ملک فی منفی عمر

صلاح ہلال d. 1450 AH
41

ملک فی منفی عمر

ملك في منفى العمر

اصناف

وكان أبي يغير كلمات الأغاني ممازحا وهو ينشدها. كذلك زادت إبداعاته اللغوية وهو يتحدث أيضا؛ فقد عادت روح المرح إليه مجددا، وكأن حديقة جميلة مهجورة عاد شيء من جمالها للظهور.

قال ذات مرة: «كنت أشارك في تلك الأمور إلى حد ما.» ثم استدرك قائلا: «ولكن عليك أن تفهم قولي «إلى حد ما» على أنه حد قريب وليس بعيدا.»

أدهشتني كثيرا طريقة تعبيره، وكنت أشعر عند سماعه بأنني أقترب من نبع الكلمات السحرية. قال جيمس جويس، متحدثا عن نفسه، إنه لا يمتلك مخيلة واسعة، ولكنه يترك العنان للغة. وهكذا بدا لي أبي؛ فقد كان يغير الكلمات؛ فمثلا بدل كلمة «مستقبل» كان يقول «مستقفل»، وبدلا من قول «هذه غاية علمي» كان يقول: «هذه نهاية حياتي.» أيضا كان يشدد على نطق الحروف لإظهار المقاطع المختلفة في الكلمات المتشابهة؛ مثل: «عاجل» و«عجول»، أو «أسرع» و«بسرعة». وكان يستخدم أيضا عبارات قديمة لم أسمعها منذ زمن؛ مثل: «هذا طول المفرش الكتان وعرضه، ولن يجدي جذبه من أطرافه وشده.» «من يجد التعثر لا يقع.» «كف عن التظاهر وكأنك وجدت مسامير الحذاء في صحن الحساء.»

وعندما كان ينسى كلمة كان يقول: «لا أدري كيف يمكن أن أسميها.»

كانت الكلمات تنساب من فمه ببساطة، وكان يقول بهدوء ما يخطر بباله، وعادة كان ما يقوله ليس مبتكرا فحسب، بل عميق أيضا، حتى إنني كنت أتساءل كيف أعجز عن قول مثله! أدهشتني دقته في التعبير وقدرته على إيجاد اللهجة المناسبة ومهارته في اختيار الكلمات. فقد قال لي: «أنت وأنا، سيجعل كل منا حياة الآخر أفضل ما يمكن، وإذا فشلنا في ذلك، فعلى الأقل سيخرج أحدنا صفر اليدين.»

في مثل تلك المواقف كنت أشعر وكأنه يخرج من بيت المرض ليتنسم الهواء النقي؛ للحظات كان يعود لذاته. عشنا أوقاتا سعيدة، أجمل ما فيها أنها كانت تأتي رغم أنف المرض.

وفي يوم آخر قال: «أشعر حسب تقييمي للوضع أني بخير؛ فأنا رجل مسن، ويجب أن أفعل الآن ما يحلو لي، ثم أرى إلام سيؤدي.» «ماذا تريد أن تفعل يا أبي؟» «لا شيء، هذا أجمل ما في الموضوع. كما تعلم، يجب أن يكون الإنسان قادرا على ذلك.» •••

إما أن يكون أبي قد فقد القدرة على إدراك مأساته، أو توقف عن الشعور بمدى مأساويتها. حتى عندما اكتشفنا وجود ورم في المثانة عنده بعد أن نزف كثيرا في أثناء التبول، لم يتوتر أبي كثيرا؛ ظل محتفظا بهدوئه، ولكنه تعجب قليلا، إلا أنه بعد إجراء العملية ظل فترة مشوشا بسبب التخدير والمكان الغريب عليه. فرح الجميع عندما سمح الأطباء له بالعودة إلى البيت، وهناك تحسنت حالته بسرعة، وعرف على الفور أنه في البيت. وكان لذلك دلالته.

وعندما كان في المستشفى شكا للمشرفة على رعايته دانيلا آلاما يعانيها، ولكنها أجابت بأنها لا تستطيع أن تفعل له شيئا، ولكنها ستبقى بجانبه. عندها قال: «عندما تكونين بجانبي، فإن هذا يساعدني كثيرا.»

اكتشفنا أيضا إصابة أبي بمرض السكري الذي يصيب غالبا كبار السن. وأثبت أبي قدرة فائقة في ابتلاع أقراص الأدوية مهما كان حجمها، دون الاستعانة بأي سوائل، كل صباح، بينما كان يعلو وجهه تعبير عجيب، ولم يكن يشرب إلا بعد أن يستقر الدواء في معدته.

نامعلوم صفحہ