أبو محمد عفيف الدين عبد الرحيم، وأبو القاسم عبد الحميد ابنا الزجاج
ولقينا هنالك الشيخين الفاضلين الإمام الفقيه النحوي الفاضل عفيف الدين عبد الرحيم بن محمد بن أحمد الزجاج، وابن أخيه أبا القاسم عبد الحميد بن محمد المذكور البغداديين قدما من بغداد حاجين، سمعا أبا الحسن ابن روزبة، وسمع أبو محمد منهما ابن اللتي، وأجاز له ابن الحرستاني، وما أدري أسمع أبو القاسم من ابن اللتي أم لا، وذكر لي أبو محمد أنه لم يبق ممن أسأرتهم دخلة التتر ببغداد غيره، يعني ممن كان من أهل العلم.
1 / 5
قرأت عليهما هناك الجزء المعروف بجزء ابن العالي بسماعهما معا من ابن روزبة، وكانت قراءتي في يوم الجمعة الثاني والعشرين لشوال، وكتبا لي خطهما بالإذن هنالك لي وأخواتي نفع الله بهما، وأخبرني شيخنا أبو محمد أنه سمع على ابن اللتي الأربعين حديثا للطائي، بسماعه لها من مؤلفها، قَالَ أبو محمد: وسمعت الأربعين لأبي عبد الله الحاكم، على أبي الفرج بن عبد السلام، بسماعه من الميهني، بسماعه من ابن خلف، عن الحاكم.
ورحلنا منه ضحاء يوم السبت الثالث والعشرين، ومن هناك يرفع الماء إلى الموضع المعروف بجفار المعظم، ونزلنا بالطريق منازل فوافينا جفار المعظم ظهر يوم الخميس الثامن والعشرين لشوال، ووافينا هناك وفودا من أهل الشام، قد وروده قبل مقدمنا.
هناك يوم الجمعة لاستيفاء الوافدين من أطراف الشام، ولم يكن الماء بالكثير الذي يسع الناس دون ازدحام، واجتمع من الخلق ما لا يحصيه العد، حرز الركب الشامي بستين ألف راحلة دون الخيل والبغال والحمر، فكان يملأ السهل والحزن.
1 / 6
وأهل هلال ذي القعدة ليلة السبت، وسافرنا منه ضحوة يوم السبت، ونزلنا منازل بالطريق إلى أن وافينا تبوك ظهر يوم الجمعة السابع لذي قعدة، وهي أدنى أرض الشام إلى المدينة، وضبط هذا الاسم بفتح التاء المثناة من فوق في أوله، وهي أقصى أثر رسول الله ﷺ، وحين دنونا منها بأميال خمسة أو ستة عبأ الناس الجيش وتزينوا بالأسلحة، ورتبت الرجال والفرسان وخلفهم الرواحل ونزل كثير من الناس عن رواحلهم، وساروا بها يسوقونها منتسقة، وعبؤوها بجزل الحطب حتى كأنها مراكب بحرية موسقة، وذلك لتعذر الحطب بأرض تبوك إلا على بعد منها.
ويذكر الناس أنهم يعبئون الجيش عند دخولها، عادة لهم يزعمون فيها الاقتداء لأنه ﷺ دخلها كذلك، والله أعلم.
ولا شك أنه انتهى إليها ﷺ وأقام بها ولم يتجاوزها، وكانت مدة إقامته بها فيما ذكر الرواة عشرين ليلة، وهي آخر غزوة غزاها رسول الله ﷺ بنفسه سنة تسع من الهجرة، أذن فيها رسول الله ﷺ للمسلمين في غزو الروم، وذلك في شهر رجب من السنة، وعاد ﷺ إلى المدينة في شهر رمضان ولم يلق حربا.
وكانت له بهذه الوجهة ﷺ معجزات: منها المعجزة الباقية آثارها ما بقي الدهر، وهي
أَنَّهُ ﷺ عِنْدَمَا شَارَفَهَا أَوْ دَنَا مِنْهَا، قَالَ: " إِنَّكُمْ
سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلا يَمَسَّنَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ، فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبُضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ فَقَالا: نَعَمْ.
