المكنون
[دعاء]
بسم الله الرحمن الرحيم
أستعصم الله بعصمته التي لا تهتك، وأسترشده إلى السبيل التي ينجو بها من الردى من هلك، وأستوهبه التوفيق لهدايته، والحظ الوافر من طاعته، وأرغب إليه في إلهام حكمته، واجتناب معصيته.
صفحہ 182
[توحيد الله]
إن الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا كفؤ له موجود، ولا والد ولا مولود، تعالى من أن يتخونه أبد، أو يقع عليه عدد، فطر الأرض والسماء، وابتدع الأشياء، وأنشأ المخلوقين إنشآء، بلا معين يشاركه في التدبير، ولا ظهير يؤازره على ما أبرم من الأمور، ولم يمسسه في ذلك كلال، ولم يتخرمه نصب ولا زوال، ولم تتوهقه عن محكم الصنعة العوائق، ولم يشتبه عليه ما أتقنه علمه السابق، بل نفذ بمشيئته ما أبرم، ومضى في خليقته ما علم، بلا اختلاج اشتبهت عليه فيه الآراء، ولا توهم تفاوتت عليه فيه الأشياء، فتعالى عما يقول فيه الظالمون، وعز وتقدس مما يتفوه به العادلون، جعل الأنام شعوبا وقبائل متعارفين، وفيما تنازعهم إليه الأنفس غير مؤتلفين، مختلفة هممهم، لا يشتبه تصرفهم، وكل يعمل على شاكلته، ويسلك سبيل طبقته.
والعقول حظوظ متقسمة، والأخلاق غرائز مستحكمة، فالحازم مغتبط بما ألهم، جذل بما قسم، والمفرط متأس على ما حرم، يقرع سنه من الندم، فإن قهر نفسه على تعوض ما فرط، أورده صغر الهمم في أعظم الورط، وإن تمادى في التقصير، دحض دحضة الحسير.
وإني لما زايلت قلة الآثام، وخضت في أفانين الكلام، وناسمت كثيرا من علماء الأنام، أطللت على مكنون من العلم جسيم، واستدللت على نبأ من ضمائر القلوب عظيم، لأن صحيح الجهر، يدل على كثير من مكنون السر.
صفحہ 183
[صفات العالم الرباني]
واطلعت على ذلك بخصال أوتيتها، وأخر تجنبتها، فأما اللواتي أوتيت فذكاة الفطنة، وقلة المشآحة في المحنة، والاصغآء لأهل الإفتنان، والقبول من ذوي الأسنان، وكثرة الاقتباس من أولي الحكم والأذهان، والزهادة في الزائل الفان، وصحة الناحية، وتكافئ السريرة والعلانية، وسلامة القلب، وحضور اللب، فافهموا يا بني.
وأما اللواتي اجتنبتها، فمهازلة الحمقاء، ومشاحنة الأدباء، وترك ما تشره إليه النفس من عرض الدنيا، والمكاثرة والحقد، والظغن والحسد، والاسترزاء للحر والعبد، والمماكسة فيما يكسب الحمد.
يا بني فبعض هذه الخصال طبعت عليه بالتركيب، وبعضها استعنت عليه بقبول تأديب الأديب، والتمثل بالأريب اللبيب، مع رغبة حداني عليها طلب الازدياد، مما أرجو به النجاة في المعاد، والزلفة يوم التناد .
صفحہ 184
[فضائل الأعمال]
فلم أر مما أتاه الله العبد شيئا أفضل من التقوى، ولا أنجعفي العقبى من السلو عن الدنيا، وبيع ما يزول بما يبقى، ورأيت خير ما ينشأ مع المرء العقل المولود، والمذهب المحمود، والفهم العتيد، وكمح النفس عن الشهوات، وقصرها عما تدعو إليه من المهلكات.
