيت ذلك أيقنت بتقلص سيادتنا وزوال سلطتنا، وعزمت على الهرب والفرار.
ولكنه حدث على حين فجأة حادث قليل الأهمية بحد نفسه، ولكنه ظهر لي أنه مما يستوجب الالتفات، فلبثت مكاني متتبعا سيره مراقبا نتيجته.
ظهر بين أولئك الناس اختلاف طفيف، وهو أن بعضهم رأى أنه يجب على جميع متبعي هذا التعليم الجديد أن يختتنوا ويمتنعوا عن تناول أطعمة عبدة الأصنام، ورأى البعض الآخر أنه لا حاجة للتمسك بهذه الأمور، وأنه يجوز عدم الاختتان وتناول جميع الأطعمة أية كانت ولأي كانت.
أما أنا فقد اغتنمت هذه الفرصة الثمينة وصورت للفريقين أن اختلافهم هذا على جانب عظيم من الأهمية، وأنه لا يجوز مطلقا لفريق أن يتنازل عن رأيه واعتقاده لأن ذلك يتعلق بعبادة الله، ومن حسن حظي أن ما وسوست به لهم صادف في قلوبهم تربة جيدة مستعدة له، فصدقوني وثارت في أفئدتهم عوامل الشقاق والنزاع، فقاوموا بعضهم وجها لوجه، وهذا ما تمنيته وسعيت إليه.
ثم اتسع بينهم خرق الخلاف، وثارت في نفوسهم براكين الغضب بعد خمودها أمدا طويلا، وكنت أنا لا أغفل دقيقة عن التحريض والتهييج، وزينت لهم أخيرا أن يبرهنوا على صحة تعليمهم بالعجائب.
ومما لا مشاحة فيه هو أن العجائب لا يمكن أن توضح حقيقة التعليم أو تبرهن على صحته؛ لأن النور ليس في حاجة للدليل، ولكن ميل كل فريق للفوز على الآخر بأنه هو المحق في اعتقاده جعلهم جميعا يطلبون من بعضهم تأييد دعواهم بالعجائب، وكان من السهل علي اختلاق العجائب وإرشادهم إليها، وسرعان ما صدقوني وآمنوا بأقوالي وتحريضاتي، وأصبحوا ميالين لإيجاد العلل والأسباب المؤيدة لأقوالهم المثبتة لتعاليمهم.
فقال بعضهم إنه نزلت عليهم ألسنة نارية، وقال البعض الآخر إنهم رأوا نفس المعلم الذي مات. وقال الفريقان غير ذلك مما هو من هذا القبيل، فاختلقوا أمورا ما أنزل الله بها من سلطان ولم تكن في الحسبان، وكذبوا باسم ذاك الذي دعانا نحن معشر الشياطين كذبة مفترين، ولكن أتباعه زادوا علينا بالافتراءات والاختلاقات، ووصموا نفوسهم بوصمة الكذب التي كانت خاصة بنا، فساوونا في ذلك وهم لا يشعرون. وقال أحد الفريقين للآخر: عجائبنا هي الحقيقية وعجائبكم مختلقة، فضلا عن أنها لا أهمية لها، فتصدى هذا الفريق لتكذيب هذه الدعوى وحاول إثبات صحة عجائبه وأهميتها.
ولقد سار الحال على هذا المنوال، ولكني خشيت أنهم يلحظون هذا الخداع الظاهر والمكر المحسوس فاضطررت لاختلاق «الكنيسة»، ولما آمنوا بالكنيسة اطمأن فؤادي وأيقنت أن مساعينا تكللت بالنجاح، وعلمت أننا نجونا وأن مملكة جهنم عادت للظهور والانتشار، وتجدد بناؤها وغصت رحباتها بالرعايا الذين خضعوا لها وانساقوا إليها.
4
إن بعلزبول لم يستطع التصديق بأن أتباعه كانوا أغزر منه عقلا وأوفر إدراكا وأوسع حيلة، وللتأكد من ذلك سأل محدثه قائلا: ما هي الكنيسة؟
فأجابه بقوله: الكنيسة هي عبارة عن أن الناس عندما يكذبون ويشعرون بأن سامعيهم لا يصدقونهم يتهجمون على الله ويقول الواحد منهم: «والله العظيم إن ما أقوله هو حق لا ريب فيه»، وهذه هي الكنيسة.
ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك أن الناس الذين انتظموا في سلك الكنيسة يعتقدون في نفوسهم القداسة، وأنهم معصومون عن الغلط، بعيدون عن الضلال، ولذلك فمهما اختلقوا من الحماقات والسخافات فلا يستطيعون إنكارها في المستقبل؛ لأن ذلك - على زعمهم - يلحق بهم العار ويظهر نقص تعليمهم وقيمة اعتقادهم.
وزيادة للإيضاح أقول: إن الكنيسة تتم على الطريقة الآتية: أن الناس يؤكدون لأنفسهم وللآخرين أن معلمهم الله الذي - احتراسا على تعليمه الذي علم به الناس من أن تتلاعب به الأفكار وتحوله عن معناه الحقيقي وتشوه جوهر حقيقته - اختار رجالا خصوصيين ليفسروا ذلك التعليم تفسيرا صحيحا، وأعطاهم السلطة المطلقة لكي ينتخبوا لهم بدورهم خلفاء يحافظون على التعليم ويفسرونه تفسيرا مطابقا لأصل وضعه، وهؤلاء وأولئك سموا نفوسهم بالكنيسة، وأصبحوا بعد ذلك يعتقدون اعتقادا ثابتا بأنهم موجودون ضمن دائرة الحق، وليس ذلك لأن ما يبشرون به هو الحق بنفسه، بل لاعتقادهم أنهم خلفاء شرعيون لتلامذة تلامذة تلامذة ذاك المعلم الإله. ومن ذاك الحين أصبح كل واحد من أولئك الناس يدعي أنه عضو عامل في الكنيسة الحقيقية الواحدة (كما كان ذلك في كل مكان وزمان)، وصار كل واحد يعلم طبقا لأهوائه وأمياله، ولا يمكنه أن ينكرها فيما بعد مهما بلغت من الضلال وتضمنت من الأباطيل، ومهما حاول الآخرون إظهار فسادها وعدم مطابقتها للحقيقة.
فقال بعلزبول: ولكن أريد أن أفهم لماذا هذه الكنيسة أضحت تفسر تلك التعاليم وتكرز بها على طريقة موافقة لمصلحتنا؟
فاستطرد الشيطان ذو الوشاح الكلام، وقال: إن الرجال أعضاء الكنيسة جنحوا إلى ذلك؛ لأنهم عرفوا أنفسهم بأنهم هم وحدهم مفسرو شريعة الله والقابضون على زمامها، وبذلوا الوسع لحمل الناس على الاعتقاد بهم بذلك، ومع مرور الزمان أصبح هؤلاء المفسرون الكارزون ملجأ للناس الذين توافدوا عليهم لمناقشتهم ومساءلتهم، فأعطاهم ذلك بعض الامتيازات والسلطة التي أخذت في الازدياد، حتى جاء يوم على أولئك المفسرين عدوا فيه نفوسهم رؤساء لجميع متبعي ذلك التعليم.
ولما أحرزوا السيادة على الناس أخذوا يتدرجون في العظمة والكبرياء، ثم تطرق إليهم الفساد رويدا رويدا حتى غدوا بعد مدة مبشرين للرذائل، فكرههم الناس وأبغضوهم بغضا ظاهرا وأظهروا لهم العداء وصادروهم مصادرة عنيفة، ولم يجد أولئك الرؤساء سلاحا يحاربون به أعداءهم غير القوة، فجعلوا يضطهدون ويقتلون ويحرقون ويعذبون كل من لا يوافقهم على تعاليمهم ولا يخضع لسلطتهم.
ثم إن هذا المركز الذي أصبحوا فيه وقادهم إليه حب السلطة والكبرياء؛ جعلهم مضطرين إلى تفسير ذلك التعليم بما يطابق أهواءهم ويزكي حالة معيشتهم ويبرر تلك الفظائع والجرائم التي يقترفونها مع أعدائهم. والأنكى والأدهى من كل ذلك أن تلك التفاسير الباطلة كان يصدقها أتباع أولئك الرؤساء ويؤمنون عليها ويعتقدون بقداسة أعمال رؤسائهم الفظيعة وأنها موافقة للدين، فينصرونهم وينكلون بأعدائهم تنكيلا فظيعا.
وبوجه الإجمال أصبح ذلك التعليم المشوه آلة للانتقام وجر الويلات على العالم، وسلاحا حادا لاغتيال النفوس واضطهاد الناس وإقلاق راحتهم.
5
أما بعلزبول فلم يقتنع بما سمع، ولم يشأ أن يصدق ما قام به أعوانه من النجاح في إفساد الناس وحملهم على تشويه ذلك التعليم البسيط، الذي لا يقبل التأويل والتحريف، ولذلك قال لمحدثه: إن ذلك التعليم واضح وضوحا جليا فضلا عن قرب مأخذه، فقد جاء فيه: «افعل مع الناس ما تريد أن يفعلوا بك»، فهل مثل هذه الآية مما يجوز تحريفها وقلب معناها؟
فقال الشيطان ذو الوشاح: أجل، إنها قابلة للتحريف، وإن الناس حسب مشورتي لهم استعملوا لذلك وسائل عديدة، وإني سأضرب لك مثلا أظن أنه كاف لإقناعك: إن الناس يتداولون حكاية مآلها أن ساحرا صالحا أراد أن ينقذ رجلا من ساحر آخر ماكر شرير، فحوله حبة قمح، فمسخ الساحر الشرير نفسه ديكا وأراد أن ينقد تلك الحبة، ولكن الساحر الصالح نثر فوق تلك الحبة أردبا من القمح، فلم يستطع الساحر الشرير أن يأكل الأردب، كما أنه لم يستطع معرفة الحبة المطلوبة. وعلى مثال هذه الحكاية تصرف الناس - حسب مشورتي لهم - بتعليم ذاك الذي قال إن الناموس كله محصور بالكلمات الآتية: «اصنع مع غيرك ما تريد أن يصنع بك».
لم يقتصروا على ذلك بل جعلوا ناموس الله المقدس وشريعته الطاهرة في تسعة وأربعين كتابا، واعتقدوا أن جميع ما جاء فيها مكتوب بإلهام الله - والروح القدس - وبذلك هالوا على ذلك الحق المفهوم الواضح ركاما من الحقائق المقدسة، التي اعترفوا بأنه موحى بها وآمنوا بما جاء فيها، وقد ضاع بينها الحق اللازم للناس، ذلك الحق الذي جعل الناس أطهارا أبرارا، وعاشوا بموجبه زمانا في الطهارة والتقوى والصلاح والسلام. وما تقدم هو إحدى الطرق التي استعملها الناس.
والطريقة الثانية التي استعملوها بنجاح باهر وفوز مبين في خلال ألف عام؛ هي أنهم جعلوا يقتلون ويحرقون ويضطهدون كل من حاول إظهار الحقيقة. أما الآن فقد توقفوا مرغمين عن سفك الدماء وإحراق النفوس، ولكنهم ما زالوا يستعملون تلك الطريقة على صورة أخرى؛ فإنهم يضطهدون كل من يحاول إظهار الحقيقة، ويشون عليه الوشايات الفاسدة، فيعكرون صفو حياته بما يدسونه له من السموم القتالة، ويندر وجود من يقاومهم وجها لوجه ويحاول إماطة النقاب عن خزعبلاتهم وسفسطاتهم.
