فقال لها غانم: تستحلفيني بالأيمان وشرف ابنتي فأجاوبك أن مصلحتها تحملني على رفض التماسك، ولتعلمي أن في قلبي الشفقة عليك، ولكن مبادئي المقدسة تحكم علي بأن أجفوك، ولعلك تتذكرين أني بعد وفاة زوجتي لم أفكر في زواج، وأني آليت على نفسي ألا تدخل بيتي امرأة بعدها، وحاش أن أكون قد حقدت على النساء من أجل ريب رأيته في زوجتي، فلن أذكرها إلا بخير، واحترام الأموات عندي سنة مقدسة، ولكني تذكرت كثرة النفقات التي كنت أغترمها لمرضاتها، والنفقة الكثيرة مكروهة عند الرجل العاقل، ولا غلط أعظم من غلط من يزعم أن المرأة لازمة بمنزل الرجل لترتيبه وتدبير أحواله، فالأمر بالعكس إذ رأيت النساء من بلايا الكون ومصائبه، وعلة الشرور ومصدر كل ضرر، ولذلك فإني أطلب من الله لأحبابي ألا يذوقوا يوما ولا ساعة ما ذقته من الكدر في حياة زوجتي المرحومة بسبب إسرافها وإنفاقها بغير حساب، وخصوصا عندما كنت أرى الخياطة تقدم حسابا بمطلوبها أو التاجر كشفا ببضاعته التي باعها، فأدفع الثمن وروحي من الكدر تكاد أن تزهق، ثم إنه بأسباب النساء تكثر الزيارات والمقابلات وتستمر الولائم، وتتواصل السهرات، وجميع هذا يحتاج إلى النفقات الباهظة والمصاريف الفادحة. فيكف تكون حالة الرجل وهو يرى جنى غرسه مبددا وثمرة أعماله ضائعة؟! فوالله ليس من مصيبة لرجل عاقل حازم تعدل هذه المصيبة، ولو لم تدارك المنية المرحومة عاجلا لهلكت غما وحزنا وكنت في الغابرين. وأكرر القول: إني لا أريد قذفا بها ولا حقدا عليها، فالله يشهد أني حزنت كثيرا على فقدها، وغفرت لها ما أسرفت، وسألت الله أن يسامحها، وإنما أردت تذكيرك بخبرها، وأني أقسمت على نفسي ألا أدخل النساء في بيتي قطعا لأسباب السرف والتبذير، وهو يمين مقدس عندي أحافظ عليه إلى مماتي، وفي هذا كفاية إن كنت تفهمين الإشارة.
قالت: أعجم علي يا أخي كلامك فما فهمته.
قال: كلمتك بالعربية وهي لغة تعلمينها، ونتيجة قولي وخلاصته: أني لا أقبل في منزلي امرأة ولا بنتا، وهذا الشرط فرضته على نفسي من نحو عشر سنوات فحفظته، فلا يسعني الإخلال به البتة، ولشدة حفظي عليه أجريته على ابنتي فأبعدتها من منزلي، وجعلتها في المدرسة تقيم مع ترائبها نائمة قائمة فلا تخرج حتى لم يبق في منزلي أثر جنس النساء ... ومتى خرجت ابنتي فإلى بيت زوجها تدخل لا إلى بيتي، وكذلك فقد أعلمت ابني سعيدا أنه يخرج من منزلي حين يتزوج، فأبقى وحدي بعيدا عن النساء خاليا من الهموم، فكيف يمكنني أن أقبل ابنتك في منزلي وقد أبعدت عنه أبنائي؟!
قالت كريمة: تجفوني هكذا يا أخي، فلا يبقى في قلبك محل لرحمة ولا تشفق على شقيقتك المسكينة؟!
قال: ليس الأمر بوسعي، ولن أحنث في اليمين، فدعي اللجاجة، إنها لا تفيد شيئا.
وكان كلام غانم بصوت جاف يقطع الأكباد تقطيع الحسام الهام، فانفطر قلب أخته، وتمزقت أحشاؤها، وعلمت أن تذللها بين يديه لا يفيد شيئا، فتجلدت لبلواها، وقالت وهي تنظر إليه واجمة حاقدة: تمتع بظلمك قليلا، ها أنا خارجة عنك، أذهب فلا تراني بعد هذا يا قاسي القلب يا عديم الشفقة والرحمة، تهيأ فسيبلغك عما قليل نبأ - والله - فظيع لم تدفعه وأنت مقتدر، فلعلك تندم وتبكت الضمير، ولن ينفع التبكيت شيئا، وقد قضي الأمر ونفذ السهم ... أفارق هذه الدنيا ساخطة عليك لاعنة اسمك داعية بتقطيع قلبك الصخري إن كان لك قلب، وهذا وداعي الأخير إليك لا وداع بعده، ولا لقاء إلا في الآخرة يوم ينصب الميزان، فتحاسب على ما جفوت وعتوت وتجردت من الإنسانية، وتخلقت بالأخلاق الذميمة، وتكالبت في محبة المال تجمعه، وضننت به أن تنفقه في سبيله؛ لتدفع عني وعن ابنتي وعنك العار والشنار. إن ذلك اليوم لرهيب، أجيء مطالبة وابنتي بالعرض المهتوك، وأرفع وإياها الأيدي للانتقام منك يا ظالم.
وهناك انقطع صوت كريمة، فخرجت مسرعة، وهي لا تبصر ما حولها كفاقدة الشعور.
أما غانم فلم يجاوبها بكلمة، ولم ينتقل من مكانه، ولم يتأثر مما سمع كالوحش الذي ليس له قلب، وقال في نفسه وهي خارجة: إنها مجنونة، وليس على المجانين حرج.
ثم نادى الخادم ليدعو هماما، وقد طال عليه الانتظار.
الفصل الرابع
نامعلوم صفحہ