1 / 7
فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، قَالَ: ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَينِ قَلِيلا قَلِيلا، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ، فَاسْتَقَى النَّاسُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُوشَكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا» .
وَهَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْدَ ذِكْرِهِ صَدْرَ الْحَدِيثِ، وَالْحَدِيثُ بِجُمْلَتِهِ مِمَّا قَرَأْتُهُ بِتُونُسَ عَلَى الأَدِيبِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّائِيِّ الْقُرْطُبِيِّ مِنْ ضِمْنِ كِتَابِ الْمُوَطَّأِ بِسَنَدِهِ الْعَالِي.
أنا أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ بَقِيٍّ قِرَاءَةً لِبَعْضِهِ وَسَمَاعًا لِسَائِرِهِ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ أَحْمَدَ الْخَزْرَجِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ فَرَجٍ، أنا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أنا أَبُو عِيسَى يَحْيَى بْنُ
1 / 8
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عِيسَى، أنا عَمُّ أَبِي أَبُو مَرْوَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى أنا أَبِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا مَالِكٌ ﵁، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ " أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ تَبُوكَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجْمَعُ بَيْنَ الْظُهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ ".
وَذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ كَمَا قَدَّمْتُهُ حَرْفًا حَرْفًا.
قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الاسْمَ أَعْنِي تَبُوكَ وَاقِعٌ عَلَيْهَا قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ ﷺ
وذكر أبو عبيدة البكري في كتابه المسمى بمعجم ما استعجم ما نصه: وذكر القتبي من رواية موسى بن شيبة، عن محمد بن كليب: " أن رسول الله ﷺ جاء في غزوة تبوك وهم يبوكون حسيها بقدح، فقال: ما زلتم تبوكونها بعد؟ فسميت تبوك، ومعنى تبوكون تدخلون فيه السهم وتحركونه ليخرج ماؤه ".
1 / 9
قلت: صدق ﷺ فقد رأينا هذا الموضع قد ملئ جنانا من نخيل وبينها يسير زرع للأعراب، وهذه العين صهريج كبير مطوي بالحجر يجتمع فيه ماء كثير، ويخرج منه إلى جفر آخر كبير، يجتمع فيه ماء يسيل من ذلك، وماؤها كثير عذب، فاغتسلنا من هذه العين المباركة وتضلعنا من مائها الطيب المبارك.
وبمقربة من العين أصل شجرة يابس فيه غصن كبير ناعم أظنها سدرا يزعم الناس أنه ﷺ قعد هناك فاخضرت الشجرة والله أعلم، ولقد اتفق لي هناك أن أخذت يسيرا من لحائها بسكين الأقلام، على حكم التبرك لما ذكر من أمرها، ولأني رأيت بعض من حضر هناك أخذ شيئا منها متبركا، فرأيت شخصا قد أقبل إليّ لم أعرفه قبل ولا بعد، فقال لي: حتى أنت تفعل ذلك؟ فقلت: ولم؟ وما تنكر من ذلك؟ فقال: إن كان حقا ما ذكر فيقتدي الناس بك في الأخذ منها فيفنيها الناس، فيذهب هذا الأثر المبارك فتكون سبب إذهابه، وإلا يكن فيقتدي الناس بك في باطل، أو معنى هذا الكلام، فشكرته وانصرف.
رجع إلى أبي محمد ابن الزجاج واجتمعت هنا لكم أيضا بالشيخ الفقيه المحدث الفاضل عفيف الدين أبي محمد عبد الرحيم بن الزجاج البغدادي، قدم من بغداد حاجا، وهو من بقية علمائها الذين أسأرتهم دخلة التتر بغداد، وقد تقدم ذكره وقرأت عليه يسيرا " من كتاب البخاري، وأخبرني بجميعه، إذنا معينا، بسماعه لجميعه من أبي الحسن بن روزبة والقطيعي، بسماعهما لجميعة من أبي الوقت أحاديث غزوة تبوك بتبوك
1 / 10
وقد أعلمت على ذلك في موضع آخر لم يقع لي الآن ذكره، ولا أشك أن من جملتها حديث: «السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل الرجوع إلى أهله» .