ولهم أيضا طريقة ثالثة لتشويه ذلك التعليم؛ هي أنهم عندما ألفوا الكنيسة أصبحوا يعتقدون أنها مقدسة طاهرة معصومة عن ارتكاب الخطايا والآثام، وغدوا بعد ذلك يعلمون الناس تعاليم مطابقة لأهوائهم مضادة لذلك التعليم الحقيقي، بل هي وإياه على طرفي نقيض، ويجهدون النفس في إقناع تلاميذهم وطوائفهم بأن تعاليمهم هذه مقدسة موافقة للتعليم الوارد في الكتاب المقدس، وتأييدا لما أقول أضرب مثلا من تعاليمهم: جاء في الكتاب المقدس: «معلمكم واحد هو المسيح»، وجاء فيه أيضا: «لا تتخذوا لكم أبا على الأرض مطلقا أيا كان؛ لأن أباكم واحد الذي في السموات، ولا تقولوا إن لنا معلمين على الأرض؛ لأن معلمكم واحد هو المسيح»، ولكنهم ضربوا بهذه الأقوال عرض الحائط وجعلوا يقولون إننا وحدنا - دون سوانا - آباء الناس وإننا نحن معلموهم. وجاء في الكتاب المقدس أيضا: «إذا أردت أن تصلي فادخل مخدعك واقفل بابك وصل لأبيك الذي في السموات، فأبوك الذي يراك في الخفاء يجازيك علانية»، وأما هم فإنهم يعلمون بأنه يجب على المسيحيين أن يصلوا علنا مجتمعين في المعابد والهياكل تحت أنغام الموسيقى ورناتها الشجية. وجاء في الكتاب المقدس: «لا تحلفوا البتة»، ولكنهم يعلمون بأنه يجوز للناس إقسام الأيمان أمام الحكام ليستطيع هؤلاء تنفيذ النظام والقوانين. وجاء في ذلك الكتاب: «لا تقتل»، وأما هم فيحللون قتل النفوس في الحروب، ويفتون للحكام بإصدار الأحكام القاضية بقتل النفوس.
قال هذا الشيطان ذو الوشاح، ثم أغمض عينيه وضغط برأسه على عنقه حتى مست أذناه كتفيه.
فقال بعلزبول: إن جميع ما سمعته حسن جدا جدا. وابتسم ابتسامة تدل على ارتياحه وانشراحه مما فعله أتباعه، وقد أجاب الشياطين المحدقون به على تلك الابتسامة بقهقهة دوت لها أركان المكان.
6
ثم سأل بعلزبول أتباعه قائلا: أصحيح ما تقولون إنه أصبح عندكم الآن أناس مضلون نهابون قطاع طريق قتلة وسفاكون للدماء كما كان يوجد أمثال هؤلاء من ذي قبل؟
فبدت على وجوه الشياطين سمات الارتياح والسرور، ولذلك أجابوا بصوت واحد: نعم، إن الحالة الآن كما كانت عليه من ذي قبل. وصاح واحد منهم بصوت عال: بل أكثر بكثير.
وصرخ ثان: إن منزلة المضلين الغشاشين الآن أرفع من منزلة المضلين السابقين، والحاليون أمهر في زيادة التضليل والتغرير بالناس ممن سبقهم من المضلين في العهد القديم.
وقال ثالث: إن سلابي العهد الجديد أشد شراسة وقساوة من سلابي العهد القديم.
وقال رابع: وقد كثر القتل واغتيال النفوس إلى حد أن صبغت الأرض فيه بالدماء.
فقال بعلزبول: لا تتكلموا جميعا دفعة واحدة، بل فليتكلم كل من أسأله. وليدن مني ذاك الذي يشتغل بالفساد، وليخبرني كيف يقود تلاميذ ذاك الذي منع طلاق المرأة إلى الفساد، وقال لتابعيه لا تنظروا إلى المرأة نظرا فاسدا، ويستميلهم إلى خيانة نسائهم.
فقال واحد: أنا هو ذلك الرجل. ودنا من بعلزبول زحفا على أليته، وكان شيطانا ذا منظر مضحك، ووجه مدهش، وفم لا ينقطع عن المضغ وإرسال اللعاب.
خرج هذا الشيطان من صفوف الشياطين، وزحف حتى قابل بعلزبول وجلس أمامه القرفصاء، ومد ذنبه من بين رجليه إلى الوراء، وجعل يكنس الأرض بمؤخره، وحنى رأسه إلى جهة اليمين، وقال بصوت رخيم ...
إني أسير على الطريقة القديمة التي كنت تستعملها أيها الرئيس الأعظم والإمام الأكبر والأب الأمجد، تلك الطريقة التي استعملتها في الفردوس وجعلت فيما بعد كل الجنس البشري في قبضتنا وتحت سلطتنا. وإننا نستعمل هذه الطريقة الآن هكذا: نحن نقنع الناس بأن الزواج لا ينحصر فيما يفهمونه منه وهو اتحاد الرجل بالمرأة، بل إنه لا يكون زواجا حقيقيا إلا إذا ارتدى العريسان أفخر الملابس، وتزينا بالحلي النفيسة، وسارا إلى بناء فخم مبني لهذه الغاية، حيث يقفان في مكان معين محاطين بمعارفهما وأقاربهما، وجميعهم يحملون الشموع المضاءة، ثم يلبس بعض الرؤساء العريسين إكليلين خاصين مصنوعين لهاته الغاية باحتفال عظيم بين الأنغام والأناشيد، ثم يدوران مع المحيطين بهما ثلاث دورات حول مائدة توضع أمامهما. وقد تمكنا من إقناع الناس بأن هذا هو الزواج الحقيقي، وبدون الاحتفالات المذكورة لا يدعى زواجا، وقد انخدع الناس بهذه الخدعة، وبالغوا في التفنن بتلك الاحتفالات وإنفاق الأموال في سبيلها؛ حتى إنهم ينفقون عليها كل مرتخص وغال، وكل واحد يسعى ليكون احتفاله أفخم وأعظم من احتفالات الآخرين.
وقد توغل الناس في هذا الاعتقاد إلى درجة أنهم أصبحوا يعدونه فريضة مقدسة وعقيدة دينية لا يتم ارتباط الزوجين بدونها، وزادوا على ذلك أنهم جعلوا ينظرون إلى الزواج نظرا فاسدا واتخذوه آلة للملذات والشهوات الجسدية، فضلوا بذلك سواء السبيل، وانتشر الفساد فيما بينهم ونخر سوسه جوهر عقائدهم الصحيحة، وحلت محلها هذه الخرافات والخزعبلات.
ولما أنهى هذا الشيطان كلامه حنى رأسه وصمت منتظرا تأثير كلامه في نفس رئيسه الأعظم، فحنى بعلزبول رأسه إشارة الرضاء والارتياح، وابتسم ابتسامة تشف عما خامر فؤاده من السرور، وقد دعت تلك الابتسامة شيطان النساء أن يستطرد كلامه ويقول:
وإننا لا نكف عن استعمال تلك الوسيلة الشيطانية التي استعملتها أيها الرئيس الأعظم في الفردوس، وهي استمالة الرجل والمرأة إلى الأكل من الثمرة الممنوع أكلها، وبإضافتنا عليها الوسائل التي أشرت إليها توصلنا إلى أحسن النتائج وأنجعها فائدة. أجل، إن الناس يتزوجون زواجا كنائسيا شريفا، وبعد اتحاد الواحد منهم بزوجته نقوده إلى خيانتها ونزين له اختيار غيرها، وسرعان ما ينقاد إلينا ويضرب في طول الفساد وعرضه، ويتزوج مئات من النساء زواجا سريا، وقد تنسج المرأة على منواله، وبذلك يتدرجون في الفساد ويقعون في الضلال ، وقد انتشر الفجور بينهم انتشارا يصعب تصديقه، والأدهى من كل ذلك أن كثيرين منهم أخذوا يطلقون نساءهم ويتزوجون ثانية، ويقيمون الاحتفالات التي ذكرناها آنفا، ويؤيدون أعمالهم هذه بقولهم إن الزواج الأول فاسد وهذا الزواج الثاني هو الصحيح.
ثم صمت بعد هذا شيطان النساء، ومسح بمؤخر ذنبه اللعاب الذي ملأ فمه وسال على ذقنه، ثم حنى رأسه ووجه بصره نحو بعلزبول.
7
فقال له بعلزبول: إني موافق كل الموافقة على هذه الطرق الناجعة التي استعملتها فأثني عليك مزيد الثناء، وواظب على السير الذي سرت فيه. ثم قال سائلا: من يقود النهابين المغتصبين فليدن مني ويخبرني عن الطرق التي استعملها لذلك.
فقال واحد من بين الشياطين: ها أنا ذا، وتقدم من بعلزبول، وكان شيطانا مريدا وجبارا عنيدا، له قرنان طويلان معقوفان، وشاربان مفتولان مرفوعان إلى فوق، وأرجل طويلة قبيحة. دنا هذا من بعلزبول، وأصلح شاربيه، ووجه إليه بصره منتظرا الإذن بالكلام.
فقال بعلزبول: إن ذاك الذي هدم جهنم علم الناس أن يعيشوا كطيور السماء، وأمر تابعيه أن يعطوا السائل ويؤووا الغريب، وقال: من طلب منك ثوبك فأعطه الرداء أيضا، وقال أيضا: من أراد أن يخلص نفسه فليوزع كل أمواله على الفقراء. فكيف أنتم الآن تفعلون حتى جعلتم سامعي ذلك الكلام ينهبون بعضهم بعضا، ويبذل كل واحد وسعه لاغتصاب ما في يد الآخر؟
فقال الشيطان ذو الشاربين المفتولين: لقد توصلنا إلى ذلك باستعمال تلك الطريقة التي استعملها رئيسنا الأكبر لدى انتخاب شاول ملكا على الإسرائيليين، وما حدث في ذلك العهد القديم صار يحدث الآن في هذا العهد الجديد، والتاريخ الديني يعيد نفسه حرفا بحرف، وهي طريقة حميدة المسعى ذات تأثير شديد تدعو الناس إلى النهب وابتزاز الأموال وتسخير العمال. والعجيب المدهش في ذلك أنهم يعتقدون فيما يفعلونه من طرق النهب والسلب أنها طرق قانونية مشروعة، ولا إثم ولا حرج عليهم من استعمالها.
وإننا توطيدا لهذا الاعتقاد في النفوس، أو بعبارة أوضح لكي نجعل لشخص ما حقا واضحا في استباحة أموال الناس وابتزازها ابتزازا علنيا مشروعا غير قابل للاعتراض والانتقاد؛ نقود ذلك الرجل للكنيسة، ونتوج رأسه بتاج فخم، ونجلسه على عرش مجيد عالي الأركان مصفح بالذهب، مرصع بالحجارة الكريمة، وندفع إليه صولجانا وكرة، وندهن رأسه بزيت الزيتون، وباسم الله وابنه ننادي به ملكا، ويصبح هذا الرجل المدهون رأسه بالزيت شخصا مقدسا بل ورأسا للكنيسة، وندعو الناس إلى الاعتقاد بقداسة شخصه وعلو مكانته، وسرعان ما يصدقوننا ولا يقفون عند حد الاعتقاد البسيط الذي قدناهم إليه، بل نراهم يتوغلون في التلفيقات والاختراعات واختلاق الألقاب الغريبة لهذا الشخص المقدس، فيلقبونه بالقابض على السلطة الفعلية، وظل الله في أرضه، ومدير شئون الرعاية الدينية والمدنية، والحاكم على رقاب العباد و... و... و... إلخ، مما هو من هذه الصفات التي دونها صفات الآلهة. وسار النهب على هذه الطريقة المقدسة سيرا تدريجيا حتى بلغ أقصى درجات الزيادة، وجعل الأشخاص المقدسون وأعوانهم وأتباعهم ومساعدوهم ومساعدو مساعديهم ينهبون الشعب نهبا علنيا ليس فيه شيء من الخطر والعواقب الوخيمة، وأخذوا يسنون قوانين وشرائع تجيز لهم هذا النهب.
وإذا أمعنا النظر وجدنا أن تلك الشرائع والقوانين أضحت ضربة قاضية على الناس، وسوغت لأفراد أخناث من أهل البطالة والفساد نهب الشعب العامل الذي يحصل الدريهمات بعرق جبينه، وما زال هذا النهب المشروع مرعي الإجراء إلى يومنا هذا في أكثر الممالك، حتى في تلك التي لا يصبون الزيت على رأس ملوكها، وكما يرى أبونا ورئيسنا الأعظم أن هذه الطريقة التي نستعملها ليست من أوضاعنا في الحال، بل هي قديمة العهد من مبتكرات أفكار رئيسنا، غير أننا الآن عممناها في جميع الممالك والإمارات، ونشرناها في جميع الأصقاع، ووطدنا دعائمها على قواعد متينة لا تتزعزع، وبنيناها على شرائع لا تنقض، ومن ذلك أن الناس كانوا يخضعون في العهد القديم إلى الأشخاص الذين ينتخبونهم ليكونوا عليهم ملوكا ورؤساء، ولكننا اليوم عكسنا الأمر فجعلناهم يخضعون لأي شخص كان ولو كانوا لا يريدونه أو يميلون إليه.