يا بني فمن ظفر بهذه الخصال ثم عرف فضلها، وسلك بنفسه سبيلها، فاز بالظفر، وأمن من الغير، ولم يكثر على الفائت تأسفه، وقل عند النوازل تأففه، وأبصر ما بين يديه، ولم تنكصه الشبهات على عقبيه، ومنلم يقده الفهم إلى العقل، زل في شبهات الجهل، ومن لم يلطف النظر في غوامض الأفطان، كاد أن يدهمه الجديدان، ومن كثرت حيرته، ملكته شهوته، وأردته غرته، ونظره عدوه بعين الاستقلال، واستزراه في جميع الأحوال.
صفحہ 185
[صفات الحكيم]
يا بني: ولخير خصال المرء أن يكون على خلاله مستشرفا ولأوده مثقفا، بما يكون له من غيره متعرفا، من جميل يومىء به إليه، أو مذموم خليقة يطعن من أجلها عليه.
يا بني: فكل من لم يفصل بالتمييز ما يعنيه من زمنه، ويحذر مضلات فتنه، ويدخر لنفسه من جدته، ما يحمد غبه في عاقبته، ويختر الزيادة على النقصان، والربح على الخسران، فهو كالمآص لثدي أمه، المخدجقبل تمه.
يا بني: الزمان أنصح المستنصحين، وأرشد المسترشدين، وبحسب من صحبه، أن يعرف تغلبه، ويقفو آثاره، ويتصفح أخباره، ويسير لكل حقبة بسيرتها، ويلبس لها أخصف لبستها، حتى تستوري نار زنده، وتستحكم قوى معتقده، وتتحصحص له طبقات دهره، ما مد له المهل في عمره، ثم لا يغتر بساعات الليل والنهار، ولا يسهو سهو من صحب الدهر بغير الاختبار، ولا يلهو عن مصلحته كأهل الاغترار، فإذا داوم على ذلك فقد كملت خصاله، وأحاطت بالجميل أفعاله.
يا بني: ولو أن العاقل ساير الأيام طول حياته بغير الإستحكام، والنقض والإبرام، لم يكن إلا كالصبي في مهده، المدخول في خلده، لأن العاقل الذاهلهو الخائض في بحار الظلم، والمرتطم في الخزاية مع المرتطم، والمعرفة أسطع نورا من المقباس، وأجلى للقلوب من الهندوان للنحاس.
صفحہ 186
[صفات الغافل]
يا بني: ومن أعجب العجائب، ذو شيبةمرتد بالنوآئب، متسربل بالمصائب، يستنكر ريب التصاريف، ويفجر أمامه بالتسويف، وذلك لضعف نحيرته، ونسيانه لما يتصرف من أزمنته، وكثرة سهوه وغفلته، عما قد أفهمته خبرته، وانتظمته تجربته. ولو - غيب عنالعاقل اللبيب، كل أمر عجيب، مما فطر عليه المفطورون، وقصر عن الإحاطة بخبره العالمون - لكان فيما طبع عليه في ذات نفسه، وما يمر به في يومه وأمسه، من الفقر والغناء، والسرآء والضرآء، والشدة والرخاء، والأخذ والإعطاء، والبذل والإكداءوكثرة السكوت، وطول الصموت، والاكثار في المنطق، والهدوءوسرعة القلق، والجد والهزل، وغلبة الجهل على العقل - له أشغل شاغل عن الفكرة في خلائق الانسان، وتضآد ما يختلف فيه من الجهل والعرفان، فالموموقمنها معروف، والمقلي منها مشفوف. فمن جنح إلى الأقل، كبحواستوحل، وذم غب المصدر، وكان من أمره على خطر، وأندمته آخريته، لما قد دلتهعلى علمه أوليته، وليس بحكيم، من مال إلى الأمر المذموم، والخيلاء بالفضل، مجانب لسبيل العقل. ومن جعل غيره لعينه نصبا، وأظهر على من سواه في شيء من أفعاله عتبا، وكان الذي فيه لطالب عثرته أعيب، كان الواجب عليه أن يكون على نفسه أعتب، لأن من استنكر أمرا من غيره، يرضى في نفسه بمثله، فقد دل على جهله، ومن سها عما يعنيه، كان مالا يعنيه أجدر أن لا يواتيه.