وذلك في التاسع لذي القعدة عام أربعة وثمانين وست مائة، وكانت القراءة في أصل عتيق فيه رواية الحمويي وغيره مفسرة، وكأنه تكره من القراءة في غير أصل سماعه أو ما عورض به فأعجبني منه ذلك ولم أحمل عليه في الازدياد.
وأقمنا هناك بقية يوم الجمعة إلى ظهر يوم السبت الثامن لذي قعدة، ورحلنا من هناك، ومن تبوك يرفع الماء إلى العلى، وما بينهما أشق شيء في الطريق، وأقله ماء لأنه ليس فيه ماء أصلي سوى بئر بوادي الأخضر، قل أن ينفي بالركب، وقد هلك فيه في بعض الأوقات خلق كثير وعدد كبير، لكن من الله الكريم بلطفه وصادفنا بالطريق من ماء المطر نحو سبعة أمواه.
وفي ذلك الطريق في مواضع منه عديدة بصائط كثيرة فيها حصى أبيض رائق كثير الصفاء والبريق في لون البلور كأنه حب اللؤلؤ لصفائه وحسنه وكثرة مائه
1 / 11
وشفوفه، كأنما جزر عنه البحر يلتقطه الناس هنالك، وهو يقبل الجلاء لصفائه ويكون معه غيره من الحصى الأحمر والأسود ولكن كالبحري ليس بشفاف ولا صاف، وأظن هذه الحصى هي التي عنى القائل، أنشده لنا بعض أصحابنا:
دمشق بنا شوق إليها مبرح ... وإن لج واش أو ألح عذول
بلاد بها الحصباء در، وتربها ... عبير، وأنفاس الرياض شمول.
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل
فيكون الشاعر نسب هذه الحصباء إلى دمشق لأن موضع هذه الحصباء بأطراف الشام، فإن أول مكان لاقيناها به عند خروجنا من تبوك أو لعله يوجد في جهات دمشق.
ومما جرى لنا في هذه الصحراء، وغالب ظني أن ذلك كان صبيحة الليلة التي عقب يوم انفصالنا عن تبوك، فهب علينا نسيم طيب عند السحر، أوجد نشاطا أزال كسل السهر، فقلت لرفيق لي: ما هذه الرائحة؟ ولم أكن أعرف للشيخ طيب ذلك العرف.
أشيح الفلا ما نم أم عنبر الشحر ... أم العرف أهدت طيبة طيب النشر
فناولني غصنا عطر النفس، لم أدر حقيقته من الغلس، فقد قلد من الأنداء دررا وسقته المزن من أخلافها دررا، فسألت بعض الأعراب: ما هو؟ فقال: هذا هو الشيحُ، فقلت مطلع هذه الأبيات، ثم تشاغلنا بأداء صلاة الصبح، وصلات ذلك النسيم تنعم الأنوف بالنفح، فتذكرت المطلع بعدما تممت عليه:
أشيحُ الفلا ما نم أم عنبر الشحر ... أم العرف أهدت طيبة طيب النشر
وإلا فما بال الرياض تعطرت ... وما لثغور النور تبسم عن در؟
1 / 12
وما بال أدواح البطاح تأطرت ... وجرت ذيولا من غلائلها الخضر؟
وما لفصاح الطير تعلو منابرا ... تردد ألحانا على مزهر الزهر؟
وما بال أرواح الصباح تذاءبت ... تفاتح بالبشرى وتتحف بالبشر؟
نعم هو عرف من نواحي معرف ... سرى ملقيا ما حملوه من السر
ترى علموا أني فقدت خيالهم ... لفقدي الكرى، فالطيف نحوي لا يسري
فأهدوا مع الريح الشمال شمائلا ... سقتني شمولا فانثنيت من السكر
على أن بعد الدار يعذر طيفهم ... فيثنيه إن جد السرى مسفر الفجر