ثم أخذ الحكام يضربون الضرائب الفادحة على الشعب ويحصلونها منهم بالقوة والعنف، والشعب مضطر إلى دفعها وتأديتها بصفة أنها لازمة للإنفاق على مصالح البلاد، ولكن أكثرها - إن لم نقل كلها - تتسرب إلى خزائن الحكام الذين ينفقونها على شهواتهم وملذاتهم، وكثيرون منهم يكونون من أصل منحط دنيء، ولكنه لا تمضي عليهم أعوام معدودة حتى يصبحوا من أصحاب الثروة الواسعة والأراضي الشاسعة. ثم رأيتهم يقتنون الجواهر الكريمة ويدخرون الحجارة الثمينة، وكانوا في بدء أمرهم فقراء لا يملكون شروى نقير ولا أردبا من الشعير.
ومن النجاح الباهر الذي صادفته طريقتنا هذه أن الأمم المسيحية لم تقتصر على نهب رعاياها وسومهم صنوف المظالم وأنواع المغارم، بل جعل المسيحيون يمدون رواق سلطتهم على الأمم الأخرى التي لا تدين بدينهم، وأخذوا يبتزون أموالهم، ويضيقون عليهم ويقيدونهم بقيود الاستعباد، وهم يدعون أنهم يفعلون ذلك باسم المسيحية، ويبررون أفعالهم بأن ديانتهم هذه تقضي عليهم بنشرها في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنهم في الحقيقة ونفس الواقع مختلقون لتلك الأسباب الواهنة المخالفة لتعليم المسيح وروح الديانة المسيحية، وتطاولت أيديهم في السلب والنهب من أوروبا وأميركا إلى مجاهل أفريقيا وفيافي آسيا، حتى لم يدعوا أمة ضعيفة كانت أو قوية إلا واستحلوا أموالها واستباحوا ظلمها واستعبادها.
ولقد زاد نهب الممالك في هذه الأيام بسبب القروض العامة والدولية زيادة تذكر، حتى إنه لم يقتصر على نهب الأحياء بل تطاول إلى نهب الأبناء وأبناء الأبناء في المستقبل.
وإنني أيها الرئيس الأعظم لا أزيد في الإيضاح بأن طريقتنا هذه حصينة البنيان متينة الأركان، بسبب ما أدخلناه من الاعتقاد على الناس بأن حاكمهم شخص مقدس، وذلك يجعلهم يخضعون لجميع أوامره ونواهيه، ويرضون بطرق النهب التي ينهب بها أموالهم، ولا يفتكرون بمقاومته والخروج عن طاعته، ويكفي للسلاب الأعظم والنهاب الأكبر أن يدهن رأسه بالزيت، وهو بعد ذلك في حل مما يفعل، وحر بنهب من يريد وقدر ما يريد.
وقد عملت مرة تجربة في روسيا بأن أقمت على عرش مملكتها عدة من النساء الواحدة بعد الأخرى، وكن على جانب عظيم من الجهل والحماقة، وعدم معرفة القراءة والكتابة، وفوق ذلك كن من المفسودات الأخلاق، المبيحات الأعراض، ولم يكن لهن أدنى حق - بموجب نظامات المملكة - يخولهن ارتقاء العرش، ولم تكن الأخيرة منهن فاجرة فقط بل مجرمة قاتلة؛ لأنها قتلت زوجها وولي عهدها الشرعي. وبما أنها كانت ممسوحة بالزيت خضع لها الناس، ولم يفقئوا لها عينيها ويقطعوا أنفها ويجلدوها بالسياط كما يفعلون ذلك مع المجرمين وسفاكي الدماء لم يفعلوا شيئا من ذلك، بل خضعوا لها خضوع العبيد الأرقاء مدة ثلاثين عاما، وأباحوا لها ولأخلائها والواقعين في هواها أن ينهبوا كل ما يملكون من مال وعقار وحرية شخصية، وقد زادت في عهدها المظالم والمغارم إلى درجة قصوى.
ومما تقدم يظهر لك أيها الرئيس الأعظم أن النهب أصبح علنيا عموميا، ولم يقتصر على ما في الجيوب والأكياس والخزائن، بل تعداه إلى نهب الخيل والثيران والأنعام والملابس، وصار أصحاب السلطة يجيزون لأنفسهم هذه الأمور تحت شكل منظم قانوني مشروع، وقد تعدى النهب من الملوك إلى الناس بوجه الإجمال، حتى أصبح من مستلزمات الحياة الجوهرية التي لا غنى للناس عنها، وأصبحت بعد ذلك حياة الناس وقواهم الجسدية موجهة فقط إلى النهب والسلب بطرق عديدة دونها طرق اللصوص الذين لا ينهبون إلا مدفوعين بدافع الجوع والحاجة. ولم يقف النهب عند ذلك الحد، بل إن زعماء النهابين الممسوحين جعلوا يزاحمون بعضهم بعضا في السلب، وحمى بينهم وطيس المسابقة في هذا الطريق، حتى إنهم يلجئون أحيانا إلى إشهار الحروب ويدفعون إليها أبناء رعاياهم؛ فيتلاحمون ويتطاحنون ويستشهدون على مذبح مطامع الممسوحين وأغراضهم الشخصية.
8
فقال بعلزبول: إن هذا النجاح باهر، وإني أثني عليك وافر الثناء. ثم التفت إلى الشياطين وقال سائلا: أيكم شيطان قتل النفوس؟ فليتقدم إلي ذلك.
فصاح واحد: أنا هو. وخرج من بين الشياطين شيطان ذو وجه شديد الحمرة كالدم، ونابين طويلين تدليا من فمه، وقرنين رفيعين، وذنب مرفوع إلى فوق ثابت لا يتحرك.
فسأله بعلزبول: كيف تقود إلى ارتكاب القتل تابعي ذلك الذي قال: «لا تقاوم الشر بالشر وحب أعداءك»؟
فأجاب الشيطان ذو الوجه الأحمر بصوت متهدج: نفعل ذلك اتباعا للطريقة القديمة بهذا المعنى؛ فإننا نثير في قلوب الناس عوامل العنفوان، والكبر، والخيلاء، والانتقام، والبغضاء، ونحرض معلمي الناس ونفهمهم أن خير وسيلة تبعد الناس عن ارتكاب جريمة القتل هي قتل القتلة وسفاكي الدماء قتلا علنيا مشروعا. ثم إن التعليم الجديد الذي انتشر بين المسيحيين عن عصمة الكنيسة من الخطأ، وكذلك التعليم والعقائد عن الزواج المسيحي، والمساواة المسيحية؛ جميع هذه التعاليم تقدم لنا جرائم القتل العديدة، فالتعليم عن عصمة الكنيسة قدم لنا في الأعصر الخالية ألوفا بل ملايين من جرائم القتل. وتفصيل ذلك أن الناس عندما أصبحوا يعدون أنفسهم أعضاء الكنيسة المعصومة عن الغلط، جعلوا يقاومون من يخالفهم في اعتقادهم ويصادرونهم مصادرة عنيفة، وأطلقوا عليهم اسم المعلمين الكاذبين الذين يشوشون أفكار الناس ويفسدون معتقداتهم، وأن عملهم هذا يعتبر جريمة لا تغتفر ولا يصح السكوت عنها؛ فحكموا بأن قتل أولئك الناس يرضي الله، بل عدوه ذبيحة مقدسة له تعالى، وارتكازا على ذلك قتلوا أمما برمتها وأعدموا وأحرقوا مئات الألوف من الناس.
ومن المدهش والمضحك معا أن أولئك الناس الذين يقتلون ويحرقون الناس الذين كشف الله عن أبصارهم فابتدءوا يفهمون التعليم، جعلوا يعدونهم خدمتنا أو خدمة الشياطين، ولم يكونوا في الحقيقة إلا أعداء ألداء لنا. وأما خدمتنا الخاضعون لإرادتنا المنفذون لأوامرنا، فهم هم أولئك الذين كانوا يحرقون الناس الأبرار الأطهار المتبعين التعاليم الحقيقية، ومع ارتكابهم هذه الفظائع الشنعاء التي يبرأ منها البرابرة والمتوحشون، كانوا يعدون أنفسهم أطهارا قديسين يصدعون بأوامر الله وينفذون شريعته، والله وشريعته بريئان من أفعالهم وفظائعهم. والذي يمعن النظر يجد أن هذه الطريقة كانت مستعملة في العهد القديم، وقد زاد عليها العهد الجديد في سرعة التنفيذ والقساوة والهمجية.
ثم إن التعاليم والعقائد بشأن الزواج المسيحي والمساواة بين المسيحيين تقدمان لنا ضحايا كثيرة، فالزواج يقدم لنا أولا: قتل الأزواج بعضهم بعضا، وقتل الأمهات لأطفالهن. ثانيا: فالأزواج والزوجات يقتلون بعضهم بعضا عندما يجدون أن اتحاد الواحد بالآخر يحول بينه وبين التمتع بشهواته الجسدية، بل يقف سدا منيعا في وجه حريته وأمياله الفاسدة، بداعي الشرع الكنائسي والعقائد المتعلقة بالزواج، التي تربطهما ببعض ارتباطا ليس بعده انفصام إلا بإعدام أحدهما. والأمهات يقتلن الأطفال الذين يحملن بهم سفاحا، وحوادث القتل التي من هذا القبيل كثيرة جدا لا تقع تحت حصر، ولا أبالغ إذا قلت إنه لا يمضي يوم دون أن تحدث به جريمة أو جرائم قتل.
ثم إن المسيحيين يعلمون أنهم متساوون جميعا أمام شريعة المسيح، ولكن الناس المضطهدين الذين تنهب أموالهم وتستباح أتعابهم يشعرون بأن هذا الادعاء كذب واضح، بل هو غبن فادح. ويرى هؤلاء أنه لا تعم المساواة إلا إذا كف النهابون السلابون عن ابتزاز الأموال، وأنه لا يوقفهم عند حدهم غير قوة واتحاد المهضومي الحقوق المنهوبي الأموال، فيثورون ثورة هائلة عليهم وعلى أتباعهم وأعوانهم، ويهجمون عليهم هجمة شعواء، فتحدث بين الفريقين معارك هائلة تجري فيها الدماء أنهارا، وتقدم لنا ضحايا كثيرة تضيق رحبات جهنم عن استيعابها دفعة واحدة.
9
فقال بعلزبول: لقد أجدت تمثيل دورك في كيد المكايد، فأثني عليك ثناء مستطابا. ثم استطرد الكلام فقال: فليتقدم إلي من يشتغل بإثارة الحروب بين الناس، ويستطيع أن يحمل تلامذة ذاك الذي قال إن جميع الناس أبناء أب واحد، وأمر بمحبة الأعداء.
فخرج من بين تلك الصفوف عفريت أزرق كان اللهيب والدخان يخرجان من فمه، وضرب ظهره بذنبه الثخين، وزحف حتى أصبح أمام بعلزبول، وقال: إننا نفعل ذلك هكذا: نصور لكل شعب أنه أحسن وأرقى وأسمى جميع الشعوب الموجودة على الأرض، ونبذل الوسع في تصوير ذلك لفرنسا وإنكلترا وروسيا وألمانيا، وما زلنا كذلك حتى جعلناها تتصور في نفسها ذلك التصور، وتعد كل واحدة ذاتها أقوى من الأخرى، حتى إن ألمانيا بالغت في ذلك مبالغة عظمى، وجعلت شعارها العبارة الآتية:
Deulrelaes d übtsc hlan
ومعناها: «ألمانيا فوق الجميع».
وجعلت كل أمة تعمل على حدة لمد رواق سلطانها على جميع الأمم الأخرى، وإخضاعها لها، وأخذت كل واحدة تعد لذلك عدتها، فأصبحت تلك الأمم في شغل شاغل من دوام الاستعدادات والتأهبات الحربية، وإعداد المدافع الضخمة والمدرعات والمصفحات والطرادات والحراقات والنسافات من طرز هذا العالم الذي اخترع هذه المهلكات، وطرز ذلك المخترع الشهير الذي رفعت له الأنصاب لاختراعه تلك المدمرات. وكل أمة تنظر إلى استعدادات جارتها ومن جاور جارتها بعين الحذر والعداء، فتصر بأسنانها وتكثر من الوعيد والتهديد، وتجعل نفسها على أهبة الهجوم في كل أين وآونة حتى لا تؤخذ على غرة.