فافهموا يا بني: ما عبرته لكم، وأوضحته من شأن زمانكم.
صفحہ 187
[صفات الأحمق]
وإن من المنكرات، فيمن يسمنفسه بميسم الخيرات، أن يضرب بطرفه صاعدا، ويكون على غيره واجدا، ولزناده زاندا، كأنه قد تهذب من الأدناس، وأمن منمعيبة الناس، واستقام على سوق الزيادة للمستزيد، أو ما عرف المعدوم من الموجود، والحاضر من المفقود، والخير من الشر، والنفع من الضر، والحر من القر، حيث سلك في أحشائه، واتصل بحوآسه وأجزآئه، ثم أدبه الأركان إلى الأركان، والروح إلى الجثمان، ثم صرفته تلك العوارض الخاطرة، والنوازل السائرة، فاستفزته إلى السخط مرة، وإلى الرضى أخرى، فأسرف في الخلتين، ومال عن النجدين، فأين مستقر القديم منه، لم يدرأ به عنه، النوازل الممضة، والآفات العارضة، ويستدع لنفسه بدرئه لذلك عاجل السلوة، وينف عنها بوادر الشقوة، ويعاود ما يديم له السرور، ويدفع عنه المحذور، ولو ألهم نفسه أحسن ما يلهم، لزاح عنه خواطر الهمم، ولم يعدم محمود العاقبة وعلو الذكر في الفئام، والصوت الرفيع في محافل الأقوام، ولأقصر عن شقشقته، وشهد بالفضل لمزايل طريقته، ولكنه لم يحم أنفه، وقل عن مزايلة ما تهواه نفسه أنفه، فامتشجت الأدواء في آرابه، واستلبته رصين آدابه، فابتغى السلامة من غير جهتها، والراحة بعد فوتها .
كلا لن يكون فرع من غير أصل، ولا جود إلا ببذل، ولا زكاء مخلوق إلا بفضل، يجشم فيه نفسه المجهود، ويستدعى به لها الثناء المحمود، ويجنبها الموبقات، والشهوات المرديات، وليس من نفس إلا وهي تراود صاحبها على الهوى، وتدعوه إلى موارد الردى، فمن أعطاها زمامه، أركبته ردعه، ومن منعها ما تهوى، فاز بالرغبى. ففي هذا لكم يا بني: بيان ومعتبر، ومن لم يستظهر، بالحزم على مذآقالأخلاق ودنآءتها، ويزجر النفس عن شهواتها، قصر دون رميته، ولم يدرك الثناء الذي سما إليه بأمنيته.
صفحہ 188
[مؤهلات القيادة]
ومن أحب أن تخضع له غلب الرقاب، ويقل في طاعته الارتياب، وينتهى عند أمره ونهيه، ويقتدى برأيه، فليأصر نفسه من ذلك على ما يريده من غيره، فإن انقادت لأمره، وازدجرت عند زجره، فليضمم كفه من غيره، على إنفاذ أمره. لأن تهذيب المرء بطريقته، يدعو إلى طاعته، والمقصر عن طلب منفعته تزل موعظته من القلوب، زلول القطر من الصفوان الصليب، فأوقعوا يا بني الموعظة بقلوبكم.
فيا أيها المبتغي الدرك في العاجل، والفوز في الآجل، اجعل لك من نفسك موعدا، تحظ به اليوم وتفز به غدا، بصدق لا يشاب بالتفنيد، ورجاء الموعود وخوف الوعيد، واسم إلى ماأحببت من ذلك بالعقل العتيد، والرأي السديد، وأنا سفيرك فيه بالدرك لما تريد. وإنما أعجز الطلاب ما إليه يسمون، تعسفهم السبيل التي فيها عن القصد يجورون، فلم يدركوا ما طلبوا، ولم ينالوا ما أحبوا، فعن مواردهم يا بني فازدجروا، وآثار آبائكم فاتبعوا.
