ثم إنه تأمل قليلا في أمر والدته، ماذا تقول إذ يبلغها عزيمته على الزواج بعفيفة؟ هل تقبلها زوجة له على فقرها؟ إذ هي لا تفكر إلا بامرأة غنية، ولا ترى السعادة إلا بالغنى، فتنهد لخطور هذه الخواطر فيه.
فأبصرت ذلك عفيفة وبلغ التنهد أذنيها فقالت: ما بالك تتنهد وأرى علامات الحزن بادية على وجهك؟ فإن كنت أنا السبب في ذلك رجوت منك السماح.
قال: بل أنا أرجو سماحا، فإني بدلا من تسليتك وتعزيتك وتسرية الكرب عنك في وحدتك قد زدتك غما وحزنا.
قالت: لا، بل إنك واجد في أمور تكدرك، ولكنك سيد كريم كتوم لا تريد إخباري لئلا تغمني، وتراني في حضورك هنا حزينة باكية، فتسعى في تعزيتي وتسليتي، وتوبخني أحيانا على فرط حزني، وإن كنت في باطن الأمر تعذرني، فلما حضرت اليوم ووجدتني أبتسم على خلاف عادتي ظننت أن أوجاعي قد زالت وأحزاني قد فترت، وربما توسمت من ذلك نسياني لوالدتي، وهي نصب عيني وأحزاني مستمرة ما بقيت في هذه الحياة الدنيا.
قال: هذا ضرب من اليأس لا يجمل بالعقلاء، فالعاقل من يسلم إلى أحكام الله، ويصبر على المصائب مهما بلغت منه الشدة، فإنه لا راحة في الكون حقيقة ولا سعادة تدوم، وكل شيء زائل باطل، وكل بداية ولها نهاية، ولا يدوم غير وجه الله الكريم.
قالت: الصبر كلمة لا تجول في خاطري البتة والسلوان لا أعرفه، وليس لي غير البكاء سمير، فلأبكين والدتي - كما بكيتها يوم وفاتها - حتى تزهق روحي، وإن كان خمودا في أحزاني، فإن ذلك الخمود يعقب شدة تذر ما قبلها.
وهنا انهملت الدموع من عين عفيفة، وكثر اضطرابها واصفرار وجهها، فانفطر قلب فؤاد لرؤيتها، فقال لها: هوني عليك يا عزيزتي، وسكني البال، فليس يخفى علي كثير محبتك لوالدتك، وفرط حزنك عليها، وأنك تذكرينها على الدوام.
قالت: أتعلم السبب في رؤيتي متهللة في هذا اليوم، فذلك أني رأيت في المنام والدتي وسمعتها تناديني. ثم إن عفيفة جعلت تمرر يدها على جبينها لتجمع شتات أفكارها، وتتذكر ما رأت في الحلم، وقالت: حقا إني رأيت في الأمس أمرا شديد الغرابة، أثر على قلبي تأثيرا كثيرا، رأيت كأني في برية، فهبت زوبعة أتلفت الأزهار وطبقت الأكوان.
قال: ما أظنه حلما، كان عيانا.
قالت: قد بلغ بي الاضطراب مما رأيت حتى غبت عن رشدي، ولا يزال بي بعض الشدة من تأثيره.
نامعلوم صفحہ