وإذا ألقى الإنسان نظرة على أوروبا بأجمعها يجدها لا تكف عن الاستعدادات الدائمة، ويجد شياطين سياستها يدفعون أبناء بلادهم للحروب الهائلة التي يشيب من هولها الولدان. وبناء على ما تقدم، فإن جميع تابعي تعليم ذاك الذي دعانا نحن الشياطين قتلة سفاكين لا يكفون برهة عن إقامة الاستعدادات لارتكاب جرائم القتل، أو بعبارة أوضح: إنهم جميعا أضحوا قتلة مجرمين يستحلون إهراق الدماء وقتل الأبرياء.
10
فقال بعلزبول: لقد أصبت كيد المكايد في أفعالك، فأبالغ في مدحك وثنائك. وأطرق برأسه إلى الأرض وافتكر مليا ثم قال: أمر واحد يحير أفكاري ويدهش إبصاري، وهو كيف أن الناس الأفاضل الأحرار الذين لم ينخدعوا بتلك الأوهام، ولم يؤثر خداعكم عليهم شيئا، لم يروا أن الكنيسة شوهت جوهر التعليم الحقيقي، فلم يقاوموها ولا عملوا لتطهير التعليم من تلك الأدران التي علقت به وصرفته عن معناه الحقيقي؟!
وما أنهى بعلزبول كلماته هذه حتى دنا منه شيطان أغبر اللون، وشح جسمه برداء يشبه البرنس الطويل، وله أذنان مستطيلتان، وجلس أمام رئيسه، ولكنه لم يجلس القرفصاء، بل جلس على العادة الشرقية، وهي أنه طوى رجليه تحته وأسند جسمه عليهما، وقال: أيها الرئيس الأعظم، إن أولئك العلماء ذوي الأبصار النيرة لا يستطيعون أن يفعلوا ما أشرت إليه.
فقال بعلزبول: ولم ذلك؟
فابتدأ الشيطان الأغبر في الكلام دون توقف وقال بلسان فصيح ونطق مليح ما يأتي: إنهم لا يستطيعون ذلك لأني أصرف أفكارهم عما يجب أن يعرفوه ويقدروا أن يتوصلوا إلى معرفته لو وجهوا أفكارهم إليه، ومع ذلك فإني أوجه أفكارهم إلى البحث في أمور لا لزوم لها، وليست معرفتها بالأمر المهم النافع لهم أو لغيرهم، وفوق هذا وذاك فإن تلك الأمور التي أوجه أفكارهم إليها مما يعسر الوقوف على حقيقتها؛ لأن لا حقيقة لها! والبحث في الأوهام يدعو إلى الضلال الدائم، ويقود الباحثين إلى اختلاق الخرافات والخزعبلات المبنية على أسباب واهية ضعيفة.
فقال بعلزبول: وكيف تفعل ذلك؟
أجاب: إني أفعل الآن ما فعلته منذ ألف عام ونيف، وزيادة للإيضاح أقول: إني أحرض الناس على أن أهم ما يتحتم عليهم معرفته هو: نسبة كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة إلى الآخر، وعلاقتهم مع بعضهم، وماهية الله ... وهلم جرا. وقد وقع تحريضي إياهم في نفوسهم موقع الاستحسان والأهمية، فتوغلوا في هذه الأبحاث واختلفوا بشأنها الاختلافات العديدة، وبرهنوا عليها بالآيات والعجائب، واشتد بينهم النزاع الذي قادهم إلى الغضب والشجار أولا، ثم إلى تقسيمهم فرقا فرقا ثانيا، ومن ذلك ظهرت الطوائف المسيحية المتعددة التي ما زالت ولن تزال متباغضة متنافرة، وتعد الواحدة الأخرى هالكة، حتى إن بعضها زاد في الغلو وحظر رؤساؤها أتباعهم من مخالطة أتباع الطوائف الأخرى وزيارة معابدهم ومطالعة كتبهم أو التزوج منهم.
وفوق ما ذكرت، فإن أبحاثهم في تلك الأمور التي أشرت إليها آنفا قد أشغلت أفكارهم وأبعدتهم عن تلك الحياة الجديدة، حياة الهناء والسعادة والطمأنينة حياة الراحة والسلام، تلك الحياة التي أرشدهم إليها معلمهم الأعظم الذي قضى على مملكتنا القضاء المبرم، وعلمهم التعاليم الواضحة التي لو ساروا بمقتضاها لبلغوا ميناء الراحة والخلاص وما رأينا واحدا منهم عاد إلينا، وما كنا رأينا مملكة جهنم عائدة إلى التجديد والاكتظاظ بالناس.
ثم استطرد الشيطان الأغبر الكلام وقال: ولما تمكنت من قيادة المتنورين والعقلاء منهم إلى تلك الأبحاث التي لم يتوصلوا للآن إلى حل رموزها وطلاسمها، حتى وما عادوا يفهمون ما يقولون ويكتبون؛ حينئذ أرشدت بعضهم إلى ضرورة شرح وتفسير كتابات ذلك الإنسان المدعو أرسطاطاليس، الذي ظهر في بلاد اليونان قبل ألف عام، الذي يسميه الناس فيلسوفا؛ لأن كتاباته حرية بالالتفات والاعتبار. وأرشدت البعض الآخر منهم إلى أن أهم ما ينبغي أن يوجهوا التفاتهم إليه هو وجود الحجر الذي بواسطته يمكن صنع الذهب وإيجاد إكسير يشفي جميع الأمراض والعلل ويمنع الموت عن الناس. وقد جازت مكايدي عليهم حتى إن جميع علمائهم وأصحاب الأفكار الفياضة منهم وجهوا كل قواهم العقلية إلى هذه الأمور.
أما أولئك العلماء الذين لم ترقهم تلك الأبحاث، فقد نبهتهم إلى أبحاث أخرى أشغلت بها عقولهم؛ فأدخلت في أفكارهم أن أهم شيء يجب أن يبحثوا به هو معرفة أيهما تدور حول الأخرى؛ الشمس تدور حول الأرض أم الأرض تدور حول الشمس. ولما عرفوا أن الأرض تدور وأن الشمس ثابتة وحددوا مقدار ملايين الأميال من الشمس إلى الأرض، ابتهجوا ابتهاجا عظيما بهذه الاكتشافات الجليلة، ومن ذاك الحين إلى اليوم وهم يواصلون الأبحاث لمعرفة أبعاد النجوم، ومع أنهم يعلمون حق العلم أن لا نهاية لهذه الأبعاد التي لا يمكن أن يكون لها نهاية لأن عدد تلك النجوم لا يمكن حصره مطلقا، ومثل ذلك لا لزوم لمعرفته لأنها غير ممكنة. وخلا ما تقدم فقد حركت فيهم الميل إلى ضرورة معرفة تسلسل جميع الحيوانات والديدان المختلفة والنباتات المتباينة وجميع الهوام والحشرات الصغيرة التي لا نهاية لها. والأمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار بأن هذه المعرفة لا لزوم لها، فضلا عن أن معرفتها مستحيلة جدا جدا؛ لأن الحيوانات على اختلاف أجناسها لا تقع تحت حصر كالنجوم سواء بسواء، ومع ذلك فتراهم يوجهون جميع قواهم العقلية إلى البحث في مظاهر الطبيعة المادية، ويعجبون في الوقت نفسه بأنهم كلما عرفوا شيئا (مما لا لزوم لمعرفته لهم) يزيد ذلك الشيء غموضا، مما يدعوهم إلى زيادة البحث والتنقيب.
ولقد أفضى بهم ذلك إلى قضية راهنة هي أنهم كلما زادوا في البحث اتسع أمامهم نطاق المباحث، وزادت المواد التي يدرسونها غموضا وتعقيدا. ومما لا ريب فيه هو أن تلك الأبحاث الطويلة لم تجدهم نفعا ولم تفد حياتهم شيئا، غير أن ذلك لا يثبط عزائمهم ولا يزيل اعتقادهم بأهمية ما يشتغلون بدرسه والبحث عنه، ولذلك فهم يواصلون البحث والتنقيب والتعليم والكتابة والطبع ونقل أبحاثهم واكتشافاتهم من لغة إلى أخرى، تلك الأبحاث التي لا فائدة منها وإن كانت أحيانا ذات فائدة فإنها لا تفيد إلا فئة قليلة من الأغنياء، وتجلب في الوقت نفسه الضرر الجسيم للسواد الأعظم من الفقراء؛ حيث تزيد سوء حالتهم وتفسد نظام معيشتهم.
ولو كان لديهم مسحة من الإدراك لفقهوا أن أهم شيء تجب معرفته والوقوف عليه هو تنظيم نواميس الحياة الموضحة بتعليم المسيح إيضاحا ظاهرا، ولكنهم لم يفتكروا قط بذلك وصرفوا نظرهم عنه. وتوصلا لغاياتي فإني أدخلت في أفكارهم اعتقادا أصبح راسخا في أذهانهم ولا يزول منها أبدا، وهو أنهم لا يستطيعون معرفة نواميس الحياة الروحية، وزدت في تضليلهم والتغرير بهم حتى أصبحوا يعتقدون أن كل تعليم ديني - ومن ضمن ذلك تعليم المسيح نفسه - ما هو إلا ضلالات وأباطيل وخرافات وخزعبلات، وأن أحسن طريقة توصلهم إلى معرفة كيف يجب عليهم أن يعيشوا هي العلم الذي ابتكرته وأغريتهم على الاشتغال به، وهو العلم المسمى
Sosiologie (علم أحوال الهيئة الاجتماعية)، وهذا العلم يبحث عن كيفية ما تقدم، فإنهم بدلا من أن يحسنوا نواميس حياتهم بمقتضى تعليم المسيح الدال على ذلك، فإنهم يزعمون بأن درس حياة الأمم السابقة هو أفضل من تعليم المسيح؛ لأنهم يستطيعون من ذلك الدرس استنباط نواميس الحياة الصحيحة، ولا ينقصهم لبلوغ هذه الأمنية غير تطبيق النظامات التي يستخرجونها على الزمان والمكان الموجودين فيه، وأن ذلك خير وسيلة توفر لهم أسباب السعادة ورغد العيش.
ثم إني توصلا إلى رسوخهم في الضلال استنبطت لهم فكرتي شيئا مبتكرا يماثل تعليم الكنيسة، وهو العلم المستخرج من استنتاجات أبحاثهم المختلفة، وجعلتهم يعتقدون أن تلك الاستنتاجات معصومة عن الخطأ مثل تعاليم الكنيسة سواء بسواء.
وما زلت بهم حتى جعلت رجال العلم يعتقدون صحة تعاليمهم وعصمتهم عن الخطأ، حتى أصبحوا ينشرون بين الناس بصورة حقائق ثابتة كثيرا من السفسطات والحماقات والخزعبلات، التي فضلا عن أنها لا لزوم لها فإنها تشغل أفكارهم وتبعدهم عن معرفة الحقائق الراهنة، ونجم عن ذلك أن أولئك العلماء إذا ابتكروا شيئا وأعلنوه بين الناس يؤيدونه بالبراهين والأدلة، ولا يستطيعون إنكاره في المستقبل حتى ولو ظهر أنه من الحماقات غير المحدودة .
وما دمت أحرك فيهم الميل الشديد إلى العلم الذي ابتكرته لهم، فهم لا يزالون متطوعين له، يخدمونه بإخلاص ولا يتحولون عنه، وما داموا على تلك الحال فأنا أكون قرير البال مطمئن الفؤاد وواثقا من أنهم لا يفهمون ذلك التعليم الذي كاد يقضي علينا القضاء المبرم، ويجعل مملكتنا أثرا بعد عين.
11
فقال بعلزبول بعد سماعه هذا الكلام: حسنا حسنا، وإني أشكركم على جهادكم هذا. وقد أشرق وجهه وأبرقت أسرته. ثم استطرد الكلام وقال: ولا ريب أنكم تستحقون المكافأة والجوائز السنية، وسأكافئكم مكافأة تليق بكم.
وما نطق بعلزبول بهاته الكلمات حتى صاح بقية الشياطين المختلفي الشعر المتباينين في الأشكال بين كبار وصغار وذوي أرجل عوجاء ومتناهين في السمن والنحول؛ صاحوا جميعا بصوت واحد موجهين الكلام إلى رئيسهم الأعظم بعلزبول وقالوا له: يظهر لنا أنك قد نسيتنا ولا تريد أن تسمع نتيجة أعمالنا التي لا تقل عن أعمال من تقدموا وسردوها على مسامعك.