إياك أن تستشهد على نفسك غير معرفتك بها، ولا تقبل من غيرك تزكيتها، بما يكذبه فعلك، ويحيط بضد تزكية المزكي علمك. فإذا توسطت علانيتك، وصحت سريرتك، فتيقن بصدق من أطراك بما فيك، ولا يبهجنك الثناء من المضطر إليك، ولا يسفه بحلمك مملق مذق، ولا من يستبيه معروفك بالتملق.
صفحہ 189
[مراقبة النفس]
يا بني: فإن أقل الناس عقلا، وأبينهم جهلا، من صدق من سواه، بما تكذبه عيناه، والعقل آمن أمين، وأفضل قرين، فاستأمنه على أحوالك، وجميع خلالك، واعرف ما عرفك . وإذا حمدت من أحد مذهبا، فكن لمثله متسببا، ولكل ما تستنكره من غيرك مجتنبا، ولتكثر من مستتر عيوبك وحشتك، وليقل بخفياتها أنسك، فإن اكتتامها كالمحرض على أمثالها، وإذا امتلأ الإناء انكفأ، وإذا تنوسخ السر فشا.
فكن يا بني: لجميع خلالك متفقدا وداوم على جميل ما به تعرف، ولا ترض من نفسك بما تستقبح من غيرك إذا انكشف، وأردف جميل غدك، بجميل يومك، ولا تغتر بستر الله عليك، فتتعرض لما يندمك عجبا بما يومى به إليك، وتظن أن سالف الحسنات، يمحو مؤتنف السيآت.
ومن استصغر سيئته، فيوشك أن تحبط حسنته، ولكل نعمة حاسد يدير بها الدوائر، وبحسبك أن يبصركبالجميل أهل البصائر، فيشغب حاسدك، فيما يرجو أن يهدم به ركنك، ويمعن في الطعن عليك في كل ندي مشهود، ليقبض المتفوه فيك بكل أمر محمود، فينقبض انقباض المحسور، ولا يجد السبيل إلى التغيير.
وأحذرك يا بني: البغي، والتهمة والظن، فإنهما ملصقان، بكل إنسان، فلا تجعل لمتهمك إلى تهمتك سبيلا، ولا تكن في غيرك بما تكره أن يقال فيك قؤولا، وانظر ما كنت به مما يوجد به السبيل إلى الطعن عليك فعولا، فكن له قاليا وعنه حؤولا، مع نظرك، لنفسك . وإن أردت أن تظفر من الدنيا بزينتها وزخرفها، وعزها وشرفها، وبالبهاء الذي يستنار به في كل مكان، والثناء الذي تسير به الركبان إلى جميع البلدان، فعليك يا بني: بالطاعة التي لا تدفع بالعصيان، والمحبة المنتشرة بكل لسان، فاجعل المروءة لك شعارا، والصيانة لنفسك دثارا، فإن من صابرهما، وألزم نفسه الصبر عليهما، تغرنق في الغرانيق العلى، وتمكن في قلل الشرف القصا، وإن لم يكن ذا غرض من الدنيا.
صفحہ 190
يا بني: والمروءة غير مبيعة بثمن ربيز، ولا حرز حريز ولا مطلب عزيز، ولو لم يدركها الرآئمون، إلا بجزيل ما يطلبها به الطالبون، لكان ما تعيد وما تبدي، أجزل منه وأوفر في العواقب والبدي، ولو كانت لا توجد إلا في أبعد الأمصار، أو في لجج البجار، بالقناطير المقنطرة من الأمور الكبار، لكان الواجب على ذوي العلم بخطرها، والمعرفة بقدرها، التعلق بأغصانها، والبذل للنفيس من أثمانها . لكنما اشتملت عليها داياتك، وحبيت عليها مستكناتك حتى تبثها عنك إذاعتها، وتشيع لك فضيلتها، بأن تمسك عن الأمر المردي، وتعرض عن القبيح الذي لا يغني، وتملك نفسك فيما ملكت، من كبار الأمور وصغارها. تم ربع كتاب المكنون بمن الله وعونه، وحسن توفيقه.