بشير الرياح المهديات بشائرا ... حقيق علينا أن تقابل بالشكر
فحل ضلوعي منزلا إن رضيتها ... وعذرا فقلبي بالمكان الذي تدري
ومن كبدي أقريك وهي نضيجة ... ومن أدمعي أرويك إذ لم تزل تجري
وبالله إلا ما أقمت مكرما ... لدينا، ولا ترجع سريعا على الإثر
فقال: تكفلت الجواب وإنني ... وفي بعهدي لا أميل إلى الغدر
فناديته بلغ سلامي وقل لهم: ... أقام لعذر صده ذو الهوى العذري
فكان لقائي والوداع معا فلا ... تسل كيف حالي حين ولى مع الصبر
وما زلنا نتعرف التيسير والتسهيل والصنع الجميل في كل حل وترحال إلى أن وافينا الحجر حجر ثمود ليلة الجمعة الرابعة عشرة لذي قعدة، عند الغروب ولكثرة الازدحام لم يتأت النزول حتى قضى هزيع من الليل، وبتنا تلك الليلة في الموضع المعروف بمبرك الناقة.
1 / 13
ولما نزل رسول الله ﷺ بالحجر في غزوة تبوك استقى الناس من بئرها فأمرهم رسول الله ﷺ ألا يتوضؤوا من مائهم ولا يشربوا ولا يعجنوا منه، وما عجنوا منه فليعلفوه الإبل، وأمرهم أن يستعملوا في كل ذلك من ماء بئر الناقة، وأمر ﵇ أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم أعني بيوت أهل الحجر إلا باكين، ونهاهم ﵇ أن يخرج أحد منهم تلك الليلة منفردا دون صاحبه، ففعل الناس ما أمرهم به ﷺ إلا رجلين من بني ساعدة خرجا متفرقين: أحدهما للغائط فخنق على مذهبه، فأخبر بذلك النبي ﷺ فدعا له فشفي، وخرج الآخر في طلب بعير له فاحتملته الريح حتى طرحته في آخر جبلي طيء، فأهدته طيء إلى رسول الله ﷺ حين قدم المدينة.
ورحلنا من هذا الموضع في آخر الليل، وشاهدنا في صبيحته من عجائب صنع الله ما يقف فيه الطرف، ويحار فيه الوصف، من الدور المنحوته في الجبال، المحكمة الصنعة، البديعة الإتقان، الفارهة النقش، وأكثرها لم يتغير كأنها قريبة العهد بالصنعة، وبعض تلك المساكن قد أخل بها نفوذ مياه الأمطار لأحجارها فتشقق بعضها، وصورة هذا الحجر أرض رملة متسعة، تحف بها جبال، كأنها أسوار لها، ولها مدخل ضيق كأن جانبيه مصرعا باب في غاية العلو، ومنه كان دخولنا إليه، وما وصفنا من التضايق عليه، وأثناء هذه الأرض المحجورة جبال صغار، فيجيئون إلى تلك الجبال الصغار فيمسحون وجه الجبل بالنجارة، ويحكمون تسويته بالنحت، ويفتحون فيه أبوابا، وينقشون جوانبها وأعاليها بأبدع الصنعة، ثم يتسعون في نقر الجبل قبالة الباب، وعن يمينه ويساره، ويصنعون فيه بيوتا.
1 / 14
وشاهدنا بعض هذه البيوت مملوءا عظاما، وظاهر أحوالهم أن خلقهم كانت كخلقنا، إذ أبواب بيوتهم وزواياها على مقادير أبوابنا المعتادة في الارتفاع، والله أعلم.
وفي ظهر يوم الجمعة المذكور نزلنا العلي، وأقمنا به يوم السبت الخامس عشر، وهو موضع فيه مياه بعضها في أحساء، وبعضها جارية في رمال، وبها نخل وزرع وحصن ودور.