فأجابهم بعلزبول سائلا: وماذا صنعتم؟ - أنا شيطان الميكانيكيات. - وأنا شيطان توزيع الأعمال. - وأنا شيطان طرق المواصلات. - وأنا شيطان طباعة الكتب. - وأنا شيطان الفنون. - وأنا شيطان الطب. - وأنا شيطان الارتقاء. - وأنا شيطان التربية والتهذيب. - وأنا شيطان إصلاح الناس. - وأنا شيطان التخدير. - وأنا شيطان الجمعيات الخيرية. - وأنا شيطان الاشتراكية. - وأنا شيطان الأنثوية.
قالوا ذلك بصوت واحد وهم يزحفون على ألياتهم متزاحمين إلى الدنو من بعلزبول وقد اختلطت أصواتهم بعضها ببعض.
فصرخ بهم بعلزبول وقال: «لا تتكلموا جميعا، بل فليتكلم كل واحد منكم، وليعتصم بالإيجاز ويبتعد عن الإطناب والإسهاب.» ثم التفت إلى شيطان الميكانيكيات وقال له: أخبرني أنت ماذا تفعل؟
فقال: إني أحرض الناس وأغريهم إلى أنهم كلما عملوا أشياء جديدة وكلما أسرعوا في صنعها، تحسنت معيشتهم وتوفرت لهم أسباب الراحة. وقد جازت حيلتي هذه عليهم فتراهم يهلكون أنفسهم في سبيل اختراع الأشياء الجديدة، وكل يوم يعملون منها عددا كبيرا، بقطع النظر عن أن تلك الأشياء لا تنفع أولئك المرغمين على عملها والاشتغال بها، كما أنها لا تفيد مخترعيها الفائدة المطلوبة. - لقد أحسنت كل الإحسان.
ثم التفت إلى شيطان توزيع الأعمال، وقال له: وأنت ماذا تصنع؟
فأجاب: إني أغريت الناس أن صنع الأشياء لا يتوفر إلا بالآلات التي هي أسرع من الناس في صنعها، ولذلك ينبغي تحويل الناس إلى آلات صماء ليستطيعوا الإسراع في إنجاز الأعمال. وقد انطلت حيلتي عليهم فحولوا الناس إلى آلات وأرغموهم على القيام بالأعمال الشاقة، ومن هنا نتجت الأحقاد والبغضاء والضغائن، بحيث إن الناس المحولين إلى آلات أصبحوا يبغضون محوليهم بغضا شديدا، وعلى استعداد تام في كل آونة إلى الانتقاض عليهم واغتيالهم.
فقال بعلزبول: وهذا حسن أيضا.
ثم التفت إلى شيطان طرق المواصلات وقال له: وأنت ماذا تفعل؟
فأجاب: إني أحرض الناس بأنهم لا يستطيعون الإثراء وجمع الخيرات إلا إذا انتقلوا من مكان إلى مكان بسرعة تشبه سرعة الطير، فأصبح الناس بعد ذلك بدلا من أن يجتهدوا في تحسين معيشتهم في مكانهم يصرفون حياتهم في التنقل من مكان إلى مكان، فيجوبون الأقطار ويطوفون الأمصار ويفتخرون أنهم يقطعون أكثر من 50 ميلا في الساعة.
فأثنى عليه بعلزبول ثناء مستطابا.
ثم تقدم شيطان طباعة الكتب، وقال إن عمله يتضمن إغراء الناس على طبع تلك السخافات والحماقات التي تظهر وتكتب في الدنيا، والاجتهاد في نشرها وتعميمها بين الناس.
وقال شيطان الفنون إنه يحرك في الناس الميل إلى توفير أسباب التسلية واللهو وينبه شعورهم وإحساساتهم إلى ذلك، فيصرفون قواهم إلى تحسين الفنون واجتذاب الناس إليها، ولكنها تقودهم في أغلب الأحيان إلى الفساد والفجور.
وقال شيطان الطب إنه أدخل على أفكار الناس أن أهم شيء لهم في هذه الدنيا هو المحافظة على أبدانهم. وبما أن الاهتمام بصحة الأجسام مما لا نهاية له فترى الناس قد وجهوا مزيد عنايتهم إلى ذلك بواسطة الطب، وتركوا الاهتمام والالتفات إلى حياتهم ونفوسهم، وتناسوا كذلك ضرورة الالتفات إلى حياة الناس الروحية.
وقال شيطان الارتقاء إنه أضل الناس بإدخاله على أفكارهم أن الانتفاع بما يشتغل به شياطين الميكانيكيات وتوزيع الأعمال وطرق المواصلات وطباعة الكتب والفنون والطب أمر لا بد منه لخيرهم وفلاحهم، وأنه بدون تلك الأشياء لا يستطيعون بلوغ أوج السعادة والصفاء.
وقال شيطان التربية والتهذيب إنه يحرض الناس وهم يعيشون عيشة الفساد والضلال، ودون أن يفهموا ماهية الحياة الحقيقية الصالحة، إلى تربية الأولاد على تلك المبادئ الفاسدة مع اعتقادهم بأنها مبادئ صحيحة قويمة.
وقال شيطان إصلاح الناس إنه يعلم الناس المفسودين الضالين بأن في استطاعتهم إصلاح الناس المتمرغين في حمأة الفساد دون أن يشعر الأولون بفسادهم، وأنه كان المتحتم عليهم أن يصلحوا نفوسهم أولا.
وقال شيطان التخدير إنه يعلم الناس بأنه بدلا من أن يتخلصوا من الآلام التي جلبتها لهم حياة الضلال والفساد بإصلاح تلك الحياة والسير في طريق الاستقامة؛ أن يجنحوا إلى المخدرات التي تخدر أجسامهم وتسكن آلامهم، فأدمنوا على استعمال الخمرة على اختلاف أجناسها وتعاطي الأفيون والتبغ والحشيش والمورفين وما شابهها.
وقال شيطان الجمعيات الخيرية والإحسانات إنه يغري الناس بأنهم إذا نهبوا القناطير وأحسنوا بالقروش القليلة منها يدعون محسنين، ولا يحتاجون بعد ذلك إلى الكمال، وبهذه الطريقة نبعدهم عن الصلاح ونقودهم إلى الشر والضلال.
وقال شيطان الاشتراكية إنه باسم راحة الإنسانية العامة وكمالها الأسمى يثير الناس ضد بعضهم، ويهيج بين طبقات الناس عوامل البغضاء والأحقاد.
وقال الشيطان الأنثوي إنه عدا إثارة البغضاء في قلوب طبقات الناس التي يدعوهم إليها حب المساواة، فإنه يثير عوامل الخلاف بين الجنسين أي الرجال والنساء، ويدعوهم إلى التباغض والتنافر والتنابذ.
وقال آخر: أنا شيطان البذخ ورفاه العيش.
وقال غيره: أنا شيطان الموضة والأزياء.
وصاح آخرون غير ذلك، وكانوا يتزاحمون ويتدافعون ليدنوا من بعلزبول.
حينئذ قال بعلزبول بصوت الرئيس الآمر: هل تظنون أني شيخ أحمق خرف حتى غدوت لا أدرك أن التعاليم الكاذبة الفاسدة انتشرت بين الناس انتشارا هائلا، وأن كل ما كان مضرا بنا أصبح نافعا لنا؟ قال ذلك وقهقه قهقهة دوت لها أركان المكان، ثم قال: يكفي الآن ما سمعته منكم، فأشكركم جميعا على ما أظهرتموه من الكفاية والأهلية والجهاد. ثم نفض جناحيه ونهض قائما على رجليه، فأحاط به الشياطين، وكان في مقدمة جناحهم الأيمن الشيطان ذو الوشاح مبتدع الكنيسة، وفي مقدمة جناحهم الأيسر الشيطان مبتكر العلوم، ثم مد كل شيطان رجله إلى الآخر فتشابكوا ببعض وألفوا حلقة كبيرة.
وجميع الشياطين جعلوا يدورون حول بعلزبول وهم يرقصون ويصيحون ويصفرون ويلوحون بأذنابهم.
ثم إن بعلزبول بدوره رفرف بجناحيه وجعل يرقص وسط تلك الحلقة، وكان يرفع رجليه إلى العلو حتى تلمسا كتفيه ورأسه، وكانت تتصاعد من فوقهم غوغاء أهالي جهنم المختلطة بالصراخ والبكاء والأنين وصرير الأسنان.
الخمر
للفيلسوف تولتسوي
إن مساحات شاسعة من الأرض كان يمكن أن يقتات منها مئات ألوف من العائلات الجائعة، الآن مزروعة تبغا وعنبا وشعيرا وحشيشة الدينار والبطاطس؛ لصنع النبيذ والجعة (البيرة) والعرق الروسي (فودكا)، وغيرها من المشروبات الكحولية.
وملايين من العمال الذين كانوا يستطيعون إبراز وعمل مصنوعات نافعة مفيدة، يعملون في معامل تقطير الخمور. ودلت الإحصاءات الرسمية على أن عشر العمال الإنكليز يشتغلون في معامل الخمر.
ما هي يا ترى نتائج وعواقب صنع واستعمال التبغ والنبيذ والعرق والبيرة؟
توجد حكاية قديمة عن ناسك تخاصم مع الشيطان، وقال له إنه يمنعه من دخول صومعته، فأجابه الشيطان إنه سيدخلها رغما عنه، ولكنه إذا دخلها يجب على الناسك حينئذ أن يعمل ما يأمره به الشيطان، واتفقا على ذلك. فمسخ الشيطان نفسه غرابا جريحا، وجعل يقفز أمام صومعة الناسك وجناحه المكسور يلوح في الهواء، فأشفق الناسك على الغراب وأدخله صومعته، ولما أصبح داخلها رجع إلى صورته الأصلية، وعرض على الناسك أن يفعل واحدا من ثلاثة أمور: القتل أو الزنا أو السكر، فقبل الناسك أن يرتكب جريمة السكر وقال في نفسه إنه إذا سكر يضر نفسه فقط، ولكنه لما شرب وسكر وأضاع عقله وإدراكه، قصد قرية مجاورة لصومعته حيث أغوته امرأة ارتكب معها الزنا، وفيما هو في منزلها عاد زوجها وهجم على الناسك الذي دافع عن نفسه وقتل زوج المرأة.
هكذا يصفون عواقب السكر في حكاية قديمة يتداولها الناس، وفي الحقيقة ونفس الواقع هكذا تكون عواقب استعمال المشروبات الروحية، وقلما سمعنا أن لصا سارقا التجأ إلى القتل وهو في قواه العقلية. وهذه إحصاءات المحاكم أمامنا وهي تدل دلالة واضحة على أن تسعة أعشار الجرائم ترتكب في خلال السكر. وأوضح دليل على ذلك أن بعض الولايات المتحدة المحرم فيها استعمال المشروبات الروحية وصنعها واستيرادها تقل فيها الجرائم؛ فلا أثر فيها للسرقة والقتل والسلب والنهب، وسجون بعضها خالية خاوية.
ومن عواقب الخمرة وآثارها السيئة أنها تضر صحة الناس ضررا ظاهرا محسوسا؛ فإن مدمني الخمرة يصابون بأمراض يموتون بها غالبا قبل الأوان، وقلما يشفون منها مع أن المرضى من غير السكيرين يشفون بالمعالجة، وأن شركات التأمين على الحياة لا تؤمن على حياة السكيرين ومعتادي تعاطي المشروبات الكحولية.
ومن أثر عواقب الخمرة أنها تظلم عقل وإدراك وضمير الناس الذين إذا تعاطوها تتغير أطوارهم، ويغدون أخشن وأحمق وأسفه وأشر مما كانوا عليه من قبل.
وما هي المنفعة من شرب المشروبات الروحية؟
والجواب على ذلك أنه لا توجد منها منفعة ما.
إن الذين يدافعون عن العرق والنبيذ والجعة والوسكي وغيرها من المشروبات الروحية يقولون إنها تزيد الصحة والقوة، وإنها تدب الحرارة في الجسم والسرور في النفوس. ولكن قد اتضح الآن أن لا نصيب لهذا الكلام من الصحة. إن المشروبات الروحية لا تفيد الصحة ولا تزيدها؛ لأنها تحتوي على سم قوي قتال وهو الكحول، واستعمال السم لا يمكن أن يكون مفيدا نافعا. واتضح أيضا أن الخمور لا تزيد في قوة الإنسان، واستدلوا على ذلك بالمقارنة بين عاملين: أحدهما يتعاطى الخمر والآخر لا يتعاطاه؛ فظهر أن الذي لا يتعاطى الخمر يشتغل أكثر وأحسن وأتقن من الذي يتعاطاها، وظهر أيضا أن الجنود الذين يسكرون أجبن وأضعف من الذين لا يسكرون ولا يشربون الخمر.