صفحہ 191
[المروءة]
يا بني: ولا تجر عن قصد السداد، فيما أنت فاعله وتاركه إلى يوم التناد، وكل ما أوجبته عليك الحقوق، تأديت منه إلى كل عدو وصديق، فافهم، يا بني: ما أصلت لك من فروع الأدب والحكمة.
ومن زعم أن المروءة لا تصلح إلا بالمال، فقد أضل في المقال، لأن المروءة قد تنقاد لذوي الإقلال، وتصآعب على ذوي الأموال.
وللمال موقع من بعض القلوب، يكاد أن يخرج صاحبه إلى الأمر المعيب، حتى تذهب مروءته، وتغلب عليه حلاوته، فتنهد ذروته، وينطمس كرمه وحريته.
وللمروءة في المال أنصبآء، تتشعب فيه شعبا، وليست المروءة بمعدومة في أحد إذا جد في طلبها، وأتاها من بابها، وليست لها أثمان تباع بها، إنما هو جميل تقوله، أو خير تفعله، أو معروف تبذله، أو إقصار عن الاكثار إذا لم يكن للكلام موقع، فهذه خلال يكون لك بها في المروءة قدر وموضع ، تستوجبه بها، إذا لم يمكنك الاستكثار من غيرها، وكلما ازددت، أدركت ما طلبت، وقد أوضحت لك ما تطلب به المروءة بأحسن الإيضاح، وكنت لك أنصح النصاح، فإن أخذتها باللين - يا بني - سلس لك مقودها، وإن غلظت شسع عنك عتيدها، وصار نحسا عليك سعودها، فأسعد الأدب يا بني بالحكمة.
صفحہ 192
[الحسد]
وإياك والحسد فإن للحسد نفرة على صاحبه مضرة، فأبرده عند اضطرام تسعره، بكثرة التبكيت، وتعريفه صغر صاحبه الممقوت.
يا بني فإن الحاسد لا يدرك في حسده نقيرا، ولو أزيح عن المحسود ما حسده عليه لم يظفر منه قطميرا، وليس من أحد من المخلوقين إلا وعليه من الله نعمة ظاهرة أو مكتتمة، أصناف مقتسمة، صغير ما يولي الله العبد منها ويبليه، ويهب له ويعطيه، منصحته، وطول عافيته، وما يصرف عنه من البلوى، خير له من ما بين الأرض والسماء. يا بني: وكم من ذي نعمة متجددة، يحسده من دونه على نعمة منتكدة، ولو أشعر نفسه ما يجب عليه من شكر المنعم، كان ذلك أزيد للنعم وأصرف للملم.
وفي الحسد ست خصال:
* طول الاغتمام بما لا يجدي.
* وكثرة الاهتمام بما لا يغني.
* وتكدير المعاش.
* والخساسة عند الأخيار والأوباش.
* وحرقة القلب.
* ومضآدة الرب.
واعلم يا بني: أن البغي دآء لا دوآء له، فمن كثر في المحظوظة تشككه، طال في البغي محكه، والبغي فرع الحسد الأعظم، وبه تحل النقم، وتزلزل القدم، والباغي مخذول، مفلول، والمبغي عليه بالخبر عن الله مؤيد بتعجيل النصرة، في الدنيا والآخرة، فإياك والبغي أن تلهج به فتكون صريعه الذي لا ينتشع، وقتيله الذي لا يمتنع.
صفحہ 193
[مفردات أخلاقية]
وأحذرك يا بني: العجلة وإياك أن تكون عجولا، فيما تجد إلى التثبت فيه سبيلا، وتبين في صدور أمورك من قبل أن تبدو لك عواقبها، وتنكشف لك معائبها.
