وهكذا تحايل عليها فلبت رغبته. •••
ليست ملابس النحال وأدواته الرئيسية للعمل سوى أشياء بسيطة ميسرة؛ فأولها: القناع، وأفضل أنواعه ما كان يحتفظ به أمين لنفسه ولزائريه، وهو عبارة عن سياج من السلك الرقيق الخفيف المسود كاف لإحاطة الرأس، وقد جزئ وربطت أجزاؤه بشرائط من الجلد بحيث يمكن ثنيه وتطبيقه كما يطبق الكتاب، وخيط في كل من أعلاه وأسفله نسيج متين شبكي، وهيئ لهما من الخيط المتين ما يسمح بربط الجزء الأعلى حول قبعة النحال، وما يسمح بربط الجزء الأسفل حول وسطه، وهكذا يستطيع النحال أن يحمي رأسه وصدره حماية تامة من لسع النحل دون أن تضايقه حرارة الجو إذا ما اشتدت؛ لأن القبعة تقيه من أشعة الشمس، ولأن النسيج الشبكي يسمح للهواء بملاطفته فيستمر في عمله مطمئنا مرتاحا، وهذا الطراز من القناع أمريكي الأصل كسائر أدوات النحالة العصرية الممتازة التي جلبها أمين معه من أمريكا، وإن عمل على محاكاتها في مصر خلقا لصناعة جديدة في بلاده بدافع من وطنيته. كان أمين يحتفظ في كل منحل من مناحله بأدواته الخاصة، ولو أن هذه الأدوات الأمريكية العملية المتينة مصنوعة في أشكال وأحجام تسمح للنحال المتنقل المقتصد أن يكتفي بمجموعة واحدة منها يضعها في حقيبته الصغيرة ويحملها معه حيثما ذهب، ولكن أمين مع تنويهه بالروح العملية عند الأمريكيين وبمتانة مصنوعاتهم كان يؤثر استقلال كل من مناحله - وكان يغالي في الاحتياط؛ فيعدد أدواته حتى لا يتعطل عمله إذا ما تلف بعضها.
أما ثاني هذه الأدوات الرئيسية: فمدخن من النحاس مرتبط بمنفاخ من الجلد والخشب، يصعد الدخان البارد الهادئ من فوهته إذا ما أوقدت داخل أسطوانته النحاسية لفيفة من الورق الأصفر المقوى الملائم لذلك، والغرض من التدخين عند باب الخلية قبل فتحها ثم في أثناء العمل: إيهام النحل بأن خليتها في خطر من الاحتراق، فتهرع إلى أقراص العسل لتتزود منها استعدادا لهجرة الخلية إذا ما اضطرت إلى ذلك فيشغلها هذا عن لسع النحال، كما أن امتلاء كيسها العسلي في بطنها بالعسل لا يجعلها تواقة إلى اللسع، وربما لا يجعلها متمكنة منه بإبرتها الجاثمة في طرف بطنها.
وأما ثالث هذه الأدوات الرئيسية: فالعتلة، وهي غالبا صغيرة الحجم يبلغ طولها نحو العشرين سنتيمترا وعرضها نحو خمسة سنتيمترات، وقد ثني أحد طرفيها؛ لينتفع به النحال في تنظيف جدران الخلية وإطاراتها ونحو ذلك، وترك الطرف الآخر حادا نسبيا؛ ليستعمله مفكا، وليستعين به على فصل إطارات الخلية بعضها عن بعض وعلى تنظيفها أيضا، وثمة أشكال منوعة للعتلة ولكنها أساسيا لا تخرج عن هذه الصورة وعن هذه الغاية وإن اختلفت الأحجام، ولكنها جميعها تصنع من الصلب المنكل اتقاء لكسرها وحرصا على نظافتها مع تجنب الثقل في وزنها.
ولا بد للمنحل من أدوات أخرى هي أساسيا أدوات النجارة؛ لإصلاح ما يصيب الخلايا وأثاثات المنحل من تلف، ولكن النحال في عمله المباشر بين النحل لا يحتاج إلى أكثر من قبعته المصنوعة من القش الخفيف وقناعه ومدخنه وعتلته.
أما الأدوات الأخرى الخاصة بمنتجات النحل من فراز للعسل ومنضج له وفراز للشمع ... وما إلى ذلك، فاستعمالها محدود معين، ولا تصحبه في تنقلاته بين الخلايا حينما يفحصها. •••
لبس أمين قبعته وقناعه، وأعد المدخن حتى إذا ما أقبلت بثينة عليه شعر كأنه صاحب مملكتين بل من رعايا كليهما ... فبادرها قائلا: ما أجملك يا بثينة في ملابس الرجال، وما أشهى قبلة منك في سمتك هذا، ولكني عاقبت نفسي بهذا القناع، وها أنذا أسير لك وله!
فتضاحكت بثينة ملء مرحها، وقالت: أيشتهي نحال من زميله النحال مثل هذه القبلة؟! - لقد علمتني يا بثينة أن يكون حبي أفلاطونيا. - الحقيقة يا أمين، أنكم معشر الرجال إذا ما تعلقتم بالأنوثة عادة فإنكم تعشقونها أكثر إذا امتزجت ببعض الرجولة، فإذا لم تجدوها في النفس تلمستموها في الملبس.
لم يشأ أمين أن يثقل على بثينة في درسه الأول بالكثير من المعرفة، فاكتفى بفتح خلية فحسب بعد أن دخن على بابها قليلا، وقد اختار طائفة هادئة، وأراها كيفية ترتيب الأقراص داخلها، وتجمع النحل فيما بينها عاملة دون جلبة، فاستأنست لما رأت وطالبته بالمزيد فتمنع في مكر، واستدرجها إلى التعاهد على مزاملته والدراسة عليه دراسة منتظمة، واتفقا على أن تصحبه أسبوعيا إلى هذا المنحل وإن لم تعفها هذه المصاحبة من التردد معه على المناحل الأخرى إذا ما دعت الحاجة التعليمية إلى ذلك.
قالت بثينة: لقد جرى الوقت أضعاف سرعته، وها هي ذي الشمس تؤذن بانتصاف النهار، فلأذهب لأعد الطعام، وكان يحسن بي أن لا أتعبك اليوم وأن نقضيه في مرح شامل. - وأي مرح ألطف من هذا يا بثينة، يا أنشودتي الحلوة ويا نعيمي؟!
نامعلوم صفحہ