واتضح أيضا أن الخمر لا يدفئ الجسم، وأن الحرارة التي تدب في الجسم على أثر شرب عدة كاسات لا تدوم طويلا، واتضح أيضا علميا أن الذين لا يتعاطون الخمر يتحملون البرد أكثر من الذين يتعاطونها.
وأما السرور الذي يستحوذ على الشاربين فإنه في الحقيقة ونفس الواقع ليس بسرور حقيقي، بل إنه سرور مصطنع يجر وراءه أوخم العواقب وأشنعها، الأمر الذي لا يحتاج إلى دليل. ويكفي لذلك أن يلقي الإنسان نظرة على المدن وماذا يحدث فيها في الحانات في أيام الأعياد، وكذلك على ما يحدث في القرى في الأعراس والأفراح؛ فإن السرور الناشئ من الخمر يتحول أكثر الأحيان وينتهي بالسباب والمشاجرة والجراح والقتل، فضلا عن أنه يجعل الإنسان يهوي إلى أسفل دركات الانحطاط والامتهان.
فالخمر لا يعطي الإنسان قوة ولا صحة ولا سرورا ولا حرارة، بل إنه يجلب للناس أضرارا جسيمة.
وبناء على ما تقدم فإنه ينبغي للإنسان العاقل ألا يتعاطى الخمر فقط، بل يجب عليه أن يبذل كل نفوذه ومجهوداته بألا يقدمها لأحد في منزله، ويمنع جميع معارفه وصحبه من استعمال هذا السم الضار الذي لا فائدة منه.
ولكن مع الأسف الشديد أن الأمور تجري على غير ذلك؛ لأن الناس يحافظون على العادات والتقاليد القديمة التي يصعب استئصالها من نفوسهم. ويا ليتهم يقفون عند هذا الحد! بل إنهم يدافعون عن الخمور دفاع الأبطال، ويسردون لك على فوائدها ومنافعها ألف برهان ودليل.
هؤلاء يقولون: إن البلاء يأتي من السكر وليس من كاسات قليلة. هؤلاء يقولون: إن الملك داود قال: «إن الخمرة تفرح قلب الإنسان». هؤلاء يقولون: إن المسيح حول الماء إلى خمر في قانا الجليل، وإنه بارك هناك الخمر، وإنه لو منعت الخمرة لانقطع الإيراد الوافر عن الحكومات التي تملأ خزائنها من الأموال التي تتقاضاها رسوما على المشروبات الكحولية.
هؤلاء يقولون: كيف يجوز أن نستقبل الأعياد ونقيم الأفراح بدون خمر؟ وإنه غير ممكن ألا نشرب لدى ابتياعنا المنازل أو الأراضي أو لدى بيعها، وكذلك عند استقبال الضيف العزيز. هؤلاء يؤكدون لك أنهم إذا شربوا فإنهم يشربون بعقل، وأنهم لا يسببون ضررا لأحد، ويقول الروسيون بنوع أخص: إن الأمير فلاديمير الشهير قال: «إن الشرب هو حياة روسيا وسرورها وفرحها».
يقول صغار الأحلام: إننا بتعاطينا الخمرة لا نضر أحدا ولا نؤذي مخلوقا، وإذا كنا نؤذي أنفسنا فهذا أمر يتعلق بنا نحن، لا نريد نعلم أحدا كما أننا لا نريد أن يعلمنا أحد، ونحن ليس أول من شرب ولا آخر من سكر.
هكذا يقول شاربو الخمرة من طبقات ومراكز مختلفة، وهم بهذا القول يحاولون تبرير أنفسهم وعملهم.
هذه الأقوال كانت جائزة في ما مضى من الأزمنة، ولكنها الآن معدودة من سقط المتاع، ومن الكلام الدال على الحماقة والعناد. كان يصح هذا القول عندما كان الناس يظنون بل كانوا يعتقدون أن الخمرة تسبب سرورا ولا تسبب ضررا، وأن المشروبات الروحية تعطي الصحة والقوة للإنسان؛ إذ ذاك ما كانوا يعلمون أن الخمرة تحتوي على سم قتال فتاك، إذ ذاك ما كان يرى الناس عواقب تعاطي الخمرة الوخيمة التي نراها اليوم أمام أعيننا.
كان يجوز ذلك القول عندما كانوا يرون مئات وألوف الضحايا التي تضحيها الخمرة على مذبح هيكلها، عندما كانوا يرون الألوف من الناس يتحملون أشد الآلام والأسقام من تأثيرة الخمرة، عندما كانوا يرون أن الخمرة تقصف غصن حياة الشباب الرطيب. يجوز ذلك القول عندما كنا نرى ألوفا وألوفا من الزوجات والأولاد يتضورون جوعا ويتقلبون على فراش الحاجة والأسقام بسبب إدمان الأزواج والآباء على تعاطي الخمرة. كان يحسن أن يقال هذا عندما كنا نرى ألوف المجرمين مطروحين في غياهب السجون بسبب الجرائم التي دفعتهم إليها الخمرة؛ حيث يشتغلون الأشغال الشاقة، وقد تركوا نساءهم وأولادهم بلا ناصر ولا معين. كان يحسن أن يقال هذا عندما كنا نرى أن مئات وألوفا من الناس قد أضنوا قواهم وهدموا أجسامهم وقضوا على عقولهم ومداركهم القضاء المبرم، وكان في استطاعتهم لو لم يتناولوا تلك السموم أن يعيشوا براحة وسلام وصفاء وهناء.
وبناء على ما تقدم فإنه لا يجوز في وقتنا الحاضر أن نقول إن شرب الخمرة أو عدم شربها مسألة خاصة، وإننا لا نشرب إلا قليلا منها ولا نؤذي أحدا إذا تناولناها. كلا، كلا، لا يجوز مثل هذا القول؛ لأن مسألة المسكرات مسألة عامة اجتماعية.
والآن ينقسم الناس من هذا القبيل إلى معسكرين: أحدهما يجاهد قولا وفعلا في تحريم وصنع تلك السموم ومنع جميع المشروبات الروحية على الإطلاق، وهؤلاء لا يشربون الخمرة ولا يقدمونها لأحد لا في الأعياد ولا في الأفراح، ولا في جميع أشكال الحياة. وثانيهما يتعاطى الخمرة ويسعى لانتشارها. وقد قامت بين هذين المعسكرين حرب عوان اشتد وطيسها وحمي أوارها، وهي عامة في جميع الممالك والحكومات.
إن الناس يعدون الرجل فاضلا إذا كان لا يشرب الخمر في الحانات بل يبتاعها ويأخذها إلى منزله، حيث يشرب منها عدة كاسات قبل الطعام ويقدمها لأصحابه وضيوفه، ويقول الناس عن مثل هذا الرجل إنه إذا سكر ينام في منزله ولا يدري به أحد. يقولون مثل هذه الأقوال الفارغة ولا يحسبون حسابا للأضرار التي تسببها الخمرة لمثل هذا الفاضل المستور، ثم إنه بتقديمها لأصحابه يعودهم على السكر، وبذلك يجني جناية فظيعة على نفسه وعلى الإنسانية.
وأنت أيها الشاب، إذا كنت لم تشرب الخمرة فلا تسمم جسمك بها، وحافظ على طهارتك واستقامتك، ولا تنخدع بكلام غيرك من أولئك الذين قضت الخمرة على أجسامهم القضاء المبرم، وإذا وقعت في الشرك وأغروك على شرب الخمر فإنه لا يسهل عليك فيما بعد استئصال هذه العادة الذميمة. لا تصدق أن الخمر ينعشك ويدخل السرور على فؤادك، إن زمن الشباب الذي تتمتع به هو زمن السرور والانشراح، وما هو ذلك السرور الذي يضيع عقلك ويجعلك والمجنون سواء؟! احذر الخمر أيها الشاب! فإنه يقودك في شبابك إلى ارتكاب المعاصي والموبقات. والويل للشاب إذا زلت قدمه! فإنه يطوح بنفسه إلى مهاوي الفساد والأرجاس، ولا تقوم له بعد ذلك قائمة في هذه الحياة. إن الخمرة أيها الشاب تفقدك في زمن شبابك قوة الإدراك التي منحها إياك الخالق لتقاوم بها العثرات، إنك إذا سكرت ترتكب أمورا يستحيل عليك أن ترتكبها وأنت في عقلك، ولماذا إذن تقود نفسك إلى مثل هذا الخطر المحقق؟!
وإذا كنت أيها الإنسان رجلا كهلا وتعودت على تعاطي الخمرة، فبادر إلى تركها، وإلا فإنها إذا تسلطت عليك ملكتك وأخضعتك إلى سلطانها الغشوم، وإلا فإنك تموت قبل الأوان وتقصف الخمرة عمرك كما قصفت عمر كثيرين قبلك من الشبان والكهول. وأما إذا استرسلت في شربها وداومت على تعاطيها وتقديمها لأصحابك، فإنك تعود زوجتك وأولادك وأخاك وأصحابك على السكر، وتقودهم إلى الهلاك المحقق، وتكون في مثل هذه الحالة لا فرق بينك وبين القتلة وسفاكي الدماء.
لا يجب أن يخطر على بالك أيها الإنسان أنه إذا انقطعت عن تقديم الخمرة في الأعياد والأفراح أنك تترك عادات الوسط المقيم فيه، بل تترك مجاراة جيرانك في عاداتهم الذميمة، دع عنك مثل هذه الأفكار وانسج على منوال أولئك الأفاضل الذين تركوا هذه العادات، وأبدلوا تقديم الخمرة بمأكولات لذيذة وحلويات شهية ومشروبات مرطبة.
ويل ثم ويل للإنسان الذي تأتي بسببه العثرات! خير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويطرح في البحر. ولذلك أقول لك أيها الإنسان: ابتعد عن إغواء غيرك، ولا تضغط على الناس وتدعوهم إلى شرب الخمرة، واذكر قول الكتاب العزيز القائل: «من ليس معي فهو علي، ومن لا يجمع معي فهو يفرق».
ثم قال الفيلسوف: لماذا يميل الناس إلى إضاعة عقولهم؟ لماذا يقتلون أجسامهم؟ لماذا يسعون إلى الجنون والخبل والذهول؟ لماذا يستعملون تلك المواد المخدرة؟ فإذا لم يشرب الإنسان الخمرة وإذا لم يدخن فإنه يستعمل الحشيش والأفيون والمورفين! لماذا أقبل الناس على هذه المهلكات، لا فرق بين المتدين والمتوحش والعالم والجاهل والغني والمتوسط والفقير؟!
اسأل أي إنسان لماذا يشرب الخمر، ولماذا يتعاطى المخدرات والمكيفات، فيجيبك من ساعته: إني أفعل ذلك ناسجا على منوال الآخرين الذين يشربون لاستجلاب السرور والانشراح والحبور.
اسألوا مدخن التبغ لماذا يدخن، فيجيبك أنه يفعل ذلك للتسلية وطرد الهموم التي تراكمت عليه.
إن أسباب ذلك أستخلصها من مطالعاتي ومن مراقبة الناس ومراقبة نفسي عندما كنت أسكر وأدخن، وهي تنحصر فيما يأتي:
إن الإنسان في خلال إدراكه وفي خلال وجوده بكامل قواه العقلية المدركة يستطيع أن يرى في نفسه خاصيتين مفترقتين: أولاهما خاصية عمياء حساسة والأخرى روحية مبصرة. أما الخاصية الحيوانية العمياء فإنها تنحصر في أنه يأكل ويشرب ويستريح وينام ويتناسل ويتحرك كما تتحرك الآلات الصماء. وأما الخاصية الروحية المبصرة - المرتبطة بالخاصية الحيوانية - فإنها لا تفعل شيئا من نفسها، بل إنها تراقب عمل الخاصية الحيوانية التي تخالفها وتشتبك معها في حرب عوان.