وفي ذلك الموضع يودع أهل الشام فضول أزوادهم عدة للعودة بعد قضاء الحج والزيارة، يخففون بذلك عن رواحلهم.
وهذا الموضع لا أعرف هذا الاسم له مذكورا في الكتب، فلعله كان يسمى باسم آخر.
وقد ذكر أبو عبيد البكري في كتابه معجم ما استعجم العلاة بفتح أوله على وزن فعلة أرض بالشام، قلت: فلعله هو فغير، والله أعلم.
وذكر أبو عبيد أيضا في ترجمة العوصاء، بالصاد المهملة ممدودا، وهي بلد من أرض الشام ما نصه: «قَالَ الحارث بن حلزة يذكر قتل عمرو بن هند الحارث الغساني، بأبيه المنذر وأخذه ميسون بنت الحارث، وقبتها» .
إذ أحل العلاة قبة ميسون ... فأدنى ديارها العوصاء
ثم قَالَ: العلاة أرض قريبة من العوصاء، وهي أقرب منزل أنزلها فيه عمرو حين أخرجها من الشام.
1 / 15
ورحلنا من العلى غدوة يوم الأحد السادس عشر من ذي قعدة، وقد تضاعف الشوق وبرح الوجد، فسرنا على اسم الله تعالى منزلا منزلا إلى أن بلغنا وادي القرى، وأكثره خراب، فتجاوزناه والأرواح تكاد تفارق الأجساد شوقا إلى طيبة.
وفي عشي يوم السبت الثاني والعشرين تلقانا قريب العصر أهل المدينة على ساكنها الصلاة والسلام، مبشرين بالوصول إلى حضرة المصطفى الرسول ﷺ، وجالبين من تمر المدينة ما يتحفون به القادمين ملتمسين رفدهم، وقد صنعوا عصيا في أطرافها أوعية صغار، فيجعلون فيها شيئا من التمر ويناولونه أهل القباب المسترة من بين ستورها، فيعطي كل أحد ما تيسر له من الرفد، ويدفعون إلى الركبان والمشيان أيضًا من ذلك على حكم التحفة والهدية، فيحسن كل على قدر وجده، ويقسمه الناس بينهم متبركين مستبشرين، ولقد رأيتهم يحنكون به الأطفال الصغار التماسا للبركة، وحق لهم ذلك.
وأصاب الناس عند الغروب مطر شديد لم يمكن معه تمادي المسير ولا ارتياد المنزل، فنزلوا في جوانب الوادي وتضايق حتى نزلوا بطنه، وكان هذا المنزل بمقربة من الموضع الذي يسمونه عيون حمزة، وتمادى المطر حتى طفيت النيران الظاهرة، والتهبت النيران الباطنة، وعصم الله من طروق السيل في تلك الساعة.
ولقد صلينا العشاء الآخرة في تلك الليلة، والماء على وجه الأرض يغلب
1 / 16
سيحا على الوجوه إلى أن ارتفع المطر وأصحت السماء، وأوقد الناس النيران، وتدفئوا ونشفوا أثوابهم، ولم يكن أصابنا من وقت خروجنا من الشام إلى تلك الليلة مطر لطفا من الله بنا، وكان المطر ينزل أمامنا فما نقدم منزلا إلا ألفيناه قد مطر بين أيدينا، وكأنما أرسل هذا المطر هدية إلينا ليطهرنا، ويفيض من البركات علينا فمكثنا هناك على مهاد القلق وفرش الشوق لم نكتحل بنوم.
وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار
إلى أن بقي من الليل نحو الربع وأخذنا في الرحيل، وارتفعت أصوات الحداة، وخفت الركاب واختفت، واهتاجت القلوب وخفقت، وهمعت الدموع حتى لقد كاد يسمع وقعها، ولمعت البروق من آفاق طيبة وتتابع لمعها، فما لمع برق إلا ضج الناس بالتسليم على النبي الكريم، فلله تلك الساعة، ما كان أطيبها، وتلك الأصوات ما كان أعذبها وأطربها.