واعلم - يا بني - أنك المشار إليه عند عجلتك، بما تسمعه أذنك، فيمن قل تثبته، وذم على ما تكسبه عجلته! فأكثر من العجلة التقية، وعلى نفسك من قبح القالة البقية، وإياك أن يوردك الغضب موارد العطب، ويشعلك إشعال النار للحطب، فادفعه بالاحتمال قبل أن يضطرم، فيهريق الدم ويصم العظم ويسل اللحم، فأخمده قبل أن يتلظى، فإنه إن استعر بهظك بهظا، ثم دفن ما كنت تذكر به من المحاسن، وأعلن ما كنت تكتمه من المقارن.
واعلم يا بني: أن آفة السلطان، الجور والتجبر على الانسان، إياك إن كنت سلطانا أن تستظهر ذنوب المذنبين، أو تعاقبهم عقوبة المغضبين، وإن كنت سوقة فماذا يضرك مما يلمزك به الناس من المنطق فيما ترجو به الرفعة، والعلو بعد الضعة، وإياك أن تغضب على من دونك، أو تستصغر من فوقك، وجد بالفضل على من ناواك، وبالصفح عمن عاداك.
واعلم أنه لا بد للمكارم أن تعلو، وللمحاسن أن تفشو، من ناشر لها يلبسك هيبتها وجلالها، ونبلها وجمالها، حتى ينسم عليك روحها، ويشيع لك حمدها، ويتجلى بها عنك الغماليل، ويرد بها من قلبك الغليل.
صفحہ 194
يا بني: عليك بالحلم فإنه ليس يسمى الرجل حليما حتى يملك نفسه عند الغضب، ولا جوادا حتى يفيد إذا ازلأم الأزب. وإنما يوصف بالنجدة، من باشر أهل البأس والشدة. وللمحاسن والمحامد بوآد معتمدة، تطلع إليها الأفئده، ثم يبذل فيها الغالي من الأثمان، وتنضا بها العيس إلى جميع البلدان، فمن سره أن يشهر بالجميل والاحسان، فليشهد التي منها يتناقلان، ثم ليظهر منهما ما يسير به في الآفاق خبره، ويعظم به في الناس خطره، ثم ليقوم من نفسه بحسن التعاهد أودها، وليأخذ منها لها ما يزين به غدها، فإن الأخلاق إذا سمحت، والعلانية والسريره إذا صحت، كانت غنائم يرتحل إليها المرتحلون، وأحاديث حسنة ينقلها الناقلون، وتبجيلا لصاحبها في العالمين، وغبطة يغتبط بها يوم الدين.
صفحہ 195
[الخلق والمال]
والواجب في الأخلاق أكثر من الواجب في الأموال، وأفضل في جميع الأحوال، وإنما يعظم ذو المال ماكان موئلا، فإذا تخرم ماله عاد دحيرا قليلا !! والأخلاق لا يبلى جديدها، ولا يطيش سديدها، وفضل صاحبها باق في حياته، وبعد وفاته، والمال ثوب تخلق جدته، وتسمل سداه ولحمته .
وأحق الأشياء بالصون العرض الصحيح، والحسب الصريح، ومن آتاه الله قلبا ذكيا، وزنادا وريا، وخلقا مرضيا، وسخاء مذكورا وعقلا زكيا، وفهما مرضيا، وعلما بتقلب الأحوال، وتصرف الأيام والليال، ولسانا يؤدي إليه معرفة خلف الأزمان، ويمتهنه فيما يعود عليه نفعه كل الامتهان، ثم زم نفسه عن الكبرة، واعتاض من التجبر حسن العشرة، وقل افتخاره عند مناظرته، ولم يستدع نظيره إلى مباحثته، ولم يجار المجاري له من طبقاته، في طريق مساواته . ولم يخرج من القول إلى مالا يعلم، ولا من الفعل إلى ما يستعظم، فقد شرى لنفسه محمدة الحاضر والباد، واجتهد في مصلحته أشد الاجتهاد، واستحق التعظيم من جميع من ضمته أقطار البلاد، واجتمعت له الطرائق السمحة، وزاحت عنه المذاهب المستقبحة، وجرى عليه اسم الخيرة، ونظرته بالنواظر المبجلة كل عين مبصرة، وجاز حد الأكفاء، واعترف له بالفضل النظراء.