إن الخاصية المبصرة هذه تشبه البوصلة (إبرة القبلة)، التي يشير طرفها الواحد إلى الشمال والطرف الآخر إلى الجنوب، وعقرباها يرشدان السفن والمسافرين إلى الجهة المقصودة، فإن فعل حاملها بحسب إشارتها فإنه لا يضل الطريق، بل يصل إلى المحل المقصود بأمان واطمئنان. وهكذا فإن الخاصية الروحية التي نسمي مظهرها في أحاديثنا بالضمير الذي ترشد إحدى جهاته إلى الخير والأخرى إلى الشر، ونحن لا نراه - أي الضمير - إلا إذا حدنا عن الجهة التي يرشدنا إليها؛ أي من الخير إلى الشر. وكل إنسان يشعر شعورا محسوسا بأنه إذا ارتكب إثما مخالفا لصوت الضمير وإرشاداته، فإنه يسمع من داخله صوتا قاسيا يؤنبه تأنيبا مؤلما، ويقول له: لقد انتصرت خاصيتك الحيوانية على خاصيتك الروحية المبصرة.
إن تسعة أعشار الجرائم ترتكب بسبب السكر.
إن أكثر النساء الساقطات يسقطن في هوة الفساد بسبب الخمر. إن تسعين في المئة من الرجال الذين يرتادون منازل العاهرات يكونون سكارى. إن الناس يعلمون حق العلم خاصية الخمرة، ولكنهم يخنقون صوت الضمير ويشربونها وهم عالمون بتلك العواقب الوخيمة التي تنجم عنها.
إن بعض الدول إذا أرادت القيام بمعارك بالسلاح الأبيض تسقي جنودها قبل المعركة كاسات عديدة من الخمر، وقد أشار التاريخ إلى أن الجنود الفرنسية في معارك سيفاستوبل الشهيرة كانوا دائما أبدا سكارى. إن الناس يسعون دائما إلى إماتة ضمائرهم وقتل وجدانهم بتعاطيهم المخدرات والمكيفات. إنهم يعلمون كما قدمنا حق العلم عواقب تعاطي تلك المهلكات الوخيمة، ولكنهم يقدمون عليها لأن ضمائرهم ماتت وإحساساتهم ضاعت، فيحكمون على نفوسهم بالإعدام وعلى زوجاتهم وأولادهم بالجوع والفاقة والسقوط أحيانا في مهاوي مواخير الرجس والخنا. والغريب فيهم أنهم لا يسمعون نصيحة ناصح ولا يرعوون عن غيهم وضلالاتهم ويسترسلون في موبقاتهم، وبذلك يقضون على نفوسهم بالموت المحقق.
مبادئ تولستوي
تنحصر مبادئ تولستوي الدينية والاجتماعية في الخمس الوصايا الآتية:
أولا:
حب الله من كل نفسك، وحب قريبك كذلك، ولا تهن أحدا، واجتهد بألا تحرض أحدا على فعل الشر؛ لأن الشر يتولد من الشر.
ثانيا:
لا تغازل النساء ولا تهجر المرأة التي اتحدت بها؛ لأن هجر النساء وتغييرهن يحدثان الفساد في العالم.
ثالثا:
لا تحلف بشيء ولا تعد بشيء؛ لأن الإنسان بكليته تحت سلطة الله، والناس لا يجنحون إلى الإقسام إلا مدفوعين إليها بالأعمال والنوايا الشريرة.
رابعا:
لا تقاوم الشر واحتمل الإهانة، واعمل أكثر مما يطلبه منك الناس. لا تحاكم أحدا ولا تدفع نفسك للمحاكمة، والإنسان إذا مال للانتقام فإنه يعلم الناس أن يحذوا حذوه وينسجوا على منواله.
خامسا:
لا تفرق بين مواطنيك والغرباء؛ لأن جميع الناس من مصدر واحد.
ولقد اطلعت في إحدى المجلات الروسية على مقالة ضافية بسطت فيها الكلام على هذه المبادئ، فأنقلها للقراء كما هي دون تحريف أو تحوير.
يقول الفيلسوف: إن محبة القريب تحتم على الناس أن يزهدوا في هذه الحياة الدنيا الفانية، ويهجروا عيشة البذخ والرفاه، ويبتعدوا عن الفخفخة الباطلة والعظمة العاطلة، وينبذوا مواد الزينة التي تصنع في المعامل؛ لأنه حرام وألف حرام أن ألوفا من الناس يقضون حياتهم وهم يعملون في المعامل لإعداد مواد الزينة للأغنياء، وكثيرون من أولئك المنكودي الطالع يموتون شهداء على مذبح راحة الأغنياء وتوفير صنوف الملاذ لهم.
لا تعم المساواة في العالم، ولا ينقطع الحسد من بين الناس، ولا تزول المنافسة وتفقد البغضاء إلا إذا سعى كل واحد لتحصيل ما يقوم بأوده بنفسه.
فيجب على كل واحد أن يقبل على الشغل وإعداد جميع لوازمه المعيشية بنفسه دون أن يعتمد فيها على غيره؛ فإننا لو نظرنا إلى المصائب العديدة التي تحدث بين الناس لوجدنا أن أصلها الحاجة ومصدرها الفاقة والإعواز. وأما الشرور والآثام والفساد والفجور فإن مصدرها البطالة والراحة المتناهية وملء البطون بالمآكل المغذية ذات الدهن الكثير التي تقود الإنسان إلى الشهوات وارتكاب الموبقات.
إن أقدس واجب على الإنسان تفرضه عليه الإنسانية الحقيقية هو سعيه إلى إزالة عدم المساواة الموجودة بين الناس ، وبإزالتها تزول المصائب والويلات وتتلاشى الشرور والشهوات. وإن آمن طريق يوصله إلى ذلك هو العمل الذي يدفع الحاجة، وكذلك ابتعاده عن البطالة ورفاه العيش والتنعم، التي تقوده إلى العثرات وتحرك الشهوات الكامنة في نفسه.
إن تلميذ المسيح الحقيقي يكون في الغالب فقيرا، أو بعبارة أخرى لا يلتفت إلى جمع الثروة واقتناء العربات الفاخرة والخدم والحشم والأتباع، وسكنى القصور الشامخة المفروشة بالرياش النفيس والفرش الوثيرة. أجل إنه يتمتع بجميع الخيرات الجزيلة والنعم الوافرة التي منحه إياها الحق سبحانه وتعالى، وللحصول عليها لا يجب عليه أن يقطن في المدن الآهلة بالسكان الكثيرة الفساد، بل ينبغي عليه أن يتخذ له مسكنا في إحدى القرى ويقضي سحابة نهاره عاملا في الحقول والغابات، ويشاهد في خلال عمله نور الشمس والأرض والسماء والحيوانات الأهلية والبرية، ولا مشاحة في أنه إذا مرض وتألم ومات فإنه يكون في ذلك مساويا لجميع الناس على اختلاف الأجناس، ولكن مما لا ريب فيه أنه يعيش عيشة أسعد من عيشتهم وأصفى وأهنأ، ومما لا ريب فيه هو أن الناس الذين يعيشون مثل هذه العيشة الطاهرة الصافية الأمينة ولم يتطرق إليهم الفساد؛ يعتقدون اعتقادا متينا أن سعادة الإنسان تنحصر في العمل وشقاءه محصور في البطالة، وأنه بدون عمل تطرأ عليه السآمة والملل، ولذلك لا يستطيع البقاء يوما واحدا دون أن يعمل فيه عملا، كما لا تستطيع ذلك النملة والحصان وكل حيوان.
إن تعليم المسيح يعلمنا بأن الإنسان المسيحي الحقيقي - الذي ليس من هذا العالم - يستطيع أن يحصل على السعادة التامة إذا أدرك تمام الإدراك ماهية وجوده في هذه الحياة التي تحتم عليه تحتيما شديدا ألا يستعبد الناس بتشغيلهم الأشغال وتحميلهم الأثقال، ولا يعتمد في أمور معيشته عليهم، بل يجب عليه أن يعمل لنفسه بنفسه ويقدم حياته كلها فدية عن كثيرين.
قال الفيلسوف موجها الخطاب إلى إنسان المدن المتوغل في رفاه العيش والمتناهي في البذخ والخاضع للراحة، ما يأتي: «قم واخرج من خدرك، وطف في المدينة، وقف إلى جانب أولئك الذين يطعمون الجياع ويكسون العراة ويؤوون الغرباء، ولا تخف شيئا، وانتظم في سلكهم، وسر معهم كتفا إلى كتف، واعمل بيديك الرخصتين الضعيفتين أول عمل تصادفه. ولا تأنف من فقير بائس، بل ارفق به وألبسه وأطعمه، ثم اشتغل في الزراعة والأعمال الأخرى. ولا شك أنك ترى نفسك أسعد حالا عما كنت عليه من ذي قبل، وتجد انقلابا في عواطفك يساعدك على السير في طريق العمل والطهارة».
ويقول الفيلسوف: إن الشر الموجود في هذه الحياة ناجم عن القوانين والشرائع المسنونة التي تقيد الإنسان، وتحول بينه وبين الصلاح وطهارة القلب المفطور عليهما، وفي هذا الاجتماع أصبح لكل مشروع وكل أمر قوانين موجهة برمتها لاستعباد الناس وإذلالهم، ولا عجب إذا كانت داعية للشرور والمنازعات.
إن الاشتراكيين يقولون إن الشر محصور في استئثار بعض الناس بالثروة، وحصرها بين أفراد تضافروا على زيادتها والاختصاص بها وحرمان الناس منها، ويعدون جميع الوسائل التي يبذلونها في هذا السبيل جائزة مشروعة، وعلى عكس ذلك الملوك وأرباب السلطات، فإنهم يعتقدون أن الشر محصور في عدم خضوع الناس لسلطانهم وانصياعهم لأوامرهم وإشاراتهم. وهؤلاء وأولئك يستعملون القوة لتنفيذ مآربهم وأغراضهم، ولا ينجم عن مبادئهم هذه المعوجة غير زيادة الشرر وتوفير المصائب والويلات للهيئة الاجتماعية.
وقال عن الاشتراكية ما يأتي: إن الحكومة قابضة بيدها على زمام حرية الرعايا، وتسييرهم كيف شاءت وشاءت أهواؤها، ولكنها مع ذلك لم تستطع - حتى اليوم - أن تتداخل في النظام العائلي الداخلي، ولا في شئون الرعايا الاقتصادية وأحوالهم المعيشية وجنوحهم إلى البطالة أو العمل. ولكن جهاد الاشتراكيين ومبادئهم التي يصرفون قواهم إلى تنفيذها، وأهمها توزيع الثروة على الناس بالمساواة، تدفع الحكومة إلى التضييق على الناس ودخول بيوتهم لتنقيبها وإقلاق راحة سكانها وإزعاجهم، ثم ومن جهة أخرى تراقب حركات الاشتراكيين وسكناتهم، وهي تتدرج في ذلك، ولا يبعد أنه يأتي على الحكومة يوم - إذا دام لها استبدادها - من تعيين نوع الملابس والأطعمة للناس، وجبرهم على الاشتغال بهذه الحرفة دون تلك.
فعمل الاشتراكية مفيد من جهة ولكنه من جهة أخرى سبب كبير لما يستعمل فيه من القوة والمكايد والتهييج في حمل الحكومة على إزعاج الناس وسلب راحتهم، فالقوة لا تفيد صاحبها شيئا، ولا ينجم عنها أقل فائدة إذا أفضت إلى الإضرار بالناس، فهي بهذا المعنى كالحروب التي يرسل فيها الملوك أشد رجال المملكة وأقواهم إلى الموت، ومهما نجم عن تلك الحروب المريعة فلا يعادل ما ذهب بسببها من ضحايا النفوس البشرية، تلك النفوس البريئة التي اضطرت إلى محاربة أقوام لم يسيئوا إليها.
والتخلص من هذا الشر لا يأتي من طريق هدم النظامات الحالية وتغيير حالة المعيشة، وإنما يأتي من طريق فهم الناس ماهية هذه الحياة وإدراكهم كنه وجودهم، ولا يبلغون ذلك إلا إذا بلغت جميع طبقات الناس الكمال الديني والأدبي، ذلك الكمال الذي يزيل غشاوة الجهل عن الأبصار، ويدعو الناس إلى عقد اتحاد عام وألفة متبادلة؛ إذ ذاك يحول الناس حرابهم إلى مناجل ويسيرون تحت أعلام الكمال، وتسود بينهم المحبة والإخاء والمساواة.