فرحا بمغناه المقدس تربه ... فرح المحب مبشرا بقبول
إلى أن تنفس الصبح وقد تراءت أعلام طيبة، مطوقة بالنور متوجة بالهيبة، وقد كدنا من الطرب نطير، وعاينا مرأى بديعا ما له في الوجود من نظير، وحين دنونا من جدران المدينة نفحتنا روائح كأنها العبير، فمن الناس من أقدمت به أريحية الشوق فتقدم، ومنهم من تأخرت به الهيبة فأحجم وما أقدم، حتى سكنت منه الحال، وتأهب لمشاهدة ذلك الجلال.
1 / 17
وكان نزولنا على اليمن والبركة بظاهر طيبة شرفها الله وقت الضحاء من يوم الأحد الثالث والعشرين لذي قعدة، فأخذ الناس منازلهم واغتسلوا، وتجملوا للقدوم على الضريح الطاهر، فلله ذاك اليوم ما أعظمه وأسعده وأكرمه، أعزز به من عيد سعيد فاق كل عيد، فهو خير أيام العمر، وأسعد أوقات الدهر، وتاريخ مولد السعادة، ومفتاح الحسنى والزيادة.
ثم دخلنا المدينة شرفها الله للسلام على النبي ﷺ، وقد ملأ السرور قلوبنا وملك التوقير جوارحنا، واستعملنا سنة السلام وحييناه ﷺ بتحية الإجلال والإعظام، ووقفنا حيث حده العلماء من ضريحه الكريم، المخصوص بالتشريف والتعظيم، وقضينا المستطاع من أدب التحية وكادت تغلب الوقار الأريحية ولله در شيخنا الأديب الصوفي أبي يعقوب يوسف بن أبي الحسن على البكري المهدوي عرف بابن السماط حيث يقول، وهو أيضًا قائل البيت الذي تمثلت به آنفا:
وإذا أسأت تأدبي بحماكم ... عفوا، فإني غبت عن معقولي
من ذا يرى حرم الحبيب فيهتدي ... لتميز المعلوم والمجهول
ولي من كلمة في نحو هذا:
وإن أضع أدبا فالصفح ملتمس ... إني بقلب من الإعظام ملآن
من ذا يرى ربع محبوب فيصبر عن ... لثم وتعفير خد فعل ولهان
ثم قضينا حق السلام على خليفة رسول الله ﷺ الصديق، ثانيه في الغار والعريش والطريق، ثم على أمير المؤمنين الفاروق ثالثهما في المدفن الكريم المقدس، وتالي أبي بكر في المكانة، الذي اختصه بحمل أعباء الخلافة بعده
1 / 18
وفوض إليه ملقيا مقاليد تلك الأمانة، ﵄ وجزاهما أفضل ما جزي صاحبي نبي عنه.
ثم زرنا بالبقيع قبر أمير المؤمنين ذو النورين وثالث العمرين رضوان الله عليه وقبره في طرف البقيع بقيع الغرقد بالموضع المعروف بحش كوكب، ودفنت معه في قبة واحدة فاطمة بنت أسد ﵂ أم أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين أبي الحسن علي بن أبي طالب ﵁، وقرأنا على مهد قبرها منقوشا: «ما ضم قبر أم أحد، كفاطمة بنت أسد» .
وفاطمة هذه هي بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، أم علي وإخوته، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وهاجرت إلى المدينة وبها ماتت، وشهدها رسول الله ﷺ وشرف وكرم، وألبسها قميصه، واضطجع معها في قبرها، فسئل عن ذلك فقال: «لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها، ألبستها قميصي لتكسي من حلل الجنة، وأضجعت معها ليهون عليها» وزرنا من عرف قبره من الصحابة رضوان الله عليهم والصحابيات، وقبر إمام دار الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنس رضوان الله عليه، وخرجنا ماشين إلى قباء اقتداء بزيارته ﷺ إياها، وصلينا في مسجدها في الموضع الذي يقال إنه كان ﷺ يصلي فيه، وشربنا من العين التي هنالك، والحمد لله على نعمة الصافية وآلائه الضافية.