ولا بد أن في كل منفوس، آلة تطلع إليها النفوس، ويفتقر إليها حاجة المفتقرون، ويتشوف إليها المشوفون. فمن قصرعن علمها، عظم في نفسه صاحبها، وجل في عينه بحسب ما يدله، عليه عقله، وحاول أن يكون له على أمره ظهيرا، وارتفعت عنده درجته من أن يكون له نظيرا، ومن اتسع بدده، لضده ونده، كان على قدر ذلك عظم شأنه، وارتفاع مكانه.
وكم من جامع لمال ! يجود به لينال هذا المنال، ويستدعي من الجميع محبتهم، وينفي به حسايفهم، فلا يدرك من ذلك ما يريد، ولا يؤديه إلى ما يؤمل من العوآم ماله الممدود.
صفحہ 196
[العلم والمال]
وذو المال - يا بني - مذموم ومحمود، وذو العلم موموقمودود، وفي العظماء معدود، وعند التباس الخطوب معمود مشهود، وبعد الوفاة مفقود، ومن أتي إليه ما يستنكر في الملأ، فتغمد ذلك بصبر وعزاء، فقد نال من الشرف منالا، محمودا في الآخرة والأولى.
صفحہ 197
[الصفح الجميل]
ومن اعتذر إليه، من أساء فيالمقال والفعال عليه، فأسرع في القبول، والعطف عليه بالجميل، فقد أبدى جهل متناوله بصفحه، وخسرانه بزيادته، وركاكته بركانته، وطيشه بحلمه، وسخافته بتكرمه، وجوره بعدله، واستطارتهبعقله، وعجلته، بمهلته، وبآء المعتذر إليه، بسوء الصنيع لديه، وأفاده خير الفوائد، وألبسه عند من كان به جاهلا ثوب المحامد، وأعلن من نبله ما كان مستترا عن الغائب والشاهد، وأظهر إعزازه وتطوله، بما كان من تذلله له، وجثوه بين يديه، متنصلا إليه، ملحا في مسألته، كالعبد المعترف بزلته، يبذل له من نفسه الصبر، ويعطيه التوبة إلى آخر الدهر.
فياويح معتذر أسلكته في مضايق الذل عجلته !! وألبسته ثوب الخضوع والاستكانة هفوته، وأعلنت لصاحبه عليه يدا، أكسبته حمدا ما كان الأبد أبدا، ولرب مغتبط بمنال شريف الثناء، لولا ما لا يأمنه من قلة الاغتفار للأذى، لرغب إلى الله فيه في كل صباح ومساء، لتعظم باحتماله عند الناس حظوته، وتكبر عندهم منزلته، ومن نزغت به النزغات فيما بينه، وبين صنو له، كان بمودته ضنينا، وله على ملمات دهره معينا، فعزم على مقاطعته، وباينه مباينة أهل عداوته، وحاول به الغدر والمكر ليقطع من أسبابهأسبابه، وفجع به أحبابه، ثم لم يدفع غضبه بالرضى، وصدوده بالوفاء، ونزغة الشيطان بالحياء، ويرجع إلى ما هو به أولى، من محض الصفاء، وخالص الإخاء، ويميز ما مني به من الأمور المؤلمات، وما كان قد أضحك به سنه وأطال به سروره في الليالي الخاليات، فإذا أوضح له التمييز تطاول الحسنات على السيئات، فأداسها بقدمه، ولم يصفح عن صنوه وعن جرمه، فليس من أهل الحكم، ولا السامين إلى مراتب الهمم، وعما قليل سيئول إلى الندم، إذا تحاماه الإخوان، وطرقه الزمان، بما ليس له عليه أعوان .