وكان الفيلسوف يزرع الأرض بنفسه، ويحصد القمح ويخيط ملابسه وأحذيته بيده، ولا يكتفي بذلك بل إنه يساعد الفلاحين الفقراء بالحراثة وغرس الأشجار؛ لأنه يرى أن مساعدة الفقير بالعمل أفضل له كثيرا من المساعدة المالية. وقد قال عن ذلك في رواية البعث ما يأتي: ساعد المحتاج بالعمل تعلمه الجد والكد والابتعاد عن الكسل الوخيم، وتكن له خير أنموذج حسن، فيضطر أن يقتدي بك ويرى أن العمل أمر شريف وواجب على كل إنسان مهما كان رفيع المقام وافر الثروة. وبهذه الواسطة يقنع كل فقير بما يحصله بتعبه ونشاطه، ولا تعود نفسه تطمح إلى التقاعد والكسل، بخلاف إذا تصدقت عليه بالمال، فإنه تدب فيه روح الكسل ويميت فيه عاطفة الشهامة فيجنح إلى التواني وقلة الشغل، فتسوء حالته تدريجا ويصبح عضوا غير نافع في المجتمع الإنساني، ويجر على عائلته الويل والمصائب.
وقال في بعض كتبه عن فساد المجتمع الإنساني: إن تاريخ الإنسان من حين وجوده لغاية الآن تاريخ ظلم وجور وحرب وخصام. والناس مختلفون في تحديد الظلم والجور، فإذا أتيح لكل واحد أن يقاوم ما يحسبه ظلما وجورا لامتلأت الدنيا بالحروب والخصومات، وأفضل شيء لملافاة هذه الشرور الكثيرة أن يفعل كل واحد الخير مع غيره بدلا عن الشر، فتصلح أحوال الناس عما هي عليه من الظلم والجور.
أما سبب زيادة الشقاء ووقوع الجرائم فهي لأن كل إنسان في هذا العالم يهتم بنفسه ويسعى لصالحه الخاص، بدون أن ينظر إلى أخيه في الإنسانية مهما كانت حالته. فلو اهتم الأغنياء وكبار السن وألفوا الجمعيات وأنشئوا المعامل وجمعوا للعمل فيها المتشردين وذوي الفاقة؛ لانقطعت اللصوصية واللصوص عن وجه الأرض؛ لأنهم يخلدون إلى السكينة والانصباب على العمل. وإذا بحثنا عن أحوال اللصوص وقطاع الطرق نرى أن سبب اندفاعهم إلى إقلاق راحة الناس وسلبهم هو العوز والاحتياج، فعدم اهتمام الأغنياء والحكومة بالفقراء وذوي البأساء وتركهم وشأنهم يدخلون الحانات وبيوت الفساد والرذيلة؛ لقلة العمل بسبب وجود الفساد والشر. والحكومة إذا تسنى لها وقوع أحد المجرمين في قبضة يدها تقوده إلى المحاكمة وتستدعي الأغنياء المنتخبين أعضاء لديها، فتحكم عليه وتزجه في السجن مع أولئك المنكودي الحظ الذين حرمتهم الحرية وعلمتهم البطالة والفساد وقادتهم إلى الرذيلة والشر، وهي - أي الحكومة - تظن أنها بزجها المجرمين في السجن تقوم بواجباتها نحو الهيئة الاجتماعية، غير عالمة بأنها تقترف جريمة لا تغتفر مع أخيها في الإنسانية الذي قادته إلى السقوط، وكان في وسعها أن تخلصه من الحالة التي آل إليها أمره؛ لأن السجون لا تؤثر في حالة الناس بل تزيد في تعاستهم، والهيئة الاجتماعية ليست قائمة الآن بسطوة القضاء وقوة المحاكم، بل لأن الناس لا يزالون يحبون بعضهم بعضا ويشفقون على بعضهم.
وقال يصف الشرور: إن الفلاح الذي يفلح أرض غيره ويبتاع ضروريات الحياة بالثمن الذي يطلب منه لا يستطيع أبدا أن يصير غنيا مهما كان مجتهدا مقتصدا. وأما الرجل المسرف المبذر الذي يتسرب في مناصب الحكومة أو ينال الحظوة لدى أربابها، أو يصير مرابيا أو صاحب معمل أو بنك أو تاجر خمر، أو ينشئ بيتا للمومسات؛ فهذا ينال الغنى من أقرب طريق، وأمثلة ذلك كثيرة حولنا.
ثم قال: علام نرى الرجال الأقوياء الماهرين المعتادين التعب، وهم الفريق الأكبر من بني البشر، يخضعون لأناس ضعفاء الأبدان، لرجال أخناث أو شيوخ عجزة؟ لماذا نرى الأقوياء يتبعون لهؤلاء الضعفاء؟ لأن الضعفاء قد امتلكوا الأرض وخيراتها والمعامل وما فيها. والحق الذي يمتلك به الغني الأرض ويجني ثمار ما يتعب به غيره، لا ينطبق على مبدأ من مبادئ العدل والإنصاف، وما هو إلا اغتصاب تؤيده القوة الحربية.
وقد صار العمال آلات لقهر إخوانهم بصيرورتهم جنودا للحكومة وآلات في يدها للقتل والفتك. وما دام الناس يحللون قتل غيرهم تبقى الجنود في يد الحكومة؛ أي في يد فريق ضعيف من الناس، ويبقى هذا الفريق مستعينا بهم على ابتزاز الأموال من الذين يكسبونها بعرق جبينهم. وشر من ذلك أن رجال الحكومة يفسدون جمهور الناس، ولولا ذلك ما استطاعوا التسلط عليهم وابتزاز أموالهم. وأصل كل الشرور ما رسخ في الأذهان من أن تجنيد الجنود لقتل الناس ليس إثما، بل هو شرف كبير وعمل نبيل، لذلك لا تزول الشرور من الدنيا بتحرير الفلاحين ورفع الضرائب وتكثير الآلات والأدوات، ولا بإبطال الحكومات الحاضرة، بل بإبطال كل تعليم ديني يجيز للناس أن يحملوا السلاح لقتل غيرهم.
وقال عن السعادة في زمن صباه: ورد على فكري ذات يوم فجأة أن الموت ينتظرني كل ساعة وكل دقيقة، وقد حتمت دون أن أدرك تلك الحقيقة التي لم يدركها الناس السالفون أن خير واسطة لسعادة الإنسان هي أن يتمتع وينتفع بالحاضر ولا يفتكر بالمستقبل، فأثر في نفسي هذا الفكر تأثيرا شديدا حتى إني خضعت له وتركت الدرس ثلاثة أيام متوالية، واضطجعت على سريري وتفكهت بمطالعة الروايات وتلذذت بأكل الحلوى وألذ المأكولات.
والفيلسوف لم يدع وسيلة من وسائل الدفاع عن الأمة الروسية لم يستعملها؛ فقد كتب الكتب العديدة وصف بها الشعب وما هو عليه من الجهل المطبق والفقر المدقع، ووصف سجون ومنافي سيبيريا وما يقاسي بها ألوف المجرمين السياسيين من صنوف العذاب والهوان، وأظهر في كثير من كتبه فساد الحكومة الروسية وعمالها، وكتب للقيصر مرارا عديدة .
وإنني إتماما للفائدة أذكر بعض فقرات من كتاب رفعه للقيصر يدل على جرأته وعدم مبالاته بما ينجم عن ذلك من النتائج الوخيمة التي تصدر كل يوم عن حكومة اشتهرت بالحجر على المطبوعات والمنشورات والضغط على الأفكار الحرة ومصادرة أصحابها وإلقاء القبض عليهم وزجهم في غياهب السجون أو نفيهم إلى مجاهل سيبيريا الكثيرة الجليد والصقيع. وهاك بعض ما جاء في الخطاب الموجه إلى القيصر ورجال حكومته:
إليكم نرفع خطابنا يا ولاة الأمور من القيصر وأعضاء مجلس الحكومة الأعلى والوزراء وأقارب القيصر من أعمامه وإخوته، وكل الذين يستطيعون أن يكلموه. إليكم نرفع خطابنا لا كأعداء بل كإخوة مرتبطين معنا ارتباطا متينا أردتم ذلك أو لم تريدوه، حتى إذا حلت بنا البلايا أصابكم شيء منها؛ ليس اللوم على الذين يثورون، بل اللوم كله عليكم لأنكم لا تفتشون إلا عن راحتكم ورفاهيتكم. وقد كان الواجب عليكم أن تفتشوا عن سبب الثورة والشكوى وتزيلوه. والناس مسالمون بالطبع لا يطلبون الخصام والعداء، بل يفضلون الوفاق والمسالمة. فإن كانوا قد ثاروا عليكم الآن وطلبوا الإيقاع بكم، فلا يكون ذلك إلا لأنهم وجدوكم مانعا يمنع عنهم وعن الملايين من إخوانهم أعظم نفع يطلبه الإنسان في هذه الدنيا وهو الحرية والعلم. وغاية ما يطلب منكم لكي لا يبقى سبيل لثورة العامة عليكم وهو نافع لكم أيضا لأجل راحتكم وسلامتكم؛ هذه الأمور الطفيفة، وهي:
أولا:
المساواة بين الفلاحين والعمال وغيرهم من أهل الطبقات العليا. في أمور ذكر تفصيلها بخطابه مثل: «إلغاء القوانين التي تربط العمال بأصحاب الأعمال، وإعفاء الفلاحين من الأموال الأميرية التي تأخرت على غيرهم، ومن أخذ جواز السفر إذا أرادوا الانتقال من مكان إلى آخر، ومن تقديم الخيل والعلائف لرجال الحكومة لا سيما رجال البوليس، ومن العقاب بالضرب».
ثانيا:
إلغاء الحكومة العرفية التي تلجئون إليها آونة بعد أخرى، فتسلطون على الرعية أناسا ظالمين فاسقين سخاف العقول.
ثالثا:
إزالة كل الموانع التي تمنع تعليم أولاد العامة، لكي يتحرر جمهور الروسيين من ربقة الجهل، والجهل أكبر معين للحكومة على الاستبداد بهم.
رابعا:
إطلاق الحرية الدينية لجميع الأمم القاطنة في جميع أنحاء المملكة الروسية، على اختلاف أجناسهم ومللهم.
هذه بعض فقرات من فلسفة تولستوي المنثورة في كتبه العديدة، التي لا يمكن الاطلاع عليها برمتها إلا من مطالعة مؤلفاته. وهذا النزر القليل الذي أوردناه يدل بصراحة على سمو مبادئه الشريفة وأفكاره الحرة التي بسطها في تآليفه التي نقلت إلى جميع لغات الدنيا الحية، وصادفت استحسان أفاضل المفكرين وعقلاء الناس المنصفين.
ولكن أكثر مؤلفاته طبعت خارج روسيا لعدم تصريح الحكومة بطبعها، وكان نفع الأمة الروسية منها قليلا لأنه لم يطالعها غير فئة مخصوصة بذلت وسعها في سبيل الحصول عليها بالطرق السرية، مع علمها أنها تعرض نفسها لخطر الوقوع في أيدي الحكومة التي شددت في منع دخول تلك المؤلفات إلى بلادها، وحكمت الأحكام القاسية على كل من وجدتها عنده.
وقد استغرب الناس كثيرا سكوت الحكومة الروسية عن محاكمة الفيلسوف أو نفيه، مع أنها حكمت أحكاما عديدة على تابعيه وتلاميذه وناشري كتبه، ولذلك أسباب عديدة، أهمها: علم الحكومة بوفرة عدد أتباعه، وكلهم من شبان الطبقة الراقية، فإذا ألحقت به أذى فإنها تثيرهم ضدها، وتكون سببا في إحداث ثورة عامة في أمهات المدن الروسية.
وقالت إحدى الجرائد الأجنبية إن الحكومة الروسية تركت الفيلسوف وشأنه ولم تلحق به أذى خشية من انتقاد أوروبا عليها التي تقدره حق قدره وتعده أعظم فيلسوف ظهر في هذا القرن.
قال بعضهم إن الحكومة خشيت بأس أقارب تولستوي العريقين في الحسب والنسب والقابضين على زمام الوظائف العالية في الحكومة الروسية، فضلا عما لهم من الأطيان الواسعة التي يقطنها ألوف من الفلاحين التابعين لهم وفي إمكانهم إثارتهم ضد الحكومة. وقالوا غير ذلك من الأقوال المتضاربة بهذا الشأن.
نامعلوم صفحہ