1 / 19
ذكر أسماء مدينة النبي ﷺ: تسمى مدينة الرسول، فإذا قيل المدينة غير مضافة علم أنها هي فصارت كالنجم.
وقد سميت في كتاب الله يثرب، وفي الحديث: «من قَالَ يثرب فليقل المدينة»، وهي الدار، قَالَ الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الحشر: ٩]، وهي طيبة وطابة والعرباء، وهي جابرة والمجبورة والمحبة والمحبوبة والقاصمة قصمت الجبابرة ويندد.
1 / 20
ذكر من لقيناه بمدينة النبي ﷺ وشرف وكرم من العلماء والرواة ٣ - أم الخير فاطمة البطائحي فمنهم الشيخة الصالحة الكاتبة أم الخير أم محمد فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر البعلبكي المعروف البطائحي ﵂، قدمت في ركب الشام زائرة وحاجة، لقيتها بمسجد المصطفي ﷺ، وقرئ عليها، وهي مستندة إلى جانب رواق الروضة الكريمة المحمدية على ساكنيها السلام، تجاه رأس المصطفى الكريم وكتبت لي خطها بالإجازة هنالك في جميع مروياتها، ولبني أبي القاسم وعائشة وأمه الله، ولأخواتي ومن تسمى معنا في الإجازة، وبمحضر من ابنها، واسمه في غالب ظني محمد، وكانت تسدل جلبابها على وجهها حياء وصونا ﵂.
قرأت على الشيخة الصالحة أم الخير أم محمد فاطمة بنت إبراهيم البطائحي تجاه رأس المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم، بين قبره ومنبره في الرابع والعشرين لذي قعدة،
قُلْتُ: أَخْبَرَكِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكِ، الْحُسَيْنُ بْنُ
1 / 21
الْمُبَارَكِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّبَيْدِيُّ، بِسَمَاعِكِ عَلَيْهِ فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْخُ الْوَقْتِ أَبُو الْوَقْتِ عَبْدُ الأَوَّلِ بْنُ عِيسَى بْنِ شُعَيْبٍ السِّجْزِيُّ الصُّوفِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، قَالَ: أنا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ الدَّاوُدِيُّ الْبُوشَنْجِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ بِبُوشَنْجَ، قَالَ: أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمُّوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، قَالَ: أنا عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَطَرٍ الْفَرَبْرِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ: أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَحْنَفِ الْجُعْفِيُّ مَوْلاهُمْ، قَالَ: أنا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ:
1 / 22
«مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي»
ومما قرئ عليها، وأنا أسمع بالروضة المحمدية تجاه رأس المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، جميع الجزء المعروف بجزء أبي الجهم العلاء بن موسى الباهلي ﵀، بسماعها من أبي عبد الله الزبيدي لجميعه، بسماعه من أبي الوقت سنة ثلاث وخمسين وخمس مائة قيل له، أخبركم أبو عبد الله محمد بن أبي مسعود عبد العزيز الفارسي، سنة تسع وستين وأربع مائة، أنا الشيخ الفقيه الصالح أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح الأنصاري، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، ﵀، ثنا أبو الجهم العلاء بن موسى بن عطية الباهلي ﵀ إملاء من كتابه في منزله في شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين ومائتين وذكر جميع الجزء.
1 / 23
ومنه بالإسناد إلى أبي الجهم وهو أول حديث منه:
أنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ الْمِصْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ النَّارَ»
ومنه بالإسناد:
أنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ
خَيْرَ مَا رُكِبَتْ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ مَسْجِدِي هَذَا وَالْبَيْتُ الْعَتِيقُ»
ومنه بالإسناد:
أنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى فَنَذَرَتْ لَئِنْ شَفَانِي اللَّهُ لأَخْرُجَنَّ فَلأُصَلِّيَنَّ فِي
1 / 24