صفحہ 198
وإن سل من قلبه السخائم، وجرى في ميدان المكارم، ولم يأت أمرا يكره أن يؤتى إليه مثله، سكن غليله، وصفت له عيشته، وطالت سلوته، وكثرت راحته، ورسخت في القلوب محبته، ونقيت من صدره ضغينته، وأشرقت بالفضل صفحته، وعادت له من صنوه مودته، وتأكدت في رقبته منته. ولعله إن طال تمعزه، أن يكثر عما يروم به عجزه، فيريه الغيظ والحرد، ويغلغله الحزن والكمد.
تم نصف كتاب المكنون والحمدلله رب العالمين.
ألا وإن أحمد الناس مذاهب، وأكملهم ضرائب، وأحسنهم فعلا، وأرسخهم في اللب أصلا، من تجافى عن هفوات إخوانه، ووادع أيام زمانه، وصاحب بالمسالمة خدينه، وبالمناصفة قرينه، ورضي من دهره بالموجود في غيره، وساير الناس كلا على ما طبع عليه في عصره، فإن أعظم النوائب، وأقبح النواكب، أن يسكن قلبك البغضة لمن كنت له وامقا، وتقل ثقتك بمن كنت به واثقا، وتستوحش ممن كان لك نصيحا، وكنت إليه حين تحزبك الأمور مستريحا.
واعلم يا بني: أن الحقد والحسد والغضب إذا اعتلجت في قلب أوقدته، وأعمدتهوأقلقته، فربما تهيج من ذلك الداء المستكن فاستوحش له البدن، وأظهر من غوامض الأوجاع ما بطن، فتغيرت لذلك الطبيعة، واستدعيت القطيعة.
فالواجب على الأريب العاقل، أن يسلو فيما نزل به سلو الذاهل، وأن يتسبب لدفع ما ألظ به من محاورة الأوداد، بالملاينة وترك البعاد، وإخماد ما يتشبب بالأحقاد، ويتطلف للمسالمة والراحة، وما فيه عائدة المصلحة، حتى يعود إلى ما تعود من السرور في قديم العهد، ويبعد عنه خواطر البال أشد البعد، ويدفع عنه طول الحمية، وبعد أهل الجاهلية، فإن الضمائر المذمومة أشر ذخيرة، ادخرها أهل المكرمة والبصيرة، وليس تنجع المواعظ إلا في ذوي العقول، وأهل الرأي الأصيل.
يا بني: فأما ذوو الأذهان المستلبة، الممنوعون حسن النظر في العاقبة، فغير سآدين ببصيرة ولا فكرة، في أمر دنيا ولا آخرة.
صفحہ 199
فصاحب الناس بحسن المعاشرة، وألبس كلا بالمساترة، ولا تثقن بكل أحد فتعجز، وكن هينا لينا كثير التحرز.
صفحہ 200
[واجبات الأخوة]
وآخ من آخيت بالستر لعورته، والإقالة لعثرته، ولا تطل معاتبته إذا هفا، ولا جفوته إذا جفا، ولا تأخذه بالغاية القصوى، فإن زل فأقل، وإن قصر فاحتمل، وإن كملت عندك بصدق المعرفة خلالك، وتيقنت أنك لاتجد كفؤا لك في مثل أخلاقك، فلا تمحض مودتك لمن يكون بمعزل، عما لست عنه فيه بذاهل، واطرح عنك ثقل مؤنته، وأدرج له في مثل مودته، فإن للناس مذاهب مختلفة، وأخلاقا غير مؤتلفة.
يا بني: فإن الكامل في جميع الحالات، المعدود في أهل المروءآت، لا يكلف الأخلاء ما يعدم في الطبع الذي ركبت عليه الأجسام، ولا يحملهم ما تقصر عن بلوغه الأفهام، فلا تراود أحدا على مالا يوجد في خليقته، فتكون قد ظلمته بمراودتك له على معنى لا تناله مقدرته.
يا بني: وخالق الناس بالبشر والبشاشة، واللين والطلاقة، وسلامة الضمائر، واستدعاء ما إليه يشخصون في الظاهر.
صفحہ 201